أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الآثار

نشأة وانهيار المجتمع الغامض الذي أسس الحضارة

المدنُ البدائية التي بُنيت قبل 6200 سنة في شرق أوروبا تُغيّر أفكارَنا حول أوان قيام الحضارة وسبب نزوح الشعوب من الحياة القروية إلى المدنية.

بقلم – لورا سبيني

ترجمة – محمد قبازرد

قبل 6200 سنة تقريبا أقدم المزارعون القاطنون في ضواحي شرق أوروبا -حيث تقعُ أوكرانيا اليوم- على أمرٍ غير معقول، إذ هجروا قُراهم -قُرى العصر الحجري الحديثNeolithic Villages- ونزحوا إلى مناطق مأهولة متناثرة من الغابات والسهوب. وهناك، في حيّزٍ يُقاربُ حجمُه تقريباً حجمَ بلجيكا بين مدينتَيْ أوديسا وكييف اليوم، تجمّعوا في مستعمرةٍ يبلغ حجمُها عشرين ضِعف حجم قُراهم تلك.

تسبقُ هذه الحضارةُ الغامضةُ المعروفةُ بــ كوكوتني – ترايبيليا Cucuteni – Trypillia  المدنَ المعروفةَ قديماً سواء في حضارة بلاد الرافدين التي انبسطت على جزءٍ من الشرق الأوسط أم الصين. فقد استمرت هذه الحضارة لمدة 800 سنة، غير أنها انهارت فيما بعد بغموضٍ يوازي غموض نشأتها. وقد خلّف قاطنوها بصمة خافتة في المشهد الطبيعي، ولم يعثر الباحثون على بقايا بشرية. ويقول أليكسي نيكيتين Alexey Nikitin ، عالم جينات الأحافير Palaeogeneticist من جامعة غراند فالي ستيت Grand  Valley State  في ولاية ميتشيغن الأمريكية، واصفاً إياها: “ليست ثمةَ خُنصرٌ أو بُنصرٌ أو سِن”.

فهذا النقص المحيِّر في الأدلة أجّج جدلا دائراً حول ما أطلق عليه نيكيتين “العُصور المظلمة” Dark Ages لحقبة ما قبل التاريخ الأوروبي. ويقول: “تتحدّث إلى خمسة علماء آثار متخصصين بـ ترايبيليا فتتحصّل على خمسة آراء مختلفة”.

ولكن فجوة البيانات هذه لم تقلّل من درجة الاهتمام – بل العكس تماماً. فقد حاولت أبحاثٌ عدة مؤخراً أن تكون صورة مفهومة عن مدن ترايبيليا البدائية Proto-cities. وعلى الرغم من الخلافات المستفحلة، فإن ما يتمخّض الآن هو صورة لمحاولة تمدّن مبكرة وفريدة. وقد تكون هذه الصورة مفتاحَنا لفهم كيف بزغت أوروبا الحديثة من العصر الحجري الحديث، كما قد تُسلّط ضوءاً جديداً على تبلور الحضارة الإنسانية ككل.

تعتبر مدينَتا أوروك Uruk وتل براك Tell Brak ، واللتان شُيِّدَتا في بلاد الرافدين في أوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد، أولَ مدينتيْن في العالم. إذ تشير أحافيرها المُستكشفة إلى كثافة سكانية مطّردة آنذاك إلى جانب تسلسل هيكلي تَراتُبي اجتماعي مُبتكر، وهما السمتان المطلوبتان لتعريف المدينة. والفكرة هي أنه مع نمو أعداد السكان، كان لا بد للأغراب من التعارف والتعايش جنباً إلى جنب ضمن وطن مشترك. وتقول مونيكا سميث Monica Smith ، مؤلفة كتاب المدن: الستة آلاف سنة الأولى  Cities: The First 6000 Years  والأنثربولوجيّة من جامعة كاليفورنيا  University of California في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية: “أعتقد أن هذه كانت العتبة النفسية الحقيقية أمام التوسع الحضري”. غيرّ أن مواقع المُدن الترايبيلية الكبرى لا تستوفي تلكَ السِّمات، فكيف إذاً لنا أن نفهمها؟

لقد عرف علماء الآثار الأوكرانيون مواقعَ المدن الكبرى لأكثر من قرن، لكن الحفريات المنهجية لم تبدأ إلا بعد الحرب العالمية الثانية، كما لم تَستَرعِ المواقع الأثرية انتباهَ المجتمع العلمي إلاّ منذ عَقدٍ خَلا. واليوم هناك 15 مستعمرةً ترايبيلية -من أصل عدة آلاف- تُصنّف بأنها “كبرى” لأنها تمتد على أكثر من 1 كم2. والمستعمرة الأكبر تالجانكي Taljanki أكبر بثلاثة أضعاف، مما يجعلها أكبر بقليل من قلب مدينة الاقتصادي في لندن، كما أنها كذلك أكبر من مدينة أوروك على امتداد معظم فترات الألفية الرابعة قبل الميلاد.

وعلى الرغم من ضخامتها، لم تكن مواقع هذه المدن الكبرى مكتظةً بالسكان. فقد كانت مصممة على شكل دوائر متحدة المركز، بمنازل مبنية من السياجات الخشبية والطين المُقوّى Wattle and daub تطوّق الطُرُقَ الدائرية المحيطة بمراكزها الواسع. وضمت المدن الكبرى عدةَّ آلافٍ من البيوت إلى وما ناهز الــ 15000 مُقيم -مقارنةً بما لا يتجاوز بضع مئات من السكّان في قريةٍ من قُرى العصر الحجري الحديث التقليدية. وهناك جدلٌ مستعرٌّ حول هذه الأعداد وذلك -جزئيا- لأنه ليس من الواضح ما إذا كانت المواقع مأهولة بالكامل على مدار السنة. وهذا يثير سؤالاً آخر: ما الغرض من هذه الأماكن ؟

يعتنق البعض وجه نظر تقليدية. إذ يعتقد ميهايلو فيديكو Mykhailo Videiko ، عالم الآثار من جامعة بورس غرينشنكو كييف Borys Grinchenko Kyiv  في أوكرانيا، أن مواقع المدن الكبرى أُسست ببساطة استجابةً لضغط النمو السكاني المتنامي. ويقول، ربما تسهل نزوحُ الترايبيليين بفضل التطورات التكنولوجية، ولا سيما ظهور الزلاجات التي تجرها الثيران أو غيرها من الحيوانات. وهذا مكّن من نقل الأطعمة والمواد الأساسية عبر عشرات الكيلومترات وأكثر من القرى القائمة أو الحقول النائية إلى المواقع الجديدة. ويضيف فيديكو: “لم تكن هناك طرق، بل امتدادات من الغابات والسهول والوديان النّهرية”.

إما جوهانس مولر Johannes Muller ، الباحث من جامعة كيل Kiel University في ألمانيا؛ فيعتقد أن المدن الكبرى Megasites هي قرى متضخمة، تجربة نعم، ولكن مجرد زيادة في الحجم لا أكثر. فالتصميم المركزي لم يكن جديداً، كما يشير مولر الذي يُضيف: “تراهُ منذ قٌرابة 4800 ق.م. في المستعمرات الأقدم التي لم تتجاوز الخمسين منزلاً”. غير أن جون شابمان John Chapman  وبيسيركا غايدارسكا Bisserka Gaydarska ، الباحثيْن من جامعة دورهام Durham University في المملكة المتحدة، يعترضان على ذلك بشدة. إذ يقول شابمان: “الأمرُ أشبهُ بقولك إن حاملات الطائرات هي يختٌ كبيرٌ جداً”.

إذ يعتقد شابمان وغايدارسكا، أنها كانت حقا تجربة لنشوء النظام الاجتماعي، وظهور المدن الكبرى يعكس هذا التحوّل الأيدولوجي. إذ قُسِّمت كل منها إلى  مناطق تشع من المركز تقريبًا على شكل شرائح فطيرة دائرية، وينقسم كل منها بدوره إلى أحياء تضم عددًا قليلاً من المنازل. كما يبدو أن هذا الشكل العام قد فرض منذ البداية ، على الرغم أن الهيكل الداخلي لهذه المناطق تطور تدريجياً مع نزوح الناس إليها شيئاً فشيئاً. وفي الغالب كان لهذه الأحياء مبناها الرئيسي المقام استراتيجياً على الطريق الدائري. وهناك مبنى أكبر يخدم كل حيّ، كما كان هناك  قريبا من المركز باتّجاه الشرق مبنى اجتماعات كبير جدا يخدم الموقع ككل. ربّما ساهمت هذه التقسيمات الهيكلية الثانوية في احتواء الخلافات -كما تقول غايدارسكا، وربّما كان مباني الاجتماعات هي الأماكن حيث تتخذ القرارات وإذاعتها للسكان في حقبة ما قبل اكتشاف الكتابة. ويقول شابمان: “المدن الكبرى الترايبيلية كانت تقوم على المساواة، فهناك القليل من الأدلة على وجود سلع فخمة أو طبقة نخبة”.

لماذا تجمّعوا؟

بعبارةٍ أخرى، كانت هذه مُدُنٌ، إلاّ أنها كانت مختلفة جداً عن المدن التي أقامتها بعدها ببضعة قرون المجتمعات الهرمية التي تملّكت العبيد في بلاد الرافدين. ولما كانت هذه هي الحالة، فإننا نحتاج إلى أن نُوَسِّع تعريفنا للمدينة كما يقول شابمان وغايدارسكا.

غير أن البعض الآخر لا يذهب إلى هذا الحد. إذ تصفُ سميث المدن الكبرى بــ “المستعمرات الجَمعيّة” Collective settlements، كما تقترح أننا قد نفكر فيها على أنها سلائف مباشرة للمدن، حيث استَشعرَ ساكنوها الذين عرفوا القريةَ صغيرة النطاق والقائمة المساواة معنىً أكبر وأكثر تعدديةً. وتضيف سميث: “كان تعكس هذه المواقع شيئاً ما من هذا الانتقال”. وفي واقع الأمر، تعتقد سميث أن المدن الكبرى ربما اشتركت في بعض السمات مع موقع غوبكلي تبه Gobekli Tepe  في تركيا الحديثة اليوم، مجمع مبانٍ عمره على الأقل 10 آلاف سنة يبدو أن الناس كانوا يتجمعون فيه دوريا لممارسة الطقوس. وتقول، ربما كانت مراكز الحج مثل هذه هي حيث غرست بذرة عدم المعرفة Unfamiliarity أي الحاجة إلى التسامح مع الغرباء بل والثقة بهم.

وهذه واحدة من عدة فرضيات اختبرها شابمان وغايدرسكا في كتابهما الجديد العمران الحضري الحديث في أوروبا  Early Urbanism in Europe . ربما وُظّفت المواقعُ الكبرى لغرضٍ طُقُوسيٍ صِرف، وربما كانت تُدار بواسطة مجموعة من “الأوصياء” الذين رحّبوا بالحجاج على مدار أربعة إلى خمسة أشهر سنوياً، أو ربما بشكل مكثف خلال الشهر الواحد، على غرار احتفال الرجل المشتعل Burning Man Festival The الذي يُعقد سنوياً في صحراء بلاك روك في ولاية نيفادا الأمريكية. وهناك فكرة بديلة تتلخص في تعاقُب العشائر المختلفة على إدارة الموقع وتهيئة الموقع وإقامة الطقوس للزوّار لمدة عام، وذلك قبل قبل أن تتناوب معها عشيرة أخرى.

على النقيضِ من ذلك، يعتقد مولر وزملاؤه الألمان أن المدن الكبرى كانت مأهولة تماماً على مدار العام. ومن الصعب تفسير الأدلة الغامضة، وذلك جزئياً لأن الترايبيليين أحرقوا منازلهم دورياً وبطريقةٍ مَقصودةٍ – ربما في طقوس لنزع القدسية عنها عند مغادرتهم. فمثلاً، على مدى 200 سنة من وجودها في نيبيلفكا Nebelivka -حيث يعمل شابمان وغرايدارسكا – حرق ثُلُثا المنازلِ البالغ عددها 1500 منزلاً. ولا توفّر تقنيات التأريخ Dating techniques الدقة المطلوبةَ لتحديد نسبة المنازل التي كانت مأهولة بالسكان آنذاك قبل حرقها. وكان الأثر الإيكولوجي لأنشطة المدن الكبرى بسيطا، ويتضح هذا من التحليلات التفصيلية لحبوب اللقاح التي قد تدل على عمليات الزراعة وإدارة الغابات، وكذلك والفحم في عينات الرواسب المأخوذة من الأراضي المحيطة بها. ولكن من غير المعروف ما إذا كان الأثر الإيكولوجي محدودا بأن المراكز كانت مأهولةً مَوسميّاً فقط أو نظراً إلى أن الموارد كانت تُجلب من مكانٍ آخر.

هناك اقتراح آخر يفسر سبب نشوء المدن الكبرى: احتشاد الترايبيليين لصدّ بعض التهديدات الخارجية. هنا أيضاً يختلفُ علماءُ الآثار فيما بينهم. عادة ما تُطوَّق المدن الكبرى عادةً بخندق. يبلغ محيط الخندق المحفور في نيبيلفكا 5 كم، إلاّ أنه يبلغ 1.5 متر عرضاً و 0.8 متر عُمقاً، وعليه فمن السهل على الرجل البالغ أن يجتازه قفزاً، ومن ثم فهو ليس خندقاً دفاعياً –وفقاً لباحثين من المملكة المتحدة. لكن، يقول فيديكو إن الخندق كان يتضمّن آنئذٍ سياجاً مصنوعاً من أوتاد خشبية بليت بعد ذلك. على أي حال هناك أيضا الحماية المتأتية من العدد.

يؤيد نيكيتين أيضاً الفرضية الدفاعية، إذ يرى هو و ديفيد آنتوني David Anthony ، الأنثربولوجي من كلية هارتويك Hartwick College في نيويورك، أن نشأةَ المدن الكبرى تبلورت كردة فعل على نزاعات إقليمية موسّعة. وكانت الأراضي جنوباً، فيما يعرف الآن برومانيا وبلغاريا اليوم، معاقل أقدم الثقافات الزراعية في أوروبا. وبحلول سنة 4600 ق.م. فقد امتلكت هذه المجتمعات البلقانية صناعة نحاس مزدهرة وكانت ثريّة ثراء ملفتا للانتباه. والرمز اللامع على ثروتهم هو ذاك القبرُ المذهل المملوء ذهباً ونُحاساً لرجل رفيع المستوى والمُكتشف في مقبرة في مدينة فارنا البلغارية. وبعدها، وبحلول سنة 4200 ق.م. تقريباً، هُجِرت هذه المستعمرات الزراعية. وقد عثر علماء الآثار على أدلة تشير إلى وقوع أعمال عُنفٍ قبل ذلك بقليل. ويعتقدُ نيكيتين وآنتوني أن الناجين فروا شمالاً باتجاه أقاربهم الترايبيليين النائين، وأن إلى المدن الكبرى التي ظهرت في الوقت نفسه تقريباً شُيّدت لتأويهم. ويقول نيكيتين: “أعتقدُ أنها كانت مخيّماتِ لاجِئين”.

إن وقعت مجزرةٌ ما، فليس من الواضح من المسؤول عنها. هل يُعزى سببُها إلى عنف وقع دار فيما بين المزارعين. اندلع بسبب تأثير التقلّبات المناخية على الغلات الزراعية؟ أم هل صار البدو الجائلون من السهوب في الشمال والشرق أكثر عدائيةً مع تدهور تلك المجتمعات الزراعية -ربما للسبب نفسه- وتضاؤل إنتاجهم من النحاس؟ تشير اكتشافات النحاس بعيدا في سهوب البلقان إلى أن المجموعتَيْن تبادلات التجارة منذ عدة قرون بحلول ذلك الوقت. غير أن تحليلات الجثث من مقبرة فارنا وغيرها من المقابر البلقانية تشير إلى عدم وجود تزاوج بين المجموعتين- ما عدا استثناءات نادرة.

وأيا كان سبب المجزرة الواقعة نحو 4200 ق.م.، يبدو أن المزارعين الترايبيليين في الشمال قد نجوا على الأقل في البداية. إذ إنهم استمروا بالتعامل مع سكان السهوب القريبين منهم، ويتضح من نوع فخار السهوب المعروف بــ كوكوتني-سي Cucuteni C الذي يظهر في كل طبقة من طبقات المدن الكبرى إلى أوان هجرانها. يقول نيكيتين: “نجح الترايبيليّون في حل المشكلة مع السهوب””. غير أنهم لم يتزاوجوا بجيرانهم. كما عثر فريقُ نيكيتين على موقعٍ ترايبيلي من فترة تتقاطع مع حقبة المدن الكبرى. ويقترح نيكيتين أن أحد الأسباب المؤدية إلى النزاع كان وجهات نظرهم المختلفة جذريًا عن العالم. كان سكان السهوب يقدّرون الموهبةَ الفرديةَ -كما يتضح من استعمالهم للنحاس البلقاني في تزيين جثامين زعمائهم الموتى – في حين يبدو أن الحضارة الترايبيلية بمدنها الكبرى ومباني التجمعات كانت قائمة على المساواة.

وبديهياً، فإنّ فكرة مخيّمات اللاجئين لا تستهوي الجميع. تقول غايدارسكا: “لا يمكن أن تمر بأزمة تمتد 800 عام دون أن يتعامل الناس معها”. وتساءل آخرون كيف يمكن لفرق صغيرة نسبيا من البدو، حتى وإن كانوا مُحارِبين أشداء، أن يدمّروا مستعمرات زراعية بلقانية غنية ومكتظّة بالسكان. ويقرُّ نيكيتين بأن الفكرة تعاني أوجه قصور، ليس أقلها أن بناء المدن الضخمة بسرعة ، لاستيعاب المهاجرين ، كان سيتطلب استثمارًا كبيرًا للغاية في العمالة. ومع ذلك، يقترح نيكيتين أن ذلك قد يفسر عدم وجود رفات بشرية. ويضيف: “إذا كانت هذه مخيّمات مؤقتة، فمن المحتمل أن اللاجئين لم يقيموا فيها طويلاً وربما ماتوا في مكان ما آخر”.

بحلول عام 3400 ق.م. تقريباً هُجرت المدن الكبرى بدورها– على الرغم من أن الترايبيليين استمروا باستيطان مواقعَ أصغر حجماً وأكثر تبعثرا. ويرى آنتوني أنّه مهما كان السلام الذي تفاوض عليه المزارعون مع سكان السهوب  فقد انهار. ويكشف التحليل الجيني أنه بعد اندثار المدن الكبرى بدأت كِلتا المجموعتين بالتزاوج فيما بينهما. والنظرية الأخّاذة التي يبحث فيها نيكيتين -بالتعاون مع مختبر ديفيد ريش David Reich العتيد لأبحاث الــ DNA من جامعة هارفارد Harvard University- تفترض أن شعب اليامنايا Yamnaya People هم نسل عن هذا الخلط الجيني. وإذا كان الأمر كذلك، فقد نحتاجُ إلى إعادةِ كتابة قصة هؤلاء الرعاة الذين يُعتقد أنهم انحدروا من السهوب والذين غيّروا شعوبَ أوروبا جينياً ولغوياً وثقافياً قبل قرابة 5000 سنة. فقد تم تصويرهم على أنهم شعب قاتل، ولكن ربما لكونهم مزارعين أوروبيين بالفعل، فقد تمكنوا من إكمال هذا التحول بسلام. وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال مُشرَّعا على مصراعيه، إلاّ أن نيكيتين يقول إنه من المحتمل أن شعب اليامنايا جاء بعد فترة عنيفة وآذن بأيدولوجية جديدة شكّلتها السهوب. ويقول نيكيتين: “في ذروة هذا اليأس تشكل فكرة نظام عالمي جديد”.

يعتقد آخرون أنه لا حاجة إلى استحضار قوى خارجية ما لتبرير هجر المدن الكبرى. ويقول مولر الذي قد نقّب في موقع من المدن الكبرى يُدعى ميدانيتسكي Maidanetske،  إنه بحلول سنة 3700 ق.م. اختفت مباني الاجتماعات في الأحياء ولم يبقَ منها إلا المباني الأكبر حجماً فقط. ويضيف مولر: “هذا يوضّح -لي على الأقل- طهور نمطٍ من المركزية في عمليات اتخاذ القرارات”. لربما كان هذا غير متوائم مع التماسك الاجتماعي. كما يعتقد شابمان وغايدارسكا أيضاً أن المشكلة كانت داخلية، مُشيرين إلى أنه أثنا نمو ميدانيتسكي، ملأت الساحة المركزية للمدينة – التي كان من الممكن أن تؤدي وظيفة مهمة كمكان للتجمع- بالبيوت. ولكن، هناك احتمال آخر ألا وهو أن المدن الكبرى فقدت هيبتها ببساطة، كما يقولان. فربما بدأ الترايبيليون بالتشكيك في أفكارهم مع انفتاحهم الوافي على أفكار مجتمعات السهوب من خلال التجارة.

وفي حالة نادرة، اتفق معظم باحثي المجتمع الترايبيلي على أن الاستنزاف البيئي لا يمكن أن يكون سبب هجر الموقع. إذ يقول مولر: “من الواضح تماماً أنه لم يتم تجاوز القدرة الاستيعابية Carrying capacity”. فقد رفض الباحثون أيضاً الفكرةَ التي طرحها نيكولا راسكوفان Nicolas Rascovan -الميكروبيولوجي من معهد باستور Pasteur Institution في باريس- وزملاؤه في عام 2018. إذ جادل راسكوفان في أن الطاعون حلّ أولاً في المدن الكبرى، ومنها انتشر شمالاً وغرباً وصولاً إلى المقبرة السويدية نحو 2900 سنة ق.م. غير أن غايدارسكا ترفض ذلك لأنه لم يعثر على عظام قتلى الطاعون هذا. وإضافة إلى ذلك، كانت المدن الكبرى اندثرت بعد ذلك بـ 500 سنة، وهي فجوة زمنية طويلة جدا على حتى مستوى مرضٍ بطيء العدوى نسبياً كالطاعون.

وأيًّا كان ما حدث، فبحلول الوقت الذي ظهر في اليمنايا بأوروبا كانت أول ما قد يمثّل أول تجربة حضرية في العالم قد اندثرت. وفي أقصى الجنوب والشرق، ازدهرت المدن في مصر وبلاد الرافدين -المبنية وفقا لنموذج معماري مختلف جذريا ، وكانت لا تزال على بُعد قرونٍ قبل بلوغ ذروة مجدها. ومن ذلك الحين وصاعداً، انتهجت الحضارة مسارًا جديدًا ونجحت فيه نجاحا باهرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى