أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجيافضاء

بطاريات نووية آمنة وطويلة الأمد قد تكون حقيقة واقعة قريبًا

تحسين على التقنية التي تشغّل المركبات الفضائية العابرة للكوزموس قد يُستعمل قريبا لصناعة بطاريات طويلة الأمد على الأرض

بقلم:    ديفيد هامبلينغ

ترجمة: مي بورسلي

في عام 1977 انطلق المسباران فوياجر Voyager لبدء ما سيثبت أنه أطول الرحلات التي قطعتها أجسام من الأرض على الإطلاق. حاليا، غادرت المركبتان المجموعة الشمسية والمسبار فوياجر 2 يرسل إلينا قياسات الفضاء بين النجوم. ومع تقدم الإنجازات، فإنها تُصنف من بين أعمق الإنجازات البشرية. ولكن نادرًا ما يُحتفى بأحد الجوانب الحاسمة لهذا النجاح: فمن المؤكد أن لدى هذين المسبارين بطاريات جيدة.

في ظروف الحياة اليومية لا يبدو أن البطاريات تدوم طويلاً بما يكفي. إذ يجب علينا شحن هواتفنا يوميا، ويبدو أن الحواسيب المحمولة متعطشة باستمرار إلى كابلات الطاقة، والسيارات الكهربائية تسير قليلا ثم تتوقف حين تنفد طاقتها. وهذ يكفي بأن يجعلك تريد نوعًا جديدًا من إمدادات الطاقة.

ربما نقترب من ذلك. فمسبارا فوياجر يستخدمان مصدرا ضعيفا للطاقة النووية، نظرًا لكونه مشعًا، فإنه يعتبر خطرًا للاستخدام على الأرض. ولكن هناك شكلا من أشكال الطاقة وثيق الصلة يحتوي على قدر أكبر من القدرة ويمكنه العمل بأمان في سيارتك العادية. وقد يكون هذا الهدف بعيد المنال. ففي المرة الأخيرة التي فكر فيها الباحثون بجدية في هذه التكنولوجيا الغريبة، قبل 20 عامًا، انتهى الأمر بجدل مثير. ومع ذلك، فإن الجيش الأمريكي الآن يضعه في عين الاعتبار وقد أجرى تجربة قد تمنح هذا الهدف فرصة جديدة.

معظم طرق تخزين الطاقة تتضمن قدرا من الكيمياء. فعندما نحرق البنزين في محرك السيارة، فإننا نحرر الطاقة المخزنة في الروابط الكيميائية. وبالمثل، تعمل البطاريات القائمة على الليثيوم في أجهزة مثل الهواتف المحمولة من خلال السماح بتدفق الأيونات المشحونة. لكن هناك قوة أكبر يمكن الحصول عليها إذا نظرنا إلى ما وراء الكيمياء داخل الذرة نفسها.

تتكون كل ذرة من نواة فيها جسيمات تسمى البروتونات والنيوترونات تدور حولها سحابة من الإلكترونات. وعادة ما تندمج هذه البروتونات والنيوترونات معًا في درجات الحرارة والضغط الشديدين في لُب النجم، وإذا تعمقت في نواة الذرة بالطريقة الصحيحة، يمكنك استخراج بعضٍ من هذه القدرة الهائلة. والطريقة الأساسية لفعل ذلك هي طريقة الانشطار النووي Nuclear fission، حيث تطلق النواة نيوترونات يمكنها بعد ذلك شطر المزيد من الذرات، مما يتسبب في تفاعل متسلسل يطلق كميات هائلة من الطاقة. وهذه هي الطريقة التي تعمل بها محطات الطاقة النووية في العالم البالغ عددها 440 محطة. وهناك أيضًا طريقة الاندماج النووي Nuclear fusion، والتي من المحتمل أن تكون أقوى بكثير، ولكنه يعتمد على دمج النوى معًا بطريقة مضبوطة لم نتقنها بعد.

ومسبارا فوياجر يُمدّان بالطاقة بطريقة مختلفة: فهما يستفيدان من النشاط الإشعاعي الطبيعي. فبعض الذرات غير مستقرة وتطلق جزءًا من المادة والطاقة بين الحين والآخر. وقد تكون مجموعة من بروتونين ونيوترونين (إشعاع ألفا) Alpha radiation أو إلكترون (إشعاع بيتا) Beta radiation أو طاقة خام من أشعة غاما Gamma rays.

ولا يمكننا التنبؤ بموعد تحلل ذرة معينة بهذه الطريقة، ولكن يمكننا تحديد المدة التي سيستغرقها نصف الذرات في كتلة من المواد المشعة لفعل ذلك. فهذا هو عُمر – النصف Half-life وقد يتباين الرقم تباينا كبيرا. فبعض المواد المشعة تختفي في ثوانٍ. ويبلغ عمر النصف للبلوتونيوم-238 Plutonium  87.7 عامًا، ولهذا السبب اختير كمصدر للطاقة لمسبار فوياجر 2. والبلوتونيوم يقطر تيارًا من جسيمات ألفا؛ مما يولد حرارة تحولها ثلاثة مولدات كهروحرارية للنظائر المشعة، بحجم حقيبة السفر تقريبًا، إلى كهرباء.

والنشاط الإشعاعي سيئ السمعة، ولكن ليست جميع الأنواع متساوية. فأشعة غاما تخترق الأنسجة البشرية بعمق وهذا خطير. أما إشعاع بيتا؛ فليس بهذا السوء. ولا يخترق إشعاع ألفا الجلد، لذلك فهو ضار فقط إذا كان طليقا داخلك. وفي الواقع، زودت أجهزة تنظيم ضربات القلب Pacemakers بالطاقة باستخدام مولدات كهروحرارية تحتوي على النويات المشعة Radionuclides المحفوظة جيدًا حتى أوائل سبعينات القرن العشرين.

“تجمع الأيزومرات بعضًا من أفضل الأجزاء من الأنواع الأخرى – قد تكون قوية وآمنة وطويلة الأمد”

والمفهوم الذي يتطلع إليه الجيش الأمريكي هو نوع من الطاقة النووية التي تجمع بعضًا من أفضل الأجزاء من الأنواع الأخرى، قد تكون قوية وآمنة وطويلة الأمد. ويعتمد ذلك على حقيقة أن البروتونات والنيوترونات لعنصر معين قد تتجمع معًا في ترتيبات مختلفة في نواة الذرة. فهذه تسمى أيزومرات Isomers ولكل منها طاقة مختلفة. وتكون الذرات عادةً في أكثر الأيزومرات استقرارًا، وهي الحالة الأرضية Ground state . وتميل الأيزومرات ذات الطاقة الأعلى إلى إعادة ترتيب نفسها بسرعة إلى هذه الحالة. ولكن هناك عددا قليلا من الأيزومرات ذات الطاقة العالية التي تبقى لفترة طويلة.

طاقة مكبوتة

في عام 1998 استخدم كارل كولينز Carl Collins، من جامعة تكساس University of Texas، مسرع (مُعجِّل) الجسيمات Particle Accelerator لتحضير أحد هذه الأيزومرات المستقرة عالية الطاقة، والتي تسمى الهافنيوم – 178m2 (رمز m2 يشير إلى أن هذا هو الأيزومر الثاني للهافنيوم 178) Hafnium. بعد ذلك أطلق أشعة سينية على نواتها وادعى أن هذا قد حوّل النواة إلى حالتها الأرضية، مما أطلق موجة من أشعة غاما. وسيكون من الصعب الاستفادة منها كمصدر للطاقة لأنها خطيرة جدا، لكن كولينز رأى أنها دليل على مبدأ أن الأيزومرات النووية قد تكون مصادر طاقة مفيدة. وكان يعتقد أنه يمكن حتى استخدامها كنوع جديد من القنبلة النووية.

وسخر العديد من العلماء من ادعاءات كولينز، بحجة أنه اضطر إلى ضخ طاقة أكثر من الطاقة الناتجة لتحفيز تحول الأيزومر. وإضافة إلى ذلك، فحقيقة أنك بحاجة إلى مسرع جسيمات لصنع أيزومر الهافنيوم يعني أنه لا يمكن إنتاجه إلا بكميات صغيرة وبتكلفة كبيرة. عُرف ذلك بـ “جدل الهافنيوم” Hafnium controversy.

وقد تتغلب أيزومرات أخرى عالية الطاقة على هذه المشكلات. فعلى سبيل المثال، يظهر التنتالوم -180m Tantalum، حتى وإن ندر، في الطبيعة في رواسب التنتالوم القابلة للتعدين. ويصدر عن الفضة-108m  Silver إشعاع بيتا، وهو أقل خطورة وقابل للاستغلال. فلا شيء من هذا يجعل قوة الأيزومر آمنًا، لكن الفائدة من إنشاء مصدر طاقة غير محدود قد تجعلها جديرة بالاهتمام. والمنطق نفسه ينطبق على 11.6 بليون جنيه إسترليني يُنفق على مفاعل الاندماج ITER في فرنسا، على الرغم من أن الغرض منه هو مجرد عرض تقني ولن يولد طاقة.

كان نهج كولينز هو الحصول على كل القوة المكبوتة للأيزومر دفعة واحدة. ولكن هناك، من حيث المبدأ، طريقة مختلفة ويمكن القول إنها أكثر فائدة. فقد عرفنا عنها منذ عقود، ولم تتّبع تتبعا صحيحا.

تخيل أن لديك كتلة من الأيزومر المشع، مثل الهافنيوم- 178m2، ذات طاقة عالية لكنها مستقرة. ويمكنك وضعها بأمان في وعاء لفترة طويلة لأنه بالكاد يصدر منها أي إشعاع. وعندما تحتاج إلى بعض الطاقة، فإنك تحول كمية صغيرة منها إلى حالتها الأرضية، والتي تكون أقل استقرارًا وتبدأ بالتحلل الإشعاعي بسرعة. وهذا يمنحك مولدًا مشابهًا للمولد الذي في المسبار فوياجر2، ولكن يمكن تشغيله بالطاقة حسب الرغبة.

كان جيمس كارول James Carroll، من مختبر أبحاث الجيش الأمريكي US Army Research Laboratory في أديلفي بولاية ماريلاند، يبحث في إمكانية تحويل الأيزومرات داخليا بهذه الطريقة. وقد تضمنت إحدى الطرق المحتملة لإجراء ذلك، والتي اقترحت لأول مرة في عام 1976، إطلاق إلكترون على أيزومر وامتصاصه في مدار حول النواة. وهذا يدفع البروتونات والنيوترونات إلى إعادة الترتيب في عملية يُطلق عليها الإثارة النووية بالتقاط الإلكترون Nuclear excitation by electron capture (اختصارا: العملية NEEC).

واستخدم كارول وفريقه مسرع الجسيمات في مختبر أرغون الوطني Argonne National Laboratory بالقرب من شيكاغو لإنشاء شعاع من ذرات الموليبدينوم- 93m Molybdenum، مع عمر نصف يبلغ نحو سبع ساعات. وكان هذا الشعاع ينتقل بنسبة 10% من سرعة الضوء، وهي سرعة كافية لتجريد بعض إلكترونات الذرات. بعد ذلك حُطِّم باصطدامه بالهدف، الأمر الذي حقن الإلكترونات مرة أخرى في النواة، ودفعها لتكون أيزومر أقل استقرارًا. وهذا الأيزومر تحلل بسرعة لدرجة أن الباحثين لم يتمكنوا من ملاحظته. ولكنهم استنتجوا أنه أنشئ بأشعة غاما التي أنتجها. وفي عام 2018 نُشر هذا العمل الذي عُرضت فيه العملية NEEC للمرة الأولى.

ويقول فيليب ووكر Philip Walker، والذي يدرس فيزياء الأيزومرات النووية من جامعة سري University of Surry بالمملكة المتحدة: “كانت التجربة خطوة مهمة إلى الأمام، لكن ما زال الأمر معلقا فيما إذا كانت التجربة تمثل إنجازًا أم لا بالنسبة إلى العملية NEEC”. وهذا إلى حد كبير بسبب وجود خلاف حول مقدار الطاقة التي يمكن استخلاصها من الأيزومرات. وتشير أرقام كارول إلى أن العملية يمكن أن تنتج 5 جول من الطاقة مقابل كل جول مُدخل، بافتراض أن 1% من الذرات تخضع إلى العملية NEEC.

أما أدريانا بالفي Adriana Palffy، من معهد ماكس بلانك للفيزياء النووية Max Planck Institute for Nuclear Physics في هايدلبرغ بألمانيا؛ فليست متأكدة تمامًا. إذ تشير حساباتها إلى أن عددا من الذرات أقل ببليون مرة يجب أن تُستنفد من خلال الاضمحلال الإشعاعي. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن هذا يثير أسئلة حول مصدر الطاقة التي رصدها كارول. وتقول بالفي: “قد تكون النتائج التجريبية صحيحة، لكن تفسيرهم لما حدث في العملية لا يمكن أن يكون صحيحًا”.

هذا، ويعترف كارول بأن الأيزومرات أبعد ما تكون عن الاستخدام العملي كبطاريات. ولكن الحجج التي أُثيرت بعد عمل كولينز لا تزال صحيحة: هناك أيزومرات أخرى يمكن الوصول إليها بسهولة ويمكن التحكم فيها. وتكمن المشكلة في صعوبة حساب الخصائص الدقيقة للأيزومرات، ولن نعرف مدى ملاءمتها حتى نجربها.

وهذا بالضبط ما يريده الجيش الأمريكي حاليا. إذ موّلَ مختبرَ أبحاث الجيش قسم التقنيات والمعدات النووية Department of Nuclear Techniques and Equipment في سويرك ببولندا لاستكشاف علم استنفاد الأيزومر. وجاسيك رزادكيويسز Jacek Rzadkiewicz، والذي يقود الفريق لديه تصريح استخدام مفاعل ماريا MARIA النووي التجريبي البولندي الذي يمكنه إنتاج مجموعة متنوعة من الأيزومرات المختلفة. “الهدف من المشروع هو معرفة طبيعة عملية شحن الأيزومرات وتفريغها عند الطلب”، كما يقول. بعبارة أخرى، اكتشاف أي الأيزومرات ستصنع بطارية جيدة. ويبحث الفريق البولندي عن أيزومرات أخرى من الرينيوم- 186m  Rhenium والأمريسيوم- 242m Americium.

وفي الوقت الحالي، لا نعرف أي شيء عن الكيفية التي تُجرى بها إزاحة الأيزومر على نطاق أصغر في مسرع الجسيمات. ومع ذلك، لا يزال هناك دافع كبير لتطوير بطاريات الأيزومر لأنها ستحزم كميات هائلة من الطاقة في حيز صغير. ويقول رزادكيويسز: “يمكن للأيزومرات تخزين الطاقة بسعة تصل إلى أكثر من غيغا جول لكل غرام”. وهذا يزيد بمليون مرة عن بطاريات الليثيوم- أيون، وعشرات الآلاف من المرات أكثر من البنزين.

المخاطر والمكافأة

ويقول كارول إن مركبة عسكرية من دون راكب تعرف بـ سميت SMET، تستخدم لنقل معدات الجنود، يمكن أن تعمل على مدى 163 يومًا باستخدام كيلوغرام واحد من الأمريسيوم – 242m. ويعمل الإصدار الحالي لثلاثة أيام باستخدام 20 لترًا من البنزين. ويمكن أيضًا تزويد الدرونات (الطائرات من دون طيار) Drones أو الغواصات الروبوتية بمصادر طاقة أيزومرية. لذا من السهل معرفة سبب اهتمام الجيش الأمريكي.

 ستكون السلامة مصدر قلق لأي شيء يحمل صفة “نووي”. وإذا كانت طاقة الأيزومر تصدر أشعة غاما، فإن ذلك سيحول دون استخدامها. ولكن إذا عُثِر على أيزومرات تصدر جسيمات بيتا أو ألفا، فقد يكون ذلك ممكنًا. ويعمل الكثير من الأفراد بالقرب من مخازن المواد المستخدمة في العلاج الإشعاعي والتشخيص. ويقول باتريك ريفان Patricj Regan من جامعة سري: “ربما تكون كميات المواد المشعة اللازمة لبطارية أقل من المواد التي تُنقل روتينيا حول المستشفيات”.

وقوة الأيزومر هي هدف بعيد المنال جدا. غير أن أعظم إنجازاتنا بدت كذلك في البداية. فعندما بدأ سباق الفضاء؛ من كان يظن أنه بعد عقود فقط، كنا سنرسل مسبارًا إلى ما وراء حدود المجموعة الشمسية؟

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى