أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الإنسانعلم الاجتماععلم النفس

أكبر عيوب صناعة القرار في  البشر في– وكيف نصلحه

اختصاصيّا علم السلوكيات دانيال كانمان وأوليفر سيبوني يوضحان كيف يضر "الضجيج" في الأحكام المهنية بجميع الجوانب بدءًا من العدالة الجنائية وانتهاءً بالعلاجات الطبية

هل سبق وأن تسرعت وأصدرت حكما خاطئا؟ أو اقترفت خطأً كبيرًا بسبب التحيز الداخلي المتأصل فيك؟ أو إنك أخطأت وأعادك أحدهم إلى جادة الصواب بكل تهذيب؟ إذن، لا بد أنك (أولًا) بشر، و(ثانيًا) أنت على وفاق مع كتابات دانيال كانمان Daniel Kahneman، وأوليفير سيبوني Olivier Sibony، وكاس سنستين  Cass Sunstein. وبفضل كتاباتهم الأكاديمية وللجمهور العام، فإن العالم الآن على علم بما ندعوه بـ”التحيزات المعرفية” Cognitive biases، وهي الأخطاء المنهجية في التفكير البشري، وطرق تصحيحها.

شارك سنستين في تأليف كتاب المؤثر التنبيه: تحسين القرارات حول الصحة والثروة والسعادة Nudge: Improving decisions about health, wealth and happiness ، والذي كتبه مع ريتشارد ثالر Richard Thaler. وأسهم كانمان في إشهار العمل الذي سرعان ما حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، وذلك في كتابه التفكير: السريع والبطيء  Thinking, Fast and Slow. وأما سيبوني؛ فهو مؤلف كتاب أنت على وشك اقتراف خطأ فظيع: كيف تحرف التحيزات اتخاذ القرارت، وما الذي يمكنك فعله لمحاربتها You’re About to Make a Terrible Mistake: How biases distort decision-making and what you can do to fight the.

قد تظن أننا قد تفوقنا على نزعة البشر للخطأ تفوقا تاما، بفضل جهود المؤلفين سابقي الذكر، ولكن هذا سيكون خطأً آخر أيضًا. يقول كانمان وسيبوني وسنستين إن هناك سببًا آخر أكثر أهمية يدفعنا إلى اتخاذ قرارات خاطئة. اتحد هؤلاء الثلاثة في فريق فائق يُعنى بالعلم السلوكي Behavioural science  من أجل تسليط الضوء الانتباه لما يسمونه “الضجيج” Noise، وهو التباينات الثابتة في الحكم المهني التي تقود إلى نتائج سيئة عند جميع الناس من مختلف الطبقات.

تحدث كانمان وسيبوني مع  مجلة نيوساينتست New Scientist حول الكتاب الجديد للمجموعة الضجيج: عيب في الحكم البشري Noise: a flaw in human judgment ، كان من المفترض أن يشارك سنستاين في المحادثة، إلا أن مسؤوله الجديد، رئيس أمريكا جو بايدن Joe Biden، استدعاه لأمر ما في اللحظة الأخيرة.

غراهام لوتون: نحن على علم بفكرة أن اتخاذ البشر للقرارات تفسده التحيزات المعرفية. غير أن كتابك فهو عن نوع مختلف من الأخطاء، وهو الضجيج. هل يمكنك توضيح الفرق؟

<دانيال كانمان>: الضجيج هو مقدار التناقض بين الأشخاص الذين يدلون بأحكامهم المهنية. يمكنك النظر لذلك على أنه مؤسسة، كنظام طبي أو نظام قضائي مثلًا، حيث يكون فيه أشخاص يمارسون مهام تتعلق بأحكام ما. والضجيج هو التعارض بين أحكام كل منهم فيما يتعلق بالمهمة نفسها.

وجود الضجيج هو أمر واضح للجميع؛ فمهام الأحكام تعرّف على أنها المهام التي يمكن لعدد معقول من الناس الاعتراض عليها، وإلا لما كان اسمه حكمًا. ولكنه يتضح أن الضجيج أكثر بكثير مما يتوقعه الناس.

<أوليفر سيبوني>: أحد شعارات الكتاب هو أنه حيثما يوجد الحكم يوجد الضجيج. وهناك الكثير منه، أكثر مما تتصور.

ذكرت العديد من المجالات التي تكون فيها الأحكام المليئة بالضجيج مشكلة، بدءًا من العدالة الجنائية، للتشخيص الطبي، للتوظيف والإقالة. ولكن هذه مجرد قمة جبل الجليد. هل يمكن أن تعطي بعض الأمثلة المحددة؟

 < دانيال كانمان >: قبل عدة سنوات، كنت مستشارًا في شركة تأمين، واقترحتُ إجراء دراسة حول الضجيج في الحكم على المتضامنين Underwriters مع الشركة. فأعدوا حالات،  طبيعية جدًا من وجهة نظرهم، وعرضوها على ما يقرب من 50 ضامنًا. وعرض على كل منهم واحدة أو أكثر من هذه الحالات، وأبدوا حكمهم فيها.

سألت بعض المدراء التنفيذيين حول النتيجة التي يتوقعونها. لنفترض أنك ستأخذ ضامنَيْن اثنين عشوائيا، وتحسب الفرق بين حُكمَيْهِما كنسبة مئوية. فما النسبة التي تتوقع وجودها في المعدل؟

كانت الإجابة 10%، والتي بدا أنها إجابة عامة جدًا. استقصى أوليفير مئات الأشخاص، وكان الإجابة الأكثر شيوعًا هي 10%. ولكنا وجدنا أن النسبة الحقيقة للاختلاف بين نتائج الضامنين هي 55%. وهذا فرق كبير. بل إنه كبير جدًا لدرجة أنه يدفعنا إلى التشكيك في حاجتنا إلى أشخاص لإصدار الحكم.

وهذا أمر لم يكن معلومًا لدى الشركة. وحقيقة أنهم يعانون مشكلة الضجيج كانت معلومة جديدة لهم. وهذه كانت البداية.

علي الاعتراف أنني عندما قرأت كلمة ضامنين Underwriters  في كتابك، قرأتها خطأً على أنها متعهدو دفن Undertakers وهو ما دفعني للضحك.

< أوليفر سيبوني > نرجو ألا يكون هناك الكثير من الضجيج هنا أيضًا! على كل حال، هذه العملية هي ما نطلق عليه الآن تدقيق الضجيج Noise audit. وبحثنا في الأدبيات العلمية عن أمثلة على دراسات أجرت تدقيقات للضجيج، من دون أن تسميها بهذا الاسم. ووجدنا الكثير.

أحد الأمثلة الملفتة هي السلطة القضائية للولايات المتحدة. فقبل سنوات، أجريت دراسة على قرارات الأحكام لـ208 قضاة فيدراليين. ومرة أخرى، كان الفرق يقارب الـ50% في المعدل. مما يعني أنك إذا اخترت قاضيَيٍن عشوائيًا، وأعطيتهما حالة حكم عليها بسبع سنوات سجن في المعدل، فإن الفرق بينهما سيكون مقاربًا لثلاث سنوات ونصف.

وهذا أمر مربك. فهذا يعني أن حقيقة إيكال قضيتك عشوائيا لقاضٍ  بدلًا من آخر  يعني الفرق بين خمس سنوات في السجن أو تسع سنوات في السجن.

هذا أمر خطير. لماذا لم نُول الكثير من الاهتمام للضجيج حتى هذا الحين؟

< دانيال كانمان > يصعب التفكير بالضجيج؛ فالعقل البشري يبدو أنه متخصص بالتفكير بالحالات بحد ذاتها، وكذلك بالتفكير سببيا Thinking causally. يبدو أنه يجد صعوبات واضحة في التفكير إحصائيا في مجموعة من الحالات.

والمثير للدهشة أنك عندما تفكر بحالة واحدة، يمكنك العثور على التحيز، ولكنك لن تستطيع العثور الضجيج. إذ لا يتضح الضجيج في الحالات الفردية. وهذا سبب مهم لإهمالنا للضجيج.

”الكثير من الأحكام المهنية لا علاقة لها بالواقع”

هناك أمر آخر يدعى بالواقعية الساذجة Naïve realism. عموما، عندما ننظر إلى العالم ونطلق الأحكام عليه، نشعر بأننا نفهمه فهمًا صحيحًا. نرى العالم كما هو. وإن جلست بجانبي ونظرت إلى العالم نفسه، وكنت أنا أحترم حكمك، ومن ثم فأنا أتوقع أن ترى العالم تمامًا كما أراه. ولكنك على الأغلب لا تراه كذلك.

< أوليفر سيبوني > وهناك سبب ثالث. عليك أن تسأل: لماذا لا تدرك المؤسسات هذه المشكلة؟ لماذا لا تدركها شركة التأمين؟ لماذا لا يدرك النظام القضائي وجود هذا الكم من التباين؟ لماذا لا تدرك المستشفيات حقيقة أن الأطباء، غالبًا، ما يشخصون حالة للمريض نفسه تشخيصات متباينة؟ قد تظن أن السبب هو أن ذلك بسبب اهتماماتهم الشخصية.

نظن أن جزءًا من الإجابة يتمثل بأن المؤسسات مصممة لتثبيط الأدلة على وجود الضجيج. فهي مصممة لإخفاء المشكلة وخلق وهمٍ بالإجماع؛ لذا لا تبحث عن الإجابة الصحيحة. وإحدى هذه الطرق هي أنها أن لا تسأل الأشخاص عن آرائهم على حدة. بل تعقد اجتماعا وتطلب إليهم مناقشة الموضوع. وهو، بالطبع، يحفز موافقة المتحدث الثاني مع الأول، وموافقة المتحدث الثالث مع المتحدثين الأوليين، وهكذا.

أخبرنا أحد اختصاصيي علم النفس الذين قابلناهم بأنه كان يعمل في قسم القبول في إحدى الجامعات. ونصحهم قائلًا إنه من الجيد أن يكون هناك مسؤولان عن القبول لتقييم كل مقالة Essay,، وأن يقيماها على حدة ثم يناقشان الاختلافات بينهما. وكانت إجابة الجامعة “أوه، هذا ما اعتدنا فعله في السابق، ولكننا اختلفنا كثيرًا مما دفعنا إلى تبني النظام الحالي، والذي يرى فيه المقيّم الثاني ما فعله المقيم الأول”.

 <د.ك.>: الكثير من المهنيين المصدرين للأحكام لا يحصلون على تغذية راجعةFeedback ؛ فهم يصدرون الحكم ولا يعلمون مدى دقة ذلك. وهذا صحيح بالتأكيد في حالة القضاة والضامنين. وهو صحيح حتى في حالة اختصاصيي الأشعة الذين يقررون تشخيصًا معينًا، ولكنهم نادرًا ما يسمعون نتائج تشريح الجثة.

ومن ثم، الكثير من أحكام المهنيين ليست ذات صلة بالواقع. وهذا يتيح لمختلف المهنيين أن يتباينوا في الآراء عن بعضهم البعض من دون أن يدركوا ذلك.

في ظل غياب التغذية الراجعة، فإن لديك خبراء، ونطلق عليهم اسم “الخبراء المحترمين” Respect experts لأن زملاءهم يحترمونهم، وأن ما يقولونه يبدو أنه حقيقي، مع أنه لا توجد طريقة موضوعية لقياس ذلك. وهذا بالتأكيد يساعد على إخفاء دور الضجيج.

لا عجب أن الناس سئموا من الخبراء. ماذا عن العلم؟ على الأقل هناك مراجعة الأقران لما ينشر فيه.

< دانيال كانمان >  هناك عدد قليل جدًا من الدراسات حول الحكم في العلم، خصوصًا الأحكام التي يصدرها العلماء حول عمل بعضهم البعض.

ومقدار الضجيج مثير للإحراج. قد يكون هناك اتفاق بين العلماء حول الحقائق الموضوعية، ولكن عندما يتعلق الأمر بتقييم مقالة أو منحة ما، يتبين أن العلماء يختلفون بقدر اختلاف المهنيين – مرة أخرى، لأنه لا توجد محددات موضوعية واضحة لجودة المقالة. فهو حكم شخصاني Subjective judgement. وكلما كان الحكم شخصانيًا، يزداد احتمال وجود الكثير من الضجيج.

يعنى الكتاب بالأحكام المهنية، ولكن هل ينطبق أيضًا على قراراتنا اليومية؟

< أوليفر سيبوني >: إن كنت تتحدث عن الأحكام التي تريدها أن تكون دقيقة، فإن الأمر ينطبق عليها. والآن، أي الأحكام تريد أن تكون دقيقة؟ أتريد أحكامًا دقيقة حول أي الأوقات أفضل للزواج؟ شخصيًا، لا أفكر في ذلك بهذه الطريقة. أظن أنك تصدر أحكامًا من نوع آخر.

من ناحية أخرى، إن كنت تحاول أن تقرر ما إذا كنت ستشتري بيتًا بالسعر المناسب، أو أن الوظيفة التي ستقبلها هي الوظيفة المناسبة، فإن هذه أحكام ينطبق عليها الأسلوب الذي تحدثنا عنه؛ ﻷنها قريبة جدًا من أن تكون أحكامًا مهنية.

ما مصادر الضجيج من الناحية النفسية؟

< دانيال كانمان >: هناك قدر وافر من أبحاث علم النفس لتفسير الضجيج. في كتاب التفكير: السريع والبطيء، كنا نحاول وصف العقل البشري عموما. في هذا المقام، فإن الجانب الرئيسي الذي نهتم به هو الفروق الفردية، أي وجود أفراد مختلفين يصدرون أحكامًا مختلفة. ومن ثم فإن هذا يمثل جانبًا مختلفًا من جوانب علم النفس. وأظن أن الموضع الذي يصبح فيه علم النفس مثيرا للاهتمام، برأيي، هو التمييز الذي نقيمه بين مختلف أنواع الضجيج. نحد نحدد ثلاثة مصادر للضجيج.

< أوليفر سيبوني >: أسهل الطرق لوصفها هو التفكير في مثال وقوفك بين يدي القاضي. سيطلق عليك الحكم في القضية، ويجب أولًا أن توكل قضيتك إلى أحد قاضيَيْن. لنفرض أنك أوكلت للقاضي س، وقال محاميك: “الحمد لله، كان من الممكن أن يكون القاضي ص! والقاضي ص مشهور بأحكامه القاسية. القاضي س ألطف بكثير”. هذا ما ندعوه بضجيج المستوى Level noise؛ أي أفراد مختلفون لهم متوسط مستويات مختلف في حكمهم.

والأمر الثاني هو أن كلًا منا لديه تباين داخلي مختلف. فالقاضي س قد يكون في الحقيقة في مزاج سيئ اليوم. وهذا الصباح، صادف أنه أسوأ مزاجًا من القاضي ص. ومن ثم، هناك تباين داخل كل قاض. وهاذ ما ندعوه بالضجيج السياقي Occasion noise. فهناك أهمية للسياق الذي يصدر فيه الحكم. وجميعنا يعي أن هناك أحكامًا نصدرها اليوم لم نكن لنصدرها في الأيام الأخرى.

ولفترة طويلة، ظننا أن هذين هما نوعا الضجيج، ولكنا بدأنا ندرك أن هناك نوعًا ثالثًا من الضجيج، والذي اتضح أنه الأكبر. وهو أصعب قليلًا على الفهم والإدراك.

فإذا أعطينا قاضيَيْن 10 أشخاص مختلفين ليصدروا أحكامهم بحقهم، وطلبت إليهم أن يرتبوا الحالات من أكثرها أحقية بالعقاب إلى أقلها أحقية به، فإنهم لن يعطوك الترتيب نفسه؛ ﻷن اعتقاداتهم الجوهرية مختلفة. أي أن لهم أذواقًا مختلفة.

وهذا ما ندعوه بضجيج النمط Pattern noise. وهذا المصدر في الاختلاف بين مطلقي الأحكام – بالمفهوم العام، وليس فقط مطلقي الأحكام في القضاء – هو مصدر الضجيج الأكثر أهمية. الناس مختلفون، فهم بخلفيات وتواريخ وتفضيلات مختلفة، وتعلموا أشياء مختلفة، وفشلوا في تعلم أشياء أخرى مختلفة. ومن ثم، لا يمكن أن نتوقع أنهم متشابهون.

ذكرت التشخيص. أنت تظن أنه إن كان هناك طبيبان ينظران إلى الحالة نفسها فإنهما ينبغي أن يكونا قادرين على الوصول إلى التشخيص الصحيح نفسه من الناحية الموضوعية، ولكنهما لا يصلان إلى ذلك.

< دانيال كانمان >: إنه في الواقع أمر مفاجئ ومحبط مدى وجود الضجيج في الطب. وأسوأ الحالات هي في الطب النفسي. ولكن هناك الكثير من التباين في تشخيص داء السل على سبيل المثال.

بعض ذلك يكون بسبب الضجيج السياقي؛ فإذا رأى أحد الأطباء حالتين من مرض معين في الأيام الماضية، فإنه يكون مهيأً لرؤية المزيد من حالات هذا المرض مقارنة بالتي لم يرها في الأيام السابقة. وفي نوع آخر من الأحكام يكون الأمر معكوسًا؛ فإن وافق مصرفي على قرضين، فإنه أقل احتمالًا لأن يوافق على القرض الذي يليه.

كما قد يكون للأطباء طرق مختلفة في النظر للحالات، كأن يكون في بالهم ترتيب مختلف من التشخيصات التي يأخذونها بعين الاعتبار؛ فإن كان هناك تشخيص يخطر على البال أسهل من غيره بالنسبة إلى أحد الأطباء، فإنه سيكون أكثر احتمالًا لإصدار ذلك التشخيص. وما هذا إلا فرق آخر من الفروق.

بينما نتحدث عن الأطباء، فإنهم احتضنوا تقنيات كالذكاء الاصطناعي لمساعدتهم على تشخيص أفضل. هل هذا هو الحل؟

< أوليفر سيبوني >: نعم ولا. تمثل هذه حلًا للمهام التي لا يكون فيها هناك حقيقة موضوعية. كقولنا هل هذا الورم سرطاني أم لا؟

عندما تكون لدينا بيانات كافية لتدريب الخوارزميات، فمن الواضح جدًا أن مهام الأحكام هذه ستتوقف عن كونها مهام أحكام. وستصير مهامَّ مؤتمتة Automated tasks. فالعديد من الأشياء التي تضطلع بها الخوارزميات اليوم كانت مسائل تتعلق بالحكم في السابق.

قرار حصولك على قرض استهلاكي صغير كان مسألة حكم في الماضي. كنت تخضع لمقابلة مع المصرفي في المصرف المحلي عندك. ولكن الآن هناك خوارزمية تصدر هذا القرار، ونحن نظن جميعًا أن هذا لا بأس به.

ستصير الكثير من الأحكام البسيطة من مثل تلك مؤتمتة. ولكن تركيزنا ليس على هذه الأحكام. بل إن تركيزنا على العدد الكبير جدًا من الأحكام التي ستظل أحكامًا لفترة طويلة، سواء لأنه لا يمكن أتمتتها أم لأننا لا نريد أتمتتها. ونحاول أن نعطي الذين يصدرون هذه الأحكام الأدوات اللازمة لجعلها أقل ضجيجا.

أي نوع من الأدوات؟

< أوليفر سيبوني >: إحدى أول دعواتنا للحراك هي أن يجري الناس المزيد من تدقيقات الضجيج ليبدؤوا بقياس هذه المشكلة في مؤسساتهم حتى يصير بإمكانهم أن يقرروا ما إذا كانت المشكلة تستحق الاهتمام بها. ونظن أنه، في العديد من الحالات، ستكون الإجابة نعم.

بمجرد أن ترى المؤسسة الضجيج في اتخاذها القرارات، ما الذي يمكن فعله؟

< دانيال كانمان >: الخطوة الأولى هي الحصول على عدد جيد من الخيارات. وبخصوص ذلك، ليس لدينا الكثير لنقوله. ولكن إن كان هناك عدد جيد من الخيارات، فإن هناك طرقًا نظامية لمقارنة هذه الخيارات، ونحن ننصح بطريقة معينة لإجراء ذلك.

< أوليفر سيبوني >: ندعو ذلك تنقية القرار Decision hygiene – ضع جميع الخيارات في قائمة، وحدد كيفية تقييمها، ثم قيمها على حدة ، ثم توصل إلى النتيجة النهائية.

أنت تعترف أن تنقية القرار أمر غير جذاب كما يبدو. هل يمكنك إضفاء بعض الجاذبية عليه؟

< دانيال كانمان >: يعود الأمر إلى التفرقة بين التحيز والضجيج. فإذا اقترحت طريقة يمكن بها التغلب على التحيز، فإن هذا سيكون بمثابة الدواء أم اللقاح لمرض معروف.

وأما تنقية القرار؛ فهو بمثابة غسل اليدين. أنت لا تعلم أي الجراثيم تقتلها بذلك، وإذا كنت ناجحًا في الغسيل، فإنك لن تعلم على الإطلاق؛ فهذه الطرق هي طرق وقائية. يجب أن تطبقها عندما لا يكون هناك أي تحيز معين تستهدفه بعينه، فقط لتولد بعض الاتساق وبعض الانضباط في الحكم.

هل هناك أي خطر من إزالة الضجيج؟ هل هناك بعض المنافع لوجود نتائج مختلفة عندما يُقيِّم أشخاص مختلفون المعلومات نفسها؟

< دانيال كانمان >: بحسب تعريفنا للضجيج، فإنه لا يوجد ضجيج جيد، لأننا نعرِّف الضجيج على أنه التباين في الأحكام التي يجب أن تكون متشابهة.

يمكن للتباين أن يكون نافعًا جدًا. في الواقع، يكون ضروريًا عندما يكون هناك تغذية راجعة واختيار. ولكن من دون وجود التغذية الراجعة والاختيار، فإن التباين ما هو إلا مصدر للخطأ.

< أوليفر سيبوني >: هناك ظروف يكون فيها تقليل الضجيج أمرًا غير ذي قيمة كبيرة. ويجب أن يجرى تحليل للتكلفة مقابل المنافع، وقد يكون نتيجة هذا التحليل أن تحمل بعض الضجيج أمر لا بأس به لأنه لا يفضي إلى عواقب سيئة كثيرة. ومع ذلك، فنحن نظن أن مثل هذه الحالات أقل كثيرًا من الحالات التي يكون فيها الضجيج كبيرًا ومصدرًا للمشكلات.

هل للأفكار والأفعال التي يذكرها الكتاب أي علاقة بتحديات مجتمعية كبيرة مثل الاستجابات المتعلقة بالجائحة؟

< أوليفر سيبوني >: الجائحة تمثل حالة مثيرة جدًا للاهتمام؛ وذلك لأنه، في العادة، عندما تكون هناك أزمة بهذا الكبر، فإنك ترى قرارات فردية. ولكنك هنا ترى كل الدول تستجيب للمشكلة نفسها في الأساس، باختلافات في التوقيت ومدى الاستجابة وغير ذلك.

أحد الأمثلة المفاجئة كان النتائج الجانبية للقاح أوكسفورد/أسترازينيكا، حيث وصلت إدارة كل دولة في أوروبا إلى نتائج مختلفة حول ما الذي يجب فعله. فقد قال البعض لنمنع اللقاح كليًا، والبعض رأى استخدامه كما هو، والبعض رأى أن يمنعوه عن الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن حد معين، وبعضهم رأى منعه عن الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على حد معين. كانوا ينظرون إلى الأدلة نفسها، ويفترض أنهم نظروا باستخدام المعايير نفسها، ولكن الأشخاص الأذكياء جدًا والمؤهلين جدًا وصلوا إلى استنتاجات مختلفة. نظن أنهم لو كان لديهم تفكيرٌ أكثر انضباطا، لكنا رأينا ضجيجا أقل.

قضيتما سنوات تعملان ضد الاتخاذ الخاطئ للقرارات، مكتشفين أسبابه، ومطورين طرقًا للتحسين. ولكن أنواع القرارات السيئة نفسها تُتَّخّذ مرارًا وتكرارًا. هل تخوضان حربًا خاسرة ضد نزعة الإنسان للخطأ؟

< دانيال كانمان >: لا أعتقد أن الأمور ثابتة لم تتغير. وأظن أن هناك استخدامًا أكثر تنظيمًا للذكاء في القرارات مقارنة بالماضي. هناك تقدم، لكنه بطيء.

< أوليفر سيبوني >: الوقت الذي تستغرقه الأفكار لتتغلغل في المؤسسات التي يمكنها أن تستفيد منها هو وقت طويل جدًا. وأحد الأمور التي يأمل هذا الكتاب وأمثاله من الكتب تحقيقه هو تقليل هذا الوقت.

ولكن جمال الضجيج يكمن في أنك لا تحتاج أن تفهم أسباب الأحكام السيئة كي تصلحها. وهذا يسهل كثيرًا من صعوبة هذه المعركة؛ لأنك لن تحتاج أن تلقي باللوم على أي شخص بعينه وتقول: “يا فلان، أنت متحيز”. يمكنك أن تقول: “نظامنا يعاني الضجيج، لنجعله أكثر نظامية”. وأظن أن هذه فكرة تزيل الكثير من الصعوبات.

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى