أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء

كارلو روفيلي متحدثاً عن عالم ميكانيكا الكم العلائقية المذهل

يشرح الفيزيائي كارلو روفيلي مبادئ ميكانيكا الكم العلائقية الغريبة -والتي تقول إن الأجسام لا توجد مستقلة- وكيف يمكن أن تطلق العنان لتقدم كبير في الفيزياء الأساسية

يقف كارلو روفيلي Carlo Rovelli أمام سقيفة متطايرة، حيث تتدلى أجزاء من جدرانها ومحتوياتها المبعثرة التي تضم أجزاء من دراجة أطفال ثلاثية العجلات، ومشغل أسطوانات، وصندوق ويلينغتون ممزق Wellington boot، في الهواء خلفه. لقد أتيت لألتقي الفيزيائي والكاتب صاحب أفضل المبيعات في معرض تيت بريتين للفنون Tate Britain art gallery في لندن. وقد كانت الأجسام المبعثرة هي أعمال لكورنيليا باركر Cornelia Parker، أحد أكثر فناني المملكة المتحدة المعاصرين شهرة، والمعروفة بتركيباتها كبيرة الحجم التي تعيد بها تشكيل أشياء من حياتنا اليومية.

ميكانيكا الكم العلائقية: الأجسام لا توجد مستقلة عن بعضها بعضاً

 

بالنسبة لروفيلي، المقيم في جامعة إيكس مرسيليا Aix-Marseille University في فرنسا، أعمال باركر مهمة جداً، فهي تعكس رأيه في طبيعة الواقع، فهو يقول لي: «أنا على تواصل مع الطريقة: ابتداءً من خروجها بالفكرة، وإنتاجها، ونقلها لنا، وفي النهاية كيف نتفاعل مع الفكرة»، ويتابع، «إننا لا نفهم أعمال كورنيليا باركر بمجرد النظر إليها، ولا نفهم الواقع بمجرد النظر إلى الأشياء».

روفيلي هو أحد المدافعين عن فكرة تُسمى ميكانيكا الكم العلائقية Relational quantum mechanics، وخلاصتها هي أن الأجسام لا توجد مستقلة عن بعضها بعضاً. وهو مبدأ يستعصي على سهولة الفهم، لذا يبدو معرض باركر ذو الواقع المتحدي للواقع جواً مساعداً لخوض حوار حوله -وحول ما يُعد له روفيلي أيضاً. وقد كان من الصدف السعيدة أن تُسمى سقيفة باركر بالمادة المعتمة الباردة Cold Dark Matter، في إشارة إلى المواد غير المعروفة بعد والتي تؤلف معظم الكون. وذلك لأن روفيلي يعتقد أخيراً بأنه يعرف الكيفية التي يمكننا بها تحديد الطبيعة الحقيقية للمادة المعتمة Dark matter.

تعد المشكلات التي يحاول فيزيائيون كروفيلي التصدي لها بعضاً من أعمق مشكلات العلوم. وأحد الأمثلة عليها الألغاز المتعلقة بالنظرية الكمية Quantum theory، دليلنا الأفضل إلى العالم دون الذري subatomic world. فهي ترسم الجسيمات على أنها تشغل حالات ممكنة متعددة في الوقت ذاته قبل أن تتفاعل مع الأشياء الأخرى. فكيف يمكن فهم ذلك؟ كما أنه من الصعب رؤية كيف تتوافق النظرية الكمية مع النسبية العامة General relativity، وهي نظرية ألبرت أينشتاين في الجاذبية لأن النظريتين تتطلبان أطراً رياضية لا تتوافق مع بعضها بعضاً لوصف الواقع.

شكل روفيلي أحدث آرائه حول كيفية حل مثل هذه المشكلات حين بدأ بشرح رحلة عام 1925 للفيزيائي النظري فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg لجزيرة هيلغولاند Helgoland التندرية الصغيرة في بحر الشمال. فهناك كرس نفسه لحل التشويش الذي أحدثه توصيف معاصره إرفين شرودينغر Erwin Schrödinger للأجسام الكمومية كالإلكترونات Electrons والنيوترونات Neutrons وفوتونات الضوء photons وغيرها كموجات تظهر نفسها لنا بطريقة ما على أنها جسيمات. كان نهج هايزنبيرغ رياضيّاً بحتاً وأحجم عن إسناد أي توصيف فيزيائي لأي كيانات فردية.

ميكانيكا الكم العلائقية Relational quantum mechanics

روفيلي معجب بهذا النهج ويستند إليه في كتابه الأخير هيلغولاند Helgoland ليستخلص في نهاية المطاف نتيجة صارخة: فعلى حد قوله لا واقع مستقل للأجسام الكمومية. وعوضاً عن ذلك، توجد كعلاقات فقط.

وفي المزيد من الشرح، ونحن نقف في المعرض وأجسام باركر المتطايرة تلوح فوقنا، يقول روفيلي: «لقد اكتشفنا أنه لا وجود للجسيمات في لب الواقع الفيزيائي، فكل جسم يُعرَّف بالطريقة التي يتفاعل بها مع شيء آخر. لذا حين لا يتفاعل الجسم، لا يكون له وجود. فالجسم هو مجموع الطرق التي يؤثر بها على الأجسام الأخرى من حوله -أي أن جسم ما يوجد منعكساً في كل شي آخر».

لا يمكن اختبار هذه المزاعم، لكن ذلك لا يزعج روفيلي. ويقول: «لا يدور العلم حول أشياء يمكن اختبارها مباشرة فقط، فهو أيضاً يهتم بإيجاد البنية المفاهيمية الصحيحة Right conceptual structure، أي تلك التي يمكن أن تعمل». بمعنى آخر، يعتقد روفيلي أنك حتى لو لم تكن تستطيع معرفة أن مفتاحاً ما سيفتح قفلاً من مجرد النظر إليه، سيُفتح الباب إن كان المفتاح صحيحاً. وبرأيه، يمكن لطريقة التفكير العلائقية أن تحل ألغاز الكون وربما توحد في نهاية المطاف النظرية الكمية مع الجاذبية. ويوضح: «إن عملي الأساسي هو فهم الجاذبية الكمية: الجوانب الكمية للمكان والزمان. وأعتقد أن الطريقة العلائقية لفهم ميكانيكا الكم ستكون أكثر جدوى بكثير».

ما محل المادة المظلمة هنا إذاً؟ سيكون إلقاء الضوء على ذلك ممكناً بتطبيق الأفكار العلائقية على الثقوب السوداء Black holes وفقاً لروفيلي. ففي السبعينات من القرن الماضي، بيّن ستيفن هوكينغ Stephen Hawking أن الثقب الأسود يصدر الضوء بروية، فاقداً الكتلة بذلك ليختفي من الكون في نهاية المطاف. وخلاصة ذلك، أن كل ما ابتلعه على الإطلاق عليه أن يختفي أيضاً، بما في ذلك المعلومات التي تحملها هذه الأجسام أيضاً. وبما أن القوانين الكمية لا تسمح باختفاء المعلومات من الكون، أطلق العلماء على ذلك اسماً معبراً وهو مفارقة معلومات الثقب الأسود Black hole information paradox. وقد دارت جدالات نارية حول ما يحدث بالضبط وما تخبرنا به المفارقة حول القوانين العميقة التي تحكم الفيزياء.

رسوم: TJ Barnwell

يرى روفيلي أن ميكانيكا الكم العلائقية يمكن أن تقودنا نحو إجابة ما، ويقول: «آمل أنه بتفكيرنا بميكانيكا الكم بهذه الطريقة العلائقية، يمكن أن نحصل على فهم لما يحدث في الثقوب السوداء»، ويشكك في إمكانية أن تتطور مخلفات الثقب الأسود التي يُعتقد أنها تتبقى بعد انتهاء عملية تبخر هوكينغ Hawking evaporation إلى شيء يشبه المادة المظلمة. وهو بعيد كل البعد عن اليقين بنجاح ذلك، لكن لا بأس بذلك أيضاً، ويستطرد: «لا يكون العالم الجيد متأكداً أبداً».

التقدم في ميكانيكا الكم

حتى لو لم يكن روفيلي مكترثاً باحتمال كونه مخطئاً، لكن لديه تفاؤل هادئ حيال مستقبل الفيزياء، على الرغم من الأصوات التي تقول بأن هذا التخصص قد اصطدم بجدران قاسية. صحيحٌ أن السعي لاصطياد المادة المعتمة قد بلغ عمره قرناً من الإخفاق تقريباً، وأن الشكوك حول معنى ميكانيكا الكم تجاوز امتدادها القرن، إضافة إلى بضع عقود عديمة الجدوى بحثاً عن نظرية جاذبية كمومية Quantum gravity theory قابلة للتطبيق، لكن الفيزياء ليست في مأزق وفقاً لروفيلي، الذي يفسر ذلك بالقول: «إننا ننجز تقدماً هائلاً. لقد تعلمنا الكثير من الحقائق التجريبية -على سبيل المثال لا وجود اليوم للتناظر الفائق Supersymmetry».

يرى روفيلي أن التناظر الفائق -الفرضية التي تقول أن علينا الكشف عن مجموعة الجسيمات التي تعكس (تُناظر) الجسيمات التي نعرفها مسبقاً- ستمثل مأزقاً لبعض نظريات الجاذبية الكمية. وبالنسبة له، كانت حقيقة عدم ظهور جسيمات التناظر الفائق في مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider، والتي تنبأ بوجودها البعض، مصدر بهجة لا أسى. فهي بنظره «إشارة جيدة من الطبيعة تقول «جيد، لديكم الحدس السليم، امضوا في طريقكم».

بالتجول في رحاب المعرض، قابلنا المزيد من أعمال باركر: حلقات لمعدات نحاسية معلقة في الهواء على أسلاك دقيقة، وكل منها مسوىً بواسطة مدحلة. إلا أن الطريقة التي أُضيئت بها هذه الأشياء جعلتها تلقي ظلالاً بأشكال مألوفة على الجدران: يكفي أن تنظر إلى هذه الظلال ولن تعلم أن هذه المعدات محطمة. تبدو هذه الغرفة ذات المنظورات المربكة والمضللة وكأنها المكان المناسب لمناقشة الرؤية الأوسع لما يمكننا معرفته وما لا يمكننا معرفته عن كوننا، لذلك سألت روفيلي عما إذا كنا سنعيش لنرى وصفاً كاملاً لجوهر الواقع.

يرى روفيلي هذا السؤال باهتاً، ويجيب: «لا أعتقد أنه من المعقول الظن بأن هناك واقع مطلق. فالغابة التي تُشاهد عن بعد لا تكون سوى لوناً أخضر مخمليّاً، لكن حين تقترب، وترى الأشجار: ستكون حينها حقيقة. وحينها ستشاهد أن الجذع حقيقي، وسترى أن ذرات الجذع حقيقية. والواقع هو مجموع كل هذه الأشياء: فهي كلها حقيقية، وكل ما في الأمر هو أن نفهم بطريقة أفضل فأفضل فأفضل. علينا أن نتخلص من العقلية التي تنص على أن الواقع المطلق Ultimate reality هو مادة أو لغة أو عقيدة أو عقل أو روح».

لا يبالي روفيلي بالبحث عن نظرية نهائية. ويقول: «لا يجب أن نبحث عن النظرية المطلقة، بل علينا أن نبحث عن حل لكل معضلة على حدة، مثلاً نحن لا نفهم الخصائص الكمية Quantum properties للزمكان space-time؟ لندرس ذلك إذاً. لا نفهم الثقوب السوداء؟ لندرسها كذلك».

برأي روفيلي، سنصل إلى غاياتنا في كل بحث من هذه الأبحاث، وستزودنا كل منها بالمزيد من طبقات الفهم. ويتابع: «طبعاً، نحن لا نفهم الأمور جيداً حتى الآن، نحن لا نعلم الكيفية التي تعمل بها أدمغتنا، مثلاً. لكن سواء كنا نرى أنفسنا كائنات اجتماعية أو نفسية أو كيميائية، فكل ذلك يعد وجهات نظر مهمة، سواء كانت تتفق أو تتعارض مع بعضها بعضاً».

© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

بقلم مارتن بوكس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى