أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بشر

التهديد الذي يحيق بالقطب الشمالي في معرض بالمتحف البريطاني

بقلم:     شاوني باتاكاريا

ترجمة: محمد قبازرد

تعرض كرة أرضية مرسومة على جدار إكليلاً جميلاً كثيفاً من الثلج الأبيض فوق القطب الشمالي وإقليمه المتجمد، من عام 1979، وبعد ذلك يبدأ الثلج بالتقلص شيئاً فشيئاً وصولاً إلى عام 2100، إلى أن يبدو بالكاد كبصمة عُقلة إصبع، مذيباً بذلك قمة منطقة غرينلاند إضافة إلى الجزء الأقصى من الأرخبيل الكندي.

وبهذه المقدمة الكارثية يُحيِّي معرض المتحف البريطاني British Museum – زواره عند بداية معرض القطب الشمالي المتجمد: حضارة ومناخ Arctic: Culture and Climate. وما هذه  إلاّ تذكيرٌ واضحٌ صادمٌ لحالة الطوارئ  الأخرى الوشيكة التي نواجهها، غير أنّ هذا المعرض معنيٌ أكثر بالأمل المعقود على مرونة الإنسان وتكيّفه والتغيّر الثقافي في مواجهة هذه الكارثة.

وهناك رسالة أخرى أيضاً موجّهة إلى العالَم المُحاصر  بجائحة كوفيد – 19 (Covod-19) والمربوط بتزايد بالشاشات.  وبعد احتكاك  محدود مع العالم الخارجي لعدة أشهر، يُذكّر المعرِضُ زائريهِ بأنهم لا يزالون كائنات حية متحركة ناشطة فاعلة على ظهر هذا الكوكب الأزرق، وأنّ بوسعِهم تدميرَه أو تعميرَه على حدٍ سواء.

اليوم لا يزال يعيش زهاء 400 ألف مستوطن أصلي في القطب الشمالي. وعاش أجداد هؤلاء المستوطنين على مدى 30 ألف عام في ظروف قاسية وتتغير بسرعة، بما في ذلك الحقبة التي شهدت عهد الذروة الجليدية الأخيرة Glacial maximum وتداعيات الموجة الاستعمارية.

وآمبر لينكولن Amber Lincoln، أمين المعرض الرئيسي في المتحف البريطاني، تُريد للزوّار أن يخرجوا بتقدير جديد لأولئك الذين عاشوا في إقليم القطب الشمالي وقصصهم؛ للذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد إحصاءات لتأمل الحيوات المتأثرة بالتغيّر المناخي Climate change.

والقطع الأثرية التاريخية والأعمال الفنية والصور الفوتوغرافية الجميلة تتحد بسوداويتها ومقاطع الفيديو الغامرة بسلاسة لسرد قصص أولئك المستوطنين. ويتصاحب كل هذا مع إضاءة و مؤثراتٍ صوتية مؤثرة جداً والتي تولد الإحساس بتغير الضوء والصوت عبر السنة القطبية الشمالية – بواقع دقيقتين لكل شهر ثم يتلاشى تدريجياً وصولاً للشهر التالي، بحيث يبدو أن المشهد في حالة تغيير مستمرة.

حين يتقلّص الإقليم     

توجد المستوطنات الأصلية عبر إقليم القطب الشمالي بدءاً من الأصقاع الشمال، مروراً بإسكندنافيا وسيبيريا، وصولاً إلى غرينلاند ومناطق آلاسكا وكندا الشمالية. ويُواجه نمط حياة هذه المستوطنات الحية في الوقت الراهن  تحدياً متفاقما، فقد فَقَدَ الإقليم 75% من ثلوج بحره على مدى الخمسين سنة الماضية، كما أن السطح الجيلدي دائم التجمد الذي يعمل كعازلٍ أرضي بدأ بالذوبان.

تُظهر صورةٌ سردابًا ثلجيًا أرضيًا عميقًا تحت السطح الجليدي دائم التجمد Permafrost. وهو سرداب كان تستخدمه  شعوب الإنوبيات Inupiat  الذين استوطنوا منطقة شمال آلاسكا لتخزين لحوم الحيتان. ومع ذوبان السطح الجليدي دائم التجمد ربما لا تنجو هذه الثلاجات العميقة الغائرة.

وفي مكانٍ آخر من المعروضات هناك حزامٌ يعود إلى القرن التاسع عشر وسِكّينٌ وحقائبُ للتمائم وللُفافاتِ تبغٍ -يُعتَقَد أنها كانت تعود ربما إلى رعاة قطعان ظباء الرّنّة من شعوب الخانتي Khanty  أوالنانتس- Nenets في روسيا، والتي تحفز النقاش حول التأثيرات الأقل توقّعاً للتغيّر المناخي في الإقليم. إذ إنّ الأمر لا يقتصر على تقلص النظام الإيكولوجي Ecosystem في إقليم القطب الشمالي فحسب، ففي عام 2016 نفق زهاء 2350 من ظباء الرّنّة بمنطقة اليامال في سيبيريا من جرّاء تناولها لجراثيم الآنثراكس Anthrax التي ظهرت للسطح نتيجةً لذوبان السطح الجليدي دائم التجمد.

وحتى أحد أكثر المعروضات جمالاً ( العمل الفني للرسام فيدور ماركوف Fedor Markov، وهو فنان من محافظة ساخا الروسية والذي يعرض من خلاله رسمة احتفالات شعوب ساخا من شمال شرقي روسيا بالانقلاب المناخي الربيعي Spring solstice) تعكس موضوع تغير الجوّ وأهميتة ذلك في القطب الشمالي.

أما المجسّم المصغّرالذي يحاكي الرسومات التراثية؛ فهو منحوت ببراعة من عاج أنياب الماموث (بعد إذن خاصٍ بالطبع). فعاج أنياب الماموث الصوفي آخذةٌ شيئاً فشيئاً بالتوافر تزامناً مع ذوبان السطح الجليدي دائم التجمد وظهور ما يقبع تحته من كنوزٍ متجمّدة.

والجانبُ الأشد غَرابةً في هذا السياق هو ما تعكسه المجتمعات من استخدام مستدامٍ واحترام مُذهلَيْن للطبيعية – وهو ما فقدناه في نواحٍ أخرى من هذا العالَم. فبينما لا تزال تُصطاد طرائدُ الكاريبو والماموث والفقمات والحيتان، إلا أن كلّ قطعةِ لحم أو كسرةِ عظم أو زعنفة حوتٍ صغير أو وترٍ أو جلد تُستخدم لغرضٍ ما.

وتُظهر بذلة مذهلة لصيد الحيتان تعود إلى صائدٍ من قبيلة الكالاليت Kalaallit في غرينلاند بأوائل القرن التاسع عشر، وهي فريدة من نوعها، ما يمكن للناس أن يفعلوه بجلد الفقمة. إذ إن هذه البذلة، نظراً لكونها قابلة للنفخ ومضادة للبلل، كانت تزوّد مرتديها بميزتَيْ الطفو والتدفئة، ومن ثم تمكّنه من القفز بغتةً من قاربه مباشرةً على ظهر الحوت النائم أو الغافل لطعنه بالحَربَة، وذلك وفقا للشرح المكتوب تحتها.

ومن معروضات الإنتاج المستدام تبرز أيضا حقيبة مصنوعة من جلد سمك السالمون، وتتساءلُ لينكولن في هذا الصدد باندهاش: “مَن كان يمكن أن يتصوّر أن جلد سمك السالمون قد يكون بهذه الجدوى والجمال؟”

ومعرض القطب الشمالي ” حضارة ومناخ” معرضٌ عظيمٌ، إلاّ أنّ بعضاً من بهجتي أتت من تلك التجربة النادرة لاستشعار تجسيد الحياة دونما الاستعانة بِشاشةٍ ما. إذ استطعتُ أن أشعر، ولو لبُرهة قصيرة، بجانبٍ ما من حياة هذا الإقليم من خلال الموثرات الصوتية المنبعثة من ذلك العالَم المتجمد والإضاءة اللطيفة والحصيّات الثلجية المتناثرة على تلك الأثواب الشتوية المنسوجة من فِراء الفقمات والقشور على ظهر الأسماك بشكلٍ خلّابٍ ذكي لا يكاد يُصدَّق.

إنّ لهذا المعرض دروساً واضحة عن كيفية تعامل الناس مع الطبيعة، ومن أبرزها أنّ كل شيء، بدءاً من الحيوانات وانتهاء بالثلج نفسه، يكون جزءاً حياً فاعلاً ومترابطاً بالحياة اليومية، ولا يمكن فصله عن قضايا من الاستحقاق Entitlement والاستغلال الجائرExploitation .

وفي عالمنا هذا الذي أجبر في جزء كبير من التجربة الإنسانية على التحول إلى أن يكون “أونلاين” Online، فإن مثل هذه المعارض أكثر من مجرد تذكير مهم  بالطبيعة المادية المُعاشة من حولنا وأن هناك أيضاً عالَماً حقيقياً جديراً بالكفاح لأجله.

Arctic: Culture and Climate is at the British Museum from 22 October 2020 to 21 February 2021

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى