متى نصدق ما نرى؟
متى نصدق ما نرى؟
إن تقانة معالجة الصور بالحواسيب الرقمية جعلت وثوقية
مدلول الصور الضوئية (الفوتوغرافية) أمرا يخالجه الشك.
<j.w. متشل>
نشرت صحف العالم في الشهر 9/1993 صورة ضوئية مدهشة تكاد لا تصدق لرئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين يصافح فيها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض، في حين كان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ينظر إليهما. وفي عام 1988 نشرت مجلة “Life” صورة تضارع الأولى إثارة للدهشة للرئيس عرفات وهو يحيي بحرارة رئيس وزراء إسرائيل حينذاك إسحق شامير، في حين كان ينظر الرئيس رونالد ريغان إليهما نظرة استحسان. لقد سجلت إحدى هاتين الصورتين حدثا واقعيا وقدمت برهانا صادقا على أن السلام في الشرق الأوسط يكاد يكون قريب المنال، أما الصورة الأخرى فهي تركيبة تخيلية مزيفة عولجت بوساطة الحاسوب.
المعالجة الرقمية لصور الصحف يمكن أن تصبح شكلا جديدا للتزييف، فصورتان من هذه الصور عولجتا للإيحاء بعواطف مختلفة. فما الذي يحدث فعلا بين جورج بوش ومرغريت تاتشر؟ هل هو حديث ودي، أم خلاف، أم شجار، أم هو همس شخصي جدا؟ |
طريقة تشكيل الصور المزيفة
|
مثل هذه “الصور” المزيفة يمكن إنتاجها الآن باستعمال “الأصبغة” المتوافرة بكثرة، وبمعالجة الصور بالبرامجيات software لإعادة ترتيب وتلوين عناصر منظر ما وتغييرها من نواح مختلفة. ويمكن للبرامجيات نفسها أن تدمج أجزاء من صور مختلفة في صورة واحدة جديدة. كذلك يمكن لبرامجيات أخرى أن تولد صورا مركبة واقعية تماما بتطبيق ظلال ومساقط منظورية معقدة على نماذج رقمية لمناظر ثلاثية الأبعاد ـ وهي التقنية المستخدمة غالبا لعرض المشروعات المعمارية ولإحداث التأثيرات الخاصة في صناعة السينما الأمريكية.
تركيب الصور بالقص واللصق
|
وبخلاف الرسوم والصور الزيتية التي ننظر إليها كتعبير غير مُعتمَد بطبيعته عن مقصد إنساني، فإن الصور المزيفة يمكن أن تخدعنا بسهولة وتوحي إلينا باعتقادات خاطئة. وقد كان يُظن أن الصور الضوئية تؤلف إثباتات شبيهة ببصمات الأصابع المخلَّفة في مسرح الجريمة أو شبيهة بآثار أحمر الشفاه على ياقة، فهي تنجم ـ كما يظهر ـ عن عملية سببية لا عن عملية مقصودة، ولهذا تبدو صحيحة ومعتمدة كدليل إثبات على ما حدث فعلا.
وليس تزييف الصور الضوئية من أجل زعزعة اليقين أمرا حديث العهد، فتعدد التعريض والطبع، والقص واللصق cut-and-paste، والتنقيح، كثيرا ما استعملت في الخدع وفي الدعاية السياسية. فعلى سبيل المثال، كثر في القرن التاسع عشر إنتاج “صور الأشباح والأرواح” بالتعريض المزدوج، كما عمل المشتغلون بالدعاية في عهد ستالين على محو صورة <تروتسكي>، غير المرغوب فيه سياسيا، باستخدام المرذاذ الهوائي، من صورة مشهورة تُظهر <لينين> وهو يخطب بالجمهور في الشهر 5/1920. ولكن التصوير الرقمي (أي معالجة الصور بالحواسيب الرقمية) يجعل إنتاج الصور الضوئية المزيفة أسرع وأسهل، وغالبا ما يكون كشف آثار زيفها أكثر صعوبة. وقد أصبحت قضية التمييز بين الحقيقة المرئية والتخيل أكثر إلحاحا، إذ إننا نشهد اليوم ازدياد تكاثر تقانة التصوير الرقمي. وقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من أن تكون معظم الصور التي نراها في حياتنا اليومية، والتي تُكوِّن فهمنا للعالم ومعرفتنا به، مسجلة ومنتشرة ومعالجة بالتقانة الرقمية.
تركيب الصورة الضوئية (الفوتوغرافية) رقميا
|
وغالبا ما يكشف فحص دقيق لصور مركبة بالطرائق التقليدية برهانا ماديا واضحا على التزييف الذي أُجري [انظر الصورة أعلاه]، فأقنعة الطبع والقصاصات يمكن أن تحدث أطرافا حادة مريبة، وقد تبرز آثار قلم الرصاص وحكاكات الدهان مقابل النسيج الحبيبي من حولها، كما يمكن أن تكون المزائج وتنظيمات البنى السطحية معيبة، وقد تكون الألوان غير ملائمة تماما. ويمكن التغلب على هذه العيوب بالمعالجة المعلوماتية، فمعالجة الصور الرقمية تتم بتغيير قيم العنصورات(1) (پيكسلات) المخزنة في ذاكرة الحاسوب بدلا من تغيير السطوح ميكانيكيا. وفي المعتاد، لا تُظهر الصور المركبة (الممنتجة) رقميا من آثار عمل الفنان إلا شيئا قليلا جدا.
أضف إلى ذلك، أن البرامجيات المستخدمة لإنتاج مركب رقمي digital composite تيسر في الغالب عمل الفنان إلى حد أنه لا يتطلب كثيرا من الوقت أو المهارة الفنية. مثل هذه البرامجيات تعتبر أدوات فعالة تفيد في تقصي الآثار tracing ودمج الأطراف وتنسيق الظلال والألوان ونسخ نسيج السطوح. وهكذا فإن كون صورة يخلو سطحها من الدروز (خطوط الالتحام) ليس من الأدلة القوية التي تثبت أنها لم تكن معالجة رقميا، بل يجب أن ننظر في أنماط أخرى من القرائن أو الدلالات من مثل الاتساق الداخلي ووجود الوثائق المؤكد مصدرها والترابط بالأمور الصحيحة الموثوقة.
مارلين مونرو تتأبط بابتهاج غامر ذراع أبراهام لنكولن!؟
|
ولا يُثبت خلوُّ الصورة من التناقضات الداخلية صحتها، فوجود عيوب كهذه يتيح، مع ذلك، رفض ادعاء أن صورة ما هي نسخة مصورة عن حقيقة مادية [انظر الصورة في الصفحة7]. وإليك بعض الأسئلة الأكثر وضوحا والتي يمكن أن تسألها عند النظر في التناقضات: هل كل أجسام المشهد تبدو في منظور صحيح؟ هل يبدو التقصير المنظوري لمظهر سطحي مترابطا باتجاهه المكاني الذي يوحي به ظله؟ هل مقاييس الزمن، كالساعات والظلال، تشير جميعها إلى لحظة التعريض ذاتها؟ هل تبدو بعض الأجسام أشد إضاءة أو أكثر إعتاما مما يحيط بها، على نحو غير متوقع؟ هل الأجسام المقحمة تكون خادعة بسبب نقص الظلال أو بسبب أن الظلال ملقاة منها بزوايا تختلف عن الزوايا التي تلقي بها الأجسام الأخرى ظلالها؟ هل هناك ظلال لا يبدو أن أي جسم آخر يلقيها؟ هل الظلال وانعكاس الأضواء الشديدة تنسجم مع المواقع المفترضة لمصادر الضوء؟ هل الانقطاعات غير المتوقعة في خلفية المشهد توحي بأن أجساما أزيلت من أماميته (صدره) foreground؟ هل تُظهر السطوح اللامعة الانعكاسات المتوقعة عن أجزاء المشهد الأخرى؟ هل تتغير شدة ضياء السطوح بالانعكاسات البينية المنتشرة؟ هل هناك تدرجات مقبولة على السطوح عندما تبتعد وتتلاشى؟ هل المنظور الهندسي (تصغير القد (الحجم) بازدياد العمق في المشهد) والمنظور الجوي (تغير اللون بتغير العمق) يتفقان مع معلومات العمق نفسها؟ هل هناك تدرج متناسق لحدة الوضوح مع البعد عن مستوى ضبط بؤري معين؟
أي من هاتين النسختين صورة حقيقية؟ إن معظم الناس ليس لديهم وسيلة لمعرفة أي من هاتين الصورتين، المنتجتين للڤيديو المنخفض الميز، تمثل المبنى الحقيقي، إذ ليس فيهما أي قرينة تكشف التزييف. ومع ذلك، فإن علماء العمارة في عصر النهضة الإيطالية يمكنهم أن يتعرفوا مباشرة أن الصورة ذات البرج (في اليمين) توافق المشروع المنشور الذي لم يتم بناؤه، وهو ڤيلا گودي للفنان <أندريا پالاديو>. في حين أن الصورة الأخرى التي لا برج فيها (في اليسار) تعرض التصميم الذي بُني فعلا. وقد أُنتجت صورة المشروع الذي لم يُبنَ بزحزحة النوافذ والمداخن وتوسيع الدرجات الضيقة، واستخدام أجزاء من الجدار وسطح السقف لتخطيط بناء البرج. إن مقدرتنا على التمييز بين الأمور المرئية الحقيقية والأمور المزيفة يتوقف على براعتنا في أن نختبر الأدلة المرئية في ضوء ما لدينا من معارف ومعتقدات راسخة. |
وبوجه عام، كلما كثرت المعلومات في صورة ما، كان من الصعب تغييرها من دون إدخال تناقضات يمكن كشفها. فعلى سبيل المثال، يَسهل إجراء التعديل في صورة بالأسود والأبيض مشوشة (غير واضحة) قليلة الإضاءة ومقدرة الميز (الفصل) فيها ضعيفة، في حين يصعب ذلك في صورة ملونة واضحة ومقدرة الميز فيها عالية. إن معالج الصور المزيفة مثله كمثل المخادع أو المنافق، الذي يحيك شبكة معقدة من الأكاذيب وينتهي أخيرا بأن يقع في الشرَك، يتعرض لخطر أن تُكتشف في معالجته بعض تناقضات دقيقة يتم اكتشافها بالاختبار الدقيق للدلائل البصرية في أجزاء الصورة.
ويمكن مع ذلك أن تكون الصور المركبة كليا، والتي تنتجها برامجيات التطبيقات المرئية الثلاثية الأبعاد، خالية من مثل هذه العيوب. فالمشاهد الثلاثية الأبعاد ـ المشكلة بعناية، والتي يُجعل منظورها مظللا بطريقة تقصي آثار الشعاع ray tracing (أي حساب انعكاسات الضوء وانكساراته في مشهد ما) ـ يمكنها أن تحاكي كل آثار الظل والضوء المعقدة وأن تخدع المشاهد الثاقب البصر. ويمكن لبعض الصور الضوئية التخيلية أن تجتاز بسهولة اختبار الترابط الداخلي.
علينا حينئذ أن نلجأ إلى معايير أخرى مثل مصدر الصورة. ذلك أن التقاط الصورة الضوئية يتم في مكان وزمان معينين، ومن ثم يمكن أن نتساءل دائما عن كيفية وصول المصور إلى ذلك المكان ذاته في تلك اللحظة عينها. ويمكن أن نسأل، فضلا عن ذلك، عن بيان كيف شقت الصورة طريقها منذ لحظة التقاطها حتى مكان استقرارها الحالي. وموثوقية المصدر يمكن أحيانا أن تكون بديلا عن سرد قصة الحدث صراحة، مثال ذلك ما تدل عليه صورة لسطح المريخ منشورة في مجلة “Nature” أو في جريدة شعبية مما يباع في الأسواق العامة.
ومن السهل غالبا تقصي آثار مصدر صورة ضوئية تقليدية، لأن الأفلام المعرّضة والصور السلبية والمطبوعة ينبغي نقلها ماديا من مكان إلى آخر، ولأن إظهارها وطبعها يجب إجراؤهما في غرف مظلمة مزودة بأدوات ملائمة. أما تقانة التصوير الرقمي فتجعل هذا العمل أيسر وأسرع: فهي تلغي الصور السلبية ويمكنها أن تنسخ الملفات في بضع ثوان وأن تنقل أو ترسل الصورة الرقمية بسرعة وبصورة غير مرئية من خلال الحاسوب وشبكات الهاتف.
إن أدق اختبار هو ما تتطلبه الصور التي لا يظهر فيها أي تلاعب يمكن كشفه أو أي تناقض داخلي واضح، وهي ـ مع ذلك ـ تناقض معلوماتنا الراسخة. فعلى سبيل المثال، نحن لا نعتقد أن <إلڤيس پريسلي> مازال حيا، ولكن إذا ما اطلعنا من مصدر ذي سمعة حسنة على “صورته” الواضحة المفصلة محاطا بخلفيات معاصرة يمكننا تعرفها، فإننا إما أن نتمسك بيقيننا من موثوقية بينة سابقة تؤكد أن إلفيس قد مات ونرفض الصورة على أنها مزيفة، أو أن نقبل البينة الجديدة التي اطلعنا عليها ونعدل بذلك ما استقر في أذهاننا. إن مثل هذه المحاكمات العقلية تزداد الحاجة إليها، كما تزداد صعوبة العمل بها بثقة وإيمان في عالم يسهل فيه تزييف الدلائل المرئية المقنعة.
كان يبدو منذ قرن ونصف القرن أنه لا يمكن مهاجمة ما تثبته الدلائل المصورة ضوئيا (فوتوغرافيا)، وكان استقرار عملية التصوير الكيميائي ومعاييرها المؤقتة يعزز بصورة فعلية غايات عهد يسود فيه العلم والاستكشاف والتصنيع، كما كان يبدو أن الصور الضوئية سلع مصنعة يوثق بها وأنه يسهل تمييزها عن أنماط أخرى من الصور والرسوم، وكان ينظر إليها بوجه عام على أنها سببية المصدر وأنها تقارير صادقة عما يجري في العالم الحقيقي بخلاف الصور التقليدية المصنعة يدويا، والتي بدا أنها تشتهر شهرة سيئة بأنها إبداعات بشرية حقائقها غير أكيدة ويلفها الغموض. إلا أن ظهور التصوير الرقمي قضى نهائيا على هذا اليقين، وأجبرنا جميعا على أن نكون حذرين جدا ويقظين عقليا وعاطفيا في تفسيراتنا لما نرى. وسوف يؤدي التطور السريع للمعلوماتية إلى فيض متزايد من المعلومات المرئية الرقمية، وما علينا إلا أن نُعنى كثيرا بتمحيص الأمور والتمييز بين الحقيقي والمزيف منها.
المؤلف
William J. Mitchell
مؤلف كتاب “إعادة تشكيل ما يُرى: الحقيقة المرئية في عصر ما بعد التصوير الضوئي (الفوتوغرافي)” وأستاذ فن العمارة وعلوم وفنون وسائل الإعلام، وهو كذلك عميد كلية العمارة والتخطيط في معهد ماساشوستس (MIT). تتركز بحوثه على التقنيات الحاسوبية والوسائط الرقمية في التصميم وفي الفنون المرئية. وتتضمن مطبوعاته السابقة: “منطق فن العمارة” (MIT Press 1990) . ويشاركه <مالكولم ماك كلاّ> في “وسائط التصميم الرقمي”، (Van Nostrand Reinhold, 1991).
Scientific American, February 1994
(1) جمع عنصورة (عنصر ـ صورة) أو پيكسل pixel . (التحرير)