قصة الجانب الشرقي:
قصة الجانب الشرقي:
أصل الجنس البشري
في الوادي الخسيف بإفريقيا، يكمن سر تفرع البشريَّات
من القردة العليا الضخام وظهور الجنس البشري.
<Y. كوبنز>
إن الآدميين مخلوقات تتغلغل جذورها في الحياة الحيوانية. وعليه، فنحن نجد أنفسنا عند طرف أحد فروع شجرة هائلة للحياة، شجرة ظلت تنمو وتكبر متشعبة أكثر وأكثر على طول رَدَح من الزمان يقدر بأربعة بلايين من السنين. ومن المهم، من وجهة النظر التطورية، أن نعيّن مكان انفصال فرعنا وزمانه من بقية الشجرة. تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه المقالة الإجابة عنها.
متى وأين ولماذا تشعب الفرع الذي جئنا منه نحن بني البشر (الجنس هوموHomo) عن الفرع الذي جاء منه بنو عمومتنا الأقربون: الشمپانزيات (الجنس پان Pan)؟ ولأن انشعاب الطرق هذا يبدو أنه بدأ منذ عدة ملايين من السنين قبل أن يظهر الجنس هومو بتعريفه الصحيح، فإن موضوع أصلنا بالتدقيق يحتاج إلى دراسة مستفيضة. متى وأين ولماذا ظهر الجنس هومو في حضن فصيلة البشريات family Homminidae التي حَسُن غرسها في نظامها الإيكولوجي، وحسن تكيفها لبيئتها؟
لقد تبينتُ أول الأمر في عام 1981 أنه قد يكون في مقدورنا التوصل إلى أجوبة عن هذه الأسئلة. وكانت المناسبة مؤتمرا دوليا في باريس نظمته اليونسكو UNESCO للاحتفال بالعيد المئوي للعالِم < پيير تايار دو شاردان> وبصفتي (المؤلف) محاضرًا مدعوّا من قبل المؤتمر ألقيتُ حديثا عن الأعمال العلمية للإحاثي والفيلسوف الفرنسي. وعلى الرغم من أن هذا الجانب من كتابات تايار يغلب أن ينساه كاتبو التراجم الذين تستهويهم أكثر كتاباته الفلسفية، فإن الرجل قدم أكثر من 250 تقريرا علميا على مدى أكثر من أربعين عاما.
وتحتوي مؤلفات تايار على مقالات عن الجيولوجيا البنائية لولاية جيرسي وللصومال وإثيوبيا والصين، وعن ثدييات أوروبا من عصري الپاليوسين والإيوسين، وعن ثدييات الحقبين الثالث والرابع للشرق الأقصى، وعن المستحاثَّات (الأحافير) البشرية من الصين وجاوه، وعن الأسترالوپثيكاتaustralopithecines الإفريقية (نوع من أسلاف الإنسان كان بشريا بالفعل ولكنه لم يكن من الجنس هومو تماما)، وكذلك عن أدوات العصرين الحجريين: القديم والحديث من كل تلك البلاد.
بعد أن ألقيتُ كلمتي أتاني أحد المستمعين الذي لم أكن أعرفه في ذلك الوقت وهنأني بأدب جم، واعترف لي بأنه لم يكن يعرف هذا الجانب التقني من أعمال الأب تايار. وقد سألني عدة أسئلة عن علم التطور هذا الذي مارسته، وعن مدى تقدمه. وقد أنهى زائري اللقاء الخاطف بسؤال دقيق: هل هناك في الوقت الحاضر قضية مهمة ما زالت قيد المناقشة في مجالك؟
أجبت: نعم، ما زالت عندي مشكلة في الضبط الزمني، كما هي العادة غالبا في العلوم التاريخية. فعلماء الكيمياء الحيوية، الذين لفت انتباههم التقارب الجزيئي الشديد بين البشر والشمپانزيات، قد وضعوا بداية انشعاب هاتين المجموعتين قبل نحو ثلاثة ملايين من السنين. هذا الاجتهاد يشير أيضا إلى أصل إفريقي بالتحديد للبشريات. وعلى النقيض، فإن علم المستحاثات يعيّن تشعبا يرجع حدوثه إلى نحو خمسة عشر مليونا من السنين. ويفترض الإحاثيون أيضا أصلا متسعا، أي متشععا من المنطقتين المداريتين: الآسيوية والإفريقية كلتيهما.
بدا الرجل مهتما بالموضوع وتركني شاكرا. ثم تسلمت بعد ذلك بعدة شهور كتاب دعوة إلى مؤتمر تقرر عقده في روما في الشهر 5 / 1982. ولم يكن الداعي سوى <C. شاجاس> نفسه رئيس الأكاديمية البابوية للعلوم! وفي غمار بحثه عن موضوع من مواضيع الساعة ذات الصدى الفلسفي المهم، رَزَن الرجل ما قلته، ونظّم تحت رعاية معهده مواجهة بين علماء الإحاثة وعلماء الكيمياء الحيوية.
تم اللقاء بتحفظ، ومع ذلك فقد كان تأثيره في الفكر العلمي كبيرا. وقد عُرضت في المؤتمر فكرتان مهمتان إحداهما في مجال علم المستحاثات، والأخرى في مجال الكيمياء الحيوية. أعلن الفكرة الأولى <D. پلبيم> (أستاذ الإحاثة بجامعة هارڤارد) قائلا: إن مجموعته البحثية قد كشفت في مستويات الميوسين العلوي لهضبة پوتوار في الباكستان عن أول وجه يعرف لأحد الراماپثيكاتramapithecids، ذلك الوجه الذي هو أكثر شبها بوجه الأورانگوتان منه بوجه الشمپانزي. وكانت نتائج پلبيم مهمة جدا لأن الراماپثيكات كان يعدّها بعض الإحاثيين، سنين عديدة، أوائل أعضاء الفصيلة البشرية.
وكانت الفكرة الثانية مقولة أعلنها <M.J. لوينشتاين> (من جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو)، وهي أن بروتينات نشيطة قد كُشفت في المادة السِّنِّية لأحد الراماپثيكات. لقد ثبت هذا النشاط من حقن مستخلص من أسنان الراماپثيك في جسم أرنب، حيث أدى إلى تكوين أضداد (أجسام مضادة). ثم أنهى إلينا لوينشتاين أن رد فعل هذه الأضداد على المستضِدَّات (مولدات الأجسام المضادة) في دم الأورانگوتان بعيد عن كل شك. لقد أثبت هذا التأثير القوي أن بعض بروتينات الراماپثيكات ما زالت موجودة، ويبدو أن هذا المخلوق (الراماپثيك) على صلة بالأورانگوتانات.
قبل الكشف عن ذلك الوجه الراماپثيكي لم يعثر العلماء إلا على بعض أسنان من هذا الجنس، وكِسَرٍ من فكه. وبالرغم من أن هذه الأجزاء لها أهميتها المؤكدة فإنه يجب أن يكون معلوما أن عظام الهيكل لا تحمل كلها معلومات بالقيمة نفسها. لقد كانت هذه الأجزاء أقل أهمية ومغزى من منطقة محجر العين ومن الأنف ومنطقة الفك العلوي التي وجدت في العينة الباكستانية. ويستعمل الإحاثيون مثل هذه المستحاثات الوجهية لإجراء مقارنات تشريحية بمستحاثات شبيهة أو متزامنة. إن مجرد مقارنة بسيطة بين هذا الوجه الراماپثيكي وبين الأورانگوتان والشمبانزي تُظهر بوضوح أوجه الشبه بين الراماپثيك والأورانگوتان.
إن علماء الكيمياء الحيوية يختبرون التفاصيل الجزيئية بدلا من إجرائهم مقارنة بين الصفات التشريحية. إنهم يتفرسون الدنا DNA والبروتينات والخرائط الكروموسومية (الصبغية) للأنواع الشائعة، وكلها عناصر لا تحتفظ بها المستحاثات في العادة. وعملهم هذا يساعد الإحاثيين، الذين يمكنهم عندئذ ترتيب الأنواع على أساس درجة التعقيد وعلى أساس مقارنة الخرائط البروتينية لهذه الأنواع. إن التقدم من البسيط إلى المعقد والتتابع الذي ينشأ عن ذلك يعكس، بصورة ما، تطور المخلوقات في سجل المستحاثات. وفي حالة الراماپثيكي، على أي حال، قامت الكيمياء الحيوية بغزوة لماضي الزمان لم تحدث من قبل، وذلك باختبار البروتين المستحاثي.
الوادي الخسيف Ritf Valley الذي يقطع قطريا إفريقيا الشرقية من الشمال إلى الجنوب، وقد نشأ عن القوى التكتونية قبل ثمانية ملايين سنة. وقد قسم التغير الصُّقعي وحدود الجبال سلفًا ancestor لنا إلى مجموعتين. عاش الفريق الغربي منه عيشة مزدهرة في الغابات، وصارت أفراده من أبناء عمومتنا الأقربين، وهم الشمپانزيات. وتطورت الجماعة السكانية الشرقية في الساڤانا(1) وصارت بشرا في النهاية. |
لقد تواترت الظروف بالشكل الذي أتاح لنا أخيرا وضع الراماپثيك في موضعه الصحيح. لقد عُرف هذا البشراني (الشبيه بالبشر) Hominoid بأنه أوراسيوي، وظل كذلك. والآن وقد وضحت علاقته بالقرد الأعلى (الضخم) الآسيوي، الأورانگوتان، فإن الصورة الجغرافية أصبحت واضحة.
حقا لقد صارت الأمور منطقية كما يحدث غالبا عندما يجد المرء حلا لمشكلة يعالجها. إن أصل البشرية كما توقع البيولوجيون الجزيئيون بدا أنه في إفريقيا وفي إفريقيا فقط، كما أن مسألة مسقط رأس فصيلتنا البشرية بدت محلولة أيضا.
لكن مسألة تاريخ ذلك الميلاد ما زالت تحتاج إلى مكابدة لحلها. استمر كثير من الإحاثيين الذين حضروا هذا المؤتمر يدافعون عن القِدَم البالغ للبشرياتhominids في حين أن البيولوجيين الجزيئيين أكدوا القِصَر غير العادي للجزء المستقل من فرعنا البشري. لقد أتى إلى روما إحاثيون باذخون في هذا التقدير ومقتنعون بتاريخ لفصيلتنا البشرية يناهز خمسة عشر مليونا من السنين. أما أكثر البيولوجيين الجزيئيين تشددًا فكانوا متأكدين من أن ثلاثة ملايين من السنين على الأكثر هي المدى الزمني لوجود الفصيلة البشرية. وقد توصل الطرفان إلى نتيجة أُعدت بالطبع على أساس اعتبارات غاية في الجدية ما أمكن ذلك ـ هي أن سبعة ملايين ونصف مليون من السنين مدة مناسبة، وقد أسميتُ هذه النتيجة “تسوية فيما قبل التاريخ.”
هذان الإعلانان: الإحاثي والبيوكيميائي، اللذان صدرا في اجتماع روما لم يكوّنا وحدهما كل البنود الحاسمة التي وَضُحت في الثمانينات المبكرة؛ فقد كانت هناك مجموعة أخرى من النتائج يسَّرَت تفهمنا لمسألة الأصول التي انحدرت منها البشرية. عشرون عاما من الحفائر في إفريقيا الشرقية (بين 1960 و1980) زودتنا بحشد من المعلومات التي يمكن تَلَمُّس تتابعات وأنماط تطورية فيها. هذه المادة الزاخرة لم ينظر إليها هذه النظرة من قبل، فمن المعروف أن دراسة المستحاثات وتشخيصها أمر يستغرق وقتا. لقد كان صدى هذه الدراسة وأثرها شاسعا، لا سيما عند مزاوجتها بمعلومات عن الراماپثيك وما اتفق عليه أخيرا من تواريخ.
لقد كان دخول الإحاثيين إلى إفريقيا الشرقية شأنا قديما حقا. ففي عام 1935، كشفت بعثة <لويس ليكي> إلى خانق أولدڤاي في تانزانيا عن بقايا تُعزى إلى النوع Homo erectus. وفي عام 1939 عثر فريق <L. كول ـ لارسين> (الألماني) على مستحاثات سماها praeanthrous africanus، واعتبرت فيما بعدAustralopithecus، وذلك بالقرب من بحيرة گاروزي، وهي منطقة تسمى أيضا ليتولى بتانزانيا. وفي عام 1955 استخرجت بعثة أخرى إلى أولدوڤاي بقيادة ليكي سنا واحدة لأحد الأسترالوپثيكات. هذه الكشوف المتواضعة لم تثر اهتماما كبيرا على أي حال.
تتغير النباتات والمناخ بشكل مذهل على جانبي الوادي الخسيف: الغابات الرطبة الغربية (أخضر قاتم) حلت محلها الأراضي المعشوشبة الشرقية (أصفر). وتعكس هذه الاختلافات الإيكولوجية، التي نشأت منذ ملايين السنين، توزيع الشمپانزيات إلى الغرب (تنقيط)، في حين أن مستحاثات البشريات لا توجد إلا في الشرق فقط (تظليل متقاطع). |
لم يوجه العالم اهتمامه بحماس إلى شرقي أفريقيا قبل حلول الستينيات من القرن الحالي. ففي عام 1959 وجدت <ماري ليكي> في منطقة أولدوڤاي، جمجمة لأحد الأسترالوپثيكات مكتملة أسنان الفك العلوي.
وقد أمكن تحديد العمر المطلق لهذه الجمجمة بنحو مليونين من السنين وذلك بفضل وجود الطَّفّ البركاني الذي تغلفت تحته. وسمي هذا البشري الجديد باسم Zinjanthropus. لقد كان نوعا بشريا صغير الدماغ، يقف على قدمين، انقرض منذ نحو مليون سنة.
بعد هذا الكشف المهم بدأت البعثات تتوافد بكثرة. كان يأتي أول الأمر فريق جديد كل عام، مدة الاثنتي عشرة سنة الأولى. وكان كل فريق يقوم بحفائره مدة عشرة أو عشرين موسما. ولم يحدث من قبل أن بذل الإحاثيون وعلماء الأنثروپولوجيا القديمة مثل هذا المجهود.
لقد عكست النتائج هذا الاستثمار، فقد كُشفت مئات الآلاف من المستحاثات كان من بينها نحو ألفين من بقايا البشريات. وبالرغم من العمل المستمر في تحضير هذه المستحاثات وتحليلها وتشخيصها بمجرد كشفها، فإنه من المفهوم أن يتأخر نشر نتائج أول جرد كامل لهذه الكشوف حتى حلول عقد الثمانينيات. وعلى وجه الدقة فإن هذه المعلومات، إضافة إلى المعطيات التي استقبلها مؤتمر روما، هي التي صارت أمرا أساسيا جدا لحل اللغز.
مقارنة بين ثلاث جماجم بشرية، توضح التقارب بين اثنين من المخلوقات أصحاب هذه الجماجم، فالراماپثيكيّ (في الوسط) الذي عُثر عليه في الباكستان يشبه قرد آسيا الضخم: الأورانگوتان (من اليسار)، أكثر جدا مما يشبه القِرَدَة الإفريقية: الشمپانزي (في اليمين). حقا لقد دفعت هذه المقارنة الإحاثيين إلى رفض الراماپثيكيات الأوراسيوية كأسلاف قريبة للآدميين، وإلى التركيز على أصل إفريقي لهم. |
إن الذي برز بكل وضوح هو أنه لا يوجد أي أثر مطلقا لجنس پان Pan أو أحد أخلافه المباشرين في إفريقيا الشرقية خلال زمن الأسترالوپثيكات. استمرت البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية وعلم الوراثة الخلوية تبين أن البشر والشمپانزي متقاربان جدا من الناحية الجزيئية. وهذا يعني، بالاصطلاح التطوري، أنهما يتقاسمان أصلا مشتركا ليس ببعيد جدا في الزمن الماضي بالمعنى الجيولوجي. وها قد كشف العاملون في الحقل للتو أن البشريات كانت موجودة منذ نحو سبعة أو ثمانية ملايين سنة في إثيوبيا وكينيا وتانزانيا. لكن خلال هذه الحقبة نفسها لم تشهد هذه المنطقة أدنى أثر للفصيلة الشمپانزية Panidae، لا من أسلاف الشمپانزي ولا من أسلاف الغوريلا. ولو أنه من غير الجائز تأسيس فرضية على غياب الشاهد، إلا أن الغياب اللافت للشمپانزيات، حيث كانت البشريات وفيرة، مثّل تناقضا كافيا لكي يسبب قلقا واهتماما؛ لا سيما أن المئتي ألف إلى المئتين والخمسين ألف مستحاثة فقارية، التي جمعت، تشكل أساسا إحصائيا ذا مُكْنَة مؤكدة.
لقد كنت أفكر في هذا اللغز، وأنا في مؤتمر روما، واهتدى عقلي إلى تفسير غاية في البساطة عندما فتحت أطلسا يبين توزيع الفقاريات، فالخريطة المتخصصة للشمپانزيات والغوريلات أظهرت مجموعة ذات مغزى من الأقاليم تشمل كل المناطق الكبيرة لغابات إفريقيا الاستوائية. لكن هذه المجموعة تتوقف تماما عند الأخدود العظيم الذي يقطع القارة عموديا عبر خط الاستواء من الشمال إلى الجنوب: ذلك هو الوادي الخسيف Rift Valley. وكل مواقع البشريات، التي يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثة ملايين من السنين، قد وجدت بلا استثناء على الجانب الشرقي من هذا الأخدود. وهناك حل واحد فقط يمكن أن يفسر كيف كانت فصيلتا البشريات والشمپانزيات متشابهتين في الوقت نفسه من حيث الصفة الجزيئية ولكنهما لم يكونا أبدا جنبا إلى جنب في السجل المستحاثي. لم تكن البشريات والشمپانزيات أبدا معا.
لذلك فقد اقترحتُ النموذج التالي: قبل أن تنفصل البشريات والشمپانزيات الواحدة عن الأخرى، لم يكن الوادي الخسيف يشكل شذوذا تضريسيا بالدرجة الكافية التي تقسم إفريقيا الاستوائية إلى قسمين. كانت القارة الإفريقية، من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، تشكل إقليما بيوجغرافيا واحدا متجانسا عاشت فيه الأسلاف المشتركة لبشريات وشمپانزيات المستقبل. ثم منذ نحو ثمانية ملايين سنة وقعت أزمة تكتونية جَرَتْ في إثرها حركتان متباينتان: هبوطٌ أحدثَ الوادي الخسيف، وعلوٌّ تولّد منه خط القمم التي تكوّن الحافة الغربية للوادي.
من الواضح أن الوهدة والحاجز قد سببا اضطرابا في دورة الهواء. لقد حافظت كتل الهواء في الغرب على استمرار هطول كميات سخية من الأمطار، والفضل في ذلك للمحيط الأطلنطي. أما كتل الهواء في الشرق، فكانت تصطدم بحاجز الحافة الغربية لهضبة التبت التي كانت تعلو أيضا، وانتظمت هذه الكتل الهوائية في نظام موسمي يسمى الآن الرياح الموسمية. وعليه فالمنطقة الأصلية الشاسعة انقسمت إلى منطقتين اثنتين، لكل منهما مناخها الخاص ونباتاتها أيضا. ظل الغرب رطبا، وصار الشرق أقل رطوبة باستمرار، واحتفظ الغرب بغاباته وأحراجه، وتحول الشرق إلى ساڤانا(1) مفتوحة.
بحكم الظروف أيضا، وجدت جماعة الأصل المشترك لفصيلتي البشريات والشمپانزيات نفسها منقسمة أيضا. فقد كانت هناك جماعة سكانية غربية كبيرة، كما كانت هناك جماعة سكانية شرقية صغيرة.
إنه لإغراء زائد أن نتصور أن لدينا هنا بكل بساطة السبب في الانشعاب. لقد تابَعَتِ الأخلاف الغربية للأسلاف المشتركة تكيفها للعيش في بيئة رطبة شجرية؛ وهؤلاء هم الشمپانزيات Panidae. أما الأخلاف الشرقيون للأصل المشترك نفسه فاستحدثوا على النقيض من ذلك مجالات قدرات جديدة تماما حتى يتكيفوا بها مع الحياة الجديدة في البيئة المفتوحة، وهؤلاء هم البشرياتHominidae.
هذا النموذج غير المعقّد ميزته أنه يشرح سبب التقارب الشديد بين البشريات والشمپانزيات من الناحية الوراثية مع أنهما لا يجتمعان أبدا جغرافيا. كما أن لهذا النموذج أيضا ميزة أخرى إذ يقدم وجها آخر للموقف الذي ينشأ في الجُزر، وذلك بموقف يبدأ في أول أمره تكتونيا ثم يتحول إلى حالة إيكولوجية. وعند مقارنة هذا الحل بالحلول المعقَّدة عن حركات البشريات من الغابات إلى الساڤانا، أو حركات الشمپانزيات من الساڤانا إلى الغابات، يتضح أن الحل على أساس نظرية الوادي الخسيف أكثر استقامة.
لم أعلم إلا مؤخرا أن نشاط الوادي الخسيف معروف أنه بدأ منذ ثمانية ملايين من السنين، وذلك عندما قرأت أعمال الجيوفيزيائيين عن هذا الموضوع. ولما قرأت أعمال المتخصصين في المناخات القديمة وجدت فيها سندا لي بما تحويه من معلومات عن أن ازدياد الجفاف في إفريقيا الشرقية هو أيضا حادث مشهور حُددت نقطة بدايته عند نحو ثمانية ملايين خلت من السنين.
وأخيرا لما قرأت إعلانات الإحاثيين طمأنتني أيضا إذ وضعوا ظهور الحياة الحيوانية لشرقي إفريقيا ـ والمسماة بالحياة الحيوانية الإثيوبية، والتي تتبعها الأسترالوپثيكات ـ عند نحو ثمانية إلى عشرة ملايين من السنين. كل علم من هذه العلوم يعرف هذا التاريخ، وبطريقة أو بأخرى يلم بالحادثة أو بعواقبها، ولكن لم يُبذل أي جهد مشترك بين هذه المجالات العلمية ليربط الكل بتوليفة واحدة. لقد فكر <A. كورتلانت> (أحد علماء السلالات البشرية المشهورين) في مثل هذا السيناريو الممكن ولكن دون سند إحاثي.
ماري ولوي ليكي يفحصان جمجمة الجنس Zinjanthropus وفكه العلوي عند خانق أولدوڤاي في تانزانيا عام 1959. وقد أدى كشفهما لمستحاثة بشرية في هذا الموقع إلى ما يسمى “التدافع من أجل العظام”: توافَد الإحاثيون إلى المكان، واستُخرجت مئات الآلاف من المستحاثات في العقود اللاحقة. |
كانت الفرضية تفتقر فقط إلى اسم. وكان متحف التاريخ الطبيعي بمدينة نيويورك قد دعاني بعد ذلك بثلاث سنوات لألقي “محاضرة جيمس آرثر” الخامسة والخمسين عن الدماغ البشري. وكنت في الوقت نفسه قد توليت منصب أستاذ زائر في مدرسة جبل سيناء Mount Sinai للطب بجامعة سيتي بنيويورك، وعندئذ جاءتني الفكرة لإعطاء نموذجي عنوانا يسهل تذكّره ويكرم مُضيفيّ فسميته “قصة الجانب الشرقي”.
من الممكن أن تكون “قصة الجانب الشرقي” قد أجابت عن الطائفة الأولى من الأسئلة، وهي: متى وأين ولماذا كان انشعابنا من فصيلة الشمپانزيات؟ كان فرعنا السلالي، وهو الذي يحملنا الآن، متميزا عن باقي الشجرة السلالية للمخلوقات الحية منذ ثمانية ملايين من السنين في إفريقيا الشرقية وذلك بسبب العزلة الجغرافية. وقد شجعت الحاجة إلى التكيف لظروف الساڤانا، التي هي أكثر جفافا وانكشافا عن سابقتها، على مزيد من الانشعاب الوراثي.
أما السلسلة الثانية من الأسئلة فهي أكثر تعقيدا: متى وأين ولماذا كان ظهور الجنس Homo في فصيلة البشريات؟ إن الثمانية ملايين سنة التي نما خلالها فرعنا من الشجرة، أظهرت أنها حقبة أكثر تعقيدا مما كنا نتصور. تبدأ القصة بتميز فُصَيِّلة subfamily هي الأسترالوپثيكات، وهذه المخلوقات لم تتحرك إلا حركات متواضعة ما بين شرقي أفريقيا وجنوبيّها. ثم تستمر القصة من نحو ثلاثة ملايين سنة خَلَتْ حتى الوقت الحاضر بظهور فُصَيِّلة أخرى هي البشرينات hominies. لقد تحركت البشرينات على نطاق واسع من شرقي أفريقيا عبر الكوكب كله. وقد تعايشت أواخر الأسترالوپثيكات مع أوائل البشرينات نحوا من مليونين من السنين، ولم يكن يمثل البشرينات سوى جنس واحد هوHomo.
يمكننا أن نرى ظهور فُصَيِّلة البشرينات في نسق لافت من الطبقات الجيولوجية والمستحاثات على ضفاف نهر أومو في إثيوبيا. ولما كان هذا هو الجزء الثاني من “قصة الجانب الشرقي” فلا عجب أن نرى المناخ يثبت أن دوره كبير كقوة للتغيير منذ ثلاثة ملايين سنة، وكان كذلك منذ ثمانية ملايين من السنين.
وتبدأ حكاية نهر أومو مع حلول القرن الحالي، عندما اقترحت بعثة جغرافية فرنسية أن تخترق إفريقيا، من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي. كان قائد البعثة الڤيكونت <دوبورگ دوبوزا>. بدأ التحرك من جيبوتي عام 1901 ولكن الاستكشاف توقف بصورة درامية لوفاة قائد البعثة بداء الملاريا على ضفاف الكونغو. ومع ذلك فقد تابعت الرحلة البرنامج الأصلي، وأحضرت عند عودتها حصادا طيبا من المستحاثات. وكان من بين مجموعة المستحاثات طائفة من بقايا الفقاريات جُمعت من الضفة الشرقية للوادي السفلي لنهر أومو مما كان يسمى حينذاك بالحبشة. ويقع نهر أومو على الجانب الشرقي من الوادي الخسيف.
هذه المجموعة من المستحاثات، التي وصفت في ثلاث مقالات وكذلك في رسالة <E. هوگ> الچيولوجية عام 1911، قد فتنتْ <C. أرامبورگ> فقرر قيادة بعثة جديدة في مطلع الثلاثينيات. لقد وصل أرامبورگ ـ الذي صار فيما بعد أستاذ الإحاثة بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس ـ إلى نهر أومو ومكث هناك ثمانية أشهر في عام 1932. وعاد أرامبورگ إلى باريس ومعه أربعة أطنان من مستحاثات الفقاريات.
بدأت أصل السلالة البشرية قبل ثمانية ملايين من السنين بالتفرع من سلف مشترك لفُصَيِّلَة الأسترالوپثيكات والشمپانزيات. تشكل الأسترالوپثيكات مجموعة معقدة مازال مختصو علم الإنسان القديم يختلفون على تصنيف أعضائها. ولتمييز تلك الأعضاء في شجرة العائلة الموضحة في الشكل فإن المصطلح غير السديد “pre-australopithecus” يصف البشريات الأكثر قِدمًا، أما التي جاءت بعدها فتسمى Australopithecus. أما الأشكال الأقوى بنية من هذه الأنواع المتأخرة فتسمى paranthropus. |
كانت العملية الكبرى التالية هي “بعثة أومو للبحوث” التي أُنجزت ما بين عامي 1967 و1977. وقد حفزها بشكل جزئي التدافع من أجل العظام في الستينات والسبعينات الذي جئنا على ذكره، وكان قد تلا الكشف الذي قامت به ماري ليكي عام 1959 في منطقة أولدوڤاي. وقامت سلسلة من الباحثين بإنجاز مهمة بعثة السنوات العشر على مراحل. ففي عام 1967 عملتُ في مكان البعثة مع أرامبورگ و<لوي> و<ريتشارد ليكي> و<C.F. هويل> وبين عامي 1968 و1969 ترك ريتشارد ليكي البعثة واستمر أرامبورگ وهويل في العمل. وأخيرا من عام 1970 إلى 1976 عملتُ مع هويل وحدنا في الحفر (تُوفي أرامبورگ عام 1969).
كانت استراتيگرافية الموقع منذ البداية الأولى للبعثة واضحة بشكل لافت؛ عمود رائع عمقه أكثر من ألف متر، وبدت الفونة (الحياة الحيوانية) fauna التي تشتمل عليها الطبقات تتغير بشكل واضح مع التقدم في العمود من القاعدة إلى القمة، لدرجة أن الموقع كان، من مجرد لمحة، جديرًا بأن يقص علينا قصة. ولما صار تقدير العمر بطريقة الپوتاسيوم / أرگون وبطريقة المغنطيسية القديمة متاحا أخيرا بحيث يمكن تغطية التتابع بشبكة كرونولوجية، أصبح التاريخ واضحا.
بدءًا من أربعة ملايين سنة خلتْ (وهذا هو عمر أقدم مستوى في أومو، وما يسمى بتكوين مرسي Mursi)، وانتهاء بمليون واحد مضى من السنين (وهذا هو عمر أحدث مستوى، وهو قمة ما يسمى بتكوين شنگورة Shungura) لوحظ أن المناخ قد تغير بشكل واضح من رطب إلى أقل رطوبة، وترتب على ذلك أن الحياة النباتية، تطورت من نباتات مكيفة للرطوبة إلى أخرى قادرة على الحياة في مناخ أكثر جفافا. وقد تغيرت كذلك الفونة من فونة مهيأة للتجمعات الدغلية إلى فونة مميزة للساڤانا النجيلية. وتغيرت أيضا فصيلة البشريات، كمثلها من الفقاريات الأخرى المعرضة لهذه التقلبات المناخية، من الأسترالوپثيكات النحيلة (الرَّشَق)، إلى الأسترالوپثيكات البادنة (الفُتْل)، وأخيرا إلى الإنسان.
لقد خاطبتُ الجماعة الدولية الإحاثية عام 1975 عن هذا الارتباط الواضح بين المناخ وتطور فصيلة البشريَّات. وكان ذلك عن طريق ملاحظةٍ نشرتُها في مَحاضر أكاديمية العلوم بباريس، وكذلك في كتاب إلى مؤتمر لندن للجمعية الجيولوجية الملكية. وقد كان رد الفعل متشككا جدا.
كانت طبقات أومو الوحيدة بين كل المواقع الإحاثية في شرق إفريقيا التي سمحت بمثل هذه المشاهدات. لقد جاء هذا الموقع وحده بعمود رسوبي مستمر امتد من أربعة ملايين إلى مليون سنة خلت. وبالدقة، فيما بين ثلاثة ملايين ومليوني سنة مضت، أو لِنكون أكثر دقة، ما بين 3.3 و2.4 مليون سنة مضت، كان كوكب الأرض قد برد ككل وصار شرقي إفريقيا جافا. (ليتولي وهاردر كانتا أقدم كثيرا، وألدوڤاي كانت أحدث كثيرا، وكانت توركانا الشرقية تمثل ثغرة استراتيگرافية عند تلك النقطة، حتى إنها كلها لا يمكنها إعطاء التوضيح نفسه الذي جاءت به أومو). ونحن نعرف هذه الحقيقة من اختبارات أخرى عديدة في مناطق مختلفة من العالم.
تظهر هذه الأزمة المناخية بوضوح في سجلات الفونة والفلورة flora في تتابع أومو. ومن الفهرسة الوصفية والكمية للحيوانات والنباتات التي تم جمعها من المستويات المختلفة، أمكننا تفسير الاختلافات التي ظهرت من هذه الأنواع بالنسبة لاختلافات البيئة.
نحن نعرف مثلا أن الأسنان الخَدِّيّة (أي الضواحك premolars والطواحنmolars في الفقاريات العاشبة) تميل إلى النمو والتعقد عندما يصير الغذاء عشبيا أكثر، أو أقل ورقية. ويتم هذا التغير لأن العشب يُبلي الأسنان أكثر مما تبليها الأوراق. ونحن نعرف أيضا أن حركة هذه العاشبات نفسها تصير معتمدة أكثر على الأصابع في البيئات المفتوحة والتي تكون فيها أكثر عرضة للأذى: أليس الجري على أطراف الأصابع أكثر راحة من الجري بقدمين منتعلتين؟ وهناك عدد معين من الصفات التشريحية تناظر وظائف بعينها ويمكن أن تكون هي الأخرى مؤشرات جيدة مثل أقدام بعض القوارض الساكنة الأشجار، أو أقدام غيرها المكيفة للحفر. ومع الحذر المناسب بالطبع فنحن نطبق طريقة تسمى “الاطِّرادية التصرُّفية”. أو بعبارة أخرى نحن نعتقد أن ضروب الحيوانات والنباتات التي ندرسها كانت تتصرف في الماضي بالطريقة نفسها التي تتصرف بها اليوم.
توجد أمثلة كثيرة توضح هذا التحول إلى بيئة أكثر جفافا، وهي متفقة بشكل غير عادي. فكلما تحركنا من الطبقات الأقدم عند القاع إلى طبقات أحدث نحو القمة نلاحظ زيادة في الاستطالة السنية (أي في نسبة طول السن إلى عرضها)، كما في فصيلة الفيليات (الأفيال القريبة من تلك التي تعيش في آسيا الآن)، وفي فصيلة الخرتيتيات [وبالذات الخرتيت (الكركدن) الأبيض]، وفي الهپاريون Hipparion وهو من أسلاف الحصان، وفي فصيلة أفراس النهر (أسلاف فرس النهر الحالي)، وفي بعض الخنازير والظباء. وبعبارة أخرى فهذه المجموعات أظهرت تعقيدا متزايدا نرجعه إلى التحول من الغذاء الورقي إلى الغذاء العشبي(2).
كذلك فصيلة الخنزيريات (أسلاف الخنزير الحالي) تظهر زيادة في عدد رؤوس الطواحن في أثناء تطورها.
ويوجد في الطبقات السفلى كثير من الظباء بما فيها الفُصَيِّلَة Tragelaphinaeوالفصيِّلة Reduncinae، وهي تعيش في البيئة الشجيرية. كل هذه المخلوقات لا بد أنها عاشت في الساڤانا الشجرية بالقرب من الماء. وقد ظهر الحصان الحديث (الجنس Equus)، كما ظهرت الخنازير الوحشية ذات الأسنان الطويلة ممثلة بالجنسين Stylochorus وphacochorus؛ وكذلك نرى تطور الظباء السريعة ممثلة بالأجناس التالية: Beatragus وMegaloragus وPalmularius؛ وهي حيوانات تعيش في الأراضي العشبية المفتوحة.
وفي الطبقات السفلى توجد ثلاثة أنواع من الجنس Galago أو النسناس، وجنسان من الخفاشيات هما: Taphozous وEidolon، وكلها تشير إلى غابات وساڤانا كثيفة. ويساند هذه النتيجة وجود عدد غفير من القوارض من الفصيلة الجُرَذِيّة Muridae من الجنس Mastomys، وكذلك قوارض من الأجناس CrammomysوGolunda وThryonomys وParaxerus أما في المستويات العليا فإن أجناس القوارض التالية: Coleura وThallomys وAethomys وgerbillurus مع الجنسينHeterocephalus وJaculus، والخفاشيات، وأيضا الجنس Lepus أو الأرنب، قد حلت محل الجماعات السكانية السابقة. وكل القوارض المتأخرة كانت تعيش في الساڤانا الجافة.
أشارت عينات حبوب اللقاح المستخرجة من القاع إلى وجود أربع وعشرين وحدة تصنيفية من الأشجار، في حين أن عددها بلغ عند أعلى العمود إحدى عشرة وحدة. وعند القاع بلغت نسبة حبوب اللقاح من الأشجار إلى حبوب اللقاح من الحشائش 0.4، ولكنها عند القمة نقصت عن 0.01. كما لوحظ عند القاع وفرة حبوب اللقاح التي تتبع أنواعا تنمو في الظروف الرطبة ـ وهي تشمل الأجناس التالية: Celtis وTypha وOlea وAcalypha. ولوحظ أن حبوب اللقاح هذه تقل بشكل ملحوظ في الطبقات الأحدث، وقد تختفي من السجل، في حين تظهر حبوب اللقاح للنبات Myrica الذي يميز المناخات الجافة. وتتضاءل أعداد حبوب اللقاح المنقولة بوساطة الرياح، والتي تسمى حبوب اللقاح الجليبةallochtone pollens من 21% عند القاع حيث حافة الغابة قريبة من نهر أومو إلى 2% عند القمة حيث كان نهر أومو منخفضا، أما حافة الغابة فكانت بعيدة.
وتبدو القصة مع البشريات مشابهة، فمن الواضح أن هؤلاء يمثلهم النوعAustralopithecus afarensis في الطبقات السفلى. أما الطبقات الأحدث عند القمة فتُظهر الأنواع الثلاثة الآتية: A.aethiopicus وA.boisei وHomo habilis. وكانت أقدم أنواع فصيِّلة الأسترالوپثيكات، التي سميناها “النحيلة”، أكثر تمكنا في بيئة غاصة بالأشجار من الأنواع الأكثر حداثة، التي سميناها “البادنة”. أما عن الآدميين، فإننا بلا جدال نتاجٌ بحتٌ لظروف جدبٍ مؤكدة.
لقد سميتُ هذه الأزمة المناخية “حادثة i(H) Omo”، اسم مشتق من تلاعب بسيط باللفظتين: Homo وOmo، لأنها حادثة سمحت بظهور الإنسان الحديثHomo وأنها تؤثر فينا بالذات تأثيرا قويا؛ ولأن الذي أظهرها أول مرة هو تتابعOmo. وبعد ذلك بسنوات قليلة جاءت المعطَيات نفسها من جنوبي إفريقيا.
هكذا يبدو واضحا بشكل لافت أن تاريخ الفصيلة البشرية، مثل تاريخ أي فصيلة أخرى من الفقاريات، بدأ بحادثة ما، وقد كانت الحادثة تِكتونية، ثم تقدمت تحت ضغط حادثة أخرى، وهذه كانت حادثة مناخية.
يمكن هنا تلخيص هذه التغيرات بسرعة. ففي الأساس غيّر التكيف الأول تركيب الدماغ لكنه لم يعمل على زيادة حجمه كما ظهر في القوالب الداخلية ومن الانطباعات المطاطية لمستحاثات الجماجم التي قام بعملها <R. هولوواي> من جامعة كولومبيا.
وفي الوقت نفسه دفعت هذه التغيرات فصيلة البشريات للمحافظة على وقفة رأسية هي أنسب ما يكون لها وأن تُنوِّع غذاءها مُحافِظةً على أن يكون نباتيا في أساسه. وأدّى التكيف الثاني إلى اتجاهين: بنية قوية وغذاء نباتي متخصص وضيّق المدى بالنسبة للأسترالوپثيكات الكبيرة، ودماغ كبير وغذاء انتهازي واسع المدى بالنسبة للآدميين.
وبعد مرور عدة مئات من آلاف السنين أثبت الاتجاه الثاني أنه الأكثر فائدة، وهو الذي ساد بالفعل. فمع دماغ أكبر جاءت درجة أعلى من التفكير والتأمل، وهذه طُرفة جديدة. ومع الحاجة إلى اصطياد اللحم أتت درجة أكبر من القدرة على التحرك. ولأول مرة في تاريخ البشريات أخذ هؤلاء في الانتشار من مكان نشأتهم. وهذه القدرة على الحركة هي وراء احتلال البشرية لهذا الكوكب في أقل من ثلاثة ملايين من السنين، ووراء بدئها في استكشاف عوالم أخرى في النظام الشمسي.
المؤلف
Yves Coppens
تخصَّص في دراسة التطور الإنساني ودراسة ما قبل التاريخ. حصل على درجاته العلمية من السوربون، حيث درس علم المستحاثات الفقارية والبشرية. وكوپنز عضو في عدد من المنظمات تشمل الأكاديمية الفرنسية للعلوم، والأكاديمية القومية للطب.
وهو حاليا أستاذ كرسي الأنثروپولوجيا القديمة وما قبل التاريخ في كلية فرنسا بباريس. وهو معروف أيضا بأنه أمضى عشرين عاما في أعمال حقلية واسعة في إفريقيا وبصفة خاصة في تشاد وإثيوبيا.
مراجع للاستزادة
EVOLUTION DES HOMINIDES ET DE LEUR ENVIRONNEMENT AU COURS DU PLIO-PLEISTOCENE DANS LA BASSE VALLEE DE L’OMO EN ETHIOPIE. Yves Coppens in Comptes Rendus Hebdomadaires des Seances de l’Academie des Sciences, Vol. 281, Series D, pages 1693-1696; December 3, 1975.
EARLIEST MAN AND ENVIRONMENTS IN THE LAKE RUDOLF BASIN: STRATIGRAPHY, PALEOECOLOGY AND EVOLUTION. Edited by Yves Coppens, F. Clark Howell, Glynn LI. Isaac and Richard E. F. Leakey. University of Chicago Press, 1976.
RECENT ADVANCES IN THE EVOLUTION OF PRIMATES. Edited by Carlos Chagas. Pontificia Academia Scientiarum, 1983.
L’ENVIRONNEMENT DES HOMINIDES AU PLIO-PLEISTOCENE. Edited by Fondation Singer-Polignac. Masson, Paris, 1985.
Scientific American, May 1994
(1) savanna: نَبْت متماثل شكلا أو بيئيا في المناطق المدارية وشبه المدارية. (التحرير)
(2) [انظر: “الغذاء وتطور الرئيسات،” مجلة العلوم، العدد 3/4، صفحة 82]. (التحرير)