أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
صحة

أخيراً … بدأنا نفهم صداع الشقيقة وكيف نعالجها

بعد أربعين سنة من البحث، كشف العلماء عما يحدث داخل الدماغ خلال نوبة الشقيقة «مايغرين»، كما طوروا أدوية جديدة تعد بعلاج المرض. سنقدم إليكم في هذا المقال الأمور التي نعرفها حتى الآن، والأسئلة التي لا تزال بحاجة إلى إجابة

عائلتي عندما فاجأتني ضربة على رأسي من حيث لا أدري. شعرت وكأن أحداً ضربني على جانب رأسي بمطرقة، ومن شدة الألم سقطت شوكة الطعام من يدي، ثم أتتني الضربة الثانية، فالثالثة. أذكر أنني طلبت إلى أختي أن تتوقف عن أنينها المزعج قبل أن أركض لأختبئ تحت اللحاف حتى ذهب الألم عني في النهاية. كانت تلك تجربتي الأولى مع صداع الشقيقة.

وبعدها بعشرين سنة، لم تتغير طريقة تعاملي مع الشقيقة، إلا أن أنين طفلي -الذي قد بدأ يمشي – صار هو الذي لا يحتمل. وعلاجات الشقيقة لا تنفعني كثيراً. كما لا تنفع الكثير من الناس أيضاً.

على الرغم من أن الشقيقة هي واحدة من أكثر الأمراض العصبية Neurological conditions شيوعاً، إذ تصيب أكثر من بليون إنسان حول العالم، إلا أننا نعلم القليل جداً حول ما يسببها، وكيف نتجنبها، وما هو أفضل علاج لها.

ويعود ذلك جزئياً إلى أن الشقيقة مرض معقد جداً؛ إذ يختلف تأثيرها باختلاف الأشخاص، ويمكن أن تكون غير متوقعة، كما تصيب نسبة أكبر بكثير من النساء مقارنة بالرجال. لطالما كانت أبحاث الشقيقة مهملة ومُقلَّلاً من شأنها ومنخفضة التمويل، إلا أن عدداً قليلاً من الباحثين أمضوا عقوداً محاولين إحراز تقدم في هذا المجال. وللمرة الأولى، استطاعوا الكشف عن آلية حدوث الشقيقة في الدماغ، وبهذه المعرفة استطاعوا تطوير علاجات لا يقتصر تأثيرها على تسكين الألم عند حدوثه، بل ربما منع حدوثه من الأصل. وأخيراً، وصلت أبحاث الشقيقة إلى مرحلة مزدهرة.

لأولئك المحظوظين الذين لم يعانوا الشقيقة، قد تبدو لهم أمراً مبالغاً فيه. فقد يكون الشخص سليماً في لحظة ما، ثم يغدو فجأة غير قادر على الكلام أو الرؤية. وتختلف الأعراض بحسب الشخص، وقد تستمر لساعات أو أيام. تقول ديبي هاي Debbie Hay من جامعة أوتاغو University of Otago في نيوزيلندا: «نتحدث عن الشقيقة بالمجمل، ولكنها في الواقع تظهر بأشكال كثيرة مختلفة. يصاب بعض الأشخاص بالصداع، وغالباً ما يكون شديداً، ولكن الشقيقة أكثر بكثير من ذلك، وقد تتضمن أعراضاً أخرى. وتقول باريسا غازيراني Parisa Gazerani من جامعة آلبورغ Aalborg University في الدنمارك: «القول الشائع هو أن الشقيقة ما هي إلا صداع، وهذا أمر مزعج بعض الشيء لأنها ليست مجرد صداع، بل هي اضطراب دماغي، وأما الصداع فما هو إلا أحد مظاهر الشقيقة».

الأعراض المنذرة والأورة

 يمكن أن تبدأ نوبات الشقيقة بما يعرف بالمرحلة المُنْذِرة Premonitory phase، أو البادرة Prodrome، والتي قد تشتمل على عدد من الأعراض، من مثل تقلب المزاج، وشد الرقبة، والتثاؤب. وأما المرحلة المنذرة بالنسبة إلي؛ فتشتمل على شعور مبهم وكأن شيئاً سيئاً على وشك الحصول.

عادة ما يتبع المرحلة المنذرة بنوبة الشقيقة نفسها، والتي عادة ما تتصاحب مع الألم. ويمكن للألم أن يكون متعباً وقد تسبقه أَوْرَة Aura. وأعراض الأورة -وهي اضطرابات حسية قد تؤثر في رؤية الشخص أو كلامه أو حركته- فقد تتراوح ما بين خفيفة إلى غير محتملة. وقد يحدث ذلك بغض النظر عن حدوث الصداع. ولكن، عادة ما يكون الصداع هو العرض الأكثر إنهاكا للشخص، ويستمر لدقائق، أو ساعات، أو أيام، بحسب شدة النوبة وفعالية العلاج.

وأخيراً هناك أعراض تالية للشقيقة Migraine “hangover” or postdrome، والتي يستمر فيها البعض بالشعور بالتعب أو الإعياء لعدة أيام.

الشقيقة هي ثالث أكثر الأمراض شيوعاً في العالم، وتأتي في المرتبة الثالثة من حيث تسببها بالإعاقة. يُتَوَقَّع أن التكلفة السنوية غير المباشرة للشقيقة بسبب فقدان أيام العمل وقلة الفاعلية تبلغ نحو 19.3 بليون دولار في الولايات المتحدة وحدها، وهذا لا يشتمل على تكلفة العلاج الأساسية.

على الرغم من كل ذلك، تلقت أبحاث الصداع أقل من %0.05 من ميزانية معاهد الصحة الوطنية National Institutes of Health في الولايات المتحدة في 2007. مثلا، عند النظر إلى تمويل أبحاث علاجات الأمراض المزمنة الشائعة الأخرى، كالربو وداء السكري، فقد حصل كل شخص يعانيها على 153.90 دولاراً بالمعدل. أما هذا الرقم بالنسبة إلى الشقيقة؛ فقد كان 36 سنتاً لا غير. وقد يكون الوضع محبطاً لمن يعاني الشقيقة على الصعيد الإكلينيكي أيضاً؛ فلا يشخص إلا نحو %40 فقط منهم، وفي المملكة المتحدة، ربع الأشخاص المشخصين يقولون إنهم كانوا يعانون نوبات لما يزيد على سنتين قبل التشخيص، وذلك بحسب استقصاء حديث أجرته الجمعية الخيرية مايغراين ترست Migraine Trust. وأغلب الأشخاص الذين استجابوا لهذا الاستقصاء لم يُحَوَّلوا إلى مختص بعلاج الصداع، وعانى العديد منهم من أجل الحصول على علاجات الشقيقة.

تصيب الشقيقة ثلاث
نساء مقابل كل رجل …
هذه بيئة خصبة للتحيز

وفي أحد المؤتمرات العلمية، سمعت مرة أحد مختصي الألم يقلل من أهمية الألم عند الذين يعانون الشقيقة واصفاً إياه بالألم «النفسي». تقول هاي: «لا أظن أن هذه حادثة فردية؛ فاختصاصي الأعصاب الذي أتحدث إليه في القسم يدافع عن هذا الموضوع طوال الوقت».

يمكن عزو بعض هذا التحيز إلى حقيقة أن الألم تجربة تختلف بشكل كبير بحسب الشخص، ويصعب جداً فهمها، وكذلك بسبب أن الشقيقة تسبب أعراضاً متباينة بشكل كبير. أضف إلى ذلك أن البعض يسخر من الشقيقة قائلين إنها أحد الابتلاءات التي تبتلى بها النساء الهستيريات، كما يشرح بيتر غوادسبي Peter Goadsby في كينغز كوليدج لندن King’s College London. ويتابع قائلا: «نسبة الحدوث الأعلى تكون عند عمر الأربعين، ويعانيها ثلاث نساء مقابل كل رجل، كما تشتد أكثر حول فترة الحيض. هذا تحيز ولد في بيئة تحيز خصبة».

وفي النهاية، فإن الشقيقة لا تتسبب بضرر كبير في الدماغ كالذي يُرى في الأمراض التنكسية Degenerative conditionsمن مثل مرض آلزهايمر ومرض باركنسون، وكذلك السكتة الدماغية، وكل هذه الأمراض تؤثر كذلك في معدل الحياة، ومن ثمَّ يسهل فهم سبب حصولها على نسبة أكثر من التمويل.

وهذا الأمر عايشه لارس إدفينسون Lars Edvinsson من جامعة لوند Lund University في السويد بشكل مباشر، إذ وجد أنه من المستحيل تقريباً الحصول على تمويل لبحث الشقيقة الذي كان يجريه في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. وفي النهاية، استطاع تأمين تمويل لدراسة السكتة الدماغية، وهو ما “أبقاني مستمراً في مجال العلم” وفقا لما يقول. وصار بحثه للشقيقة مجرد مشروع جانبي. ولكنه ثابر مستمراً فيه حتى آتى ثماره. وقد نال جائزة السنة الماضية على أبحاثه، هو وثلاثة باحثين آخرين في الشقيقة، من ضمنهم غوادسبي، وهي جائزة برين Brain Prize، وهي مكافأة رفيعة المستوى قيمتها عشرة ملايين كرونة دنماركية (وتعادل 1.1 مليون جنيه إسترليني) تقديراً له على عمله الرائد في مجال علوم الأعصاب. وأحد الاكتشافات الثورية التي أوصلته للفوز كان أن الخلايا العصبية، وكذلك الأوعية الدموية تؤدي دوراً محورياً في الشقيقة.

رسوم: JUAN GAERTNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY

فكرة أن توسع Dilation الأوعية الدموية يسبب الشقيقة في الأصل تقوم على حقيقة أن الأشخاص المصابين بالشقيقة عادة ما يعانون صداعا خفقانيّا Throbbing headache، وفقا لغازيراني. ودَعَمت هذه النظريةَ الأبحاثُ التي اشتملت على حقن المتطوعين بأدوية توسع الأوعية الدموية، والتي تميل إلى أن تسبب صداعاً، ويمكنها أن تحفز حدوث الشقيقة. كما أن نجاح أدوية التربتان Triptan drugs في علاج الشقيقة يدعم هذه الفكرة أيضاً؛ فهذه الأدوية، والتي ظهرت في التسعينات القرن العشرين، صُمِّمَت في الأصل بصورة خاصة لعلاج الشقيقة، وبدا وأنها تعمل عن طريق قبض Constricting الأوعية الدموية.

ولكن هناك تصدعات بدأت تظهر في نظرية توسع الأوعية حتى قبل ذلك بكثير، عندما طور علماء أعصاب أدوات تقيس تدفق الدم في الدماغ بشكل أفضًل. إذ وجدوا أن الأشخاص الذين يعانون الشقيقة لا يبدو أن لديهم أوعية دموية متوسعة كما كان الاعتقاد السائد، بل إنه حتى عندما كان هناك توسع، فإنه لم يبدُ أنه يحفز نشوء الصداع، ووجدت دراسات أن التوسع بدأ بعد نشوء الصداع واستمر بعد انتهائه.

وبعدها، قبل 40 سنة، جاء اكتشاف مادة كيميائية تدعى الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين calcitonin gene-related peptide (اختصاراً: الببتيدCGRP) والذي يبدو أنه يؤثر في وظيفة الخلايا العصبية في الجهاز العصبي والدماغ، ويمكنه أيضاً أن يوسع الأوعية الدموية. وفي الوقت نفسه تقريباً، أثبت مايكل موسكوفيتش Michael Moskowitz من كلية هارفارد للطب Harvard Medical School، أحد الأربعة الفائزين بجائزة برين عام 2021، أن العصب ثلاثي التوائم Trigeminal Nerve – والذي يصل الدماغ بالوجه، والأوعية الدموية المرتبطة به تؤدي دوراً مهماً في الألم المصاحب للشقيقة.

وفي عام 1988 تعاون إدفينسون مع غوادسبي لمعرفة المزيد حول ما يمكن للبتيد CGRP أن يفعله. وبحلول منتصف تسعينات القرن العشرين كانا قد اكتشفا -وزملاؤهما- أن الببتيد CGRP يُفرَزُ من العصب ثلاثي التوائم Trigeminal nerve خلال نوبة الشقيقة، وهو أول إشارة دقيقة إلى مادة كيميائية في الدماغ يمكن أن تحفّز الشقيقة. وأما رابع الفائزين بجائزة 2021، جيس أوليسن Jes Olesen، من جامعة كوبنهاجن University of Copenhagen في الدنمارك؛ فقد كان جزءاً من فريق أكد ذلك بإثبات أن إعطاء الببتيد CGRP للأشخاص المعرضين للشقيقة يسبب نوبة شقيقة لديهم، وأن الإفراز الطبيعي للبتيد CGRP يمكن منعه باستخدام الدواء سوماتربتان Sumatriptan، وهو أحد أدوية التربتانات التي غالباً ما توصف للمرضى. وفي النهاية، اكتشفت المجموعة آليه لحدوث الشقيقة، وربما طريقة لعلاجها أيضاً، وهي مختلفة عن العائلة الوحيدة من الأدوية المستخدمة حالياً.

نسبة الحدوث الأعلى

عند النساء تشير إلى أن

هناك هرمونات معينة

قد تكون لها علاقة

بالتسبب في الشقيقة

وهذا أمر كنا بحاجة ماسة إليه؛ ﻷن التربتانات تصاحبها بعض المشكلات؛ فبسبب أنها تضيق الأوعية الدموية وتقلل إفراز الببتيد CGRP، فلا يمكنك تناولها إذا كان لديك تاريخ مرضي بالسكتة دماغية على سبيل المثال. وهناك أعراض جانبية، من ضمنها الغثيان، والإنهاك، وشد الرقبة والفك والصدر. وإضافة إلى ذلك، فإنها لا تكون فاعلة في الجميع؛ إذ تظهر الدراسات أن التربتانات فاعلة في إيقاف الألم خلال ساعتين في 42 إلى %76 من الأفراد، وحتى عندما تفعل، فإنها تؤثر فقط في الألم وليس على الأورة.

وبسبب أن الببتيد CGRP صار هدف العلاجات الجديدة، فإن الأبحاث الآن توصلت إلى أنواع مختلفة من الأدوية للشقيقة. وهذه الأدوية تحصر Block عمل الببتيد CGRP، ولكنها بخلاف التربتانات، فإنها لا تضيق الأوعية الدموية، ومن ثم يمكن أن توصف لعدد أكبر من الناس. وبعض هذه الأدوية عبارة عن أجسام مضادة وحيدة النسيلة Monocolonal antibodies، والتي تحقن في الجسم كل عدة أشهر للمساعدة على الوقاية من الشقيقة. فدواء الإرينوماب Erenumab هو أحد هذه الأدوية، وقد وجد في إحدى التجارب الإكلينيكية أنه يقلل عدد أيام الشقيقة التي يعانيها المتطوعون إلى النصف، وقد وافقت عليه إدارة الدواء والغذاء الأمريكية Food and Drug Administration (اختصاراً: الإدارة FDA) في 2018، وهذا الدواء هو أول دواء جديد للشقيقة منذ تسعينات القرن العشرين. وتبعته أدوية أخرى، وهناك المزيد لا يزال قيد المراجعة.

تقول هاي: «ما يدلنا عليه ذلك هو أننا وللمرة الأولى يمكننا علاج الشقيقة عند حدوثها، وكذلك الوقاية منها باستخدام نفس الآلية. دائماً ما كان الاعتقاد السائد أنهما آليتان مختلفتان. وهذا يشيير إلى أننا نستهدف جزءاً مهماً من آلية حدوث الشقيقة».

كما يعمل غوادسبي وزملاؤه على تطوير أدوية جديدة تستهدف الببتيد CGRP، تدعى أدوية جيبانت Gepants، والتي لا يتعين أن تُحقن. فهناك اثنان منها وافقت عليهما الإدارة FDA لعلاج الشقيقة الحادة، وهناك أدلة على أن أحدهما قد يكون نافعاً أيضاً في الوقاية من حدوث النوبة.

لنكن واقعيين 

ساعد اكتشاف آلية عمل الببتيد CGRP وتطوير أدوية جديدة خاصة بالشقيقة في تسليط الضوء على الشقيقة باعتبارها مرضاً عصبياً حقيقياً أيضاً. يقول إدفينسون: «والآن عندنا الآلية، وعندنا أدوية متخصصة، وهذا يحدث فرقاً. لا يمكنك الاعتراض على البيولوجيا».

وعلى الرغم من هذه التقدمات الكبيرة، فما زلنا لا نفهم ما الذي يسبب النوبة بالتحديد في المقام الأول. بكلمات أخرى، ما الذي يحفز العصب ثلاثي التوائم. والأورة التي يعانيها البعض تعطينا بعض التلميحات فيما يتعلق بالألم. وأظهرت دراسات تصوير الدماغ أن هناك موجات من التغييرات في نشاط الدماغ خلال الأورة، تبدأ من الفص القذالي Occipital lobe في مؤخر الرأس. وتشتغل الخلايا العصبية في البداية، ثم تتوقف، ثم يتكرر هذا النمط في الدماغ كله. وهذا يساعد على تفسير بعض الأعراض الشائعة للأورة، وهي الأضواء الساطعة؛ حيث يُظَنُّ أنها تنتج من اشتغال الخلايا العصبية في القشرة البصرية Visual cortex، وأما النقاط العمياء Blind spots؛ فتحدث على الأرجح عندما تتوقف الخلايا العصبية عن إطلاق الإشارات، بحسب ما يقول غوادسبي.

تشير الأبحاث الحالية إلى أن شيئاً ما في موجات النشاط هذه يحفز الخلايا العصبية المتحسسة للألم في الأغشية المحيطة في الدماغ، أو أنها تحفز العصب ثلاثي التوائم لإفراز الببتيد CGRP.

على الرغم من ذلك، فإن غوادسبي يظن أن الأورة والألم ظاهرتان مختلفتان، ويصدف أن هناك شيئاً مشتركاً في مرحلة البادرة يحفز كليهما. ويقول: «ليست الأورة هي ما يسبب الألم، بل هناك شيء آخر يسبب كليهما».

وهناك ألغاز أخرى غير محلولة أيضاً. أحد المواضيع الأبرز هي حقيقة أن الشقيقة تصيب النساء أكثر بكثير من الرجال. ويميل الناس إلى أن يختبروا أول نوبة شقيقة لهم حول فترة البلوغ، وتزداد النسبة خلال فترة البلوغ، قبل أن تنخفض بعد سن اليأس (انقطاع الطمث) Menopause. ويجد البعض أن الشقيقة تختفي خلال الحمل، أو تتزايد قبيل انقطاع الطمث Perimenopause، وهي المرحلة السابقة لمرحلة انقطاع الطمث. كل ذلك يشير إلى دور هرمونات معينة. يقول إدفينسون: «وجدنا أن للعصب ثلاثي التوائم مستقبلات للإستروجين والأوكسيتوسين». ومن ثم، فإن الهرمونات قد تؤثر في شعور الألم خلال الشقيقة، كما يقول. كما إنه من المعروف أن مستويات كلا الهرمونين تختلف خلال الدورة الشهرية، وتكون أكثر استقراراً عند الرجال.

وفي جامعة لايدن Leiden University في هولندا، تعمل غيسيلا تيرفيندت Gisela Terwindt في فريق يحاول فهم هذا الرابط في دراسة تنظر إلى مستويات عدد من الهرمونات الجنسية في عينات دم من متطوعات يعانين الشقيقة، ليروا إذا كانت تتناسب مع وقت نوبات الشقيقة أو أعراضها. كما أن الفريق يعطي المتطوعات حبوب تنظيم حمل تحتوي على إستروجين اصطناعي ليروا إن كان ذلك سيساعد على تخفيف الشقيقة، وهي طريقة يشيع استخدامها على الرغم من عدم كفاية الأدلة عليها. تقول تيرفيندت: «لا تخلو من الأعراض الجانبية، ولذلك نريد دليلاً واضحاً».

وهناك سؤال آخر ما زال من دون إجابة، وهو لماذا هناك الكثير من التباين في الأعراض بين الأشخاص المصابين بالشقيقة. عادة ما تبدأ الأورة عندي بأضواء ساطعة. أحد أصدقائي يرى الضوء على شكل خط متعرج خلال مرحلة الشقيقة، وبعض الناس يطورون نقاطاً عمياء، أو يكون يشعرون بالوخز.

تقول هاي: «يحتمل أننا نصنفها بشكل عام أكثر من اللازم، وأن هناك عدة أمراض مختلفة لم نستطع بعد تشخيصها. كما يحتمل أن يكون هناك تجميعات لجينات معينة تختلف باختلاف الشخص، وتتسبب في تجربة فردية لكل شخص».

قضت تيرفيندت جزءاً كبيراً من حياتها المهنية في محاولة فهم العوامل الجينية. وقد كانت جزءاً من فريق تعرف على أول الجينات التي رُبِطَت بالشقيقة الفالجية العائلية Familial hemiplegic migraine، وهو نوع فرعي من الشقيقة يظن أن له سبباً جينياً قوياً، وذلك في تسعينات القرن العشرين.

صداعات موروثة

ومنذ ذلك الحين، وتيرفيندت تبحث عن عوامل جينية قد تفسر الأنواع الأكثر شيوعاً في الشقيقة. ففي المحصلة، إذا كان أحد والدي الشخص أو كلاهما يعاني الشقيقة، فإن هناك احتمالاً بنسبة 50 إلى %75 أن يعانيها الشخص كذلك. وتقول: «نشرنا مؤخراً ورقة تقول إن هناك أكثر من 123 موقعا على الجينوم قد تكون لها علاقة بالتسبب بالشقيقة. الأمر معقد جداً».

وفوق ذلك كله، فنحن لم نجب بعد على أكبر الأسئلة: لماذا وكيف تبدأ الشقيقة في المقام الأول.

غالباً ما يكون عند الأشخاص الذين يعانون الشقيقة قائمة بالأشياء التي يبدو أنها تحفز ظهورها، وعادة ما يُنصَحون بوضع مذكرات للشقيقة حتى يتمكنوا من تتبع أي تغيرات في روتينهم اليومي، أو طعامهم، أو أي شيء يبدو أنه يحدث على نحو موثوق به قبل نوبة الشقيقة.

ولكن كيف يمكن لأمور من مثل الضغط النفسي، ونقص النوم، أو الوجبات السريعة المليئة بالجبنة أن توصل إلى نوبة الشقيقة؟ يعتقد بعض الباحثين أن لأدمغة المصابين بالشقيقة عتبة Threshold منخفضة للاستجابة للمحفزات، وأن هناك محفزات معينة يمكنها بشكل أو بآخر أن تحفّز النوبة، فتفعل النشاط العصبي الذي يقود للنوبة. وبالنظر إلى بعض العلامات المبكرة، كالتثاؤب والتعب، قد تكون هناك تغيرات ما في وطاء الدماغ Hypothalamus، المرتبط بهذه الأمور، وهو ما يحفز ظهور النوبة (انظر: كيف تبدأ الشقيقة). وبعض المحفزات الواضحة، كاشتهاء الطعام أو الأضواء الساطعة، قد تكون ببساطة نتيجة للنوبة الجارية وقتها. يقول غوادسبي: «إن كنت تعتقد أن الشوكولاتة تصيبك بالصداع، ولكن اشتهاء الشوكولاتة يبدأ في الواقع بمرحلة بادرة الشقيقة، فإن ذلك يعني أن تجنب الشوكولاتة لن يحدث أي فرق. ليس من المنطقي أن تعاقب نفسك بهذه الأشياء».

الأمر الواضح أنه، بوجود التباين الكبير في الشقيقة، فإن ما ينفع شخصاً ما لن ينفع بالضرورة الشخص الآخر. ووجدت بعض التجارب التي يأخذ الناس فيها جرعة يومية عالية من فيتامين بي 2 أن بعضهم، وليس جميعهم، يعانون نسبة أقل من الشقيقة. وقد انشتر خبر أحدهم في نوفمبر 2021 بأنه يبدو أنه عالج الشقيقة عنده بنظام غذائي ممتلئ بالخضراوات الورقية. ولكن هذا لا يعني أن الآخرين يجب أن يبدؤوا باستبدال الكرنب مكان دواء التربتان.

كما أنه من الواضح أن هناك حاجة ماسة إلى علاجات أكثر. حتى الآن، لا يوجد دواء واحد ينفع الجميع. كما أن العديد ممن يستفيدون بالفعل لا يزالون يعانون نوبات الشقيقة، حتى وإن كانت أقل من حيث العدد أو الشدة. تقول هاي: «يدلنا ذلك على أننا لما نفهم بعد هذا النظام فهماً كاملاً، أو أن هناك عوامل أخرى ذات صلة بالأمر».

حتى نصل إلى مرحلة نعرف فيها معظم هذه العوامل، فإن هناك أشياء يمكن للأطباء وأرباب العمل ومعظم الناس أن يقوموا بها لحياة أفضل للمصابين بالشقيقة. وإحدى الخطوات هي تحسين التعليم عند الأطباء. تقول هاي: «كمية التدريب الذي يحصل عليه مختصو العناية الصحية قليل جداً جداً». كما أنها من مشجعي تغيير اللغة المستخدمة في وصف الشقيقة، من أجل أن تصير متوافقة مع الطريقة التي نصف بها الأمراض العصبية الأخرى، فتقول: «أنت لست مصاباً بالشقيقة، بل أنت تعيش مع الشقيقة، وأحياناً تصاب بنوبة».

أعتبر نفسي محظوظاً؛ لأن الشقيقة عندي قلت من حيث التكرار والشدة منذ دخلت في ثلاثينات العمر، ربما بسبب التغييرات الهرمونية المصاحبة للحمل. وبسبب ميل الشقيقة إلى أن تحدث في أجيال العائلة، آمل بأن تنجح الضجة حول أبحاث الشقيقة الآن في ألاَّ يكون على صغيري المتذمر أن يختبئ تحت لحافه بعد عقد من الآن.

كيف تبدأ الشقيقة؟

يعتقد أن نوبات الشقيقة تبدأ في الوطاء Hypothalamus، وهو تركيب مخروطي الشكل في قاعدة الدماغ. وهذا بسبب أن الأعراض الأولى تتناسب مع وظائف معروفة للوطاء؛ فالتثاؤب، والتعب، وتقلب المزاج، وهي صفات شائعة لبداية الشقيقة، جميعها يتحكم فيها الوطاء.

ولا يزال الدور الدقيق الذي يؤديه في تحفيز نوبات الشقيقة غير واضح، ولكن يبدو أن هناك إشارة من نوع ما تتسبب في موجة من النشاط دماغي المضطرب. أظهرت مسوح الدماغ المجراة على المصابين بالشقيقة أن الموجة تبدأ من مؤخرة الدماغ، في الفص القذاليOccipital lobe، حيث تقع القشرة البصرية Visual cortex. وحقيقة أن الموجة تبدأ هناك يساعد على تفسير سبب معاناة عدد كبير من الأشخاص أعراضاً بصرية كجزء من أورة الشقيقة التي تأتي قبل الصداع غالباً.

يبدو أن موجة الاضطراب تنتشر من مؤخر الدماغ إلى الأمام. ويمكن للمسار Pathway الذي يسلكها الاضطراب أن يختلف، وهو ما قد يفسر سبب معاناة المصابين بالشقيقة مع الأورة مدى متنوعا من الأعراض. ويمكن للمسار المار بالنصف الأيسر من الدماغ أن يتسبب في معاناة البعض مشكلات في اللغة. والاضطراب الذي يصل إلى المناطق الحركية في مقدم الدماغ قد يتسبب في إحساس بثقل في الذراعين.

سبب الصداع في الشقيقة أقل وضوحاً، ولكن الكثير من الأبحاث الحديثة تشير إلى أن العصب ثلاثي التوائم Trigeminal nerve، والذي يؤثر في الرأس والوجه، يفرز إشارات كيميائية تسبب الألم (انظر: المقالة الرئيسية). ويعتقد أغلب الباحثين أن الأوعية الدموية تؤدي دوراً أيضاً.

بقلم جيسيكا هامزيلو
ترجمة د. عبد الرحمن سوالمة

 .2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC©

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى