أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أركيولوجياعلم الآثار

كيف عززت الخيول عصر البشر فيما قبل التاريخ

أظهرت دراسة جينية موسعة أن الإمبراطورية المنغولية كانت بوتقة انصهر فيها محاربون من أصول متنوعة

بقلم:    أندرو كيري

ترجمة: مي بورسلي

حتى العصر الحالي كان مصدر الروايات الوحيدة حول الشيونغنو Xiongnu من أعدائها. والسجلات الصينية التي ترجع إلى 2200 عام تصف الكيفية التي اشتبك فيها هؤلاء الرماة الشرسون من سهول (فيما يعرف اليوم بمنغوليا) مع الجيوش (فيما يعرف اليوم بشمال غرب الصين). وكانت قد حفزت هجماتها الصينيين على بناء ما صار يعرف بسور الصين العظيم Great Wall of Chinaعلى حدودها الشمالية، كحماية ضد البدو الرحل. كما بدأت بتكوين جيوش فرسان تابعة لها.

    ولم تترك إمبراطورية فرسان الشيونغنو أي سجل مكتوب. ولكن البيولوجيا تملأ الفراغات في قصتها حاليا، وكذلك قصص ثقافات آسيا الوسطى Central Asian الأخرى في العصور القديمة. واليوم هناك دراستان، مسح شامل للحمض النووي القديم Ancient DNA لأكثر من 200 فرد على مدى 6,000 عام وتحليل لهياكل عظمية للخيول قبل ازدهار الشيونغنو، تتتبعان تحركات السكان عبر آسيا الوسطى والدور الرئيس الذي أدته الفروسية. ويقول لودوفيك أورلاندو Ludovic Orlando من جامعة بول ساباتير Paul Sabatier University، الذي لم يشارك في البحث، إن النتائج: “تُظهر أن الخيول كان على الأرجح المُحرِّك لبعض انتقالات الأسلاف التي نراها في تعداد السكان…قدمت الخيول أنماطاً جديدة من أنماط التنقل البشري وسمح لهم بالسفر السريع ولمسافات طويلة”.

   وثقافة البوتاي Botai Culture ربما دجنت الخيول نحو 3500 قبل الميلاد بالقرب من كازاخستان الحديثة Modern Kazakhstan (Science, 11 May 2018, p. 587). وربما كانت الخيول في البداية تُستخدم استخداما أساسياً لتوفير اللحوم والحليب، ثم بدأت بعد ذلك بسحب العربات.

    ولمعرفة المزيد عن الهجرة البشرية عبر آسيا الوسطى فإن فريقًا بقيادة تشونغوون جيونغ Choongwon Jeong ، من جامعة سيول الوطنية Seoul National University، وكريستينا وارينر Christina Warinner ، من جامعة هارفارد Harvard University، أخذ عينات وسلسل الحمض النووي من رفات بشرية عُثر عليها في منغوليا. والنتائج التي أبلغوا عنها في الأسبوع الأول من نوفمبر في الدورية سيل (الخلية) Cell، كانت على امتداد 5000 عام قبل الميلاد وحتى ذروة ثقافة ركوب الخيل الأخرى؛ ثقافة إمبراطورية جنكيز خان المغولية، أي نحو 1000 ميلادية.

    وهناك دراسات جينية لسكان أوروبا الغربية أظهرت أن نحو عام 3000 قبل الميلاد، كان اليمنايا Yamnaya- رعاة الماشية والأغنام والماعز المتنقلون – قد شقوا طريقهم غربًا من سهول ما يعرف اليوم بروسيا وأوكرانيا وأحدثوا تحولًا جينيًا مثيرًا في أوروبا. وقد أظهرت الهياكل العظمية من العصر البرونزي Bronze Age في منغوليا أن اليمنايا تحركوا أيضًا شرقًا وقدموا هناك أسلوب حياتهم الرعوي الذي يقوم على الألبان أيضا. وأظهرت أقدم العينات في الدراسة الجديدة أنهم لم يتركوا أي أثر جيني دائم في منغوليا.

   والحمض النووي القديم يظهر أنه بعد 1000 عام تركت مجموعة أخرى من منطقة السهوب، تسمى سينتاشا Sintashta، بصمة دائمة. كما أحدثوا تغييرات ثقافية مصيرية في الأراضي العشبية في منغوليا، كما أظهرت الدراسات الأركيولوجية السابقة. وبدءًا من نحو 1200 قبل الميلاد ظهرت في السجل ابتكارات الفروسية بما في ذلك التربية الانتقائية للحجم والقدرة على التحمل، إضافة إلى حديدة اللجام وبنطال الركوب وحتى السروج المبكرة، كما يقول ويليام تايلور William Taylor ، الاختصاصي بالأركيولوجيا من جامعة كولورادو University of Colorado في بولدر، وهو مؤلف مشارك في كلتا الورقتين.

    ومن الواضح أن المنغوليين في ذلك الوقت كانوا يركبون الخيول، كما أكدت بوضوح الورقة الثانية التي نُشرت في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences. وذكر المؤلفون، علماء الأركيولوجيا الصينيون والأمريكيون، أن الهياكل العظمية للخيول التي دُفنت نحو 350 قبل الميلاد في جبال تيان شان Tian Shan، التي صارت حالياً جزءًا من مقاطعة شينجيانغ Xinjiang الصينية، تظهر تشوهات في العظام من الركوب، بما في ذلك تلفٍ في العمود الفقري من وزن الفارس وتغيرات في عظام الفم من اللجام. وتقول ساندرا أولسنSandra Olsen ، الاختصاصية بالأركيولوجيا من جامعة كانساس University of Kansas في لورانس، والتي لم تكن جزءًا من أي من الدراستين: “ضع أمراضَ أسفل الظهر إلى جانب الدليل على وجود لجام، وستجد أن كل ذلك يشير إلى أن الخيول كانت تُمْتَطى”.

   وبعد ذلك لم يمضِ وقت طويل حتى ظهرت الشيونغنو. فقد ترجموا مهاراتهم على ظهور الخيل إلى وسيلة متطورة لشن الحرب وتنظيم إمبراطورية امتدت إلى مسافات شاسعة. وابتداء من نحو 200 قبل الميلاد، حشدت الشيونغنو القبائل البدوية من جميع أنحاء أوراسيا إلى قوة هائلة، وحولت السهوب إلى مركز سياسي ينافس الصين المجاورة. وكتب أحد المؤرخين الصينيين المعاصرين: “كانت الشيونغنو مصدر قلق مستمر وأذى للصين…إنهم يتنقلون بحثًا عن المياه والمراعي وليست لديهم مدن محاطة بأسوار أو مساكن ثابتة، ولا يعملون في أي نوع من الزراعة”.

    ودراسة جيونغ للحمض النووي، المأخوذ من 60 هيكلًا عظميًا بشريًا من الشيونغنو التي امتدت 300 عام، تُظهر كيف تحولت المنطقة إلى إمبراطورية متعددة الأعراق. وبعد أكثر من 1000 عام عاشت فيها ثلاث مجموعات بشرية متميزة ومستقرة جنبًا إلى جنب على السهوب المنغولية، ارتفع التنوع الجيني ارتفاعاً حادًا نحو 200 قبل الميلاد. وقد اختلط السكان من غرب وشرق منغوليا ببعضهم البعض وبأشخاص لديهم جينات من أماكن بعيدة مثل إيران الحالية وآسيا الوسطى. ويقول جيونغ إن مثل هذا الاختلاط الواسع النطاق: “لم يسبق له مثيل من قبل… يمكنك رؤية الملف الجيني الأوراسي بالكامل في شعب الشيونغنو”.

   والنتائج تشير إلى أن إتقان ركوب الخيل جعل من الممكن الارتحال لمسافات طويلة مذهلة عبر بحر العشب في آسيا الوسطى. اقترحت الاكتشافات الأركيولوجية في قبور نخب الشيونغنو، من مثل الزجاج الروماني والمنسوجات الفارسية والفضة اليونانية، ارتباطات بعيدة المدى. ولكن الأدلة الجينية تشير إلى شيء أبعد من التجارة. وأظهر أحد عشر هيكلاً من فترة الشيونغنو علامات جينية مماثلة لتلك المتعلقة بالسارماتيين Sarmatians، وهم المحاربون البدو الذين سيطروا على المنطقة الواقعة شمال البحر الأسود، على بعد 2000 كيلومتر عبر السهوب المفتوحة من منغوليا.

   “لا يوجد دليل مكتوب على اتصال [الشيونغنو] بالسارماتيين، ولم يُثبت ذلك من الناحية الأركيولوجية. ويقول تساجان توربات Tsagaan Turbat، الاختصاصي بالأركيولوجيا من معهد الأركيولوجيا التابع للأكاديمية المنغولية للعلوم Mongolian Academy of Sciences’s Institute of Archaeology، إنه أمر مثير للدهشة حقًا أنهم يختلطون على الرغم من هذه المسافات الطويلة. “هذا النوع من المعلومات يغير فهمنا حقًا”.

   وفي المستقبل يأمل الباحثون بأن تساعد الجينومات على الكشف عن الكيفية التي عملت بها إمبراطورية البدو الغامضة. ويقول برايان ميلر Bryan Miller، الاختصاصي بالأركيولوجيا من جامعة ميتشيغان University of Michigan، إن الشيونغنو: “قامت بما تقوم به الإمبراطوريات – إجبار الناس أو تحفيزهم على الانتقال…فهل أُرسل الناس لحكم المناطق البعيدة، أم سمح للنُّخَب المحلية بالاستمرار بالحكم؟” كما يتساءل. “علم الجينات فقط هو الذي يمكنه الإجابة عن ذلك”.

©2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى