أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم المناخ

كيفية إنفاق تريليون دولار لمعالجة تغير المناخ والقضاء على الفقر

بقلم: روان هوبر

ترجمة:  عبد الرحمن أياس

دعونا نتخيل أنكم ورثتم ثروة وتريدون حل أكثر مشكلات العالم إلحاحاً. إليكم أفضل طريقة لإنفاق أموالكم لإحداث فرق في تغير المناخ والمرض والفقر

عرف معظمنا تلك المحادثة: ماذا ستفعلون إذا فزتم باليانصيب؟ تسديد الرهن العقاري، وترك عملكم، وربما بدء أعمال صغيرة تقومون من خلالها بفعل شيء لطالما رغبتم فيه. لكن ماذا لو حصلتم على ثروة هائلة حقاً – ليس فقط بضعة ملايين بل تريليون دولار؟ وماذا لو كان عليكم أن تنفقوه على جعل العالم مكاناً أفضل؟

أعرف أن تريليون دولار – ألف بليون دولار – يبدو كأنه مبلغ ضخم من المال، وخاصة خلال الأزمة المزدوجة للركود والجائحة. ولكن في المخطط الكبير للأشياء، هو ليس كذلك. فتريليون دولار يساوي 1%من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهو ما ستصل إليه ثروة جيف بيزوس Jeff Bezos، مؤسس أمازون Amazon، بحلول عام 2026. وأغنى 1% في العالم يملكون معاً أصولاً تبلغ قيمتها 162 تريليون دولار. وهو جزء من 12 جزءاً مما وجدته الحكومات في أنحاء العالم كله عام 2020 وحده لحزم التحفيز الاقتصادي استجابة للفيروس التاجي Coronavirus.

ماذا يمكنكم أن تفعلوا بهذا المبلغ المتواضع نسبياً، إذا كُلِّفتُم بإنفاقه على أكبر التحديات في العالم؟ هذا هو السؤال الرئيسي لكتابي، كيف تنفقون تريليون دولار

How to Spend a Trillion Dollars، الذي اخترت فيه عشرة مشاريع ضخمة (كل ما يعمل له العلماء الآن) وأستكشف ما يمكن تحقيقه إذا أمطرناها بالمال. ونبحث هنا في ثلاثة من أكثر تلك التحديات إلحاحاً: حل مشكلة الفقر في العالم، ووقف التغير الجامح للمناخ، وعلاج الأمراض كلها.

القضاء على الفقر في العالم

لعل أهم شيء يمكن أن نفعله من أجل رفاه الإنسان هو تخفيف حدة الفقر. ووفقاً للبنك الدولي، فإن نحو 10%من سكان الكوكب، أو 760 مليون نسمة، يكسبون 1.90 دولار أو أقل في اليوم. والمشقة من هذا القبيل هي أن متوسط العمر المتوقع لأفقر سكان العالم يقل بنحو 15 سنة عنه لدى أغنى الناس.

لم تساعد السياسة الواسعة النطاق المتمثلة بتخفيف الضرائب على الأعمال والثروة مع توقع أن المال سـوف “يتدفق إلى أسفل” أفقر الناس في العالم. لذلك دعونا نجرب شيئاً آخر وسنعطي كل من هو في فقر مدقع مبلغاً إجمالياً يصل إلى ألف دولار، أو ما يعادل ذلك من الأصول. أحد الاعتراضات التي كثيراً ما تُثَار ضد مقترحات كهذه هو أن الناس سيهدرون هذه الهدايا. ومع ذلك، وجدت مراجعة للبنك الدولي للهبات النقدية صدرت عام 2014 أن هذه ليست هي الحال على الإطلاق. فالناس يميلون إلى استخدام المنح بحكمة. بل إن التحويلات النقدية والأصول لمرة واحدة يبدو أنها تغير حقاً حياة الناس.

في تجربة أُجريَت في بنغلاديش، مثلاً، مُنِحت أسر فقيرة جدا أصولاً في شكل ماشية. وأظهرت المتابعات أن المنح غيرت حياتها تغيرا مستداما ووضعتها في مسار جديد للخروج من الفقر المدقع.

وبدأ تنفيذ برامج مماثلة لتحويل الأصول في إثيوبيا وباكستان وبيرو وغانا والهند وهندوراس، وشارك فيها ما يزيد على 10 آلاف شخص. وبعد السنة الثانية من هذا المشروع، كانت لدى الأسر المشاركة في المشروع أصول أكثر، ووجبات غذائية أفضل، وصحة بدنية وعقلية أفضل، ومشاركة سياسية أعلى، وزيادة في تمكين المرأة مقارنة بمجموعات المقارنة (الضابطة/التحكم)  Control group.

ولا يمكن أن تكون الأدلة أكثر وضوحاً: فالاستثمار لمرة واحدة يعطي من يعيشون في فقر مدقع ما يحتاجون إليه للهروب من مصيدة الفقر، وفي كثير من الأحيان على نحو دائم.

وكانت معظم تجارب التحويلات النقدية التي أُجرِيت حتى الآن على نطاق من مئات الآلاف إلى ملايين الدولارات. ونحن لا نعرف ما الذي قد يحدث إذا أمطرنا كميات أكبر على مجموعات سكانية بأكملها. هل يمكن للناس أن يتخلوا عن العمل؟ من الصعب القول، لكن الأدلة الصغيرة القائمة لا تشير إلى ذلك. ففي ألاسكا، مثلاً، يحصل المقيمون جميعاً على أرباح سنوية تُستمد من عوائد النفط، وهذا ليس له أي أثر سلبي في  معدل العمالة. ولا يبدو أن تحويلات نقدية كهذه لها أثر كبير في التضخم، استناداً إلى دراسة أُجريَت في كينيا.

ما نعرفه على سبيل اليقين هو أن الفوائد يمكن أن تكون ضخمة. في البرازيل، ساعدت مبادرة على نطاق البلد، أُطلِق عليها اسم بولسا فاميليا Bolsa Família عام 2003، على الحد من التفاوت المالي بنسبة 15%، وتقلصت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع من 9.7 إلى 4.3%. كذلك انخفضت حالات وفيات الرضع الناجمة عن سوء التغذية إلى النصف. وليست المدفوعات من البرنامج شاملة: هي تستهدف فقط الأسر التي تكسب أقل من مبلغ معين، لكن عام 2015 كان المستفيدون لا يزالون ربع السكان، أو ما يقرب من 52 مليون شخص.

القيمة التعليمية

في بيرو كان هناك نظام لتحويلات نقدية تأتي بشروط. ففي القرى الملتحقة، تتلقى ربة الأسرة التي لديها أطفال ما يعادل 143 دولاراً كل شهرين إذا كانت ترسل الأطفال إلى المدرسة، وحصلت على بطاقات هوية لهم، وأخذت من تقل أعمارهم عن خمس سنوات لإجراء فحوص صحية.

وهذا يلمح إلى نوع التغيير الدائم الذي يمكنكم عمله إذا كنتم ببساطة تتخلون عن المال، حتى وإن كان مع شرط أن يجري تعليم الأطفال. واكتشفت مؤسسة بروكينغز Brookings Institution غير الربحية في واشنطن العاصمة أن المرأة التي لم يسبق لها أن كانت في المدرسة لديها نحو أربعة إلى خمسة أطفال أكثر من امرأة حصلت على 12 سنة من التعليم. ووجدت أيضاً أن النساء اللائي يذهبن إلى المدرسة يكسبن أكثر، ويقل احتمال زواجهن في سن الطفولة، ويقل احتمال تعرضهن لفيروس نقص المناعة البشرية أو الملاريا، ويملن إلى زراعة المزيد من الأراضي المنتجة، ما يؤدي إلى تغذية أفضل للأسر.

وتقدر الأمم المتحدة أن مبلغاً إضافياً قدره 39 بليون دولار في السنة يمكن أن يكفل تعميم التعليم في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى. (تنفق الأمم المتحدة حالياً 13 بليون دولار سنوياً على مشاريع المساعدات الدولية للتعليم). والتعليم الشامل هو في مقابل 39 بليون دولار فقط في السنة. وهو مبلغ صغير مثير للصدمة لضمان حق أساسي من حقوق الإنسان.

إذن، هذا هو أحد السبل لإنفاق تريليون دولار: 600 بليون دولار مقدماً لإخراج مئات الملايين من الناس من مصيدة الفقر، ما يتركنا مع ما يكفي لدفع تكاليف التعليم الشامل في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى لمدة عشر سنوات.

وقف تغير المناخ

إن تغير المناخ مأساة عالمية تتكشف أمام أعيننا. وإذا لم نمنع ارتفاع درجات الحرارة بأكثر من 1.5 ْس فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، سنقع رهينة ارتفاع مدمر في مستوى سطح البحر، وحالات الجفاف، والمجاعات، والنزاعات. نحن بحاجة ماسة إلى خفض الانبعاثات. فهذه هي الطريقة الوحيدة لمنع الكارثة من أن تزداد سوءاً. لكن لدينا، الآن، الوسائل لتبريد الكوكب وإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.

سنرغب بالاستثمار في الهندسة الجيولوجية، التي تُعرَف بأنها أي تدخل متعمد له طابع ونطاق قادرين على التصدي لتغير المناخ الذي هو من صنع الإنسان وآثاره المباشرة. وسنركز على واحدة من الأفكار الواعدة، الهندسة الجيولوجية الشمسية، التي تشمل طرقاً لحجب بعض أشعة الشمس التي تصل إلى سطح الكوكب ثم تبرد درجات الحرارة العالمية.

دعونا نتخيل أننا ننفق بضع مئات من ملايين الدولارات لاختبار نهج واحد من هذا القبيل، وهو بذر السماء بجزيئات الكبريتات، الواقية الأكثر قبولاً من الشمس الكوكبية. فبعد تجارب واسعة النطاق، نجد أنها لا تدمر الرياح الموسمية في جنوب آسيا، مثلاً، وأن فوائد انخفاض درجة الحرارة لا يقابلها انخفاض في غِلال المحاصيل.

ولنتخيل أيضاً أن تجاربنا، التي تُزَاد في كل مرة، جمعت ما يكفي من البيانات الإيجابية والدعم السياسي والاجتماعي لدفع عملية وضع بيان بالمسؤولية والاتفاق على معاهدة دولية من أجل جهد عالمي في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية. فسنحتاج إلى طائرات مصنوعة خصيصاً تحلق عالياً في الستراتوسفير Stratosphere وتطلق حمولاتها من الكبريتات. وبعد بحث أجراه ويك سميث Wake Smith من جامعة يال Yale University وغيرنوت فاغنر Gernot Wagner من جامعة نيويورك New York University، سنفوض أسطولاً من الطائرات من دون طيار ذاتية القيادة وبأجنحة عملاقة، قادرة على الطيران في طبقة الستراتوسفير، وإطلاق حمولة الكبريت بثبات.

سنشتري جزيرة ونبني ميناء لاستقبال شحنات الكبريت ومدرجاً يمكننا من خلاله إطلاق آلاف الرحلات الجوية لبذر السماء. وسنخصص ستة بلايين دولار لهذا كله. وهذا ليس كثيراً. فالمشكلة هي أننا إذا بدأنا ذلك، لا يمكننا التوقف. فدرع الكبريتات يستمر فقط لمدة سنة أو نحو ذلك لأن الجسيمات تنجرف ببطء إلى سطح الأرض. وفقط عندما نكون قادرين على سحب كميات هائلة من الكربون من الغلاف الجوي يمكننا أن نجعل الدرع تنزل إلى الأبد، ما يقودنا إلى استثمارنا المقبل.

علينا أن نزيل جزءاً جيداً من ثاني أكسيد الكربون الذي أطلقناه في الغلاف الجوي. هنا سأمول نهجين مختلفين: التكنولوجيات المصممة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون والزراعة التقليدية للأشجار.

على الرغم من كل قوته المغيرة للعالم، فإن ثاني أكسيد الكربون هو غاز نزر، ولا يشكل سوى 0.04%من الغلاف الجوي. لذا يصعب اقتناصه. ويمكننا أن نفعل ذلك على نطاق صغير الآن لكننا بحاجة إلى عمل ذلك على نطاق كوكبي.

احتجاز الكربون

كلايموركس Climeworks هي شركة سويسرية تجرب عدداً من مشاريع احتجاز الكربون Carbon-capture، وأكثرها طموحاً هو في أيسلندا. هناك، تجمع وحدات احتجاز الكربون التي تعمل على الطاقة الحرارية الأرضية في البلاد 50 طناً من ثاني أكسيد الكربون سنوياً وتضخها تحت الأرض حيث تتفاعل مع البازلت وتتحول إلى حجر. ولكن 50 طناً في السنة لا شيء. ففي عام 2018 وحده، بعث البشر 37 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون. وتقول شركة كلايموركس إنها تريد التقاط 1%من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بحلول منتصف عشرينات القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب نمواً عملاقاً وغير مسبوق. وتتطلب الشركات الناشئة الأخرى التي تلتقط الكربون توسعاً مماثلاً قبل أن نصل إلى قدرة تحدث فارقاً عالمياً. لذلك سنستثمر في هذا القطاع، لنقل 100 بليون دولار أو نحو ذلك، لكن علينا توفير معظم أموالنا للنهج العضوي.

تريليون شجرة؟

يمكن تلخيص هذه الطريقة في ثلاث كلمات: زراعة مزيد من الأشجار. تمتص الأشجار ثاني أكسيد الكربون وتطبق عليه، على الأقل طوال عمر الشجرة. إذا كنتم تزرعون ما يكفي من الأشجار، فإن ذلك يمكن من  امتصاص كثير من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. فالمشكلة هي أننا سنحتاج إلى إجراء ذلك على نطاق هائل، الأمر الذي سيثير مشكلات متعددة. ولعل العقبة الكبرى هي مسألة أين سنزرعها كلها. استخدم فريق في إي تي إتش زيوريخ ETH Zurich في سويسرا بيانات عن الغطاء الحرجي من غوغل إيرث Google Earth وخوارزمية لتعلم الآلة Machine-Learning algorithm لتوقع المجالات الجديدة التي يمكن أن تدعم الغابات. وهناك ما يكفي من الأراضي، على ما يبدو، لـ900 مليون هكتار من الغابات، وهي مساحة تبلغ نحو مساحة الولايات المتحدة.

لنقل إننا دفعنا لزراعة نحو 500 بليون شجرة جديدة. وفقاً لتحليل إي تي إتش زيوريخ، ما أن تنضج الأشجار، قد يسحب هذا العدد 205 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون ويخزنها. وبالنظر إلى أن كل جزء في المليون من ثاني أكسيد الكربون يساوي 2.13 غيغاطن، فإن  ذلك أن يؤدي إلى خفض الأجزاء في المليون إلى نحو 320، وهو مستوى منتصف ستينات القرن العشرين. وحالياً، نحن في نحو 416 جزءاً في المليون.

ويبدو أن هذا هو أفضل وسيلة لشراء بعض الوقت على الأقل لنا. بالطبع، هناك كثير من التفاصيل التي يجب حلها. ويعتقد سايمون لويس Simon Lewis من جامعة ليدز University of Leeds بالمملكة المتحدة، الذي يدرس التفاعلات بين الغابات وتغير المناخ، أن الـ205 غيغاطن مبالغة في تقديرها. ومن الإنصاف أيضاً القول إن هناك طلبات كثيرة على الأراضي “الاحتياطية”، ليس أقلها للزراعة والإسكان والترفيه. ولكنه يبدو أن هناك كثيراً من الأراضي الهامشية حالياً التي يمكن أن نزرعها من جديد في مخطط ضخم لزراعة الأشجار. كما أن السماح بتجديد الأراضي من تلقاء نفسها قد يكون فاعلاً إلى حد كبير، وكذلك حوافز إدارة الغابات التي تهدف إلى حبس مزيد من الكربون.

وهذا التشجير الملحمي سيكون مكلفاً بنحو 400 بليون دولار سنوياً، ومع ذلك فمن المؤكد أنه سيكون استثماراً حصيفا. ووجد تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC عام 2018 أن إبقاءنا دون 1.5 ْس من الاحترار فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية سيكلف نحو 2.5 تريليون دولار سنوياً حتى عام 2050 في الاستثمار في قطاع الطاقة، و775 بليون دولار سنوياً في تدابير خفض الطلب على الطاقة. والتكلفة المالية الظاهرية للاحترار العالمي Global warming فوق 1.5 ْس هي تكلفة ضخمة إلى درجة أن المنافع الاقتصادية للبقاء تحت هذه العتبة تبلغ أربعة أو خمسة أضعاف حجم الاستثمار.

علاج الأمراض كلها

عام 2016 اعتلت بريسيلا تشان Priscilla Chan المنصة في اجتماع بسان فرانسيسكو وأعلنت أن مؤسستها ستعمل لضمان عدم تعرض جيل كامل من الناس إلى مرض خطير. وقالت، “سنستثمر في أبحاث العلوم الأساسية بهدف علاج الأمراض”. وتحقيقاً لتلك الغاية، وضعت تشان وزوجها، الرئيس التنفيذي لفيسبوك Facebook مارك زوكربيرغ Mark Zuckerberg، ثلاثة بلايين دولار في الأبحاث التي تهدف إلى الوقاية من الأمراض كلها أو إدارتها أو علاجها بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. وهذا ليس مجرد علاج سرطان الثدي أو الألزهايمر أو داء السكري أو السكتات الدماغية، بل علاج الأمراض كلها. يا للعجب، وزيادة متوسط العمر المتوقع في العالم إلى 100 سنة.

وحتى بمعايير السليكون ڤالي، هذا هدف طموح. وحتى لو انتهى الأمر بتشان وزوكربيرغ إلى استثمار ثروتهما بالكامل، التي تبلغ حالياً نحو 60 بليون دولار؛ لكان ذلك قطرة في الدلو عندما يتعلق الأمر بما هو مطلوب لتحرير الإنسانية من الأمراض كلها وإطالة عمر الجميع. لكن ماذا لو وضعنا التريليون دولار التي لدينا للهدف نفسه؟ عندما طرحت هذا على جيريمي فارار Jeremy Farrar، رئيس ويلكوم Wellcome، وهي واحدة من أكبر الجمعيات الخيرية للأبحاث الطبية في العالم، بوقف يبلغ نحو 30 بليون جنيه إسترليني، ضحك. قال إن تريليون دولار لا تكفي بأي شكل من الأشكال.

عندما تنظرون فيما يجب القيام به، تحصلون على فكرة أفضل عن حجم المهمة. تعاني كثير من الأبحاث والإنفاق على العمل الصحي العام عزلة نتيجة لتوجيهها إلى أمراض محددة. لنأخذ الجهود العالمية الرامية إلى القضاء على الملاريا، التي تقتل نحو 400 ألف شخص كل عام، معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة، ومعظمهم في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. يُنفَق على الملاريا نحو 4.3 بليون دولار سنوياً. ولكنه مجرد واحد من عشرات الأمراض المعدية. وإلى جانب استهداف تلك الأمراض، سنحتاج أيضاً إلى الإنفاق على الصعيد العالمي على فئات الأمراض الرئيسية الثلاث الأخرى: أمراض القلب، والأمراض العصبية، والسرطان.

كنا سنحرق التريليون دولار التي لدينا ولن نؤثر إلا تأثيراً عابراً في الصحة والعمر. فإذا كنتم ترغبون في تحقيق مكاسب هائلة في مجال الصحة العامة على نطاق عالمي، وجعلها عادلة ومستدامة، هناك شيء واحد يجب تنفيذه. إنه أمر صعب ومعقد ومكلف، وهذا قد يكون السبب في أنه ليس شيئاً يتحدث عنه أصحاب البلايين كثيراً أو يستثمرون فيه. هو الرعاية الصحية الشاملة: الرعاية الصحية المجانية للجميع.

ففي عام 2013 وضعت لجنة دولية من مجلة لانسيت Lancet إطاراً استثمارياً لتحقيق ما أسمته “التقارب الكبير” Grand convergence في مجال الصحة بحلول عام 2035. وبذلك عنت خفض الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية، فضلاً عن وفيات الأطفال والأمهات، في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى المستويات التي شُوهِدت في البلدان المتوسطة الدخل ذات الأداء الأفضل. ويتوقع الإطار أن يؤدي ذلك إلى منع أكثر من 10 ملايين حالة وفاة عام 2035.

ووجدت اللجنة أن الرعاية الصحية الشاملة ليست فقط الأكثر كفاءة، بل هي أيضاً الطريقة المستدامة الوحيدة لتحقيق التقارب في مجال الصحة العالمية. وكُتِب إطارها قبل جائحة الفيروس التاجي، لكن استجابة بلدان مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، على النقيض من استجابة الولايات المتحدة، تبين أن التغطية الصحية الشاملة حامية جيدة من الجائحات أيضاً.

وكما يقول فارار: لا تكفي تريليون دولار لتغيير نظام الرعاية الصحية في العالم، لذلك إليكم فكرة أخرى. ونخصص بعض أموالنا لبناء نظام للرعاية الصحية الشاملة في بلد واحد، ويكون النظام رائداً، أي بمثابة إعلان لبلدان أخرى عن فوائد الاستثمار في نظام الرعاية الصحية الشاملة.

دعونا نختار إثيوبيا. ويبلغ عدد سكانها أكثر من 100 مليون نسمة، ولديها اقتصاد كبير، لكن فقط نحو ثلاثة أطباء لكل 100 ألف شخص. وفي المملكة المتحدة هناك ما يقرب من ثلاثة أطباء لكل ألف شخص. ووفيات الأمهات والأطفال في إثيوبيا مرتفعة نسبياً، ويرجع ذلك أساسا إلى أن معظم الولادات تجري في المنزل، من دون وجود قابلة مدربة تدريبا حديثا. ومن شأن استثمارنا أن يجعل إثيوبيا أشبه بغانا، حيث يوجد نحو خمس قابلات لكل ألف ولادة ومعدلات وفيات الأمهات أقل بكثير. وتقدم غانا خدمة شاملة من خلال خطة التأمين الصحي الوطنية.

لذلك يذهب جزء كبير من التريليون الذي لدينا على تطوير نموذج للرعاية الصحية الشاملة. وينبغي أن يذهب جزء آخر على اللقاحات. فتطوير لقاح واختباره وتوزيعه العادل هو عمل ضخم ومكلف – لكنه مشروع قد ينقذ حياة الملايين من البشر.

سنمول التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة Coalition for Epidemic Preparedness Innovations، وهو شراكة عالمية تعمل لتوفير اللقاحات للعديد من الأمراض المعدية الناشئة، بما في ذلك كوفيد-19. ويمكننا المساعدة على زيادة معدلات التلقيح في مختلف أنحاء العالم، لكن يمكننا أيضاً دفع الأبحاث الأساسية. وستكون اللقاحات الفاعلة ضد فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا والسل، فضلاً عن اللقاحات المضادة لكوفيد-19، بمثابة تحول. وعموما، حُدِّد 320 أو نحو ذلك من الأمراض المعدية الناشئة منذ أربعينات القرن العشرين. وإذا استطعنا تطوير لقاح شامل ضد الإنفلونزا، سنكون محميين مما لا يزال أحد أكبر التهديدات الصحية لجنسنا: جائحة الإنفلونزا.

اقترحت جيسيكا ميتكالف Jessica Metcalf، عالمة الأحياء المتخصصة بالأمراض المعدية في جامعة برينستون Princeton University، برنامجاً لأخذ عينات من أجهزة المناعة لدى الناس يسمح للعلماء بالتقاط علامات لمسببات الأمراض الجديدة عند ظهورها. ولن يكون الفيروس التاجي آخر تهديد من هذا القبيل. ولكن ميتكالف تقول إن مرصدها المناعي العالمي 58989 (  58989 Global Immunological Observatory) سيساعد على “الكشف السريع عن الجائحات في المستقبل وتحديدها والتغلب عليها”.

مرة أخرى، هذا هو المال الذي لا يمكن إنفاقه بأفضل من هذا– وهو الشعور أصابني مراراً وتكراراً في حين كنت أجري أبحاثي لهذا الكتاب. فالدرس الذي تعلمته على طول الطريق كان واضحاً. فقد يبدو تريليون دولار مبلغاً هائلاً، لكن منافع إنفاق مبلغ كهذا على هذه المشاريع  يؤتي ثماراً سخية، وبسرعة كبيرة في كثير من الأحيان.

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى