أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونياتفيزياءفيزياء نظرية

مقابلة أندريا غيز: كيف أثبتُ وجود الثقوب السوداء فائقة الكتلة

قبل عشرين عامًا، بدأت أندريا غيز رحلة إثبات وجود ثقب أسود في مركز مجرتنا معتمدة على رصد مدارات النجوم التي تدور حوله. وقد فازت بجائزة نوبل عن عملها، وكشفت لنا عن مدى سريالية هذا الحدث

يقبع في مركز مجرتنا ثقب أسود Black Hole عملاق وغامض يسمى القوس أ*   Sagittarius A*). ويتبنى علماء الفيزياء الفلكية ذلك كحقيقة حاليا، لكن على مدى العديد من العقود لم يكن لدينا إلا عدد قليل من الأدلة لأنه يصعب جدا رصد مركز المجرة المزدحم. كما أن ذلك لم يكن متاحا حتى مجيء عام 2000 عندما رسمت أندريا غيز Andrea Ghez ورينهارد غينزل Reinhard Genzel، كلٌّ على حدة ، مدارات النجوم التي تندفع حول الثقب الأسود. وقد بيّنت تلك القياسات أن كتلة ذلك الجسم المتخفي كانت ضخمة جدا، كما أن حجمه كان صغيرًا جدًا.

لم يعتقد أحد أن ذلك ممكنا. ببساطة لم تكن لدينا الأدوات اللازمة لرصد النجوم المنفردة في تلك المنطقة المزدحمة. ولكن الباحثين الذين عملوا جنبا إلى جنب مع المهندسين أصروا على دفع حدود علم الفلك. فقد كانوا روادًا في استخدام البصريات المتكيفة Adaptive Optics وهي تقنية متطورة متخصصة بتعزيز قدرات أكبر التلسكوبات فوق الأرض، ولذلك كان بوسع العلماء خلال عشرة أعوام مشاهدة سلسلة من النجوم التي تدور عند قرب شديد من مركز المجرة.

جنبا إلى جنب مع روجر بنروز Roger Penrose، والذي أثبت في عمل سابق أن الثقوب السوداء هي أحد التنبؤات القوية لنظرية النسبية العامة General Relativity، تشاركت غيز وغينزل جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020. فقد قدما أول إثبات حقيقي على وجود الثقوب السوداء فائقة الكتلة Supermassive blackholes، التي تتجاوز كتلتها كتلة شمسنا بنحو 100 ألف مرة. وتواصل غيز الآن في جامعة كاليفورنيا University of California في لوس أنجلوس دراسة الثقب الأسود القوس أ*، الذي يُقدم إلينا أفضل الطرق المتاحة لدراسة  العمالقة الكونيين.

وإحدى هذه الفرص المثيرة للاهتمام تتضمن استخدام الثقوب السوداء  في سبر المسألة المزعجة والمتعلقة بإمكانية التقريب بين النسبية العامة General Relativity ونظرية الكم Quantum Theory. وتُشكل المساحات المحيطة بالثقوب السوداء واحدة من بضعة أماكن قليلة نحتاج فيها إلى كلتا النظريتين لوصف ما يجري. وتتحدث غيز في هذه المقابلة مع مجلة نيوساينتست New Scientist عن الفيزياء، والفوز بجائزة نوبل، وعن عملها الحالي.

ليا كرين: ما الذي دفعك إلى دراسة الثقوب السوداء فائقة الكتلة؟

أندريا غيز: أعتقد أنّ أول هبوط فوق سطح القمر هو ما دفعني إلى الاهتمام بالفيزياء الفلكية، والتفكير في حجم الكون. وما كان يزعجني حينها هو الحدود، بداية الزمن ونهايته، وكذلك حدود الفضاء. وتحتفظ الثقوب السوداء بالعديد من هذه المسائل المرتبطة بالزمن والمكان، وخصوصا  بالكيفية التي تعمل بها النسبية العامة ونظرية الكم معا. أعتقد أن ذلك في الأصل هو ما جعلني مهتمة بدراسة الثقوب السوداء. فهذه الأجرام تمثل في الواقع حدود فهمنا لكيفية عمل الكون.

ليا كرين: تعيش هذه الوحوش في مراكز المجرات. كيف تبدو تلك البيئات؟

أندريا غيز: في مجرتنا، ومع اتجاهك نحو المركز، تصير الأشياء أكثر تطرفا، بكل الطرق التي يمكنك وصفها. فكثافة النجوم تزداد، وكذلك سرعاتها وشدة الخصائص الأخرى، كالمجالات المغناطيسية، تزداد بدورها. أحب التفكير فيها على أنها مركز المدينة، ونحن الآن في الضواحي حيث يكون كل شيء أبطأ قليلا وأكثر هدوءًا. وجوهريا، يأخذ مركز المجرة كلَّ شيء إلى أقصى الحدود.

ليا كرين: هل هذا ما يصعب جدا دراسة المنطقة الواقعة في مركز مجرتنا؟

يتميز مركز مجرتنا بقربه الشديد مقارنة بالثقوب السوداء الموجودة في مجرات أخرى. إذا، لدينا بعض الأفضليات عندما نريد تصنيف ما يجري هناك. أما السلبية الأساسية؛ فهي أننا نحاول النظر إلى مركز مجرتنا من خلال المستوى المجري. فإضافة إلى وجود الكثير من النجوم في مركزها، توجد في مجرتنا كميات هائلة من الغبار الذي يجعل وصول الضوء القادم من مركزها إلينا أصعب. فإذا حاولنا النظر إلى الأطوال الموجية التي تكشفها أعيننا، فلن نلاحظ إلا القليل جدا؛ لأن واحدًا من كل عشرة بلايين فوتون يصل إلينا.

لذلك، فليس هناك الكثير مما يحدث هناك، أكثر من الأشياء الموجودة بيننا؟

نعم، مع أن ازدحام مركز مجرتنا بالنجوم يصير مشكلة أيضا. بالطبع، تزداد الإشكالية أكثر كلما ابتعدنا عن مركز المجرة. لذلك يمثل مركز مجرتنا أفضل آمالنا في إجراء قياسات مفصلة. ولكن هناك أيضا تحديات تقنية.

أنتِ معروفة بريادتك في مجال البحث عن طرقٍ للتغلب على تلك التحديات. هل يمكنك إخبارنا بالمزيد؟

عند الرصد باستخدام التلسكوبات الأرضية، يشوش غلافنا الجوي الصور مما يُعقد عملية التمييز بين نجوم قلب مجرتنا، أو يجعله مستحيلا.  فهناك طريقتان أحب أن أفكر فيهما حول الغلاف الجوي. ففي الأولى أفكر فيه على أنه نهر. فإذا أردت النظر إلى حصاة في قاع النهر، فسيكون من الصعب جدا رؤيتها لأن الماء يتحرك ويشوه رؤيتك، ولذا ما ستحاول القيام به هو إبقاء الماء راكدا.

أما في التشبيه الثاني؛ فيمكن التفكير في الغلاف الجوي على أنه مرآة مرحة Funhouse Mirror تجعل كل شيء يبدو مشوهًا. وحينها باستخدام البصريات التكيفية، وهي التقنية التي تكمن وراء معظم أعمالي، فإنّ ما تحاول فعله هو وضع مرآة على التلسكوب لها شكل معاكس وتجعل الأشياء تبدو مسطحة من جديد. على تلك المرآة التحرك بسرعة كبيرة لمواكبة نشاط الغلاف الجوي، لكن هناك الكثير من المعلومات التي يُمكنك الحصول عليها باستخدام هذه التقنية الأكثر تعقيدا.

وذلك ليس مشابهًا لإيقاف جريان النهر أو إصلاح مرآة المرح. نحن بحاجة إليه للبقاء على قيد الحياة.

نعم. الغلاف الجوي مهم جدا لنا. لكنه مصدر لصداع شديد في مجال التصوير الفلكي.

من الواضح أن الكثير مما نعرفه حول القوس أ* نتج من بضعة نجوم فقط، بما في ذلك عملك. لماذا؟

هذا تصور مثير للاهتمام. أقول تصور لأنه من الصحيح أنه يوجد حاليا نجم واحد رئيسي، إذا جاز التعبير، هو نجم العرض. ويُعرف ذلك النجم بـ S0-2. إنه بلا شك نجمي المفضل في الكون. لكننا نقيس آلاف النجوم، وهي كلها مهمة، لكنها تؤدي أدوارا مختلفة. وعند الحديث عن قياسات النجم S0-2 ، فأنت بحاجة إلى نجوم عديدة تساعدك على ترتيب جميع الصور التي رصدتها. ولذلك يؤدي العديد من النجوم ما يُمكنني تسميته أدوارًا داعمة، لكنها لا تزال ضرورية جدا.

إذا ليس عرض نجم واحد، لكن أحدها هو نجم العرض؟

هناك مغنية رئيسية Prima Donna في الغرفة. فمدار النجم قصير حقا، وما أعنية بـ “قصير حقا” هو أنه أقصر من عمر الإنسان، أو ربما عمر مهنته. فـالنجم S0-2 يحتاج إلى نحو 16 سنة ليكمل مداره حول الثقب الأسود القوس أأ*. ولوضع ذلك في السياق المناسب، تستغرق الشمس نحو 200 مليون سنة لتتم دورة واحدة حول مركز المجرة. إذًا، لن تنتظر كل ذلك الوقت لتشاهد حصوله ومن ثم تقيس انحناء مدارها. ويقدم لنا مدار النجم  S0-2 ومدارات نجوم أخرى أدلة على وجود جسم عملاق ومدمج -ثقب أسود- هناك.

كيف كانت الحال عندما حصلتِ، في نهاية المطاف، على أدلة على وجود ثقب أسود فائق الكتلة في مركز مجرتنا؟

يا إلهي. لقد كان مشروعا مثيرا جدا، فكل مرحلة من مراحل التقدم، سعيا إلى الإجابة عن السؤال “هل يوجد ثقب أسود فائق الكتلة؟”، كانت مثيرة وممتعة جدا. لا يوجد شيء مشابه لإنجاز مشروع يعتقد الآخرون أنه لن ينجح.

خصوصا إذا نجح.

إذا نجح طبعا، وقد حصل ذلك.

بمناسبة الحديث عن الإثارة، كيف هو الحال منذ حصولك على جائزة نوبل؟

لقد كان سرياليا. إنه لأمر سريالي أن تفوز بجائزة نوبل. إنه شيء لم أتوقعه قطُّ. إن الحصول عليها وسط هذه الجائحة التي نعانيها أضاف عنصرًا آخر سرياليًّا. وكان من الرائع حقا أن تكون لديك أفكار جيدة لتشاركها مع الأصدقاء والعائلة والزملاء خلال هذه الأوقات الصعبة.

فجأة، صار هناك العديد من الفرص والدعوات لإنجاز أشياء أخرى، وكل ذلك يجبرك على التفكير: ماذا ستفعلين الآن؟ ما هي مسؤولياتك المرافقة للحصول على جائزة نوبل؟ ما هي الفرص التي ستتبعينها؟ أشعر حقًا بالقوة من تحمل بعض المسؤوليات المرتبطة بكوني متحدثة باسم العلوم، ولكن أستمر أيضا بمتابعة الأسئلة الرائعة المتعلقة بمركز المجرة.

أود أن أسألك عن تلك المسؤولية. تشعر العديد من النساء، وخصوصا في مجال الفيزياء، بأنهن غير مرحب بهن. كيف يمكننا جعل هذا المجال أكثر مرونة ومرحبا بالجميع؟

أعتقد أن أفضل ما يمكن فعله هو إنتاج علم جيد، وإظهار قدرة المرأة على أن تكون عالمة بنفس فعالية أي فرد آخر. فكلما زاد عدد النساء الناجحات في الوصول إلى القمة، كلما استطعنا مساعدة المجال على التغير عبر إثبات ذلك. وهذا الإثبات هو جزئيا لأقرانك، ولكن ما هو أهم هو أنه يظهر للجيل القادم الإمكانيات المتاحة. ما أؤمن به هو أن أفضل طريقة يمكنك من خلالها تغيير المجال هي نجاح الأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات.

على ماذا تعملين في الوقت الراهن؟

عدد ليس بالقليل من الأشياء. إنه امتداد لعملي المرتبط بمركز المجرة، ويعتمد على قدرتنا على إجراء قياسات دقيقة للمدارات. حاليا، نحاول قياس ما يُعرف بسبق الحضيض Precession of the Periapsis والذي يتضمن فهم كيفية دوران مدار النجم ككل. وذلك يسمح لك بطرح سؤالين: كيف تعمل الجاذبية في جوار الثقب الأسود، وهل توجد مادة معتمة Dark Matter محيطة به؟

نحن الآن في تلك المرحلة حيث تظهر الأشياء، ولست متأكدة مما هو صحيح وما هو خاطئ. أحب هذا الجزء من العلم. فهناك إمكانية لبلوغ فهم جديد، لكن الأمر معقد وفوضوي، ودورنا هو ترتيب تلك الفوضى.

لديك كومة من قطع اللغز؟

تماما. أنا أحب الألغاز. وعليَّ القول إن مركز المجرة يثير الاهتمام بازدياد. اعتقدت أن هذا المشروع سيستغرق ثلاث سنوات، وأنا هنا الآن بعد 25 عاما، مازلت متحمسة.

بالتفكير عن الثقوب السوداء، ما هو السؤال الكبير القادم الذي علينا الإجابة عنه؟

هناك الكثير. فنحن لا نفهم حتى الآن ما هو الثقب الأسود -هذا سؤال كبير بلا شك. كيف نوائم بين نظريتي ميكانيكا الكم والنسبية العامة بهدف شرح تلك الأجرام؟ أعتقد أن هذا سؤال ضخم جدا وهو الدافع وراء معظم أعمالنا، ومازلنا بعيدين عن الإجابة عنه.

بقلم: ليا كرين

ترجمة: همام بيطار

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى