زراعة من أجل البلدان النامية
زراعة من أجل البلدان النامية
النموذج الغربي برأسماله المكثف ومكننته العالية، قد لا يناسب كل بلد نام.
وقد يكون الأفضل هو بعض نظم الزراعة المتعددة المكثفة، كزراعة الأرز.
<F. بريي>
للناس في الدول الصناعية الثرية أفكار ثابتة عن تطور الزراعة. يتعرف الأطفال في المدارس على التقدم التقني، من عصا الحفر حتى المعزقة، ومن محراث تجره بقرة إلى محراث بشفرات فولاذية يجره جرار. يشرح رجال الاقتصاد والاجتماع التحول من مزارع العائلة الصغيرة إلى المشاريع التجارية الكبيرة ذات الكفاءة العالية، حيث يستعاض عن عمل البشر ومهاراتهم بآلات متزايدة التعقيد. وعلى الرغم من أننا نشعر بين الحين والآخر بدفقات من الحنين نحو أساليبنا القديمة، فإننا نعرف أن النموذج الغربي هو الطريق الحتمي للتقدم البشري.
لقد أوضح الإحباط المتزايد في محاولات تخطيط التنمية الزراعية في العالم أن الطريقة التي تطورت بها الزراعة في أوروبا وشمالي أمريكا قد لا تكون هي النموذج الأفضل للتطوير في الدول الفقيرة بأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا حتى بالنسبة للحفاظ على البيئة الحيوية biosphere.
صادق مؤتمر قمة الأرض الذي عقد في ريو دي جانيرو عام 1992 رسميا على منهج جديد حاسم تجاه مشكلات العالم مع الموارد، إذ لم تعد الكلمات المفتاح هي “النمو” أو “التنمية”، وإنما “الصيانة (المحافظة)” Conservation”والمؤازرة (الدعم)” sustainability. أما الفلسفة الأساسية للتنمية الزراعية والاقتصادية الكلاسيكية ـ القائلة إن “الأكثر” هو “الأفضل”، لكل الناس ـ فقد غدت الآن موضع شك كبير.
لكن العالم لا يزال يواجه مشكلات ملحة من الفقر والجوع والمرض. وسكان الريف بالذات محرومون، وأكثر عرضة لهذه المشكلات. والسؤال الكبير هل في مقدور السياسات الزراعية المرتكزة على الصيانة والمؤازرة أن تحل هذه المشكلات الحادة، أم أن التنمية التقليدية، التي تهدف إلى النمو ـ مع كل مثالبها ـ هي السبيل الأوحد لتحسين مستويات الحياة الريفية؟ سأحاول هنا البرهنة على أن النموذج الغربي قد لا يكون هو الأمثل لكل المناطق النامية.
أشار نقاد السياسات الكلاسيكية للتنمية بأن العالم ينتج الآن من الغذاء أكثر مما يستهلك، لكن التنمية كثيرا ما فاقمت الظلم في التوزيع. والحق أن هذا الاتجاه لن يصيبنا بالدهشة إذا تفحصنا المعايير التي تحدد معنى التنمية في الزراعة. إن “تحديث” modernization الزراعة حسب المفهوم الشائع يتطلب تطبيق العلم والتقانة ورأس المال لزيادة إنتاج عدة محاصيل ذات أسواق عالمية، من بينها: القمح والأرز للاستهلاك البشري، والذرة وفول الصويا لغذاء الحيوان، والقطن للصناعة.
وهذا النهج يثير قضايا الإنصاف والمحافظة على الثروة الطبيعية. فأما من حيث الإنصاف فإن النظام يحابي أغنياء المزارعين ويضر الفقراء منهم، كما أن التخصص واقتصاد النطاق economy of scale يقللان من التنوع الاقتصادي وفرص العمل في المناطق الريفية. أما من حيث المحافظة على البيئة فإن النظام تستتبعه ثلاث مشكلات. فالزراعة الأحادية monoculture تقلل التنوع البيولوجيbiodiversity، كما أن الاستخدام المكثف لكل من الوقود الأحفوري والمُدْخَلات الكيماوية يسبب التلوث، وكثيرا ما تتساوى مدخلات الطاقة مع إنتاج المحاصيل، بل وقد تزيد عليه. ثم إن عمليات المكننة الواسعة النطاق تسرع من تآكل التربة وغير ذلك من التدهور البيئي.
لهذه الأسباب فإن الاتجاه الغربي للتنمية الزراعية نحو التصنيع الزراعي قد واجه اعتراضا متزايدا من المحافظين على البيئة conservationists، وأيضا من الفئات الاجتماعية التي أحست بتهديده لها، ومن بينها: المتمردون الهنود بولاية تشياباس المكسيكية، وأصحاب المزارع الصغيرة بفرنسا. هل هناك بدائل للنموذج الغربي، أم أن علينا أن نبتكر نماذج جديدة؟ لقد حدد البيئيون عددا من التقاليد الزراعية الملائمة للبيئة ـ كلها نماذج من الزراعة المتعددة polyculture. وكانت كل الزراعات في الأصل متعددة، حيث توفر سلسلة من المتطلبات الأساسية للبقاء. ونجد حتى الآن بعض المزارعين في مناطق البحر المتوسط ممن يقومون بزراعة القمح والشعير حول أشجار الزيتون. كما أن الكثير من حزام القمح wheat belt بشمالي أمريكا كان يدعِّم زراعة مختلطة mixed من الحبوب وإنتاج الألبان.
ثمة أنموذج من الزراعة المتعددة جذب مؤخرا اهتمام خبراء الزراعة بسبب ما يوفره من أسباب البقاء. وتُزرع بمقتضى هذه الطريقة الذرة والفاصولياء والقرع في الحفرة نفسها. وهذه النباتات تكمل بعضها بعضا ولا تتنافس، لأن جذورها تمتص الغذاء والماء من مستويات مختلفة من التربة. والحق أن جذور الفاصولياء تثبت النترات بالفعل، وبذا توفر سمادا طبيعيا للذرة. وهذه الطريقة العالية التكثيف(1) higly intensive لاستخدام الأرض نشأت منذ ما يزيد على 2000 عام، ودعمت حضارات عظيمة مثل حضارة المايا، ولا تزال تدعم جيوبا مكتظة بالسكان في مناطق مختلفة من أمريكا الوسطى.
تتطلب زراعة الأرز التقليدية قدرا كبيرا من العمالة اليدوية. قامت المؤلفة، منذ نحو عشرين عاما، بتصوير هذا المشهد لزراعة الأرز في مقاطعة كيلانتان الماليزية، الجميلة الفقيرة. تقوم المرأة في الصورة بشتل البادرات. |
هل هناك أنماط أخرى من النظم الزراعية يمكن أن تساعد في تنمية مدعومة ـ ومكثفة في الوقت نفسه ـ على مستوى واسع النطاق لمعالجة المشكلات الرهيبة للفقر الريفي التي تواجهها الكثير من الأمم النامية؟ إن الإجابة تتطلب أولا تعريفا لكلمة “مدعومة”. وحسب رأيي، لا نستطيع أن نقيِّم أي نظام للزراعة المدعومة بسلامة مناهجه الزراعية إيكولوجيا فقط، بل لا بد للنظام أيضا أن يوفر الرزق لكل السكان: المزارعين وغير المزارعين على حد سواء. إن معظم فقراء العالم يعيشون بالريف، ولا يزال عدد السكان في الريف يتزايد، كما أن الخدمات والصناعات الحضرية لا تستوعب الآن من العمالة مثل ما كانت تستوعبه من قبل. إذًا، يجب أن يكون النظام الزراعي المدعوم قادرا على خلق فرص العمل إلى جانب إنتاج الطعام، ولا بد أن يكون مرنا متنوعا، قادرا ليس فقط على إنتاج ما يكفي وإنما أيضا على توفير فائض يمكن تسويقه، كما لا بد أن يدعم تبادلا ريفيا داخليا للبضائع والخدمات بدلا من الاعتماد المكثف على العالم الخارجي لتوفير المُدْخَلات والأسواق.
أود أن أقترح أن الأسهل عند التخطيط للتنمية نحو اقتصاديات ريفية متماسكة، ألاّ يكون نموذجنا هو نظم الغرب الزراعية التي تتجه بطبيعتها نحو الزراعة الأحادية واقتصاد النطاق، وإنما نظم الزراعة المتعددة التي تستغل الأرض بكثافة وتوفر أساسا للتنوع الاقتصادي. وتتلاءم بعض المحاصيل الأساسية أكثر من غيرها مع الزراعة المتعددة المكثفة. وسأستخدم في هذا المقال زراعة الأرز المروي wet rice في شرقي آسيا، لأن في سجلها التاريخي من الثراء ما يكفي لتوضيح نمط متماسك للتطور التقني والاقتصادي. على أنه لا يمكن حل مشكلات العالم إذا ما تحولت كل المناطق إلى الأرز المروي، بل هناك عدة مجموعات من المحاصيل الغذائية الأساسية، التي تستخدم الأرض بكثافة والتي يمكن أن تؤدي إلى النتيجة نفسها.
إن النظرة إلى التقدم الزراعي “المناسب” التي فرضها الغرب على بقية العالم، لها جذورها التاريخية في تطوير الزراعة بشمال غربي أوروبا وفي أحزمة الحبوب بالعالم الجديد ـ المناطق التي وفرت الغذاء للمراكز الحضرية للثورة الصناعية. لكن هذا الزخم الذي تكون الأيدي العاملة فيه موردا نادرا، والذي يزداد فيه الإنتاج باستبدال الابتكارات التقنية بالعمالة البشرية وبالحيوان، ليس زخما محتوما، إنه يرجع إلى ظروف الإنتاج الخاصة بهذه المناطق.
فشمالي أوروبا ـ حيث تطور أساس نظام الزراعة الجافة dry farming للحبوب ـ يتميز بفصل زراعي قصير. تحمل سنابل نباتات الحبوب الرئيسية ـ القمح والشعير والجويدار rye ـ عددا قليلا نسبيا من الحبوب، لا يزيد في أفضل الحالات على بضع عشرات، في حين تحمل نورة panicle الأرز أو الدُّخْن milletمئة حبة أو أكثر. والعادة ألا يزيد عدد سوق النبات الواحد على ثلاث أو أربع. وتعطي الحبة الواحدة عادة نحو 200 حبة. لكن المَثَل يذكرنا بأن الكثير من البذور يموت حيث يسقط. كان على المزارعين في أوروبا القرون الوسطى أن يستبْقوا ما يبلغ ثلث محصولهم بذارا للعام التالي، كما تستخدم نسبة أخرى كبيرة خلال فصل الشتاء لتغذية الحيوانات المستخدمة لجر الأثقال. ولما كان السماد الوحيد المتاح هو المُخَصِّب manure فكثيرا ما كانت الأرض تُترك بورا، فلا تزرع بالغلال إلا مرة واحدة كل سنتين أو ثلاث. باختصار، كان هذا النظام الزراعي يستغل الأرض استغلالا واسعا (2) extensive، ولم يكن له أن يدعم كثافات مرتفعة من السكان. وبلغت الحيازة النمطية للأرض بإنكلترا القرن الحادي عشر ـ كما سجلها كتاب <دومسداي> ـ 30 إيكرا (12 هكتارا) للفرد الواحد.
أدت الحيوانات المستخدمة للجر دورا حاسما في نظام الزراعة هذا. كان المحصول من الانخفاض إلى حد يستحيل معه على القوة البشرية وحدها أن تحرث من الأرض ما يكفي للإعالة. كان البعض من مجموعات حيوانات الحرث يتألف من زوج أو زوجين فقط من الثيران، أما في الأرض الطينية الثقيلة ـ التي تميز شمالي أوروبا، والتي تتطلب أن يتعمق سلاح المحراث كثيرا لتقليب التربة ـ فقد يصل عدد الحيوانات اللازمة إلى اثني عشر ثورا.
وعندما يكون لحيوانات الجر والمعدات الثقيلة هذا الأثر البالغ في الإنتاج الزراعي، فمن الواضح أن تكون للمزارع الكبيرة ميزة صريحة فوق الحيازات الصغيرة، لأنها تستطيع أن توفر حيوانات ومعدات أكثر، كان يمكنها أن تنظم استغلالها بصورة أكفأ. فكلما ازدادت مساحة المزرعة في أوروبا القرون الوسطى، ازداد احتمال أن تحقق فائضا.
يُزرع المحصول الإضافي “الكابوشا” (القرع العسلي الياباني) فوق حاجز صغير، يحيط بحقل الأرز في اليابان. وهذا الاستغلال المكثف للأرض مميز للزراعة المتعددة بشرقي آسيا. |
نمت أسواق الغذاء بالحضر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وبدأت النظم الإقطاعية القديمة تتهاوى، حيث يقوم عبيد الأرض بفلاحة أرضهم المحدودة المساحة إضافة إلى حقول كبار الملاك. كما بدأ كبار الملاك بدمج وتطويق حيازات كبيرة يفلحونها بالأُجَراء، وكثيرا ما كان هؤلاء الأجراء من الفلاحين الذين فقدوا حقوقهم التقليدية في الأرض لصالح كبار الملاك. وإذا ما حدث وقام أصحاب الأرض بتأجير أرضهم، فلم يكن ذلك لصغار الملاك المعدمين، وإنما للمزارعين الأفضل حالا ـ صغار الرأسماليين، مثل اليومن yeomen الإنكليز، ممن يمكنهم تحمل مخاطرة الاستثمار في الحيوانات والمعدات. وقد تشكلت علاقات رأسمالية في الزراعة في كثير من مناطق شمال غربي أوروبا قبل القرن الخامس عشر.
كانت أسواق الأرض والعمالة قد تطورت جيدا، وكانت العلاقات الاجتماعية اللازمة لتأسيس زراعة حديثة مُمَكْنَنَة قد اتخذت وضعها الصحيح، لكن الخبرة التقنية الضرورية كانت ناقصة.
كان الأداء العالي لوحدات الإنتاج الكبيرة التي تدار مركزيا، هو المحرك لتطوير هذا النظام الزراعي. شهد القرن الثامن عشر تحسينات تضمنت أصنافا جديدة من المحاصيل وسلالات الحيوان، ومحاريث ونظم صرف أفضل، ودورات زراعية جمعت بين الغلال ومحاصيل العلف كالبرسيم واللفت. لقد أجمع كل الخبراء على أن المزارع الكبيرة هي وحدها التي تلائم هذه الطرائق من “الزراعة العالية الأداء”، وأصبح شراء هذه التحسينات حصرا على ذوي الإمكانات الاقتصادية الوفيرة.
كان الكثير من ابتكارات الزراعة العالية الأداء قبل المكننة يتطلب إلى جانب رأس المال عمالا أكثر. كان على المزارعين في شمال غربي أوروبا أن يتنافسوا مع العمال والصناعات الجديدة المتزايدة الانتشار. ففي العالم الجديد ذي الكثافة السكانية المنخفضة كانت العمالة نادرة حقا وانشغل المبتكرون في تطوير الآلات الزراعية منذ القرن السادس عشر، بلا طائل يذكر، وفي بداية القرن التاسع عشر أصبحت الحاجة إلى مثل هذه الآلات ملحة.
وفي هذا الوقت تمكن المهندسون أخيرا من اللجوء إلى مواد المجال الصناعي وخبرته ـ الصلب وقوة البخار المحركة والمواد الكيماوية ـ لتطوير بدائل للعمالة الزراعية.
ظهرت أولى آلات الدِّرَاس الميكانيكية بالسوق الإنكليزية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر (فأثار العمال الزراعيون أحداث شغب، عندما أحسوا بأن حياتهم المزعزعة قد غدت مهددة)، ثم تلتها آلات جني يجرها الحصان وحصّادات وآلات بذر ميكانيكية، وأخيرا ـ في القرن العشرين ـ حل الجرار محل الحصان. وأزالت الأسمدة الكيمياوية الحاجة إلى الدورات الزراعية، وسهلت أمر الزراعة الأحادية، ثم أدت مبيدات الأعشاب ومبيدات الآفات هي الأخرى إلى تقليل الحاجة إلى العمال. إن مساحة الأرض الزراعية للعامل الزراعي في الولايات المتحدة اليوم هي 137 هكتارا، وتتراوح مساحة المزرعة المتوسطة الحجم ـ من النمط الذي تديره عادة عائلة واحدة ـ بين 20 و 100 هكتار.
الإنتاجية الزراعية
عادة، لا تضع الحسابات الاقتصادية للإنتاجية الزراعية في اعتبارها إلا إنتاج محصول معين في وحدة الأرض، وتهمل استخدامات أخرى نافعة يمكن أن تستغل فيها الأرض. توضح الرسوم البيانية نتيجة مثل هذا الحساب، وتقارن فيه الزراعة المتعددة (زراعة عدة محاصيل مختلفة في هكتار من الأرض) بالزراعة الأحادية التي لا يزرع فيها سوى الأرز ـ سلالة قزمية عالية الإنتاج شائعة في زراعة الثورة الخضراء. وفي الزراعة المتعددة (في الأعلى) يُستغل الهكتار لزراعة عدة محاصيل في العام: يعطي المحصول الرئيسي 1.1 طن من الحبوب (الأرز) و 1.6 طن من القش الذي يستخدم غذاء للحيوان ووقودا، كما ينتج أيضا محاصيل ثانوية من الزيت والفاصولياء والألياف. تنتج الزراعة الأحادية (في الأسفل) أربعة أطنان من الأرز وطنيْن من القش. ولما كانت الحسابات النموذجية للإنتاج لا تطبق إلا على إنتاج محصول واحد، فإن المقارنة تكون في غير صالح الزراعة المتعددة ـ1.11 طن من الحبوب للهكتار مقارنة بأربعة أطنان لمحصول الزراعة الأحادية، وتهمل كل المنتجات الأخرى للزراعة المتعددة.
|
هذه هي الخبرة التاريخية التي نشأت عنها نظرتنا إلى التقدم الزراعي “الطبيعي”. وكما انتشرت الأنماط الأوروبية للتصنيع من أمة إلى أخرى لتحدد أفكارنا عن الاقتصاد العصري، كذلك حددت خصائصُ الثورة الزراعية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية البرنامجَ العالمي للتحديث الزراعي. وبدا مثل هذا التقدم طبيعيا وحتميا عند الاقتصاديين والعلماء الزراعيين بعد الحرب (ومعظمهم من الولايات المتحدة أو تدربوا فيها) فقاموا بوضع مجموعة من المساعدات التقنية والاقتصادية لتحديث الزراعة في الدول الأكثر فقرًا.
لقد أسفرت التقنيات الجديدة التي طوروها عن نتائج أولية مثيرة، فأطلقوا عليها بسرعة اسم الثورة الخضراء. تتركز التقانة في استعمال سلالات عالية الإنتاج من القمح والذرة والأرز. وهذه السلالات هُجُن لا يمكن للمزارع أن يكاثر منها بنفسه، وهي تحتاج إلى مخصبات كيماوية ومبيدات أعشاب كي تنجح. كان إنتاج هذه الهجن في محطات التجارب من الوفرة بمكان حيث أطلق عليها سريعا اسم البذور السحرية على أن المقارنات بين السلالات القديمة والجديدة، كما أشار الاقتصادي الهندي <V. شيڤا>، إنما تقيس إنتاج ذلك المحصول الواحد، لا نظام الزراعة المختلطة كله، الذي تحل عادة محله، وعلى هذا فإن الربح الإجمالي قد يكون أقل كثيرا مما يُدَّعى.
وبسبب التأكيد على الزراعة الأحادية، فإن الوكالات الزراعية، التي توفر للمزارعين المعلومات التقنية والبذار والقروض، أصبحت تحبذ فلاحة واسعة النطاق ودمجا للحيازات يجعل من المكننة أمرا عمليا. وتحت هذه الظروف يتناسب الفائض القابل للبيع وهوامش الربح (وليس المحصول بالضرورة) مع حجم المزرعة عامة، وتفقد المزارع الصغيرة قدرتها على البقاء.
كان الهدف الرئيسي لسياسات الثورة الخضراء في ستينيات وسبعينيات هذا القرن هو القضاء على الجوع في العالم وذلك بتحديث نظم الزراعة غير المنتجة، ورفع الإنتاج العالمي من الحبوب الرئيسية، وقد نجحت الثورة الخضراء في هذا المقام نجاحا ساحقا. إن الإنتاج العالمي من الحبوب الرئيسية الأساسية (القمح والذرة والأرز) هو اليوم أكثر مما يكفي لتغذية كل سكان العالم، لولا مشكلات سوء التوزيع.
لكن تشجيع الفلاحين على التركيز على الزراعة الأحادية قد جعلهم أكثر عرضة للتأثر بآفات المحاصيل وتقلبات الأسعار، فقد انخفض بشدة تنوع الأغذية المحلية مثلما انخفضت فرص العمل. تستخدم التقانة الجديدة كميات هائلة من الكيماويات والوقود الأحفوري، وهي من ناحية الطاقة أقل كفاءة من الكثير من نظم الزراعة التقليدية، كما أن الزراعة الأحادية والحرث الميكانيكي وإنتاج المحاصيل في أراضي الغابات وأراضي المراعي إضافة إلى استخدام المنتجات الكيماوية قد أسهمت في تدهور البيئة.
كان الهدف الثاني لسياسات الثورة الخضراء هو تحقيق الرخاء في الريف من خلال إنتاج فوائض تسويقية. وقد بدا واضحا أن العلم ورأس المال سيؤديان معًا إلى زراعة أكثر كفاءة وإنتاجية. وكانت النظريات الشائعة حينذاك تسلِّم بأن المتطلبات الرأسمالية لهذا النمط من التحديث ستحابي في البداية المزارعين الأكثر ثراء، لكنها كانت تفترض أن الفوائد ستعم المجتمعَ كله بسرعة.
والحق أن الكثير من المناطق قد عانت استقطابًا اقتصاديًّا حادًّا، وذلك نتيجة لقيام أثرياء المزارعين بتوسيع حيازاتهم في حين يُدفع بالفقراء خارج الزراعة ليصبحوا قوة تابعة من الأُجَراء. فقد اعتمد القادرون على الزراعة، وبصورة متزايدة، على اقتصاديات الحضر بالنسبة للبضائع والخدمات والأسواق وتضاءلت فرص العمل في الريف، ولم تستطع الصناعة الحضرية أن توفر ما يكفي من فرص العمل فتجمع العاطلون بالأحياء الفقيرة في المدينة.
كان التناظر واضحا بين الثورة الخضراء وبين تحديث الزراعة الغربية في القرن الثامن عشر. وإذا ما كان مؤيدو الثورة الخضراء قد أهملوا النظر إلى النتائج السلبية ـ الاجتماعية والإيكولوجية ـ لخططهم، فقد كان هذا راجعا في الأساس إلى أن هذا الأسلوب من التنمية ـ المعتمد على رأس المال والآلات ـ قد بدا وكأنه السبيل المحتوم للتحديث.
بدأتُ التفكير في نماذج للتنمية الزراعية بديلة عام 1976 أثناء سنة قضيتها أدرس استجابات المزارعين للثورة الخضراء في المقاطعة الماليزية <كيلانتان>، تلك المقاطعة الجميلة الفقيرة. وقبل أن أذهب إلى كيلانتان كنت قد قضيت بضع سنين أدرس تاريخ زراعة الأرز في الصين. ومع اتساع من الخبراء اليابانيين قد توصلوا إلى استنباطات تشبه استنتاجاتي، معتمدين على خبرتهم التاريخية. فقد وجدوا أيضا منطقا في التكثيف التاريخي لزراعة الأرز الآسيوية يختلف تماما عما حدث في الغرب. كما لمسوا أيضا أن إدخال تقانة الثورة الخضراء كثيرا ما كان يمثل انفصاما مأساويا عن الماضي، ورأوا أن هناك فوائد كثيرة في تبني “النموذج الياباني”.
وإذا ما نظرنا إلى ظروف الإنتاج ونتائج التنمية، فسنجد أن النموذج الياباني (أو بالأحرى النموذج الشرق آسيوي)، الذي يركز على إنتاج الأرز المروي، يختلف جذريا عن نموذج القمح المطري dry-wheat لشمالي أوروبا. لقد كُثِّف عبر القرون استغلال الأرض في الصين واليابان وڤيتنام وكوريا، بسبب المتاح المتزايد من العمالة المدربة. لقد كان الاعتماد على اقتصاديات الوفرة محدودا، حيث كانت الملكيات الصغيرة هي السائدة، وكانت الأنماط المحصولية المكثفة تعزز نظام زراعة مختلطة واقتصادا ريفيا بالغ التنوع يمكنه توفير الحياة لجماهير عريضة.
زراعة متعددة تقليدية مرتكزة على الأرز
(جنوب شرقي الصين في القرن السادس عشر)
الثورة الخضراء
الزراعة الأحادية للأرز بالطرق الحديثة (اليابان المعاصرة) تُقارَن هنا مُدْخَلات ومُخْرَجات زراعة متعددة تقليدية ترتكز على الأرز في القرن السادس عشر بجنوب شرقي الصين، بزراعة أحادية حديثة لأرز الثورة الخضراء في اليابان. يعكس ارتفاع الأعمدة المقدار النسبي لهذا المُدْخل أو المُخرج. ويبين المنحنى في أسفل يسار كل رسم بياني كيف توزع أسرة المزرعة وقتها الإنتاجي. ففي اقتصاد الزراعة المتعددة لا تقوم النساء إلا بالقليل من العمل في الحقل، ولكنهن ينشغلن بشكل مكثف في الصناعات اليدوية مثل إنتاج الحرير. أما في اقتصاديات الزراعة الأحادية فإن النساء يقمن بقدر أكبر من العمل الحقلي لأن الكثير من الرجال يعملون في مهام أخرى بعيدا عن الموقع. |
يؤدي الماء دورا حاسما في تطوير زراعة الأرز، فالأزر محصول من محاصيل الرياح الموسمية الذي يمكن أن يزرع في الحقول الجافة وإن كان الماء هو بيئته الطبيعية.
وأقدم ما عثر عليه من أرز زراعي كان في قرية من العصر الحجري قرب شانغهاي، تقع على حافة مستنقع ضحل ويرجع تاريخها إلى نحو 5000 عام قبل الميلاد. وثمة مواقع أخرى قديمة تتناثر حول جنوب شرقي قارة آسيا، وكلها قريبة أيضا من المستنقعات أو غيرها من الموارد المائية الطبيعية.
وحقل الأرز الجيد حقل يمكن أن تنظم فيه بدقة مياه الري والصرف. ونتيجة لذلك، تكون حقول الأرز عادة صغيرة جدا بالمعايير الغربية: فحقل مربع طول ضلعه 20 ياردة يعتبر حقلا كبيرا في الصين. تحتاج بادرات seedlings الأرز الصغيرة إلى تربة رطبة، لكنها تتعفن في الماء الراكد. فإذا بلغ طولها قدما واحدة فإنها تحب أن تنمو في ماء ساكن ارتفاعه بضع بوصات، وذلك خلال مرحلة التزهير والنضج. ثم يجب بعدها أن يصرف ماء الحقل قبل الحصاد ببضعة أيام.
يسهل تجميع مياه الأمطار في حقل تحيط به حواجز bunds صغيرة، لكن الماء قد يتبخر قبل أن يتم نضج الأرز. وعلى هذا فقد قام زراع الأرز في بعض المناطق، منذ زمن بعيد، بتبني نظم ري من صهريج تغذية مياه الأمطار. وثمة صور أخرى من الري، منها شق قنوات صغيرة ترفد المساطب على جوانب التلال، وإنشاء قنوات تحويل من أنهار أكبر ـ وهنا عادة ما يُضخ الماء إلى أعلى نحو الحقول. كل هذه الصور كانت شائعة في الصين واليابان في العصور الوسطى، وسمحت لزراعة الأرز بأن تنتشر من وديان الأنهار الصغيرة، صعودا إلى جوانب التلال ونزولا إلى السهول الدلتاوية، إن إنشاء الحواجز أو شبكات الري أو صهاريج المياه أو الحقول ذات المساطب، يتطلب استثمارات أولية كبيرة من العمالة، لكن الصيانة فيما بعد تكون رخيصة وسهلة نسبيا. ليس من المستغرب إذًا أن يفضل زرّاع الأرز دائما تكثيف الإنتاج في حقولهم الحالية عن توسيع المساحة المزروعة.
المدخلات = 300 (العمالة مستبعدة)
يعزز الماء تواصل نظم زراعة الأرز. فعلى عكس الحقول المطرية، فإن حقول الأرز المروي لا تقل خصوبتها بمرور السنين، بل تزداد. وأيا كان التركيب الأصلي للتربة وخصوبتها، فإن زراعتها بالأرز المروي عدة سنين متتالية ستحيل بضع البوصات العليا منها إلى طين ناعم رمادي منخفض الحموضة، بأسفله طبقة صلبة تحجز الماء.
أما الكائنات المثبتة للآزوت والموجودة طبيعيا في الماء فتفيد كسماد. والعادة أن تستجيب سلالات الأرز التقليدية جيدا للأسمدة العضوية، وقد استُخدم الجير ومخلفات فول الصويا بكثرة في التسميد في كل من الصين واليابان منذ القرن السابع عشر، وكانت تعطي محصولا سنويا قد يصل إلى ستة أطنان للهكتار في بعض المناطق التي يزرع بها الأرز مرتين في العام.
لنباتات الأرز بضع سوق stems (أشطاء tillers) تحمل البذور، وكل سنبلة seedhead (عثكول panicle) تحمل في المتوسط نحو مئة حبة. إن تقنية شَتْلtransplanting بادرات الأرز تزيد من الإنتاج. ولتنفيذ ذلك تُفلَح قطعة صغيرة من الأرض الخصبة بعناية فائقة وتسمد، وتبذر ببذور منتخبة بعناية مما سبق تنبيته.
أثناء ذلك يكون الحقل الرئيسي قد روي وحرث ومهد حتى يتكون طين ناعم حريري. وبعد شهر أو نحوه تُقلع البادرات، ويستبعد الضعيف منها، وتُقرط قمم البادرات السليمة ثم تعاد زراعتها بماء ضحل في الحقل الرئيسي.
وتحتاج هذه العملية إلى عمالة كثيفة، لكنها تسمح بالانتخاب الدقيق للنباتات السليمة والاستخدام الكفء لكميات محدودة من السماد البلدي. ثم إن النبات يستجيب لعملية الشتل بأن ينمي أشطاء أكثر. ولا تحتاج البادرات بعد شتلها في الحقل الرئيسي إلا إلى بضعة أسابيع، ومن ثم فمن الممكن أن تستغل الأرض بمحاصيل أخرى في غير الموسم.
لزراعة الأرز المروي إمكانات هائلة في توسيع استخدامات الأرض. قد تشغل الصهاريج والقنوات والحواجز ما يصل إلى خُمْس الأرض، لكن ليس ثمة مساحة تُبدَّد. فالأسماك ترعى الأعشاب بالصهاريج، أو تأكل الحلزون (البزاق) المتواجدة في حقول الأرز، ويتغذى البط بالأسماك، وتستخدم الحواجز الضيقة في زراعة الخضراوات، أما الحواجز العريضة فقد تزرع بالتوت لتغذية ديدان القز، التي يستخدم رَوْثها سمادا. وبعد حصاد الأرز يمكن أن يُصْرَف الحقل لزراعة الشعير أو الخضراوات أو قصب السكر أو التبغ.
أصبح تبادل الأرز الشتوي مع القمح الصيفي أمرا شائعا في المنطقة الدنيا من نهر اليانجتسي بالصين منذ 1000 عام. أما الاختيار الحكيم للسلالات السريعة النضج مع وفرة المياه فقد زود مزارعي القرن السابع عشر في منطقة كانتون بمحصولين في العام بل وحتى ثلاثة، إضافة إلى عدة محاصيل ثانوية من الخضراوات فبلغ الإنتاج السنوي للهكتار ما يصل في مجموعه إلى سبعة أطنان. ولأن الحقول كانت صغيرة، فقد كانت أدوات الزراعة هي الأخرى صغيرة وخفيفة ورخيصة. كانت جاموسة واحدة تكفي حاجات المزرعة النموذجية. وإذا ما كان الإنتاج كثيفا حقا فقد يستغني المزارع تماما عن الحرث ويكتفي بالعزق.
مقارنة بين الولايات المتحدة واليابان
لم تكن زراعة الأرز ـ على وجه العموم ـ تتطلب إنفاقا رأسماليا كبيرا مقارنة بزراعة القمح المطرية، ولم يكن ثمة إلا القليل من اقتصاد النطاق. وعلى الرغم من أن مالك الأرض بجنوبيّ الصين كان يمتلك من الأرض ما قد يصل إلى ما يمتلكه نظيره الإنكليزي، فقد كانت مزرعته المنزلية ذات حجم متواضع، وكان يؤجر سائر أرضه على شكل مساحات صغيرة إلى عدد كبير من مستأجرين يتم اختيارهم لمهارتهم وخبرتهم لا لما لديهم من أصول رأسمالية. لم يستقطب هذا النظامُ المجتمع الريفي، ولم يطرد الفقراء خارجه بل كانت الميزة النسبية للحيازات الصغيرة تضمن إتاحة الأرض لأعداد كبيرة من الفلاحين، حتى لو كان ذلك من خلال العلاقة الاستغلالية للمؤجِّرين.
إن العمالة المطلوبة لزراعة الأرز المروي كثيرة، لكنها متقطعة، وعلى هذا فقد كان باستطاعة الفلاحين اليابانيين والصينيين في القرون الوسطى أن يستخدموا زراعة الأرز كأساس يرافقه الإنتاج التجاري للخضراوات والسكر والحرير والشاي، أو الصناعة المنزلية للمنسوجات والمشروبات الكحولية وخَثْرة Curd الفاصولياء والحرف اليدوية.
وهكذا لعبت زراعة الأرز دورا أساسيا في اقتصاد ريفي يتطلب ويستوعب عمالة مجتمع كثيف السكان.
كثيرا ما ساوى مؤرخو الاقتصاد بين هذا النظام ونظام “الارتداد الزراعي”agricultural involution الذي يتناقص فيه عائد الفرد مع زيادة كده وعمله. وقد يكون هذا الزعم صحيحا إذا أُجريت الحسابات على إنتاج الأرز وحده، أو إذا كنا نتعامل مع زراعة أحادية. أما إذا أخذنا في الاعتبار كل السلع الأخرى الناتجة في هذا النظام الاقتصادي، فستظهر مزايا هذا النظام بصورة أفضل. صحيح أن قدراته على الانتشار ليست مطلقة، لكنها على الرغم من ذلك ضخمة. فخلال بضعة قرون من التزايد السكاني أقامت مناطق الأرز بالصين القاعدة لاقتصاد ريفي يقوم فيه الكثيرون وهم في منازلهم بإنتاج بضائع للتسويق. ولم تبدأ مستويات المعيشة الريفية في التدهور الحاد إلا بعد عام 1800 ـ وقد زاد هذا التدهور دون شك بسبب الحروب المتعددة.
حدثت في اليابان عملية تنمية ريفية مشابهة وضعت الأساس لإقامة الدولة الحديثة. وهذا الإنجاز هو واحد من بين الأسباب التي يبرر بها خبراء الزراعة اليابانيون قابلية نموذجهم للتصدير. على أن التصنيع في اليابان، كما في الغرب، قد تحقق من خلال أنماط من الاستغلال لا ترحم. اتسع الاقتصاد الريفي ما بين عام 1600 وعام 1800 مقترنا بنمو التجارة والمدن. حُسِّنت تقنيات زراعة الأرز. وارتفع إنتاج الأرض حتى مكن حكومة <مايجي> (من عام 1868 حتى عام 1912) من إنشاء دولة صناعية حديثة معتمدة على رفع الضرائب الزراعية. لكن هذا المستوى المرتفع من الضرائب قد ترك المستأجرين من الزراع على شفا فقر مدقع لم تشعر الدولة بضرورة تصحيحه إلى أن صدر سنة 1945 قانون حق الاقتراع العام.
في زراعة الأرز الحديثة، يتزايد استخدام آلات صممت لحقول الأرز الصغيرة. وفي الصورة مزارعياباني يشغِّل آلة تقوم بشتل بادرات الأرز في حقل مرويّ، بعد أن نمت إلى ارتفاع يبلغ نحو قدم واحدة. |
شرع نظام الحكم الجديد في العمل على ضمان الكفاية الذاتية من الأرز واقتلاع الفقر من الريف، فأصدر قوانين الإصلاح الزراعي للتخلص من الإيجار ووضع حدود صارمة على شراء الأراضي. لقد أدت هذه السياسة إلى توطيد نظام مزرعة الأرز العائلية الصغيرة المستقلة، لتوفر هيكلا للتوازن والتكامل الناجح طويل الأمد بين التنمية الريفية والحضرية.
لكن الزراعة اليابانية تمر اليوم بأزمة. فباستثناء المحصول الضعيف الشاذ لعام 1993، والذي سببه الجو السيئ، ثمة إفراط وتبديد في إنتاج الأرز، يرجع في معظمه إلى ما تدفعه الحكومة منذ الخمسينات من إعانة مالية ضخمة ودعم للأسعار. لقد أدت استراتيجية زيادة الدخول الريفية عن طريق رفع أسعار الأرز إلى عكس النتائج المرجوة. كان المزارعون اليابانيون حتى ستينيات هذا القرن يستعملون مُدْخَلات معقولة السعر وآلات بسيطة. ومنذ الستينات أمسكت المكننة بزمام إنتاج الأرز، باستخدام الجرارات الصغيرة وآلات الشتل والحصادات، فأصبح كل المزارعين تقريبا يمتلكون سلسلة كاملة من الآلات الغالية الثمن، ووصل متوسط استهلاك الهكتار من الأسمدة إلى 1110 كيلو غرامات (مقارنة بـ 160 في الولايات المتحدة و 48 في تايلاند) لقد قدَّر الاقتصادي الياباني <T. أودا گاوا> عام 1977، أن المدخلات من الطاقة تبلغ ثلاثة أضعاف الطاقة الغذائية بالأرز. إن إنتاج كيلو غرام واحد من الأرز في اليابان يكلف 15 ضعف تكلفة مثيله في تايلاند، و 11 ضعف تكلفته في الولايات المتحدة.
ليس في اليابان اليوم من قد يُسمي هذه السياسة سياسة متماسكة من الناحية الاقتصادية. لا، ولم تعد سليمة أيضًا من ناحية حماية البيئة. فعلى الرغم من أن الحقول المروية والقنوات لا تزال تحمي وديان الأنهار الضيقة في اليابان من الفيضانات، فإن القنوات والتربة قد تشبعتا بالكيماويات، ولم تعد الآن تسبح في حقول الأرز أسماك أو ضفادع.
توضح الأزمة الحالية في اليابان أن نموذج شرقي آسيا للزراعة هو الآخر قد يخفق. لكن سيكون من المحزن أن يستسلم اليابانيون في وداعة إلى النصيحة التي يسمعونها بتبني الأسلوب الغربي، ولا يجدُّوا في البحث عن حلول داخلية مبدعة أكثر جزاء: إيكولوجيا واجتماعيا.
ربما كانت مثل هذه الحلول تمارس الآن فعلا. فمن خلال الإصلاحات الاقتصادية الحديثة في اليابان وتايوان والصين، جلبت أنماط استغلال الأرض والتنويع الاقتصادي المرتكز على زراعة الأرز، تحديثا تميزه درجة عالية من التوازن بين التنمية الريفية والتنمية الحضرية. إن ارتفاع نسبة دخل الأسرة في الريف إلى نظيره لدى عمال الصناعة في اليابان يبين هذا الاتجاه 69% عام 1960، 92% عام 1970، 115% عام 1980، 113% عام 1988.
ماذا تتضمن التنمية الريفية المتماسكة في الدول الأخرى؟ هذه مشكلة لا تواجهها فقط الأمم ذات التعداد السكاني الريفي الكثيف الفقير (مثل المكسيك والهند) وإنما أيضا الأمم الغنية (مثل فرنسا) التي تود تجنب مزيد من التفريغ السكاني للريف. إن اتجاه الزراعة الأحادية ليس مما لا يُعكس، إنما يتطلب تنويع محاصيل الريف في الاقتصاد الكُرْضي global اليوم، دعما منظما للمنتجات الزراعية وأسعارا عادلة.
ففي اليابان حيث المستهلك مستعد لدفع أسعار عالية للفواكه والخضراوات، أُغريت أعداد كبيرة من مزارعي الأرز بتحويل جزء من أراضيهم إلى بساتين فاكهة وحدائق خضراوات. وفي الصين، تخلت الدولة في أواخر السبعينات عن السياسة الماوية القائلة “بوضع الحبوب أولا” وسمحت للمزارعين بالجمع بين مستوى أساسي من زراعة الحبوب وبين كل أنواع المحاصيل الأخرى وحيوانات المزرعة. في الوقت نفسه رفعت أسعار المزرعة إلى مستوى واقعي، فارتفع الإنتاج الزراعي فجأة، إذ لم ينتج المزارعون الغذاء فقط، وإنما أيضا المواد الخام اللازمة لتنمية الصناعات الريفية. ثم إنهم وصلوا إلى درجة من الثراء تسمح لهم باستهلاك عدد كبير من السلع الصناعية. ولا يمكن أن نتفهم معدلات النمو الصينية الحالية إلا إذا وُضعت على خلفية إعادة الحياة إلى الريف.
إن مثالي الصين واليابان قبل التحديث يبينان أن الزراعة المتعددة المكثفة ـ لكونها لا تعتمد على مدخلات غالية الثمن ـ يمكن أن توفر لقمة العيش للزراع الأفقر، وأن تتيح الأرض لأعداد أكبر من الناس، وأن تولد فرص عمل إضافية. والزراعة المتعددة لا تدعم فقط التنوع الريفي بصورة مثالية وإنما تقلل أيضا من الاعتماد على المدخلات الصناعية.
يمكن للفلاحين من المايا أن يزرعوا الذرة دون شراء كيمياويات، لأن الفاصولياء تصنع النترات طبيعيا. لكن ليس على المزارع أن يعمل على مستوى الكفاف ليستغني عن الكيماويات. فمزارعو الخضراوات العضوية ومنتجو النبيذ في كاليفورنيا يطورون تقنيات المُحاصَلَة(3) Intercoropping (وهذه صورة أخرى من الزراعة المتعددة) لتحل محل مبيدات الآفات الكيماوية. فهم يزرعون أنواعا من النباتات أكثر، ويستأجرون عمالا أكثر، ويشترون كيماويات أقل ـ وبذلك يقومون بعمل ناجح تماما.
أرجو أن يكون ما ذكرته من أمثلة حافزا لأن نتفحص بدقة نظما زراعية أخرى غير غربية. وإذا كان لنا أن نجد حلولا طويلة الأمد للمشكلات المعاصرة الحقة لتغذية العالم دون تحطيمه فلا بد لنا أن نتعلم الكثير من مثل هذه النظم.
المؤلفة
Francesca Bray
أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا بسانتا باربرا. حصلت من جامعة كامبريدج على البكالوريس في الدراسات الصينية وعلى الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ثم عملت بمعهد نيدهام للبحوث في كامبريدج من عام 1973 حتى 1981، وكان مجال نشاطها هو تاريخ الزراعة الصينية.ألفت كتاب “الزراعة” ـ أحد مجلدات سلسلة “العلم والحضارة في الصين” ـ الذي حرره <jj. نيدهام> وقد حصلت على منحة Leve-rhulme للبحوث من عام 1981 إلى 1983 لدراسة اقتصاديات الأرز في آسيا، وفي السنوات الأربع التالية عملت في المركز القومي للبحث العلمي بباريس. وصلت الولايات المتحدة عام 1987 لتعمل أستاذة للأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، إلى أن انتقلت إلى سانتا باربرا في العام 1993. من مؤلفاتها كتاب “اقتصاديات الأرز: التقانة (التكنولوجيا) والتنمية في المجتمعات الآسيوية” التي نشر عام 1986، وأعيد طبعه هذا العام، وكتابها التالي “بنى القوة” وهو دراسة عن التقانات التي حددت حياة النساء في الصين الإمبراطورية. وسيكون مشروعها البحثي القادم حول الابتكار في الطب الصيني.
مراجع للاستزادة
JAPANESE AGRICULTURE: PATTERNS OF RURAL DEVELOPMENT. Richard H. Moore. Westview Press, 1990.
THE VIOLENCE OF THE GREEN REVOLUTION: THIRD WORLD AGRICULTURE, ECOLOGY AND POLITICS. Vandana Shiva. Zed Books and Third World Network, 1991.
JAPANESE AND AMERICAN AGRICULTURE: TRADITION AND PROGRESS IN CONFLICT. Luther Tweeten, Cynthia L. Dishon, Wen S. Chern, Naraomi Imamura and Masaru Morishima. Westview Press, 1993.
THE RICE ECONOMIES: TECHNOLOGY AND DEVELOPMENT IN ASIAN SOCIETIES. Francesca Bray. University of California Press, 1994.
Scientific American, July 1994
(1) الزراعة المكثفة (التكثيفية): نمط يهدف إلى زيادة إنتاجية الأرض من خلال زيادة رأس المال والأيدي العاملة. (التحرير)
(2) ويقال انتشاريا، وذلك نسبة إلى الزراعة المنتشرة التي تقوم ـ خلافا للزراعة المكثفة ـ على استغلال مساحات واسعة. (التحرير)
(3) يُحاصِل interplant = intercrop أي يزرع محصولا بين صفوف محصول من نوع آخر. (التحرير)