أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونياتفيزياء

هل كل شيء محددٌ سلفا؟ لماذا يُعيد الفيزيائيون إحياء فكرة محظورة

الحتمية الفائقة تجعل العالَم الكمي منطقيا باقتراحها عدم عشوائيته كما يبدو، لكنّ نقّاد هذه الفكرة يقولون إنها تقوض الركيزة الأساسية للعلم، فهل تستحق هذه الفكرة سمعتها الفظيعة؟

بقلم: مايكل بروكس

ترجمة: همام بيطار

 

“لم أعمل قط على أي أقل شعبية من هذا!”، تقول ذلك ضاحكًة زابينه هوزيفلدر Sabine Hossenfelder، الاختصاصية بعلم الفيزياء النظرية من معهد فرانكفورت للدراسات المتقدمة Frankfurt Institute for Advanced Studies في ألمانيا، إلا أن الإحباط بادٍ عليها.

ترتبط الفكرة التي تستكشفها زابينه بواحدةٍ من أكبر ألغاز النظرية الكمية  Quantum theory، وهي معرفة ما يحصل عندما يتحول عالَم كمي غير محدد وضبابي إلى شيء محدد ونَصِفُه بالحقيقي. هل نتائج هذا التخليق Genesis عشوائية تماما كما تقترح النظرية؟

لم يشك آلبرت آينشتاين Albert Einstein في ذلك قطُّ حين جادل في أن الرب لا يلعب بالنرد مع الكون، وتميل هوزيفلدر إلى الموافقة على ذلك. كما أنها تعمل مع مجموعة من الفيزيائيين الآخرين على إذكاء الجدل حول إحياء فكرة “الحتمية” Deterministic غير العشوائية التي تنص على أنّ للتأثيرات سببًا حتمًا. ووفقا لهم، فإن غرابة ميكانيكا الكم Quantum mechanics تنشأ فقط عن استخدامنا لنسخة مُقيَّدة من العالَم الكمي.

الرهانات مرتفعة. لن تجعل الحتمية الفائقة Superdeterminism، كما تُعرَف هذه الفكرة، ميكانيكا الكم مفهومة بعد قرن على تصورها، بل قد تقدم أيضا مفتاحا لتوحيد نظرية الكم مع النسبية Relativity لصياغة النظرية النهائية Final theory للكون. ومع ذلك لم تحظ هوزيفلدر ومجموعتها بالتشجيع، إذ يعتقد العديد من العلماء النظريين أنّ الحتمية الفائقة هي أخطر الأفكار في الفيزياء، ويجادلون في أن أخذ عواقبها على محمل الجد قد يُقوِّض صرح العلم بأكمله.

إذن، ما الجواب؟ هل تستحق الحتمية الفائقة هذه السمعة الفظيعة، أم أنه مع غياب حل أفضل، ليس أمامنا إلا إعطائها فرصة؟

تصف النظرية الكمية سلوك أبسط مكونات المادة: الذرات Atoms، والجسيمات Particles المكونة لها. فقد صُممت هذه النظرية لفهم السلوك المرصود للذرات، ونتج منها ادعاء الفيزيائيين أن الجسيمات تتصرف كموجات Waves ويمكن أن تظهر على شكل عدد من الحالات في الوقت نفسه، أو ما يعرف بالتراكب Superposition. وتكمن الفكرة في أنّ الجسيمات تأخذ حالة محددة تماما عند لحظة القياس فقط.

صاغ إرفين شرودينجر Erwin Schrödinger معادلة لفهم العالَم الكمّي الغامض Fuzziness، وبيّن أنه يُمكن تمثيله بصيغة رياضياتية Mathematical entity عُرفت لاحقا بالدالة الموجيةWave function، والتي تُعطي احتمال أن يظهر الجسم الكمي بحالة محددة أو في موضع محدد عند القياس. ولكن لا نستطيع الجزم بذلك تماما بذلك.

في الواقع، نحصل على توافق بين النظرية والتجربة فقط عندما نحسب متوسط نتائج الكثير من القياسات لأجسام كمية متطابقة. ويقودنا ذلك إلى الافتراض القائل إن كل نتيجة فردية Individual outcome يحدث عشوائياً At random، وبذلك يكون الكون Universe، عند المستوى الأساسي، غير حتمي Indeterministic  وتحكمه المصادفة.

يصعب على الكثير قبول ذلك لأننا نعيش في عالم للنتائج فيه أسبابٌ دومًا. ولذلك حاول البعض إصلاح الوضع باقتراح أن الحالات المختلفة والمتزامنة لذرة ما في حالة تراكب ما هي إلا انعكاس لعوالِم مختلفة في أكوانٍ منفصلة Separate universes. أو بالادعاء أن ليست للذرات أي خصائص، كما أنها غير موجودة عندما لا تُرصد.

بالنسبة إلى هوزيفلدر، تلك التفسيرات غير منطقية. وترى أن جميعها تحتوي على تناقضات، ولذلك تعمل على استكشاف الحتمية الفائقة.

عموما، تنص هذه الفكرة على أن نتيجة كل قياس تعتمد على مجموعة من العوامل الداخلة في القياس، مثل جهاز القياس وإعداداته. وما نراه يُحدده كل تلك العوامل، بما في ذلك عواملَ قد تكون مخفية عنا. ولفهم هذا المبدأ، عليك أولا فهم فكرة صاغها عالم الفيزياء جون بيل John Bell في ثمانينات القرن العشرين. اقترح بيل مخططا لاختبار ما إذا كانت هناك قيمة لتحفظات أخرى آينشتاين حول ميكانيكا الكم، تلك التحفظات التي تتعلق بما أطلق عليه آينشتاين “الفعل الشبحي عن بعد” Spooky action at a distance. فوفقًا لهذا المفعول، يبدو أن القياسات التي تجري على جسيم ما تؤثر مباشرة في قياسات نجريها على جسيم آخر يبعد عن الأول مسافة كبيرة.

“قد تقود النظرية الناتجة إلى كل نتائج ميكانيكا الكم، لكن دون أي من غرابتها”

يركز مخطط بيل على النتائج الإحصائية لسلسلة من القياسات التي تجري على جسيمين “تتشابك” Entangled خصائصهما الكمية مع بعضها البعض بسبب بعض التفاعلات السابقة. وقد بين بيل أنه إذا كانت تلك الترابطات غير الموضعية Non-local Correlations وهمية، سيوجد حينها احتمال أصغر لحدوث نتيجة معينة، كالحصول على النتائج نفسها من كلا القياسين. وقد تكون تلك النتيجة أكبر من أو تساوي فرصة الحصول على نتائج متساوية، لكنها لن تكون أقل أبداً. وبصيغ رياضياتية، تعرف تلك العلاقة باللامساواة Inequality. وإذا وجدت أن حدوث النتيجة المطلوبة أقل مما تتوقع، فعندها تُنتهك لا “مساواة بيل” Bell’s inequality، وستعرف حينها أن النتائج تغيرت نتيجة لترابط غير موضعي حصل بين الجسيمات.

خيارات محرمة

أثبتت التجارب أنه من الممكن انتهاك لامساواة بيل، وذلك يبين أن الفعل الشبحي حقيقي بصرف النظر عن اعتراضات آينشتاين. ولكنه يعتمد الإثبات على افتراض يتعلق بعملية القياس.

على وجه التحديد، شككت هوزيفلدر في الفرضية القائلة إنّ المُجرب Experimenter حرٌ تماما في اختيار “أسس” Basis أي قياس. فهي تقول، إذا أُعطيت مجموعة من القفازات، فإنك قد تختار المقارنة بينها على أساس الحجم أو الاستخدام أو اللون -أو مجموعة من تلك الخصائص. لكن، ماذا إذا استُبعدت خيارات قياس محددة نتيجة لوجود قانون فيزياء لا يزال مجهولا؟ على سبيل المثال، ماذا لو أن الكون لن يسمح بقياس اللون على كف اليد اليمنى مستقلا عن قياس حجمه؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فقد تحصل على نتيجة غريبة عندما تحاول إجراء ذلك القياس. وإذا لم تعرف شيئا عن القانون، فقد تستنتج وجود بعض الغرابة الجوهرية في عالم القفازات.

قد تبدو فكرة استبعاد الطبيعة لخيارات محددة فكرة غريبة، لكن النظرية الكمية نفسها بُنيت على تقييد Restriction غريب. فقد اكتشفها ماكس بلانك Max Planck بفضل ما أطلق عليه “فعل اليأس” An Act of Desperation: التخمين بأن الأشياء الذرية تأتي على هيئة حزم محددة من الطاقة، مع استبعاد قيم معينة منها. وإضافة إلى ذلك، فقد اكتشفنا منذ ذلك الوقت أن بنى ذرية، كإلكترونين مثلا، لا يمكن أن تحتل الحالة الكمية نفسها داخل الذرة، وهو ما يُعرف بمبدأ الاستبعاد لباولي Pauli Exclusion Principle. وتقول هوزنفلدر: “في هذه الحالة، لم يسأل أحد: لماذا لا يمكنني وضع تلك الإلكترونات في الحالة التي أريد؟”، وتتابع قائلة: “تقول فقط إنه قانون الطبيعة: هذه هي الحال”.

ولتطوير الفكرة، تصوغ هوزيفلدر نموذجا لواقع يستبعد تركيبات محددة من الحالات الكمية من الوجود. وتأمل بأن الفكرة الناتجة ستعكس جميع تبعات نتائج ميكانيكا الكم، لكن دون أيٍّ من غرابتها.

وهي ليست أول الذين يميلون نحو هذا الاتجاه، فقد اقترح عالم الفيزياء جيرارت هوفت Gerard ‘t Hooft، الحائز على جائزة نوبل من جامعة أورترخت Utrecht University في هولندا، شيئا مشابها. كما أن الفيزيائي تيم بالمر Tim Palmer، من جامعة أكسفورد University of Oxford، ينضم إلى صفوفهم أيضا. فقد عمل بالمر في المركز الأوروبي للتنبؤات بالطقس على المدى المتوسط European Centre for Medium-Range Weather Forecasts، وقد قادته تجربته في العمل مع الأنظمة الفوضوية Chaotic Systems، كالطقس، إلى صياغة فكرة حتمية فائقة مبنية على الفوضى Chaos-based superdeterminism، والتي يعتقد أنها ستفسر العالم الكمي.

في نظرية الفوضى Chaos Theory، تتطور الأنظمة، كأنماط الطقس Weather Patterns مثلا، بطريقة حساسة جدا للشروط الابتدائية Initial conditions، فالتغيرات الصغيرة في الإعدادات تقود إلى اختلافات كبيرة في السمات Characteristics اللاحقة للنظام. وفي الوقت نفسه، ستتجه بعض الأنظمة الفوضوية دوما نحو مجموعة محددة من السمات. ويمكن وصف ذلك باستخدام صيغة رياضياتية تُعرف بـ “الجاذب” الفوضوي Chaotic “attractor” ، والذي يرسم خريطة حركة الأنظمة مرورا بكل الحالات المحتملة نحو هذه النتائج الحتمية تقريبا. ومع ذلك، فللجاذب خاصية غريبة غالبا ما تُهمل: في أي نظام فوضوي، هناك حالات States و مواضع Situations محظورة، كما أن فراغ Blank space خانة الجاذب تحدد أي الحالات يستحيل الوصول إليها.

استكشف بالمر ما سيحصل إذا كان الكون خاضعا للقيود نفسها، إذ يوضح قائلا: “تخيلت أن الكون نظامٌ فوضويٌ يتطور تبعا لجاذبه الخاص”، ومن ثمّ تصور بالمر إجراء تجربة بيل في كون فوضوي. ففي هذه الحالة، سيبقى أمام المجربين اختيار أساس القياس Measurement basis، لكن بالمر يعتقد أن بعض التوافيق Combinations الكمية ستصير غير قابلة للتحقق، مما يؤكد أن بعض الخيارات التجريبية في هذه الحالة سيتحدى قوانين الفيزياء. ويقول بالمر إن  الفجوات الموجودة في فضاء الحالة State Space -أي المواضع هي المحظورة بالنسبة إلى النظام- ستعطيك المساحة اللازمة لانتهاك لامساواة بيل دون الحاجة إلى اللاحتمية Indeterminacy أو اللاموضعية Non-locality.

يخطط بالمر لاختبار أفكاره، بدءا بتجربة تتعلق بعدد الجسيمات الكمية التي يُمكن أن تتشابك معا. فوفقا لنظرية الكم القياسية، لا يوجد هناك أي حد، لكن مخطط بالمر يدعي أن العدد محدود، إذ يقول: ” بعد عدد محدد من التشابكات” Entanglements، ستعود مجددا إلى الارتباطات الكلاسيكية Classical correlations”.

وفي شهر فبراير 2021 نشر بالمر، مع جونت هانس Jonte Hance وجون ريريتي John Rarity من جامعة بريستول University of Bristol في المملكة المتحدة، مجموعة من التصاميم التجريبية التي تهدف إلى إيجاد ذلك الحد، إن وجد.

بل مضت هوزيفلدر إلى ما هو أبعد من ذلك. فتصميمها يتضمن إجراء مجموعة من القياسات المتكررة على نظام كمي. وتقول هوزنفلدر: “إن أحد التنبؤات العامة للحتمية الفائقة هي أن نتائج القياس حتمية، وليست عشوائية، لذلك تختبرها بالتحقق مما إذا كانت القياسات الكمية عشوائية حقًا”.

في هذا التصميم التجريبي يجب أن تكون الحالة المبدئية لكل قياس مطابقة تماما لسابقتها إلى أبعد حد ممكن. وإذا كان الكون حتميًّا، فستكون النتائج متطابقة إلى حد ما. ولكن إذا كانت احتمالية الميكانيكا الكمية الاحتمالية Probabilistic quantum mechanics جوهرية حقا، سنشهد بسهولة تغييرات يمكن تمييزها في تلك القياسات.

ذلك أصعب مما يبدو: يجب عليك أن تتأكد من عدم إقحام أي عشوائية في جهاز القياس، ولذلك كلما كان الجهاز أصغر، ودرجة الحرارة أقل؛ كان القياس أفضل. وتعلق هوزيفلدر على ذلك قائلة: “عليك أيضا إنجاز سلسلة من القياسات السريعة قدر الإمكان لأنه كلما طال زمن القياس؛ زاد احتمال حصول تذبذبات”.

مؤامرة كبيرة؟

الخبر السار هو أنه لدى سيدهارث جوش Siddharth Ghosh، من جامعة كيمبريدج University of Cambridge التجهيزات المناسبة والتي تحتاج إليها هوزنفلدر. لدى جوش مستشعرات نانوية  Nano-sensors باستطاعتها قياس وجود جسيمات مشحونة كهربائيا والتقاط معلومات عن مدى تشابهها مع بعضها البعض، أو معرفة ما إذا كانت الخصائص المقاسة تتغير عشوائيا، وهو يخطط لإجراء تجربة خلال الأشهر القادمة.

يبدو كل ذلك مثيرًا. ومع ذلك، يسخر عدد كبير من الفيزيائيين والفلاسفة من هذا الاحتمال، ويصرون على عدم حاجتنا إلى إجراء تجارب لاستبعاد الحتمية الفائقة. ويلخص هوارد وايزمان Howard Wiseman، من جامعة غريفيث Griffith University في كوينزلاند- أستراليا، تلك الاعتراضات مشيرا إلى أن تلك الفكرة ستعني وجود مؤامرة “ضبط دقيق” Fine-tuning وراء قوانين الفيزياء، مما يعني أيضا ضرورة تحضير شروط ابتدائية واختيارها بدقة لتتوافق مع ما نرصد، وهذا كبداية فقط. ويضيف وايزمان أن الحتمية الفائقة ستقوض أيضا فكرة الإرادة الحرة للإنسان Human Free Will، وستفرغ فكرة ممارسة العلم من معناها، ويعلق على ذلك قائلا: “لست من المعجبين بذلك”.

تأتي النقطة الأخيرة من فكرة انتهاك الحتمية الفائقة لشيء يُعرف عند فلاسفة العلوم بـ “الاستقلال الإحصائي” Statistical Independence، والتي تنص على أن تغيير مدخلات تجربة ما لا يجب أن يغير أي شيء في إعداداتها لاكتشاف المخرجات. وتظهر مسألة الإرادة الحرة، في اختبار بيل، لأنه على المُجرِّب أن يكون قادرا على تجهيز التجربة كما يريد، لكن الحتمية الفائقة تقول إن ذلك غير ممكن بسبب وجود قيود خفية.

ولكن وايزمان يعتقد أن فكرة الضبط الدقيق هي الأكثر إقناعا، ويشير إلى أن المجربين انتقوا عمدا خيارات سخيفة وعشوائية عند إجراء تجارب بيل التي تضمنت، على سبيل المثال، اختيار سلسلة من الأرقام الثنائية Binary Digits من نسخة رقمية لفيلم عام 1985 العودة إلى المستقبل Back to the Future لتجهيز القياسات. ونظرا إلى أن فكرة الحتمية الفائقة تشرح تجارب بيل من خلال ترابطات موجودة بين متحولات خفية في الجسيمات الكمية وإعدادات القياس، فذلك سيعني أن سلسلة الأحداث والاختيارات في إنتاج الفيلم مرتبطة بأفعال الفيزيائيين الذي يُجرون التجربة.

يقول وايزمان: “تفسر الحتمية الفائقة ترابطات بيل Bell correlations تلك باستحالة وجود كون تتطابق فيه المتحولات الخفية للفوتونات التجريبية، لكن ابتسامة ميشيل جيه. فوكس Michael J. Fox كانت أعرض بمقدار ميليمتر واحد في إطار واحد لفيلم العودة إلى المستقبل“، ويتابع قائلا: “إنها أكثر نسخ “نظرية الضبط الدقيق” غرابة من التي يمكن تخيلها. وكل ذلك مؤامرة كبيرة: كونٌ معقد بجنون وشروط ابتدائية مضبوطة بدقة لا يمكن تصورها”.

يرفض بالمر هذه الحجة، ويعلق قائلا: ” ليس الأمر كذلك أبدا، فالحتمية الفائقة لا تدعي وجود أي مؤامرة”، ويتابع أن المشكلة تكمن في أن الأفراد يرون ضبطا دقيقا لأنهم يطبقون النوع الخاطئ من الرياضيات، إذ يفترض الفيزيائيون أن أساسيات الكون تتطور خطيا، لكنها قد تكون فوضوية أيضا. ففي هذه الحالة، لن تفي المعادلات الخطية Linear Equations بالغرض.

عموما، إن اختيار فيلم العودة إلى المستقبل مثير للفضول بحد ذاته، وذلك ﻷن، وفقا لهو برايس Huw Price، الفيلسوف من جامعة كيمبريدج، السببية العائدة بالزمن إلى الوراء Backwards-in-time Causation هي الشيء الوحيد الذي يجعل من فكرة الحتمية الفائقة ممكنة. ويجادل برايس في أن الحتمية الفائقة تعمل إذا تبنيت وجهة نظر النسبية الخاصة لآينشتاين Special Theory of Relativity “الكون الكتلة” Block Universe حيث يتعايش كلٌ من الماضي والحاضر والمستقبل معا في فضاء رباعي الأبعاد ندعوه الزمكان Space-time.

في هذا المخطط، لا يمضي الزمن في أي اتجاه، فسهم الزمن Time’s arrow ليس أساسيا بالنسبة إلى النسبية -أو لنظرية الكم عندما يتعلق الأمر بما نناقشه. ويعني ذلك أن تغيير إعدادات الكاشف Detector’s settings لتحديد خصائص جسيمين متشابكين بطريقة معينة بإمكانه التأثير في الخصائص التي اكتسبتها الجسيمات في وقت سابق. ويعلق برايس على ذلك قائلا: “يؤثر الإعداد الذي اخترناه في الجسيم عودة بالزمن إلى لحظة تشكله نتيجة لحدث ما أنتج الجسيمين”.

“إذا كانت هناك سببية رجعية في الزمن، فحينها يُمكن إنقاذ العلم والإرادة الحرة للإنسان”

يعتقد برايس أن لوجهة النظر تلك ميزتين. أولا، هي ليست بحاجة إلى كون أُعد بطريقة دقيقة ومضبوطة جيدا لتقود إلى نتائج محددة للتجربة. وثانياً، هي لا تقوض أبدا العلم والإرادة الحرة للإنسان. تقول إيميلي أدلام  Emily Adlam، وهي الاختصاصية بعلم فلسفة الفيزياء وعضوة مجتمع الأبحاث الأساسية المستقل للفيزياء  Independent Basic Research Community for Physics، أنها ترغب في أخذ الفكرة بعين الاعتبار، وتعلق قائلة: “إن نهجا يسمح بتطبيق كل قوانين الطبيعة في الوقت نفسه على كامل التاريخ لا يدعو إلى الكثير من القلق”.

لا يزال وايزمان غير مقتنع، فبالنسبة إليه الأمر غامض جدا، ويشير أيضا إلى أن أفرادا اقترحوا أنّ نوعا من “السببية الرجعية” Retrocausality قد يحل مشكلاتنا مع نظرية الكم خلال مئة عام، لكن لم يقدم أيٌ منهم فكرة تتبنى هذه الطريقة مع زمكان آينشتاين.

ما الهدف؟ يقول جيمس ليديمان James Ladyman، وهو اختصاصي علم الفلسفة من جامعة بريستول University of Bristol في المملكة المتحدة: “لا أرى الدافع وراء الرغبة في إنكار استنتاج نظرية بيل”، إذ لن تكون نهاية العالم إذا قبلنا ظاهرة لاموضعية مثل التشابك، حتى ولو تعارضت مع افتراضاتنا الميتافيزيقية Metaphysical Presuppositions.

يعتقد أنصار الحتمية الفائقة أنه بوسعنا كسب الكثير. في البداية، قد يفتح ذلك الباب أمام نوع جديد من التكنولوجيا، وفقا لهوزنفلدر. وتكمن جذور القيود المفروضة على مدى تخلص القياسات من الضوضاء Noise في العشوائية الكمية، حتى ولو كانت تلك العشوائية الظاهرة ناتجة من عمليات متحكم فيها، فقد يقودنا ذلك إلى إنقاص الضوضاء الكمية Quantum Noise. وتعلق هوزنفلد قائلة: “أعتقد أنّ ذلك سيكون مهما بالنسبة إلى الحوسبة الكمية Quantum Computing -إن المشكلة الرئيسة لديهم هي الضوضاء”.

بالنسبة إلى بالمر، تكمن الفوائد في السعي إلى توحيد نظرية الكم مع النسبية لصياغة نظرية عن الجاذبية الكمية Quantum Gravity. وينص النهج الاعتيادي على تعديل النسبية وترك الأشياء الكمية، لكن يظن بالمر أن الحتمية الفائقة تقترح أنّ ذلك قد يكون خطأ، ويضيف: “سيتطلب ذلك تطويعا أكبر بكثير من الجانب الكمي مقارنة بجانب النسبية”.

لا يوجد اتفاق يلوح في الأفق، والعملية بطيئة لأن عدد الأفراد الذين يعملون على الحتمية الفائقة قليل جدا. ومع ذلك، فإن اقتراحهم المتعلق بالإجابة عن لغز النظرية الكمية يستحق الاستكشاف وفقا لأدلام التي تضيف: “لن أقول إن الحتمية الفائقة هي طريقي المفضل، لكني أعتقد أنها منطقية بالتأكيد، وتستحق اعتناء أكبر بكثير من ذلك الذي أثارته”.

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى