أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

ما مدى احمرار الثقب الأسود؟ الواقع الغريب لما يبدو عليه الفضاء

صورنا للفضاء العميق مذهلة، لكنها لا تعكس ما قد تراه أعيننا. إليك ما ستكشفه ألوانها الحقيقية عن الكوزموس

بقلم: ليا كرين

ترجمة: همام بيطار

كأبراج قلعة خيالية في طور الانهيار، تنبثق ثلاثة أعمدة من خلال ضبابٍ مُخضِر، وتنتشر من قممها شرائط ضوئية زرقاء. وتلمع النجوم عبر هذه الحيطان الغازية وهي محاطةً بإطار أصفر صارخ. وقد تبدو هذه الصورة كعملٍ خياليٍ محض، لكنّ هذا الحصن الضبابي حقيقيٌ تمامًا. فهي منطقة موجودة في سديم النسر Eagle Nebula، تُسمى أعمدة التكوُّن Pillars of Creation، وهي حاضنة نجمية عملاقة يبلغ عرضها أربع سنوات ضوئية، وتقع على بعد سبعة آلاف سنة ضوئية من الأرض.

تُرينا هذه الصورة ميلاد مئات النجوم من سحب من الغبار والغاز التي نتجت من الانفجارات النهائية في جيلٍ نجمي سابق. ومن المؤكد أنّها تساهم في استيعاب حجم  مجموعتنا الشمسية. أعجوبة صغيرة، ثم، تجدها تُزين كل شيء امتداداً من ستائر الحمّامات ووصولاً إلى حافظات الهواتف الذكية، فهي الرديف الفلكي للوحة أزهار عباد الشمس Sunflowers لفان غوغ Van Gogh. ولكنها تطرح سؤالًا محيرًا: إذا سافرتُ على متن سفينة فضائية لفترة كافية لأصل إلى المكان المناسب وفي الوقت المناسب، هل أستطيع حينها رؤية جمالها بعينيّ المجردتين؟

الجواب هو لا. فبالنسبة إلى العيون المجردة، يتلاشى بهاء أعمدة التكوُّن الملونة لتصير ضباباً أحمرَ غير واضح المعالم. وتُنتج معظم الصور الكوزموسية الأيقونية بمساعدة تلسكوبات تجمع قدرًا من الضوء أكثر من العين البشرية ، وبأطوال موجية Wavelengths غير مرئية بالنسبة إلينا. وتحويل عجائب سماء الليل المخفية إلى مشهد مذهل كهذا ليس أمرًا بسيطًا، فهو يتطلب الكثير من التكنولوجيا، والوقت، وقدرًا من الإبداع.

المشكلة الأولى هي أن تعرف أين تبحث. فعلى مدى ألف عام، كان علم الفلك يدور حول ما يمكننا رؤيته فقط. أولا بالعين المجردة، ومن ثم باستخدام التلسكوبات البدائية، راقب الفلكيون القمر، حددوا الكواكب وفهرسوا النجوم. وهذه الأجرام البعيدة كانت تبعث ضوءًا، وكان بإمكاننا التقاطه في الظلمة. وبعد ذلك، في بداية القرن العشرين، أدركنا أن الظلمة لم تكن كذلك قطّ. إنّها مغمورة بالضوء، لكن بِصِيَغ ليست بوسعنا رؤيتها.

نعلم الآن أن الأجرام الفلكية تبعث ضوءاً على امتداد نطاق واسع من الأطوال الموجية لتغطي كامل الطيف الكهرومغناطيسي Electromagnetic Spectrum، فالثقوب السوداء  Black Holes تصدر أشعة غاما Gamma Rays بطولها الموجي البالغ أجزاء من بلايين أجزاء المليمتر الواحد، في حين تُصدر النجوم أشعة ميكروية Microwave Radiation بطولٍ موجي قد يصل إلى متر، وتقريبًا كلُ هذا الثراء مخفي عن أعيننا التي تبلغ قدرتها رؤية أطوال موجية تمتد بين 380 و740 نانومترًا، وهي مجرد نافذة ضيقة تطل على الكون.

ومحدودية قدرتنا لا تنتج فقط من افتقادنا الطبيعي لتمييز طيف واسع من الضوء، وإنما من أنّ معظم أحداث الكون تحصل على امتدادات زمنية ومكانية لا تستطيع العين التعامل معها أبداً، أو خلف سحب لا يمكن للضوء المرئي اختراقها. أما الآن؛ فقد صرنا، بفضل التلسكوبات، قادرين على رؤية غير المرئي، فهذه الأدوات وسعت مجال رؤيتنا ليمتد عميقاً عبر الزمن والمكان ويشمل مجالاً واسعاً من الأضواء المختلفة.

الأداة التي غيرت طريقتنا في إنجاز ذلك هي تلسكوب هابل الفضائي Hubble Space Telescope. فإذا ما سبق لك وأن حدقت مطولًا في صورة للفضاء العميق، فمن المحتمل جداً أنّ هذه الصورة التقطها تلسكوب هابل، الذي أُطلق في شهر أبريل عام 1990، وربما مثّل أكثر الأدوات تغييرًا في علم الفلك.

وبعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً لا يزال هذا التلسكوب، بحجم شاحنة، يدور حول الأرض على بعد 540 كيلومترًا، وتسمح لنا كاميراته التي تلتقط الأطوال الموجية فوق البنفسجية Ultraviolet والمرئية والقريبة من تحت الحمراء NearInfrared، بالتقاط صور لأجرام تبعد بلايين السنين الضوئية وبتفاصيل لم تسبق رؤيتها. ويقول بول سكوين Paul Scowen، من جامعة ولاية أريزونا Arizona State University: ” في البداية كانت كل صورة يلتقطها هابل لجرم ما، تكون أكثر المشاهد التي رأتها الإنسانية وضوحًا لهذا الجرم في ذلك الوقت”، ويتابع: “ولذلك في كل مرة نلتقط فيها صورة بواسطة هابل تكون مذهلة”.

“في البداية كانت كل صورة يلتقطها هابل لجرم ما، تكون أكثر المشاهد التي رأتها الإنسانية وضوحًا لهذا الجرم في ذاك الوقت”

 

والعديد من صور هابل صور أيقونية، كتلك المدرجة في هذه الصفحات، لكن لم تكن مهمة تلسكوب هابل الأساسية هي التقاط الصور الجميلة، فمعظم صوره التُقِطت بهدف الإجابة عن أسئلة علمية. فعلى سبيل المثال، التُقطت الصورة الأصلية لأعمدة التكوُّن في عام 1995 بهدف دراسة الكيفية التي تتفاعل بها النجوم مع بيئتها الضبابية. وتقول ليزا فراتار Lisa Frattar التي عالجت صور هابل على مدار 20 عاما: “الصورة الملونة إضافة جميلة، لكن يعتمد العلم على إحصاء وعدِّ الفوتونات Photons وتقدير شدتها Intensity بالارتكاز على بيانات فعلية”.

تبدأ كل صور تلسكوب هابل بالأسود والأبيض بصرف النظر عما تستطيع العين رؤيته في الجرم الفعلي. ويقول زولت ليفي Zolt Levay، الذي طوّر بعضًا من أولى برامج هابل المخصصة لترجمة البيانات إلى صور عندما كان يعمل في معهد الولايات المتحدة لعلوم تلسكوبات الفضاء US Space Telescope Science Institute في بالتيمور بولاية ميريلاند: ” كاميرات هابل عبارة عن كاشفات تعمل بالأبيض والأسود”، وهذا ليس خيارًا جماليًا، ثم يُضيف قائلًا: ” إنتاج […] الألوان في الكاشفات يزيد الضجيج، ويقلِّل الدقة”.

بمقدور العلماء اختيار الفلاتر Filters المستخدمة في كاشفات هابل قبل التقاط صورهم، وذلك يعمل كالزجاج الملون، إذ تسمح تلك الفلاتر لألوانٍ محددةٍ من الضوء بالعبور. وفي بعض الأحيان يكون النطاق المتاح واسعًا، مما يسمح للضوء الأزرق والأخضر والأحمر بالعبور. وفي أوقاتٍ أخرى تكون هذه الفلاتر مقيدة جداً لتسمح لأجزاء صغيرة جدًا من الطيف بالعبور، وبذلك يُمكن لضوءٍ صادر عن عناصرَ محددةٍ العبورُ فقط.

من اليسار إلى اليمين: القناة الزرقاء، القناة الخضراء، القناة الحمراء

سديم النسر

التُقطت هذه الصورة الأيقونية لسديم النسر بواسطة تلسكوب هابل الفضائي بعد مرور عشرين سنة على التقاط صورته الأولى عام 1995. وتُعرف البُنى الثلاث المرئية بأعمدة التكوّن وهي تُرينا الغبار الذي يتراكم ليشكل نجوماً على بعد سبعة آلاف سنة ضوئية من هنا. وفي هذه الصورة توجد جزيئات الهيدروجين والأكسجين والكبريت، وكلها تستطيع إصدار أطوال موجية واضحة من الضوء. تُبين الصور الثلاث الأصغر الإصدار عند الأطوال الموجية الثلاثة المختلفة. وهذه هي الصورة الأساسية التي التقطها هابل في الواقع، لكن بالأسود والأبيض فقط. ولتشكيل الصورة الرئيسية الدرامية، يُعطى لكلٍ من هذه المَشاهِد وحيدة اللون لونٌ يتطابق مع مواقعها النسبية في الطيف الكهرومغناطيسي، ومن ثمّ تجمع هذه الأجزاء معًا. تبين الصورة الأولى الضوء الصادر عن الأكسجين المؤين عند طول موجي يبلغ 502 نانومتر تقريباً. ولأن هذا الطول الموجي هو الأقصر بين الأطوال الثلاثة، فقد أعطي اللون الأزرق. أما الصورة الوسطى، فهي تُرينا الإصدار الناتج من ذرات الهيدروجين والنتروجين عند الطول الموجي 657 نانومترًا، وقد جرى تلوينها بالأخضر. وفي حين تبين الصورة الأخيرة، الضوء الناتج من الكبريت المُؤين عند الطول الموجي 673 نانومترًا، وقد أُعطيت اللون الأحمر لأنه أكبر الأطوال الموجية. لن يكون بمقدورك رؤية أي شيء كالصورة النهائية بعينيك المجردتين. وعوضًا عن ذلك، سيبدو المشهد أقل إثارة بكثير وسيكون لونه أحمر ضبابيًا، وذلك لأنّ اثنين من الأطوال الموجية الثلاثة تقع في مجال اللون الأحمر من الطيف.

يعتمد استخدام المرشحات على ما تريد تعلمه عن الجسم. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تبحث عن النجوم الشابة والساخنة، فربما تستخدم فلترًا يُمكنه التقاط ضوئها الأزرق المميز. أو، إذا كنت تريد مشاهدة سحب غاز الهيدروجين، فحينها تستعمل فلترًا ضيق النطاق NarrowBand Filter يسمح فقط بدخول الأطوال الموجية الحمراء الصادرة عن تلك السحب.

يعني ذلك أن الأفراد الذين يعالجون البيانات الخام لإنشاء الصور لن يكون أمامهم أي خيار بخصوص الفلاتر المستعملة. ويقول ليفي: “لا تتوافق هذه الفلاتر بالضرورة مع ما ستبدو عليه الألوان بالنسبة إلى أعيننا “. نحن لا نستطيع رؤية الضوء بطول موجي واحد على حدى. ولأن هابل يستطيع أن يرى ألواناً لا نستطيع أن نراها، فقد يكون بوسع هذا أن يحدث…لأن أعيننا تجمع كل هذه الألوان معًا، ولأن هابل يستطيع رؤية ألوان لا يُمكننا رؤيتها، فبإمكانه التقاط صور في نطاق الأطوال الموجية فوق البنفسجية غير المرئية لأعيننا.

وعلى الرغم من ذلك، بشكلٍ عام وبصرف النظر عن الفلاتر، فإنّ العاملين على معالجة الصور يوظفون التصورات المعتمدة نفسها  في أعيننا وأدمغتنا: الضوء المرئي ذو الطول الموجي الأكبر يكون أحمر، والمتوسط يكون أخضر، أما الطول الموجي الأقصر فيصير أزرق. وكما يظهر على شاشة حاسوب RGB، فإنّ تراكب صور بتلك الألوان الثلاث كافٍ لإنتاج أي درجة. ولهذا السبب، بعد تلوين مُخرَج كل فلتر باللون الأحمر والأخضر والأزرق، يُمكن بعد جمع تلك الأجزاء معاً أن تنتج صورة نهائية رائعة.

يقول جوزيف دوباسكال Joseph DePasquale، كبير مطوري المرئيات العلمية Senior science visuals developer من معهد علوم تلسكوبات الفضاء Space Telescope Science Institute : “يشيع اعتقادٌ خاطئ بأننا نبتكر الأشياء، أو كل ما نعمله هو التقاط الصورة فقط، ومن ثمّ نُنشئ بيانات حيث لا يوجد بيانات، ونُسند ألواناً كيفما نشاء”، ويتابع قائلًا: “لكن دائماً تقريباً، تُلون الأطوال الموجية الأطول في الصورة باللون الأحمر، والأقصر بالأزرق. ولهذه الألوان معانٍ فيزيائية”.

يجعل هذا من تفسير الصورة المعالجة أكثر سهولة، فالمساحات التي تصدر ضوءًا عالي الطاقة HighEnergy Light تكون أكثر ميلاً إلى اللون الأزرق، سواءً في الطبيعة أم في الصورة. فعلى سبيل المثال، تميل صور مناطق تشكل المجرات Galaxies والنجوم إلى اللون الأزرق، في حين تميل مناطق الغبار إلى الاحمرار.

تقول عالمة الفلك كيم كوال أركاند Kim Kowal Arcand، التي تُعدّ الصور باستعمال بيانات مرصد شاندرا الفضائي العامل بالأشعة السينية Chandra Xray Observatory التابع للوكالة NASA وهو تلسكوب فضائي آخر: “يُمكنك التفكير في خريطة النشرة المسائية للطقس: هناك درجة حرارة حمراء حيث تكون درجات الحرارة أكثر سخونة، وزرقاء بالنسبة إلى درجات الحرارة الأبرد. وبفضل ذلك يحصل المشاهِد حينها على لقطة فورية لما يحصل”، وتضيف قائلة: “نحن نحاول إعادة إنشاء شيء مشابه من خلال توظيف البيانات الفلكية”.

لكي تعني خريطة الطقس الكوني شيئاً، يجب فصل الألوان جيداً، فخريطة درجة حرارة يكون فيها كل شيء موجودًا في ظلالٍ برتقالية لن تعني الكثير. إذن، في بعض الأحيان لن يقود اعتماد ألوان الضوء الحقيقية إلى شيء ذي معنى. فعلى سبيل المثال، تحتوي أعمدة التكوّن على جزيئات الهيدروجين والأكسجين والنتروجين والكبريت، وكلها تُصدر ضوءًا في الجزء المرئي من الطيف. ولكن، على الرغم من كون تلك الأطوال الموجية منفصلة، إلا أنها قريبة جدًا من بعضها بعضًا لدرجة لن تستطيع معها أعيننا تمييز الكثير. ويقول دوباسكال: “إذا صنعت صورة مركبة يُمكنك منح الألوان الحقيقية لكلٍ من تلك الأشياء، لكن ستحصل على مشهد ضبابي يكون في معظمه أحمر”، ويتابع قائلًا: “أما إذا أخذت تلك الصورة وغيّرت الألوان قليلاً ستكون لديك صورة جميلة حقاً، وتكشف في الوقت نفسه عن الكثير من المعلومات التي ستخسرها فيما لو لوَّنتها وفقاً للأطوال الموجية الفعلية”.

في صورة الأعمدة، أُسند اللون الأزرق إلى الأكسجين، والأحمر إلى الكبريت، والأخضر إلى الهيدروجين والنتروجين. ويسمح ذلك للمشاهد بفهم أحجام وعمق سحب الغاز والغبار البرجية تلك، ويقدم لنا جوانب علمية ما كانت لتكون مرئية في أحوالٍ أخرى.

وعلى سبيل المثال، تتسبب طريقة اصطدام الضوء عالي الطاقة بالسحب في تبخر شرائط رقيقة من الغاز في قمة الأعمدة. وفي معظم الأحيان، تُتخذ القرارات الخاصة بالألوان لأهدافٍ علمية وسعيًا وراء الإيضاح. وعلى الرغم من ذلك، تُجرى أحيانًا بعض التعديلات لأهداف جمالية أيضًا. وتقول أركاند: “نحاول أن نوازن بين الإمتاع والدقة العلمية المرجوة”. وعلى سبيل المثال، تستشهد أركاند بصورة لمساحة من الفضاء المحيط  بثقبٍ أسود أثناء التهامه الغبار والغاز المحيطين به. وتستخدم الصورة  فلترًا واحدًا فقط، ولذلك قدّم فريقها نسختين إلى مجموعة التدقيق: واحدة  تُوظف اللون الأزرق، وأخرى الأحمر. وقبل أن يعرفوا ما تصفه الصور، أحب الفريق كلتا الصورتين بالقدر نفسه، لكن حالما عرفوا أنها مادة ساخنة تسقط نحو ثقب أسود، فضّل معظمهم اللون الأحمر – في الحياة اليومية، يعني الأحمر السخونة دوماً، ولذلك كان موضوع الصورة أكثر بديهية، وتعلق أركاند: “هناك بالفعل دلالات لما يعنيه اللون فوق الأرض، ولذلك نحاول أن نأخذ ذلك بالحسبان دومًا “.

نجم القاعدة إيتا

المُشاهَد في هذه الصورة، هي أحد أكبر النجوم في مجرتنا. ففي أربعينات القرن التاسع عشر شُوهد وهو ينفجر نافثًا ما نعرفه حالياً على أنه فصّان مكوّنان من الغاز والغبار الكونيين. وحتى يومنا هذا وبعد مرور نحو قرنين، لا يزال هناك الكثير من الطاقة المرتدة حوله، ولذلك اعتمد تلسكوب هابل على فلاتر اُختيرت خصيصاً لقدرتها على التقاط الضوء فوق البنفسجي عالي الطاقة. توضح الصور الثلاث الأصغر، الموجودة أسفل الصورة الرئيسية، أطوالًا موجية مختلفة جمعها تلسكوب هابل. فلإنشاء الصورة الرئيسية، خُصصت لها ألوان مرئية ومن ثمّ جُمعت الأجزاء معاً. وتستخدم الصورة الأولى فلترًا بإمكانه التقاط الضوء الصادر عن المغنيسيوم Magnesium عند الطول الموجي 280 نانومترًا، وخُصص لهذا الطول الموجي اللون الأزرق لأغراض معالجة الصورة. ففي الوسط، استُخدم فلترٌ سمح لنطاق أوسع من الضوء فوق البنفسجي بالعبور لكن بأطوال موجية أطول قليلاً، ولذلك خُصص له اللون الأخضر في الصورة النهائية. أما في الأسفل؛ فيوجد الضوء الصادر عن النتروجين عند الطول الموجي 658 نانومترًا، وقد أُعطي المسحة الحمراء. وتنتج من جمع هذه الأجزاء معًا صورة تسمح لأعيننا برؤية ما لن يكون بمقدورنا رؤيته -غاز المغنسيوم الدافئ الموجود بين فقاعات القاعدة إيتا اللامعة والمكونة من مواد وأشرطة من النتروجين المحيطة بها.

لجأ فريق تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope  (اختصارًا: التلسكوب EHT) إلى مبدأٍ مشابهٍ عند تجميع الصورة الشهيرة للثقب الأسود في مركز المجرة M87، التي مثّلت أولى الصور المباشرة لظل ثقبٍ أسود. ويقول مايكل جونسون Michael Johnson من مركز هارفارد- سميثسونيان للفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics في ماساتشوستس والذي ينسق جهود التصوير في التلسكوب EHT: “لا علاقة لأيٍ من بياناتنا بالألوان”، ويُضيف قائًلا: “كل ما ننجزه هو قياس مقدار الضوء القادم من كل جزء من أجزاء الصورة”.

 و قد تكون الصورة خضراء وأرجوانية بدلًا من كونها برتقالية، لكنّ تلك النسخة كانت مربكة والنظر إليها ليس أمراً ساراً، كما يقول جونسون. “إنه لمن المزعج اختيار ألوانٍ لا تتوافق مع المفاهيم البديهية للحرارة”. فعند الابتعاد عن الألوان الحمراء- الخضراء- الزرقاء، فإنّ أهم الأشياء هو التأكد من أن المُشاهِد لا يزال قادرًا على معرفة ما يجري في الصورة.

<<الكثير من تلك الأجرام، حتى ولو كنت تعبر بجوارها داخل سفينة فضائية، لن يكون بوسعك مشاهدتها لأنها خافتة جدًا، أو فقط تُصدر ضوءًا في نطاق الأشعة تحت الأحمر>>

في نهاية المطاف، هذا هو جمال المراصد الضخمة المُستخدمة في مثل هذا النوع من الأعمال: إنها تُرينا أشياء في الكون ما كنّا لنراها في أحوالٍ أخرى. وتقول معالِجة الصور الهاوية جودي شميدت Judy Schmidt: “الكثير من تلك الأجرام، حتى ولو كنت تعبر بجوارها داخل سفينة فضائية، لن يكون بوسعك مشاهدتها لأنها خافتة جدًا، أو تُصدر فقط ضوءًا في نطاق الأشعة تحت الحمراء. إنها ليست خدعة، إنها حقيقية جدًا، لكن لا تستطيع عيناك مشاهدتها”.

ينطبق ذلك، بشكلٍ خاص، على صور بيانات من أجزاء تقع خلف الجزء المرئي من الطيف، إذ تجمع العديد من الصور الفضائية حاليًا لقطات من هابل ومراصد فضائية مدارية أخرى مثل التلسكوبين شاندرا أو سبيتزر Spitzer.  وتجمع هذه الصور أكبر قدرٍ ممكن من البيانات في صورة واحدة، مضيفة بذلك الأسعة السينية أو تحت الحمراء  اللذين ما كنا لنراهما في أحوالٍ أخرى، أو أنها تقدم معلومات إضافية حول اللون لا يُمكن استخلاصها باستخدام إطار وحيد.

تقول أركاند: “إذا سافرت إلى سديم السرطان Crab Nebula ونظرت إليه بعينيك، فلن يكون جيدًا بقدر ما تراه من خلال تلسكوب هابل، أو أيٍ من المراصد الفضائية العظيمة الأخرى”، وتتابع قائلة: “أعيننا حزينة وضعيفة -خيالنا وإبداعاتنا التقنية تتجاوز ما باستطاعة أعيننا فعله”.

هذا صحيح فيما يتعلق بالفلاتر المستخدمة مع الصورة ككل، لكنه صحيح أيضًا عند أحجام أصغر. وفي بعض الأحيان، يعني استخراج كل ما يكمن في الصور جعل بعض المساحات فيها أكثر سطوعًا أو خفوتًا، التعريض Dodging والإحراق Burning وفقاً لمصطلحات مصوري غرفة التحميض Darkroom.

يقول ليفي: ” يُمكننا جعل المعلومات التي كانت مخفية، مرئية بفضل هذه التعديلات الموضعية”، ويتابع قائلًا: ” برأيي، إنه التمثيل الأكثر صدقاً للبيانات”. وعلى سبيل المثال، في صورة لمجرة حلزونية ما، غالباً ما يظهر مركز المجرة أكثر سطوعًا بكثير من الأذرع، ولذلك يجب تعتيمه من أجل إظهار تفاصيلهما في الصورة نفسها.

تقريبًا، يحصل القليل من التعديل على كل الصور وهذا ناتجٌ من آلية عمل التلسكوب. وتقول شميدت: ” يتحدث إليك الكون هامسًا، لكن هناك أيضًا موجات صاخبة لا تريدها”. وقد تكون تلك الموجات الصاخبة أشعة كونية، أو جسيمات مشحونة Charged Particles تصطدم بكاشفات التلسكوب وتملؤها بضوء غير مرغوب فيه، أو ربما تكون أقمار اصطناعية تُحلق بين التلسكوب والجرم الهدف، ومن ثمّ تُحرر هذه الصور كي لا يتشتت الانتباه عن العلم الفعلي المنشود من الصورة.

تُحول كل هذه التعديلات الأصفار والآحاد القادمة من التلسكوبات الفضائية إلى صور يُمكن لغير العلماء وبرامج الحواسيب قراءتها. ويقول دوباسكال: “إذا ما فكرت في الأمر على أنه لغة لا يُمكنك فهمها، فنحن نترجمها إلى شيء باستطاعتنا فهمه ورؤيته”. ويضيف ليفي: “أعتقد أن كل ذلك نوعٌ من أنواع التصوير الطبيعي. أما لماذا من المهم عمل هذه الأشياء؟ لأنها تكشف لنا ماهية الكون”.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى