أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيئةصحة

كيف تتسبب بيئتنا في إصابتنا بالأمراض – وكيف يمكننا الحد من خطر الإصابة

بداية من ملوثات الهواء وحتى المبيدات الحشرية في الطعام والمستحضرات التجميلية، يبدو أن الحياة العصرية تعني التعرض الدائم للمواد الكيميائية البيئية. لذا، فإن نقدها سيساعدنا على دعم صحة البشر وإطالة عمر الكوكب

يؤدي التعرض للتلوث
البيئي دوراً أشد فعالية
مما تؤديه الجينات الوراثية في الزيادة من خطر
الوفاة لمعظم الأمراض

يرتدي مايكل سنايدر Michael Snyder أربع ساعات يد، اثنتان منها عند كل رسغ. وبصفته عالماً للوراثة في جامعة ستانفورد Stanford University، كاليفورنيا، لا يبدو مهووساً بمراقبة الوقت – بل شغوفاً بتوفير المزيد من الوقت من أجلنا. وعلى هذا الأساس، تتبع ساعات اليد الأربع حركاته ومؤشراته الحيوية، مثل مُعدل ضربات قلبه ودرجة حرارة جسمه. وإلى جانب تلك ساعات اليد، يحمل برفقته أيضاً جهازاً صغيراً بحجم راديو لاسلكي محمول، ليلتقط عينات من كل شيء ينتقل عبر الهواء، ويتعرض هو للتعامل معه يومياً، بدءاً من المواد الكيميائية وانتهاءً بالفيروسات.

يسعى سنايدر إلى المساعدة على إيجاد حل لمعضلة القديمة، وهي: كيف تؤثر بيئتنا في صحتنا؟ ففي كل مرة نتنفس أو نأكل أو نشرب أو نستحم أو نمارس الرياضة أو نرتدي الملابس أو نذهب إلى العمل أو نندس في الفراش، نُعرِّض أنفسنا لموادَّ يُحتمل أن تكون ضارة – مثل، تلوث الهواء، والمواد الاصطناعية، والطعام والماء المُلوَّثان، والإشعاع، والمواد الدوائية، والضوضاء والكائنات الحية الدقيقة، وهذا كله على سبيل المثال لا الحصر.

وفي كل عام، يبلغ تعداد الوفيات المبكرة ما بين 9 إلى 12 مليون نسمة، وذلك بسبب التأثير التراكمي لحالات التعرض المذكورة، وأهمها التعرض لتلوث الماء والهواء، والمعادن الثقيلة، والمواد الاصطناعية، والمواد المسرطنة والجزيئات الدقيقة في أماكن العمل. ومع ذلك، فإن جهلنا بما يحدث من حولنا لهو أمر مدهش. فيقول سنايدر: «فيما يتعلق بمعظم حالات التعرض -مثل المواد التي تستنشقها الآن- ليس لسنا متأكدين مما تفعله تلك المواد».

والآن يُحاول سنايدر وآخرون قيادة ثورة تعمل على فهم الأسباب التي تجعل بيئتنا تُصيبنا بالأمراض. فتقول ميشيل بينت Michelle Bennett- عضو في مركز معهد السرطان الوطني لاستراتيجية البحث للسرطان National Cancer Institute Center for Research Strategy في الولايات المتحدة الأمريكية: «ربما يبدو لك أن ما نبذله من جهود مشابهاً لما بُذل في الماضي، ولكنَّا الآن قد استوعبنا المفهوم الأشمل لما يدور حولنا». وأطلقنا على المشروع اسم: اكسبوزومكس Exposomics، ويهدف إلى حساب كل شيء نتعرض له طوال حياتنا، ثم يربط تلك النتائج بتأثيرها في صحتنا. والسؤال هنا، على الرغم من ضخامة المشروع الظاهرة للعيان، هل سينجح الأمر؟

إن المفهوم الشائع حول التأثير السلبي للبيئة في حياتنا ليس مفهوماً جديداً. فقد سبق وأن عزا الناس الإصابة بأمراض الكوليرا والطاعون إلى الغازات السامة التي تنبعث من المواد المتحللة، كما أن مصطلح «الملاريا» معناه الحرفي هو «الهواء الفاسد». ونُدرك الآن تماماً أن الأمراض المذكورة هي أمراض مُعدية تسببت بها كائنات حية دقيقة Microorganisms. غير أنه في القرن الماضي أو ما يسبقه، صار واضحاً تماماً بما لا يدعُ مجالاً للشك أن التعرض لموادَّ مثل الغُبار، والدخان، والمواد الكيميائية، والإشعاع، هو من المخاطر الصحية الخفية طويلة الأجل التي يختلف تأثيرها باختلاف سُميتها.

ومن هنا نشأ علم السموم Toxicology. خلال الجزء الأكبر من تاريخه، كان علم السموم يضم دراسات أُجريت على حالات تعرُّض قصيرة الأجل Short-term exposures، حين يتعرض الإنسان لمواد سامة منفردة. وفي مطلع القرن الحالي، أصبح من الواضح تماماً أن هذا النهج المُتبع يتخلف عن مجالات أخرى من مجالات العلوم الصحية. وعلى وجه الخصوص، انتقل مشروع الجينوم البشري Human Genome Project بعلم الوراثة من التسلسل الجيني إلى البحث في العلاقات التفاعلية المُعقدة بين الكثير من تلك الجينات. أُعلن إتمام المشروع عام 2003، ولكن في عام 2005، أشار كريستوفر وايلد Christopher Wild- الباحث في جامعة ليدزUniversity of Leeds، المملكة المتحدة، والذي صار مؤخراً رئيساً للوكالة الدولية لأبحاث السرطان International Agency for Research on Cancer– إلى أنه على الرُغم من هذا الناجح الباهر للمشروع، ما زلنا نغوص في الجهل بشأن أسباب الأمراض المزمنة.

وفيما يتعلق بتلك الأمراض المزمنة – والتي تشمل: السرطان، وداء السكري، والربو، والخرف، والأمراض القلبية الوعائية وغيرها – اتضح أن العوامل الوراثية ما هي إلا جزءٌ ضئيلٌ من التفسيرات المطروحة. ومن خلال استبعاد العوامل، فإن الأشياء التي تحدث أثناء حياتنا – وأعني بذلك حالات التعرُّض البيئية Environmental exposures– هي عامل التأثير الغالب عند الحديث عن خطر الوفاة. ولكن إلى أي شيء نتعرَّض بالتحديد؟

ولسد تلك الفجوة، اقترح وايلد متابعة مشروع الجينوم البشري من خلال مشروعٍ آخر أكثر طموحاً، مشروع سيعمل على توفير القياس المثالي لحالات التعرُّض مدى الحياة لكل شيء في بيئتنا، ثم ربط تلك الحالات بمخاطر الإصابة بالأمراض. ومن هنا نشأ مشروع إكسبوزومكس Exposomics.

وقد أقرَّ وايلد أن الهدف المُراد تحقيقه «بالغ الصعوبة». ولم يكن مخطئاً فيما لك؛ إذ يقول سنايدر: «ما يتعرض له الإنسان من المواد الخفية متنوع وذو نطاق شاسع، وذو بديناميكية فائقة». وتقول أنيت بيترز Annette Peters– الباحثة في مركز هيلمهولتز في ميونخ Helmholtz Centre، ألمانيا: «إن طموحاتنا كبيرة في هذا الأمر، لكني أعتقد أنها الطموحات التي يجب علينا التمسك بها».

والبديل لذلك هو استمرار وفاة الملايين من الناس جرَّاء أسبابٍ يمكن تجنبها. ويُمثل التعداد الأعلى وهو 12 مليون وفاة كل عام نتيجة التأثير التراكمي للأسباب البيئة التي يُحتمل أن تكون ضارة، أو «الأضرار» – نحو 20 % من حالات الوفاة على مستوى العالم، وتُمثل ثلث حالات الوفاة المبكرة، وتشمل الفئة العمرية في الأشخاص البالغين من عمر 30 إلى 69.

ويعزي أغلب هذه الوفيات إلى التعرُّض لمواد نسمح -بأنفسنا- بإطلاقها في البيئة؛ مما يُعزز الضرورة الأخلاقية للحيلولة دون ذلك، كما يقول فيسنت فرانكو Vicente Franco- من إدارة العامة للبيئة Directorate General for Environment في المفوضية الأوروبية European Commission، والمسؤولة عن وضع السياسات البيئية للاتحاد الأوروبي. ويضيف قائلا: «إذا نظرنا إلى المنظور العالمي، فإن التلوث هو القاتل الرئيسي حول العالم. ولا يزال متصفاً بتلك الصفة لعقودٍ طويلة – فنراه يتسبب في قتل الملايين مقارنة بما تسببه الأمراض المُعدية، والعنف، والحرب، وتعاطي التبغ – ولذلك فإننا في حاجة إلى مواجهة هذا الأمر، وليس ثمة عُذرٌ لتغافلنا عنه. تكاد تكون هذه الحقيقة مقبولة عموما، غير أنني ما زلتُ أجدها مُحيرة للعقل».

في مايو 2021، نُشرت دعوة للالتزامٌ عام باقتلاع المشكلة من جذورها، عندما أعد الاتحاد الأوروبي خطة العمل للتلوث الصفري Zero pollution action plan، وهذا الالتزام أحد هو وسائل المُضي قدماً. ولكننا في حاجة إلى مزيد من المعلومات بشأن ما يدور حولنا من تلوث بالفعل. فعلى سبيل المثال، منذ عام 1950، تم تخليق مئات الآلاف من المواد الكيميائية والمبيدات الحشرية الجديدة. ولمعظم تلك المواد، ليست لدينا معرفةً كافية حول تأثيراتها في الصحة. يقول فرانكو: «نحتاج إلى المزيد من إجراءات القياس، كما نحتاج إلى المزيد من تجارب المراقبة، لأننا لا نستطيع معالجة ما لا يمكن قياسه».

ينبغي علينا السيطرة

على تباين هائل في قدرتنا على

التعامل مع المواد السامة في بيئتنا

وتقول بينت: «إن أحد أهم المفاتيح الرئيسية لهذا المجال هو الابتعاد عن محاولة الإلمام بالعناصر المنفردة كل على حدة، والتوجه إلى فهمها كتعرُّض عبر مدى الحياة». وهذا يعني اكتشاف المزيد عن تأثير تلك المواد الكيميائية علينا، والتي تُوجد في المنتجات ومواد البناء التي نستخدمها، والملوثات الصناعية في الهواء الذي نستنشقه، والمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الزراعية الأخرى التي يمكن أن تشق طريقها إلى مياهنا وطعامنا، ومنتجات التجميل والوقاية من الشمس التي نغلف بها جلودنا – إضافة إلى تأثير عوامل نمط الحياة، التي تشمل الحمية الغذائية وتدخين السجائر والتدخين الإلكتروني والتوتر.

وجهة نظر مشتركة

منذ أن أصدر وايلد دعوته لمجابهة هذا الأمر في عام 2005، تمكنا من إحراز تقدم ملحوظ إذ حصلنا على نظرة أكثر شمولية لما نتعرض له. وفقا لرائول فيرمولين Roel Vermeulen -عالم مختص في علم الاكسبوزم بجامعة أوتريخت Utrecht University في هولندا ورئيس شبكة اكسبوزوم الإنسانية الأوروبية European Human Exposome Network- إن ما نعرفه بالفعل من المخاطر البيئية التي نواجهها يمثل 50 % فقط. بعبارة أخرى، لدينا كوب نصف ممتلئ، لكن النصف الفارغ يمتلئ بسرعة. يقول سايندر إن خلال السنوات العشر القادمة، علينا الوصول بهذه النسبة إلى 90 %. «إنها مشكلة بيانات ضخمة Big data، لكنها قابلة للحل».

أحد العوامل التي تعزز هذه الثقة هي وجود مجموعة من التقنيات الجديدة المصممة بهدف السماح للباحثين بالقيام بما هو أكثر من دراسات التعرض قصيرة المدى وذلك للحصول على رؤية أكثر شمولية عما يتعرض له المرء طوال حياته. فعلى سبيل المثال، مؤخراً طور المعهد الوطني الأمريكي للعلوم الصحية البيئية National Institute of Environmental Health Sciences (اختصارا: المعهد NIEHS) مناهج أولية لـتحديد كل مركب من آلاف المركبات في الدم والبول واللعاب والماء والغبار المنزلي. يقول سنايدر: «إنه عالم جديد تماماً». «الطريقة التي نقيس بها الأشياء الآن تفوق بكثير ما كان بإمكاننا القيام به قبل 15 عاماً».

في الوقت نفسه، تنظر مشروعات أخرى -بصورة منظمة- عن تأثير ما نتعرض له في صحتنا. تركز العديد من الدراسات على «الأعضاء الحاجزة» Barrier organs، مثل الجلد والرئتين والأمعاء والتي تتكيف بشكل جيد مع الهجمات البيئية. فيما تنظر دراسات أخرى في الأعضاء والأنظمة الداخلية، مثل الرئتين والكبد والأمعاء وأنظمة القلب والأوعية الدموية والمناعة والتمثيل الغذائي. تؤكد هذه الدراسات الأمر الذي ظل مشتبها به لوقت طويل: يتم اختراق الأعضاء الحاجزة بشكل روتيني، وتفيض أجسادنا بالمواد الكيميائية. ويقول بيتر إنه «على الرغم من أن بعض حالات التعرض قد يتم اكتشافها فقط في العضو الحاجز، إلا أن التأثير يتجاوز ذلك بكثير، على سبيل المثال، قد تُغيِّر وظيفة التمثيل الغذائي لدينا».

كمثال واحد فقط من بين العديد من الأمثلة، وخلال مؤتمر عقده المعهد EHEN في عام 2021، أوضح دوغ والكر Doug Walker -الباحث في كلية أيكان للطب Icahn School of Medicine بمستشفى ماونت سيناي بنيويورك، كيف استطاع فريقه الربط بين التعرض للمواد الكيميائية المختلفة وأحد أمراض الكبد يسمى التهاب الأقنية الصفراوية المصلب الابتدائي Primary sclerosing cholangitis المجهول المصدر في السابق. كما أكد البحث على فرضية طويلة الأمد تقول بأن التعرض للبنزين، عنصر مهم في تصنيع كثير من الكيماويات الصناعية وناتج ثانوي لعمليات حرق الوقود الأحفوري، يمكن أن يتسبب في الإصابة باللوكيميا.

وإذا أردنا أن نستوعب حقاً حجم تأثير البيئة في صحتنا كبشر، فنحن بحاجة إلى السيطرة على التباين الهائل في قدرتنا على التعامل مع المواد السامة. غالباً، تعود هذه الاختلافات إلى الجينات التي نرثها من آبائنا، ولكنها يمكن أن يكون السبب العوامل الما فوق جينية Epigenetic، ونابعا من تغييرات في تكويننا الجيني نتيجة لبعض الأحداث التي نمر بها في حياتنا. تشير التجارب التي أجريت على الفئران إلى أن السرعة التي يتخلص بها مجرى الدم من البنزين تعادل عامل من 10. ويقول ريك ووشيك، مدير المعهد NIEHS: «قد ينطبق هذا على معظم السموم. إلا أن التعرض الذي قد يشكل خطراً جسيماً لأحد الأفراد، ربما لا ينطبق على شخص آخر».

إضافة إلى ذلك، ربما لا يتعرض الأشخاص الموجودون في المكان نفسه للمشكلة نفسها. يقول سايندر: «قد يوجد شخصان في الغرفة نفسها ويتعرض كلاً منهما لأشياء مختلفة جداً اعتماداً على مكان جلوسهما».

غير أن كل هذه التعقيدات تثير قلقاً وشيكاً ويعتقد أنها قد تكون سبباً في انهيار علم أكسبوزومكس، فهذا العيب الفادح يمنعها من أن تكون الرد العلمي البيئي على مشروع الجينوم البشري. فهذا العلم حاليا معرض لخطر أن يكونعلما يحيط بـ«كل شيءعن كل شيء بخصوص كل شيء». و يقول: «أنا مؤمن بأهمية بذل مجهود أكبر لتحديد ماهية الاكسبوزومكس بدقة». كمل يقول غاري ميلر Gary Miller -الباحث في جامعة كولومبيا Columbia University بنيويورك ومحرر الدورية العلمية الجديدة اكسبوزومكس- إنه ليستحق هذا بوصفه كأحد علوم أومكس omics، عليه أن يمشي على خطى علم الجينوم وينتج فهماً شاملا لمعظم التعرضات البيئية الموجودة وكيف تؤثر في بيولوجيتنا.

هذه تحديات خطيرة، لكن تتزايد ثقة الباحثين بقدرتهم على مجابهتها. ففي العام الماضي عملت بيترز وزمليتها أندريا باكاريلي Andrea Baccarelli -من جامعة كولومبيا-، وتيم ناوروت Tim Nawrot -من جامعة هاسيلت Hasselt University في بلجيكا- على ما يعتبرونه ورقة بحثية تاريخية، عنوانها «السمات المميزة للهجمات البيئية» Hallmarks of environmental insults، وهي استكمال لبحثين سابقين أحدثا تغييراً كبيراً. «السمات المميزة للسرطان» The hallmarks of cancer (2000) و«السمات المميزة للشيخوخة» The hallmarks of aging (2013). تناول كلا البحثين مشكلتين ببولوجيتين كبيرتين ومستعصيتين على الحل، وتفكيكهما إلى المبادئ الأساسية. مثلا، تناولت ورقة الشيخوخة البحثية فكرةً غامضة مفادها أن الشيخوخة هي عملية انهيار عامة للوظيفة البيولوجية، وإعادة تصوريها على أنها تراكم لتسع فئات مختلفة من الخلايا أو الجزيئات المعطوبة، والتي صار العديد منها الآن أهدافاً للتدخل الطبي. استشهد بهذا البحث أكثر من 7,000 مرة.

في الورقة البحثية الجديدة، تفصل بيترز وزملاؤها الطرق التي تؤثر بها الهجمات البيئية في جسم الإنسان، بداية من الإجهاد التأكسدي Oxidative stress والالتهابات Inflammation وصولا إلى ضعف وظائف الجهاز العصبي. ومن المأمول أن التوصل إلى مثل هذه النتائج قد تساعد على تطوير وتركيز استراتيجيات الوقاية والعلاج. يقول باكاريلي: «نحن نتعلم كل يوم المزيد حول تأثير التعرض للملوثات في الهواء والماء والتربة والطعام على صحة الإنسان». لكن ما لا نستطيع فهمه تماماً هو المسارات البيولوجية المحددة التي تتسبب هذه المواد الكيميائية من خلالها بالضرر في أجسامنا.

كما تبدأ مثل هذه النتائج بتفسير لم يتسبب بعض أنواع التعرض بضرر جسيم. مثلا، التعرض المستمر لتلوث الهواء -الذي تم تصنيفه على أنه السبب المباشر لنحو أربعة ملايين حالة وفاة يمكن الوقاية منها في معظم أنحاء العالم كل عام- يستوفي جميع السمات المميزة الثمانية. تظهر الدراسات الرصدية أن الجسيمات الدقيقة التي تقل عن 2.5 ميكرومتر هي بالأخص ضارة بصحتنا.

هناك رؤية أخرى تتمثل بالتداخل بين السمات المميزة للتعرض وتلك الخاصة بالشيخوخة. أربعة من أصل هذه الثمانية: التحولات والطفرات الجينية والتعديلات ما فوق الجينية والخلل في الميتوكوندريا والتواصل الخلوي المتغير، هي السمات المميزة لـلشيخوخة. والإجهاد التأكسدي والالتهاب هو سبب آخر معروف للأمراض التي تصيبنا أكثر مع تقدمنا في السن مثل: الخرف والسرطان وداء السكري وأمراض القلب والجهاز التنفسي وداء باركنسون (شلل الرعاش) وهشاشة العظام Osteoarthritis. يقول بيتر: «إن التعرض للهجمات البيئية يتسبب في تقدمنا في العمر بسرعة أكبر. فمع تقدم أجسادنا في السن، تتراكم التغييرات في مواقع مختلفة. وفي حالة التعرضات البيئية يكون الأمر كذلك».

إن التركيز الأساسي لعلم الإكسبوزومكس هو تحسين صحة الإنسان، ولكن يمكن أن يكون له تأثير إيجابي يعود بالنفع على صحة الكواكب بشكل عام أيضاً. كما تقول بيترز فالنباتات والحيوانات تستجيب هي أيضاً للهجمات البيئية بطريقة مشابهة للإنسان. «ومن ثم قد يسهم إطار العمل الأساسي هذا في التغلب على التحدي الذي نواجهه حالياً مع التلوث عموما».

ليس هذا فحسب، ولكن كما يشير مارتين فيرهيد Martine Vrijheid الباحث في معهد برشلونة للصحة العالمية Barcelona Institute for Global Health بأسبانيا، أن العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها لتقليل تعرضنا لأضرار الملوثات مثل تقليل تلوث الهواء واتباع نظام غذائي صحي واختيار وسائل نقل تعتمد على الحركة مثل المشي وركوب الدراجات تتقاطع مع إجراءات المحافظة على المناخ.

للكثيرين منا، من السهل جداً التحدث عن تقليل تعرضنا للملوثات البيئية، لكن الفعل هو أمر آخر، كما أننا لسنا متعمقين في الأمر بما يكفي لتحديد الخط الفاصل بين التعرض للملوثات البيئية وعلم الجينات حتى نطرح اقتراحات بخصوص هذا الشأن. ويقول سايندر: «من الصعب قول إنه نظراً لعوامل الاختطار Risk factor، لا ينبغي لك فعل ذلك». لكن بوادر النتائج العملية قد بدأت بالظهور، إذ يضيف قائلا

إننا نعلم الآن مثلا أن تركيبة معينة من الجينات تزيد من خطر الإصابة بداء باركنسون عند التعرض للمبيدات الحشرية.

وعلى الرغم من وجود إطار من السمات المميزة، ما زالت هناك ثغرات معرفية. لذا، فكرت بيترز وزملاؤها إضافة خلل الخلايا الجذعية Stem cell dysfunction إلى قائمتهم، لكنهم لم يتوصلوا إلى الدليل الكافي لإضافتها إلى قائمة السمات. وتقول بيترز إنه قد تظهر سمات مميزة أخرى. هذا، ويشير سايندر أيضاً إلى أن الجهود الحثيثة تركز على مخاطر التعرض الضار متجاهلة الجانب الصحي للإكسبوزم. إذ يقول: «ما الشيء الذي لا نلاحظه؟ الشيء الجيد. دائما ما نعد التعرض أمراً سيئاً، لكن من المحتمل أن هناك العديد من المركبات المفيدة. هذه مساحة غير مدروسة تماماً». ويتوقع أن المواد الكميائية التي تنبعث من الطبيعة -مثلا من الشجر في الغابات- قد تكون مسؤولة عن بعض الفوائد الصحية التي تتحقق من خلال التواجد في مثل هذه البيئات.

العمل على معرفة آثار التعرض على المدى الطويل هو أمر يحتاج إلى الكثير من العمل والوقت. ويقول سايندر: «إن التأثيرات طويلة المدى تعتبر واحدة من أصعب المشكلات، لكن لا يمكن اعتبار هذا سبباً حتى لا نبدأ العمل الآن، يجب أن نعمل على الدراسات الآن، وسنحصل على نتائجها بعد 30 أو50 عاماً من الآن، فيستفيد أحفادنا منها».

إذا كنا نرغب في إيقاف جائحة الأمراض المزمنة والشيخوخة المبكرة فليس لدينا وقت لتضيعيه. ويقول فريهيد: «هناك الكثير من الصحة والعافية في انتظارنا، إذا كنا جادين، فسيغير ذلك من حياتنا».

بقلم غراهام لووتون

ترجمة إسراء دياب

. 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC©

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى