أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الأعصاب

مقابلة ديفيد إيغلمان: كيف يمكن لأدمغتنا أن تخلق أحاسيس جديدة كليًا

المرونة العصبية، أو قدرة الدماغ على إعادة تشكيل نفسه، تتيح لنا فهم جميع أنواع الأحاسيس. ويمكننا استخدام ذلك لخلق طرق جديدة لإدراك العالَم، وفقا لما يقوله عالِم الأعصاب ديفيد إيغلمان

بقلم:  كلير ويلسون

ترجمة:   د. عبد الرحمن سوالمة

هل ترغب في أن نصلك بجهاز يمكّنك من استشعار المجال المغناطيسية كالطيور؟ وما رأيك بالقدرة على الإحساس بضوء الأشعة تحت الحمراء كما تفعل الأفعى؟ بل ربما كنت تفضل تزويد بيانات سوق الأسهم في الوقت الفعلي إلى دماغك. وفقا لديفيد إيغلمان David Eagleman، الاختصاصي بعلم الأعصاب من جامعة ستانفورد University of Stanford في كاليفورنيا، فإنه سيصير من الممكن تحقيق كل هذه الأمور.

وبالفعل، فإن إيغلمان قد صنع تقنيات على غرار هذه التي ذكرنا، ومن ضمنها جهازًا شبيهًا بساعة اليد يسمى Buzz، والذي يترجم الأصوات إلى أنماط من الاهتزازات على الجلد. ومن ثم، فإن فهم هذه الاهتزازات فهمًا فاعلًا يوفر للصُّم الذين يستخدمونها نوعًا جديدًا من السمع.

نشأت هذه الأفكار من دراسات إيغلمان حول التكيُّفية العصبية Neuroplasticity، وهي تلك القدرة المذهلة للدماغ على إعادة تشكيل نفسه استجابةً للتجارب الجديدة. وفي كتابه الأخير  مفعم بالحيوية: القصة الداخلية للدماغ المتغير باستمرار Livewired: The inside story of the ever-changing brain، يفحص إيغلمان كيف ينجح الدماغ في تحقيق هذه التغييرات الشاملة، ويستكشف مدى قدرتنا على استغلال هذه القابلية من أجل تعلم أمور جديدة.

يقول إيغلمان إنه لا يزال هناك الكثير كي يتعلمه اختصاصيو علم الأعصاب حول كيفية تغيّر الدماغ. وقد كان التركيز منصبًا على المشتبكات العصبية Synapses، وهي الوصلات التي تصل بين خلايا الدماغ المسماة العصبونات (الخلايا العصبية) Neurons. ولكن هناك طرقًا أخرى أكثر غموضًا وعمقًا يتغير بها الدماغ طوال الوقت، ونحن مذنبون بالتغاضي عنها، وفقا لإيغلمان. وكلما تعرفنا أكثر على الدماغ وبدأنا بتحسينه بتقنيات جديدة، قد نحصل على بعض القدرات المثيرة للاهتمام.

كلير ويلسون: أنت تدرس كيف يتغيّر الدماغ استجابة لتجاربنا. كيف يقوم الدماغ بذلك؟

ديفيد إيغلمان: عندما تعرفين أن اسمي هو ديفيد إيغلمان، فإن هناك تغيرات مادية تحدث في بنية الدماغ. وهذا ما يتيح لك تذكر من أنا. غالبًا ما نقول إن الدماغ يملك قدرة تكيُّفية Plasticity، وهو ما يعني أنه يمكن إعادة تشكيله كالبلاستيك. ولكنني أشعر بأن مصطلح التكيفية ليس كبيرًا كفاية ليشمل كيفية تحرك النظام ككل. وبدلًا من ذلك، أستخدم المصطلح “مفعم بالحيوية” Livewired للتعبير عن امتلاك الشخص لبلايين العصبونات التي تعيد تشكيل وصلاتها العصبية كل ثانية. وتغير الوصلات بينها من قوتها، كما أنها تنفصل وتتصل في أماكن أخرى طوال الوقت.

أي أن الأمر يتعدى مجرد التغيرات في الوصلات العصبية؟

لطالما ركز علماء الأعصاب كثيرًا على الوصلات العصبية، مثلهم في ذلك مثل شخص ثمل يبحث عن مفاتيحه تحت ضوء الشارع مع أنه ربما لا يكون أضاعها هناك. ومن السهل قياس قوة الوصلة العصبية، ولكن في الحقيقة، يمتلك الدماغ كثيرًا من الطبقات الأخرى من التغير، وهي طبقات أقل سهولة من حيث قدرتنا على دراستها. فالوضع داخل العصبون أشبه بالمدينة؛ فيها الكثير من عمليات التواصل والطرق المعبدة والبنى التحتية، وكل ذلك يتغير أيضًا. حيث إن هناك التغيرات فوق الجينية Epigenetic changes، والتي تشير إلى ما يحدث في نواة الخلية؛ حيث يتغير شكل الحمض النووي (اختصارًا: الحمض DNA) بحيث يتسبب في زيادة التعبير عن بعض الجينات وتثبيط جينات أخرى.

لماذا يحتاج الدماغ إلى العديد من الآليات التكيفية؟

أفترض وجود فترات زمنية مختلفة تحكم التغير. ومن باب التشبيه، فهناك بعض الأمور في المدنية تتغير بسرعة، من مثل الموضة، وهناك أمور تتغير بصورة أبطأ، من مثل أي المطاعم موجود في المباني. وهناك ما هو أبطأ من ذلك حتى، كالأحكام والقواعد والقوانين. والوضع في الدماغ مشابه لذلك. وعندما تتعلم شيئًا جديدًا، تبدأ بعض الأجزاء بالتكيف مباشرة، ولكن، فقط عندما يكون ما تعلمته مهمًا وذا صلة ويبقى ثابتًا، فإن الطبقة التي تتلوها تقول: “حسنًا، يبدو أن ذلك شيء يجب التمسك به”.

ما مدى فهمنا لهذه الطبقات الأعمق؟

ما زال الطريق طويلًا للوصول إلى ذلك. فلم يكن من السهل بناء هيكل نظري لفهم كيفية حدوث ذلك؛ ويعود السبب في ذلك إلى أنه عندما ننظر في لب الأمور، فإن ما نجده في الدماغ هو نظام فيه من التعقيد ما تعجز لغتنا عن وصفه. فلا نمتلك طريقة لفهم ما تفعله 86 بليون عصبون هناك. فالدماغ نسيج حي، فيه ما يشبه المجتمعات والزواج والطلاق.

هناك ادعاءات أن البالغين لديهم خلايا دماغية جديدة تتطور طول الوقت. هل تؤدي هذه الخلايا دورًا في إعادة نحت أدمغتنا؟

هناك خلاف حول ما إذا كان يحدث ذلك على مستوى ذي أهمية عند البشر. عموما، يبدو أن هذه صفة بسيطة جدًا من صفات التكيفية العصبية. وأما ما يثير الاهتمام ويتسم بالغموض؛ فهو التالي: إن وضعت عصبونات جديدة في شبكة، كيف لا تفسد هذه العصبونات الشبكة؟ إن أخذت شبكة عصبية اصطناعية ووضعت فيها فجأة عُقَدًا Nodes جديدة، ستتسبب في تقليل كفاءتها. ولكن ذلك لا يحدث عند البشر، وهو ما يثبت أن أمامنا طريق طويل لفهم ما يحدث في أدمغتنا.

هل نرى آثار التكيفية العصبية في حياتنا اليومية؟

ترينها في كل مرة تقفزين فيها على دراجة الهوائية أو لوح تزلج. حيث يصير الأمر بالنسبة إلى الدماغ وكأنكِ وُلدتِ بعجلات، بدلًا من الأقدام، ويفهم الدماغ كيف يشغل هذا الجسم الجديد. ففي كل مرة تتعلمين فيها شيئًا، فإن الفضل يعود إلى التغيرات التكيفية في دماغك. عندما تجربين أداة موسيقية جديدة أو مهارة جديدة، كألعاب الخفة، يمكنك رؤية تغيرات تحدث في التراكيب المادية في دماغك. فعلى سبيل المثال، يمكنكِ أن تري الفرق بين عازف الكمان وعازف البيانو بالعين المجردة عند التشريح أو باستخدام التصوير الدماغي. عازف الكمان يستخدم يدًا واحدة بدقة كبيرة، أما اليد الأخرى فتتحكم في القوس فقط، ومن ثم فإن جانبًا واحدًا من جانبي القشرة الحركية، وهي الجزء من الدماغ الذي يحرك الجسم، سوف ينمو، وذلك في بقعة محددة تتحكم في الأصابع. أما بالنسبة إلى عازف البيانو، فإن كلا الجزأين الأيمن والأيسر سينموان.

هل يمكن للتكيفية العصبية أن تضعنا في وضع غير مؤاتٍ لنا؟

تتعامل الطبيعة الأم مع البشر بما يشبه الرهان، حيث إنها ترمي بأدمغتنا في هذا العالم نصف ناضجة وتترك الأمر للتجارب لتشكلها. فللأطفال أدمغة أقل تطورا مقارنة بالحيوانات الأخرى عند الولادة. وبالمجمل، فإن هذه كانت استراتيجية ناجحة. فقد استولينا على كل زوايا الكوكب، واخترعنا الإنترنت -حتى إننا تركنا الكوكب ووصلنا إلى القمر. ولكن ذلك يعني أن الأطفال يجب أن يحصلوا على النوع السليم من المدخلات المتمثلة باللغة واللمس والاهتمام والحب كي يتطوروا تطورا سليما. وفي حالات نادرة عندما يتعرض الطفل للإهمال الشديد، فإن دماغه لن يستطيع القيام بذلك.

هل تظن أن هناك المزيد مما يمكننا القيام به لجعل التكيفية تعمل في صالحنا؟

قبل نحو العقد من الزمن، صرت مهتمًا بمسألة إن كان بإمكاننا توليد أحاسيس جديدة. أنت لديك عينيك، وأذنيك، وأنفك، ولكن عندما تنظرين إلى المملكة الحيوانية، تجدين حيوانات عندها مستشعرات يمكنها استشعار أشياء مثل المجالات المغناطيسية، أو المجالات الكهربائية، أو الأشعة فوق البنفسجية. فالأمر يعتمد على نوع المستشعرات Sensors التي لديك. وبدأت بفهم أعضائنا الحسية Sense organs على أنها مشابهة لكشّافات  Detectors تتصل بجهاز حاسوب “Plug and play”؛ فليس على الطبيعة أن تعيد تصميم الدماغ كل مرة تصنع فيها كشّافا جديدًا. بدلًا من ذلك، فإنها تتلاعب بالطرق المختلقة للإحساس بالطاقة. وهذا يفتح المجال أمام فكرة إيجاد أنواع مختلفة من المستشعرات من أجل وصلها بالدماغ.

ما هي أنواع المستشعرات الجديدة التي تفكر فيها؟

بدأ مختبري ببناء صدرية مغطاة بمحركات اهتزازية. واستطعنا بذلك ترجمة أي نوع من البيانات إلى أنماط من الاهتزازات على الجلد. ومؤخرًا، قلصنا ذلك إلى سوار. ويمكننا تزويدها بأي نوع من البيانات، كالأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية التي يراها الروبوتات أو الدرونات (طائرات من دون طيار) – بل حتى بيانات سوق الأسهم. كما يمكننا التقاط معلومات حول حالة جسدك، مثل ضغط الدم ومعدل النبض.

والسوار الآن عبارة عن منتج تحت مسمى Buzz ويلتقط الأصوات ويحولها إلى أنماط من الاهتزازات عن طريق أربعة محركات. وهذه المعلومات على الجلد تتبع الأعصاب وصولًا للدماغ، والذي لا مشكلة عنده في تعلم كيفية فهمها. ويستخدم هذا المنتج الآن آلاف الأشخاص الصُّم. تأتينا كل يوم رسائل بالبريد الإلكتروني من أشخاص أحدهم يقول إنه صار فجأة يدرك أنه نسي صنبور المياه مفتوحًا أو آخر يقول إن بإمكانه التفرقة بين نباح كلبيه.

هل تظن أن الناس سيصيرون قادرين على فهم الكلام فقط من خلال الجهاز؟

لنأخذ السوار، على سبيل المثال. فالمنطقة الجلدية التي يمكنها إنشاء الاهتزازات عليها صغيرة جدًا، ولكن مع ذلك فإن بإمكانها إنشاء أربعة بلايين نمط مختلف. إن أمسكت بالسوار وقلت: “واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة”، يمكنك أن تشعري بوضوح بالفرق بين كل هذه الكلمات. ومن ثم، فإنها ذات دقة عالية جدًا. ولكن السؤال هو: على أي دقة يقرأ دماغك هذه المعلومات من الجلد؟ يتحسن الناس بمرور الوقت، ولكننا ما زلنا لا نعلم الحد الأعلى. فلا يوجد من ارتدى السوار لمدة سنة حتى الآن. وإنني أتوق إلى اليوم الذي نفحص فيه أشخاصًا ارتدوه لمدة ثلاث سنوات. وبسبب التكيفية، فإن أدمغتنا ستخصص موارد أكثر من أجل فهم المعلومات الآتية من الجهاز.

كيف يكون إحساس المرء عندما يستخدمه؟

عندما ترتدين السوار Buzz لأول مرة، فإن إحساسكِ سيكون كالاهتزاز على المعصم. فعلى سبيل المثال، إن رأيت فم الكلب يتحرك وشعرت بالاهتزاز على معصمك ستدركين فجأة: “أوه، فهمت، الكلب ينبح”. ولكن على مدى أشهر قليلة، يصير الأمر شبيهًا بالسمع. وعندما نتحدث إلى المشاركين حول هذا الأمر، نقول: “هل تشعر بالاهتزاز على معصمك ويخطر ببالك ‘أوه، لا بد وأن هذا نباح كلب’؟”، يقولون: “لا، أنا فقط أسمع الكلب سماعًا”.

وهذا بالضبط كيف تعمل أذناكِ. عندما كنتِ رضيعة، كان عليكِ تعلم كيف تفهمين الإشارات من أذنيك الداخليتين، لم يولد دماغكِ قادرًا على تعلم كيفية القيام بذلك. وعندما أتكلم، فأنت لا تشعرين: “هناك أصوات عالية التردد، وأخرى قليلة التردد، وأخرى متوسطة، لا بد وأنه يقول الكلمة الفلانية”. بدلًا من ذلك، أنتِ ببساطة تختبرين السمع. وهذا ما يحدث مع السوار Buzz.

هل تظن أن بإمكانك تحقيق المزيد باستخدام هذه الطريقة؟

نعم. عشت في وادي السيليكون وكل شيء هناك يتمحور حول الأجهزة والبرمجيات. ولكن ما يحدث في الدماغ يشير إلى طريقة مختلفة كليًا في بناء التكنولوجيا، ولنسمها العدة الحيّة Liveware. ومن ثم، فأنا مهتم ببناء أنظمة لا تقتصر على كونها برمجيات، بل هي قابلة لإعادة تشكيل نفسها من الناحية المادية بناء على التجارب، تمامًا كما يفعل الدماغ. وبهذه الطريقة، سيصير النظام سريعًا وفعالًا في المهام التي يجريها أكثر من غيرها. أشعر بأننا على مشارف جبل ننظر إلى أعلاه. وفي الوقت الحالي، لا توجد لدينا فكرة حول كيفية بناء مثل هذه الآلة. ولكنني متحمس لرؤية ما الذي سيحدث في العقود القليلة القادمة.

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى