أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
رياضيات

لطالما حيرت اللانهاية علماء الرياضيات – هل نجحنا أخيراً في حل اللغز؟

من المعروف في الرياضيات أن اللانهاية تأتي بعدة أحجام، ولكن ما علاقة هذه الأحجام ببعضها بعضا؟ نجد الإجابة في لغز عمره 150 عاما يعرف بفرضية الاستمرارية

قد تكون اللانهاية Infinity ∞ مبدأً يسهل استذكاره ولكنه صعب الفهم. فمن منا لم يتأمل ليلاً في السماء وتساءل عما إذا كان الفضاء غير منتهٍ في طبيعته؟ هل هو اتساع أبدي؟ هل هناك نقطة انتهاء؟ ماذا يعني الأمر إن لم يتوقف الاتساع؟
من وجهة نظر العقول المتخصصة بالرياضيات، فإن اللانهاية محيّرة أكثر من أي شيء بكثير. عرف علماء الرياضيات لأكثر من قرن أن اللانهاية ليست مجرد شيء واحد، بل هي أشياء متعددة إلى ما لانهاية. فهناك برج لا نهاية له من اللانهايات متزايدة الارتفاع نحو … حسنا، مهما كان ما ترغب أن تطلق عليه.
وجود برج اللانهايات Tower of infinities بحد ذاته ليس أعتى الألغاز. فعلى الرغم من أن وجود هذا البرج هو نتيجة منطقية للرياضيات كما نعرفها، فإن الرياضيات نفسها عجزت عن وصف هذا البرج بمجمله. أزل الجص بمطرقةٍ على الجص لتكشف عن هيكل البرج تحت الجص، وسترى أن الدعامات الأساسية التي تحمل وزن الهيكل مفقودة في الطوابق السفلية؛ مما يشير إلى أن أسس الرياضيات نفسها غير مستقرة.
لطالما تجادل علماء الرياضيات حول أفضل السبل لدعم برج اللانهايات. ويقول البعض إنه يجب علينا أن نترك البرج لحاله ونأمل بالأفضل. اقترح آخرون إصلاحات، لكنها اعتبرت مكلفة، وآيلة للفشل، أو تختلف مع الفهم الأساسي للبرج. ولم يتوصّل أحد بعد إلى حل لهذا! ربما باستثناء ما تحقق الآن. بعد عقود من الجمود الظاهري، يبدو أنه تم إحراز تقدم جاد في الإجابة عن هذا السؤال المحير الذي يكمن في لبّ ذلك كله: يكمن في نظرية حدسية غير مثبتة عمرها 150 عاماً تُعرف بفرضية الاستمرارية (الاتصالية) Continuum hypothesis.

 

لطالما تجادل علماء الرياضيات حول أفضل السبل لدعم برج اللانهايات

 

ربما فكر الإنسان في السرمدي Unending لمعظم وجودنا. تقول فيرا فيشر Vera Fischer من جامعة فيينا University of Vienna في النمسا: «إن اللانهاية هي مفهوم طبيعي جدا». اعتقد علماء الرياضيات من اتباع الفلسفة الجينية Jain في الهند في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد أن اللانهايات توجد بأكثر من حجم واحد. ولكن لم يتشكل فهمنا للطبيعة المراوغة للانهاية إلاّ في القرن التاسع عشر مع عالم الرياضيات جورج كانتورGeorg Cantor.
لفهم عملية تفكيره، تخيلْ رسم خط عددي Number line. أول الأرقام التي ستضيفها ستكون الأعداد الطبيعية Natural numbers – وهي أرقام العد 1، 2، 3 وهلم جرا. على الرغم من أن عبارة «وهلم جرا» ليست عبارة دقيقة رياضياتيا، فإنها تعني أنه يمكنك متابعة عملية العد إلى الأبد. لن تنفد الأعداد الطبيعية أبداً؛ لأن عددها لانهائي.
لكن، هنا تبدأ الغرابة. فكر الآن في الأعداد الزوجية: 2، 4، 6 وهكذا. حدسياً، قد تقول إن هناك أعداداً زوجية أقل من الأعداد الطبيعية – ربما نصف عددها. ولكن عبارة «وهلم جرا» تشير إلى عدم وجود نقطة نهاية لها أيضاً. في الواقع، يمكنك إقران كل عدد طبيعي بعدد زوجي والعكس صحيح – (1،2)، (2، 4)، (3، 6) وهكذا. لذلك يجب أن يتوفر لدينا «المقدار» نفسه من هاتين المجموعتين اللانهائيتين من الأعداد – أي إن لها الحجم نفسه. هذا الحجم يكتب 0ℵ (تنطق ألف-صفر Aleph-null) ويقال إن هذه المجموعات هي مجموعات لانهائية قابلة للعدّ Countably.
هناك الكثير من مجموعات الأعداد القابلة للعدّ. منها مثلاً الأعداد الصحيحة Integers، التي تتكون من الأعداد الطبيعية، وكذلك صفر وجميع الأعداد الطبيعية السالبة هي بدورها قابلة للعدّ. قد يدهشك أن الكسور Fractions أيضاً قابلة للعدّ. وبالطبع هناك الكثير من الكسور، لكن كانتور استخدم حيلة حذقة لإثبات أنه من الممكن أن تُقرن بشكل مثالي بالأعداد الطبيعية: وبذا هي أيضاً لانهائية.

نحو غير المعدود
ومع ذلك، فإن هذا التفكير لا يستنفد جميع الأعداد التي قد تعتقد أنها متراصة على طول خط الأعداد. الأعداد مثل π و 2√ لا يمكن كتابتها على شكل كسور، وعند كتابتها بالنظام العشري تستمر إلى الأبد بعد الفاصلة من دون أي نمط متكرر في توالي الأعداد. أضف هذه الأعداد غير المنطقية إلى مجموعة جميع الأعداد التي تمت مناقشتها بالفعل، وسيكون لديك ما يسمى مجموعة الأعداد الحقيقية Real numbers، أو المتصلة Continuum.
تساءل كانتور عما إذا كانت الأعداد الحقيقية -مثل الكسور Fractions- أيضا لانهائية قابلة للعد، لكن اتضح أنها ليست كذلك. مهما كانت طريقة اقتران الأعداد الحقيقية بالأعداد القابلة للعد، سيكون هناك عدد حقيقي قد فاتك. إذ يقول رالف شندلر Ralf Schindler من جامعة مونستر University of Münsterفي ألمانيا: «اكتشف كانتور أن هناك أعداداً حقيقية أكثر بكثير من الأعداد الطبيعية». كما اكتشف كانتور أن اللانهاية تأتي بأحجام مختلفة. وكانت اللانهاية القابلة للعد هي الأصغر، لكن هناك أيضا لانهاية «متصلة» أكبر منها.
غير أن الموضوع كان أعقد من ذلك. إذا أخذت أي مجموعة من الأعداد، فهناك مجموعة أخرى تحتوي على كل مجموعة محتملة من العناصر في المجموعة الأصلية. واكتشف كانتور أن «مجموعة الأسس» Power set هذه المشيرة إلى مجموعة لانهائية هي مجموعة لا نهائية بحد ذاتها، أي أكبر حجما. نظراً لأنه يمكنك تكرار هذه العملية، بأخذ مجموعة الأسس لمجموعة أسس أخرى إلى مالانهاية ad infinitum، فقد وجد منهجا لإنتاج سلم لامنته من اللانهايات.
أثار هذا الاكتشاف مزيدا من الأسئلة. فكما يقول شندلر: «بمجرد أن تكتشف شيئاً كهذا، تريد رسم خريطة لأنواع مختلفة من اللانهاية». وأدرك كانتور أن المجموعات القابلة للعد هي أصغر اللانهايات، ولكن هل كانت اللانهاية المتصلة هي المستوى التالي؟ يُرمز إلى هذه اللانهاية بـ 1 ℵ، أو ألف-واحد Aleph-one، واعتقد كانتور أنها هي نفسها اللانهاية المتصلة. وعرف هذا التأكيد باسم فرضية الاستمرارية، لكن لم يتكمن كانتور قطُّ من إثباتها.
بل لم يتمكن أحد غيره من إثبات الفرضية. ولدت الفرضية نحو عام 1878. بعد 22 عاماً، وفي عام 1900، وضع عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت David Hilbert مسألة إثبات أو دحض فرضية الاستمرارية على قائمته التي تضم 23 مسألة يجب على علماء الرياضيات حلها في القرن العشرين. والآن، بعد مرور 22 عاماً على بداية القرن الحادي والعشرين، ما زالت المسألة دون حل.
في منتصف القرن العشرين دخل عامل جديد بعين الاعتبار. وعندما كتب هيلبرت قائمته، اعتقد علماء الرياضيات أن الحدس المنطقي Logical conjecture، إذا تم بناؤه بشكل صارم على بديهيات Axioms منطقية قوية ومتفق عليها، فبإمكانه أن يكون إما صحيحاً أو خاطئاً. غير أن ذلك تغير في عام 1931، عندما طوّر كورت غودل Kurt Gödel مبرهناته لعدم الاكتمال Incompleteness theorems الشهيرة. أظهرت هذه المبرهنات أن هناك خيارا ثالثا: بدلاً من أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، يمكن أن يكون الحدس «غير قابل للتقرير» Undecidable. وحتى لو بدأت بالافتراضات الصحيحة، في شكل بديهيات منطقية، ومررت بالسلاسل المنطقية مما تضمنه الحدس، فهناك بعض الأشياء التي لا يمكن إثباتها بطريقة أو بأخرى.
في عام 1940 قدم غودل الدليل الأول على أن فرضية الاستمرارية قد تنتمي إلى هذه المجموعة من الحدس. اتخذ الخطوة الأولى بنفسه من خلال إثبات أن الرياضيات كما هي لم تكن قوية بما يكفي لدحض الفرضية: لا يمكنها القول بشكل قاطع إن السلسلة المتصلة لم تكن بحجم 1 ℵ. وفي عام 1963، ضرب عالم الرياضيات بول كوهين Paul Cohen ما بدا كضربة قاضية، إذ أظهر أن الرياضيات لم تكن قوية بما يكفي لإثبات أنها كانت بالحجم نفسه أيضاً. أي لم تكن فرضية الاستمرارية صحيحة ولا خاطئة.
انتهى النقاش؟ بالطبع لا! إن عدم قدرة الرياضيات على إجابة ما يبدو كسؤال بسيط كان كافياً لإقناع العديد بأن الرياضيات المستخدمة هي نفسها المشكلة. كما يقول شندلر، إذا كانت اللانهاية موجودة خارج مجال الرياضيات، فيجب أن تكون فرضية الاستمرارية قابلة للحل بطريقة أو بأخرى، حتى ولو لم نتمكن من حل المسألة بعد. يشكك البعض في هذا الافتراض الأساسي Premise، لكن هذا لا يعني أن تقوية الأسس المنطقية للرياضيات لن يمكننا من الإجابة عن فرضية الاستمرارية.
يعمل معظم علماء الرياضيات بعيداً بما يكفي عن الأسس الرياضية بحيث لا يقلقون كثيراً بشأن ما يجري تحت الأرض. ولكن ابحث قليلاً وستجد مجموعة من البديهيات المنطقية التي تقوم عليها نظرية المجموعات. تعرف مجموعة البديهيات هذه بالبديهيات ZFC (اختصارا: فرضية زيرميلو-فرانكل مع بديهية الاختيار Zermelo-Fraenkel Choice). فهذه المجموعة تحوي افتراضات Assumptions أساسية جداً حول المجموعات الرياضية، مثل البديهية القائلة إن أي مجموعتين تكونان متساويتين في الحجم إذا كانتا تحتويان على العناصر نفسها.
يقول ديفيد أسبيرو David AsperÓ من جامعة إيست آنغليا University of East Anglia بالمملكة المتحدة: «يمكن بناء كل شيء في الرياضيات باستخدام المجموعات، والبديهيات ZFC قوية بما يكفي لتمكنك من القيام بمعظم الأشياء التي يهتم بها علماء الرياضيات». وتغطي البديهيات ZFC كل شيء من بناء الأعداد الحقيقية إلى بناء نظرية شاملة لأساليب الحساب Theory of arithmetic. كان التخمين هو أن هذه الأساسات لم تكن قوية بما يكفي لتحمل الوزن الكامل لبرج اللانهايات.
أتى أول المقترحات لبديهية داعمة جديدة من تقنية تسمى الإجبار Forcing، قدمها كوهين في الستينات من القرن العشرين. بشكل عام، بدأ كوهين بمجموعة من الأعداد الحقيقية من حجم 1 ℵ – دون افتراض أن هذا الحجم يعادل اللانهاية المتصلة أم لا – ثم استخدم هذه التقنية لحشر المزيد من الأعداد في المجموعة. وكان الإجبار أداة قوية جداً لبناء مجموعات رياضية جديدة مثيرة للاهتمام. لكن اتضح أنك قد تنتهي بأعداد حقيقية على أي مستوى من اللانهايات – ليس فقط ℵ1 أو ℵ2، ولكن حتى ℵ 42 أو أي مستوى آخر. فقد كانت التقنية قوية لدرجة لا تمكننا من التوصل إلى أي شيء مفيد حول مكمن اللانهاية المتصلة.
بدت الإجابة ممكنة من خلال تقييد ما يمكن أن يفعله الإجبار. في عام 1988 اقترح علماء الرياضيات مناحيم ماغيدور Menachem Magidor وماثيو فورمان Matthew Foreman وساهارون شيلاح Saharon Shelah بديهية تسمى «حد مارتن الأقصى» Martin’s maximum، على اسم العالم النظري دونالد مارتنDonald Martin. تمكنت هذه البديهية من تقييد الإجبار. وأعطت أخيراً إجابة لفرضية الاستمرارية: وهي أن الاستمرارية فرضية خاطئة. إن اللانهاية المتصلة ليست من حجم ℵ1، بل ℵ2؛ مما يشير إلى وجود مستوى لانهائي يقع بين القابل للعد والمتصل. بعد عقد من الزمن، في عام 1999، اقترح هيو وودن Hugh Woodin -الذي كان يعمل وقتها في جامعة كاليفورنيا بيركلي University of California, Berkeley- تقنية أخرى تسمى (*) وتنطق «ستار» [نجمة]. مثل الإجبار، سمحت تقنية النجمة أيضاً ببناء الأشياء الرياضياتية، ولكن بطريقة مختلفة قليلاً. هذه التقنية أيضاً اعتبرت أن فرضية الاستمرارية خاطئة، وأن اللانهاية المتصلة تكمن في المستوى الثالث، ℵ2.

مستوى جديد من اللانهاية؟
لا يوجد مثال سهل وبديهي لما قد يقع بين القابل للعد والمتصل، ولكن هناك بعض التركيبات المعقدة التي نعرف أنها تنفع بغض النظر عما إذا كانت ℵ1 واللانهاية المتصلة هي نفس الكيان أم لا. فجوة هاوسدورف Hausdorff gap، على سبيل المثال، عبارة عن مجموعة تتضمن متواليات من الأعداد، حجم هذه الفجوة هو ℵ1 بغض النظر عن حجم اللانهاية المتصلة.
على الرغم من ذلك، ومع وجود طريقتين متنافستين لتقوية أسس الرياضيات (حد مارتن الأقصى، و(*))، كلتاهما تعطيان الإجابة نفسها لفرضية الاستمرارية، قد تعتقد أن اللعبة انتهت. ولكن بعد ذلك جاء منعطف آخر يمكن أن يفسر -ببعض المرونة- بأن وودن غيّر رأيه. تعد كل من البديهية (*) وحد مارتن الأقصى من البديهيات التي تساعد علماء الرياضيات على بناء مجموعات لا نهائية من الأسفل إلى الأعلى. بدلاً من ذلك، بدأ وودن في الدعوة إلى رؤية من الأعلى إلى الأسفل أطلق عليها اسم اللام القصوى Ultimate L. فكرة اللام القصوى مستوحاة من فكرة اقترحها غودل، وهي مشابهة لبناء غرفة مراقبة مرتفعة في برج اللانهايات لمساعدتك على رؤية ما يجري في الأسفل. ومن هذا المنظور العلوي، تصل اللام النهائية إلى الاستنتاج المعاكس للاستنتاج الأول – وهو رأي يذهب إلى أن فرضية الاستمرارية فرضية صحيحة.
تصاعدياً أم تنازلياً؟ حد مارتن الأقصى؟ البديهية (*)؟ أم اللام النهائية؟ لكل من هذه الأساليب مزاياه وعيوبه، والأمر منوط بمؤيد فكرة معينة للدفاع عنها عبر البرهان الرياضياتي، وقد حدث تقدم في النقاش مؤخراً. ففي العام 2021، أثبت آسبيرو وشندلر أنه إذا كنت من مؤيدي التصاعد، فلا داعي للاختيار بين حد مارتن الأقصى والبديهية (*). فمع بعض التعديلات الفنية، إذا اخترت حد مارتن الأقصى كبديهيتك الداعمة، فهذا يعني أن البديهية (*) هي تقنية مقبولة أيضاً.
استغرق الدليل نحو عقد من الزمن لاستكماله. أتى أسبيرو وشندلر بالفكرة في عام 2011، ولكن بعد نشر أعمالهما لأول مرة، اكتشف وودن خطأً فيها. ومع ذلك، فقد هز البرهان المنقّح مجال الرياضيات بالتأكيد. فهذا البرهان المنقح لا يدمج بين مقاربتين بشكل مقنع، بل لما كانت المقاربتان متشابكتين إحداهما بالأخرى لهذه الدرجة فإن البعض يرى في ذلك دليلا على أن هذه هي الإجابة الصحيحة – وأن حدس كانتور كان مخطئا في نهاية المطاف. وعندما نشر الدليل المنقح قالت جولييت كينيدي Juliette Kennedy من جامعة هلسنكي University of Helsinki بفنلندا لمجلة كوانتا Quanta magazine: «إنه من أكثر الأشياء إثارة من الناحية الفكرية، ومن أكبر الأحداث في تاريخ الرياضيات».
ويقول وودن: «إنه أمر رائع! عادةً، عندما يصل منطقان مختلفان تماماً إلى الاستنتاج نفسه، فإن ذلك يعتبر دليلاً على صحة الاستنتاج». فعلى الرغم من ذلك، ما زال وودن غير مقتنع، ويعتقد أن اللام النهائية هي طريقة أفضل للمضي قدماً. لكن نهجه لا يزال عالقاً في التفاصيل. منذ أن اقترح الفكرة في عام 2010، لم يتوصل بعد إلى الدليل على أن اللام النهائية تعمل حقاً كما يعتقد. يقول: «أنا متفائل بأن الدليل قريب. المشكلة هي أن علماء الرياضيات سئموا جداً من قولي. فمازلت متفائلا منذ سنوات عديدة».
تبدو الإجابة عن فرضية الاستمرارية وأفضل طريقة لترسيخ أسس الرياضيات أقرب من أي وقت مضى. ولكن قد يكون هذا الرأي مجرد وهم. فاللانهاية ما زالت كما عهدناها: لا نهاية لها.

اقتران نسبي
من الواضح أن الأعداد القابلة للعد (1، 2، 3 وما إلى ذلك) والأعداد النسبية Rational numbers (الكسور) هي مجموعتان لامتناهيتان، لكن هل لهما الحجم نفسه؟ بما أن كل عدد قابل للعد هو أيضاً عدد نسبي (1، 2، 3… هي نفسها 1/1، 2/1، 3/1 …)، يجب أن تكون مجموعة الأعداد القابلة للعد إما أصغر من مجموعة النسبيات أو مساوية لها حجماً.
عندما كان يدرس اللانهايات في القرن التاسع عشر، توصل جورج كانتور إلى طريقة ذكية لإثبات أن العكس صحيح أيضاً: فمجموعة النسبيات هي إما أصغر من أو مساوية في الحجم لمجموعة الأعداد القابلة للعد. نظراً لأن كلتا العبارتين صحيحتان، فهذا يعني – في الواقع- أن المجموعتين لهما الحجم نفسه.
لفهم حيلة كانتور، تخيل أولاً إنشاء جدول يتكون من كسور، حيث يُعطى البسط الرقم الموازي له في الصف العلوي، ويُعطى المقام الرقم الموازي له في العمود اليساري. يتضمن هذا الجدول كل كسر ممكن. وقد يوجد البعض هناك أكثر من مرة – على سبيل المثال، 1/2 و2/4 و3/6 وما إلى ذلك كلها في الحقيقة الكسر نفسه – لكن الشيء المهم هو أننا شملناها جميعاً.

جدول أبدي
حجم المجموعة الجدولية هو حجم الأعداد النسبية الموجبة، ويمكن إقران الجدول مع مجموعة الأعداد القابلة للعد من خلال السير في نمط قطري كما هو موضح في الصورة وإقران كل عدد نسبي بعدد قابل للعد بالترتيب. ينتج هذا الأزواج:
(1 /1, 1)
(2 /1, 2)
(1 /2, 3)
(1 /3, 4)
وهكذا، ويمكن أن تستمر العملية إلى الأبد. يجب التحقق من بعض الشروط الفنية، ولكن هذا يوضح بشكل أساسي أنه يمكن إقران كل رقم نسبي بشكل تام برقم معدود – ومن ثم فإن المجموعتين لهما الحجم نفسه. تفسر هذه الحجة الأعداد النسبية الإيجابية فقط، ولكن مع بعض التعديلات، يمكنها أيضاً أن تكتسح البقية بسهولة.

هل اللانهاية موجودة؟
الرياضيات تحتاج إلى مفهوم اللانهاية. يستخدمها اثنان من أكثر الفروع المفيدة عملياً في الرياضيات: علم المثلثات وعلم الحسبان (التفاضل والتكامل)، ولكنها تستخدم اللانهاية بطريقة تجعلها بعيدة عن العالم الحقيقي. نحتاج اللانهايات المتضمنة لتحديد المسار الأمثل لصاروخ معين، ولكن لن يقترب طول المسار ولا السرعة أو أي كمية قابلة للقياس عملياً من اللانهاية. نظرياً، اللانهاية مفيدة، لكن هل هي موجودة بالفعل في العالم المحسوس؟
في العديد من نظريات الفيزياء، يعتبر ظهور اللانهايات علامة على الغموض. مثلاً، في معادلات آينشتاين للنسبية العامة، يشير «الحدث المنفرد» Singularity في مركز ثقب أسود إلى نقطة ملتوية بشكل لا نهائي في الزمكان Space-time. وبالمثل، أعد عقارب ساعة كوننا المتوسع ومطردا في تبريده إلى ما يقارب 13.8 بليون سنة، حتى سنصل إلى نقطة الانفجار الكبير Big bang، أي حيث من المفروض أن تكون نقطة لامتناهية الكثافة والحرارة. ومع ذلك، نحن نعلم أن النسبية العامة تنهار عندما نصل إلى هذه المقاييس الصغيرة القصوى حيث تنطبق نظرية الكم Quantum theory. يبدو أن اللانهايات هي نقطة هز الكتفين في الرياضيات، كأنها تقول: آسفة، لا أعرف ماذا يدور هنا.
ونظريات المجال الكمّيّ -التي يقوم عليها النموذج القياسي (المعياري) لفيزياء الجسيمات Standard model of particle physics – تقدم مثالاً آخر. وكانت هذه النظريات مليئة بالتنبؤات غير المنطقية، منها على سبيل المثال أن كتلة وشحنة الإلكترون لانهائيتان. وبمرور الوقت، تمكن الفيزيائيون من إزالة العديد من هذه اللانهايات، وأتوا بالنموذج القياسي الناجح حتى اليوم. وإذا كان من الممكن في يوم من الأيام توحيد النموذج القياسي مع النسبية العامة لإعطاء صورة كاملة للكون، فقد تختفي اللانهايات تماماً – أو ربما لا تختفي بالطبع.

المعدود غير القابل للعد
الأعداد الحقيقية (كل عدد يمكن التعبير عنه في صورة عدد عشري) ليست مجموعة قابلة للعد. هذا يعني أنه حتى إذا قرنت الأرقام الحقيقية بالأرقام القابلة للعد، فسيتبقى جزء من الأعداد العشرية لم تحصره.
كيف نستدل على هذه الحقيقة؟ أولاً، تخيل إنشاء جدول به جميع الأعداد القابلة للعد، 1، 2، 3، 4 وما إلى ذلك حتى اللانهاية القابلة للعد، وقرنها بعمود ثان مع أي عدد حقيقي -تم اختياره عشوائياً- بعدد لانهائي من المنازل العشرية.
الآن قم بإنشاء عدد جديد. ابحث عن عددك الأول بإضافة 1 إلى العدد الأول من أول عدد حقيقي في عمودك، والثاني عن طريق إضافة 1 إلى العدد الثاني من العدد الحقيقي الثاني وهكذا. إليك بمثال:
1) 3.153778425…
2) 0.736785323…
3) 7.270286930…
4) 42.34603146…
العدد الجديد هو…. 4.885
تنتهي هذه العملية بعدد حقيقي جديد يحتوي على عدد لانهائي من المنازل العشرية، كما يختلف بمنزلة واحدة على الأقل من كل عدد في المجموعة الأولى (اللانهائية بحد ذاتها). لذلك، فإن العدد الجديد لا يمكن أن يكون موجوداً سابقا في المجموعة الأولى، وهو موطن الحبكة. يكشف هذا الجواب عن تناقض: لم يكن كل عدد حقيقي ممثلاً في القائمة الأصلية والمقترنة بجميع الأرقام القابلة للعد. لذلك، هاتان المجموعتان ليس لهما الحجم نفسه: أي إن حجم مجموعة الأعداد الحقيقية أكبر من حجم مجموعة الأعداد القابلة للعد.

بقلم: تيموثي ريفل

ترجمة: عبدالوهاب أحمد الحجي

© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى