التألق الصوتي: تحويل الصوت إلى ضوء
التألق الصوتي: تحويل الصوت إلى ضوء
تستطيع فقاعة هوائية تركيز الطاقة الصوتية ألف بليون
مرة لإعطاء ومضات ضوئية تستغرق وقتا بالغ القصر
(نحو 12-10 ثانية)، لكن تفسير هذه الآلية لم يكتمل بعد.
<J .S. پُترمان>
تخيّل أنك تركب عربة تصعد بك بانتظام منحدرا طويلا. في البداية، تصعد العربة ببطء حتى تصل إلى القمة ثم تهبط بك في سقوط حر متسارعة حتى تصل إلى قعر المنحدر، وعندها يحشرك التباطؤ بمقعدك. ويشبه هذا الإحساس ما تشعر به لو أنك امتطيت فقاعة هوائية متذبذبة مقتنَصة في الماء، فيما عدا أن سرعة الفقاعة تبلغ قيما فوق صوتية كما أنك ستُحشر في مقعدك عند الوصول إلى قعر المنحدر بقوة تساوي ألف بليون (البليون يساوي ألف مليون) مرة من وزنك.
وبطبيعة الحال، فإن معدتك تكون غير قادرة على تحمّل التقلبات أثناء هذه الرحلة، بيد أن الفقاعة تستجيب لهذه القوة الهائلة بإصدار ومضة ضوئية تستمر جزءا صغيرا من الثانية، ويكون معظم الضوء الصادر فوق بنفسجي مما يدل على أنه عندما تتوقف الفقاعة عن السقوط الحر تصبح درجة الحرارة في داخلها أكبر من درجة حرارة سطح الشمس. ويمكن لموجة صوتية جعل الفقاعة تعيد هذه العملية أكثر من ثلاثين ألف مرة في الثانية بحيث تصدر الومضات بدقة منتظمة تماما.
تركِّز الفقاعة طاقة الاهتزازات الصوتية بعامل يصل إلى ترليون (1012) مرة أثناء عملية التألق الصوتي sonoluminescence (وهو ما تُدعى به عملية تحويل الصوت إلى ضوء). ويصل طول الموجة الصوتية التي تسبب تذبذب الفقاعة إلى عدة سنتيمترات، ويصدر الضوء عن منطقة أبعادها ذرية.
ويظل تفسير هذا المنبع الضوئي غير العادي والرخيص الثمن أمرا محيّرًا. وكانت مدة الومضات الصادرة قصيرة جدا بحيث وجب علينا استعمال مكشافات فوتونية photodetector تستجيب بسرعة أكبر من المكشافات المستعملة في فيزياء الطاقات العالية لقياس خواص الضوء الصادر، (في الواقع، إن التألق الصوتي هو الطريقة الوحيدة لتوليد ومضات ضوئية تدوم پيكوثانية من دون الحاجة إلى استعمال ليزرات غالية الثمن). وهكذا يمكن أن تَستخدم العملية الفيزيائية، التي يركِّز فيها التألق الصوتي مقدارا كبيرا من الطاقة، كنموذج مفيد للباحثين الراغبين في تطوير الاندماج النووي المتحكّم فيه. أما المحاولات الحالية لفهم خفايا التألق الصوتي ـ التي تجري في مختبري بجامعة كاليفورنيا وفي معاهد أخرى ـ فقد أدت إلى ظهور تناقضات جديدة أكثر من إجابتها عن الأسئلة المطروحة حاليا.
لم أكن في الحقيقة مؤمنا بالتألق الصوتي عند سماعي عنه أول مرة في أواسط الثمانينيات من زميلي <Th. إربِر> من معهد إلينويز للتقانة. ففي أحد الأيام عندما كنا جالسَين في إحدى استراحات جامعة كاليفورنيا، سخر هذا الزميل من اهتمامي الدائم بميكانيك السوائل لا سيما معادلات ناڤيه ـ ستوكس التي تصف جريان السوائل، وقد سألني: «إذا كنت تعتقد أن معادلات ناڤيه ـ ستوكس عظيمة جدا فهل تستطيع أن تشرح لي كيف يمكن توليد الضوء من الصوت.» واعتمادا على حدسي، أجبته بأنني لا أعتقد إمكان حدوث التألق الصوتي، لكنه أصر على أن هذا المفعول قد لوحظ من قبل. وهكذا عدت مع <R. لوفْستدت> (الذي كان حينذاك طالبا في جامعة كاليفورنيا) إلى النشرات العلمية القديمة لأرى إن كان مفعول التألق الصوتي قد لوحظ من قبلُ فعلا.
وقد تبيّن لنا أن الكيميائيين في العشرينيات والثلاثينيات، الذين استعملوا مكبرات صوت مطوّرة في منظومات السونار sonar (منظومات تُصدر موجات فوق صوتية) أثناء الحرب العالمية الأولى، قد لاحظوا ظاهرة مهمة هي أنه يمكن لحقل صوتي قوي تحفيز تفاعلات تحدث في المحاليل المائية. وقد شرح الباحث الألماني <R. مِك> (من جامعة هيدلبرگ) لزملائه أن القدر اللازم من الطاقة لإحداث التفاعل الكيميائي يساوي القدر اللازم من أجل إثارة إصدار الضوء من الذّرّة، واقترح عليهم إجراء بحث في هذا الموضوع. وبعد فترة وجيزة اكتشف <H. فرنزل> و<H. شولتِس> (من جامعة كولونيا) ظاهرة التألق الصوتي في حوض ماء مثار بأمواج صوتية.
ربما يبدو مألوفا لدينا إمكان حدوث شرارة ضوئية عند لمس مقبض باب بعد المشي على سجادة. ومهما كانت الأسباب، فقد شرح فرنزل وشولتس إصدار الضوء بدلالة الكهرباء الاحتكاكية frictional electricity حيث تُحدِث الموجة الصوتية في تجربتهما عملية التكهُّف cavitation [وهي عملية حدوث الفقاعات في الماء ثم انهيارها collapse]. وقد شبّها حركة الفقاعات في السائل بعملية جر الحذاء على سجادة بحيث يسبب السحجُ أو الحكُّ انفصال الشحنة الكهربائية عن الوسط المعتدل كهربائيا في الأصل. وهكذا تطلق الشرارة الشحنة المتكونة. وقد ختما مقالتهما بالقول إن لديهما موضوعات أكثر أهمية للبحث فيها.
ينشأ الضوء عن الصوت بوساطة فقاعة هوائية مقتنَصة في حوجلة أسطوانية تحوي ماء منزوع الهواء، وتقتَنَص الفقاعة بوساطة الصوت الصادر عن مكروفونين موضوعين في أعلى الحوجلة وأسفلها. تصدر نبضة ضوئية تدوم نحو خمسين پيكوثانية أثناء انضغاط الموجة الصوتية. ويقيس ليزر قدّ الفقاعة خلال خفقانها مع الموجة الصوتية. يكون الضوء الصادر واهيا جدا [انظر الجزء المؤطر]. |
وقد اهتم باحثون آخرون بتفسير هذه الظاهرة وعكفوا على دراستها بإجراء قياسات طيفية لهذا المنبع الضوئي الجديد، ولكن لم تعطِ هذه الدراسات نتائج حاسمة بسبب الطبيعة الخاطفة لهذه الظاهرة. فقد سببت الحقول الصوتية القوية التي ولّدوها ظهور غمامات من الفقاعات التي كبرت وانهدمت وولّدت الضوء بصورة لا يمكن التنبؤ بها أو ضبطها.
وقد التقيت في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس <P .B. باربر> (طالب في الدراسات العليا) وتحمّسنا لوصف الآلية المسؤولة عن ظاهرة التألق الصوتي وفهمها، كما علمت أن باحثين آخرين نجحوا في اقتناص فقاعة مصدِرة للضوء في الماء المخلّى جزئيا من الهواء. وبدا أن تحمسي لنجاح تجربتهم قد فاق تحمسهم، إذ إنهم فككوا تجربتهم وهجروا هذا البحث، ولكنهم أرونا كيف نضبط جهازنا لكي نجد تألقا صوتيا ناتجا من فقاعة واحدة.
وهكذا أصبحنا مستعدين للمضي قُدُما في تجربتنا التي تضم حوجلة عادية من قسم الكيمياء وكاشف التذبذب oscilloscope من مختبر الطلاب ومضخم إشارات موسيقية ومضاعفا فوتونيا (وهو مِجس فوتوني عالي الحساسية) وبعض الأدوات الأخرى الرخيصة [انظر: «هواة العلم»، في الصفحة 33]. وكنا في بداية عملنا نحقن الفقاعة الهوائية في الماء بوساطة محقن طبي، ثم طوّرنا تجربتنا وحسّنّاها على مر السنوات. وصار جهازنا الحالي يتألف من محوال كهرإجهادي piezoelectric transducer موضوع في أعلى حوجلة أسطوانية مملوءة بالماء. والمحوال أداة مصنوعة من السيراميك (الخزف) تُحوِّل الجهد المهتز إلى اهتزازات ميكانيكية، مما يؤدي إلى إحداث أمواج صوتية ـ أي حقول متناوبة من الانضغاطات والتمددات ـ في الماء، وهناك مقاومة مغمورة في الماء تسخّن الماء عند تمرير تيار كهربائي فيها، وهذا يؤدي إلى تكوّن فقاعة مملوءة ببخار الماء. وقبل أن يتكاثف البخار الموجود داخل الفقاعة يندفع الهواء الذائب في الماء إلى داخلها لتكوين فقاعة هوائية.
تُقتنص هذه الفقاعة حينئذ في مركز الحوجلة الأسطوانية، حيث توازَن قوة الطفو (قوة أرخميدس)، التي تجعل الفقاعة ترتفع إلى السطح، بالقوة الناتجة من الأمواج الصوتية. وهكذا نحتاج إلى أمواج صوتية ذات شدة تكافئ نحو 110 ديسيبل لتوليد حركة فقاعة مميزة للتألق الصوتي، ومع أن هذه الشدة كبيرة جدا ـ تقارن بشدة صوت إنذار من حريق ينبعث من على بعد بضعة سنتيمترات ـ فإن تردد الصوت المستعمل يقع خارج مجالنا السمعي.
يتأخر حدوث التكهف والانفجار الداخلي للفقاعات قليلا عن الموجة الصوتية. تصل الفقاعة إلى قطرها الأعظمي بعد أن يصبح الضغط الصوتي سلبيا. وخلال طور الانضغاط يتناقص قد الفقاعة إلى حد يصبح فيه نصف قطر الفقاعة أقل من ميكرون واحد، وعندها تطلق نبضة ضوئية. ثم تستمر الفقاعة في انتفاخها وانكماشها وقتا قصيرا قبل تخامدها. |
سر الفقاعة المهتزة
كان هدفنا، كفيزيائيين يحاولون وصف خصائص التألق الصوتي، هو تعيين المقاييس الزمنية المتصلة بهذه الظاهرة لاسيما مدة الوميض الناتج منها. وكمْ كانت دهشتنا كبيرة عند معرفتنا أن هذه القياسات تستوجب استعمال أسرع المجسات الضوئية المعروفة. وهكذا أعطى تحليلنا مدة للوميض لا تتجاوز خمسين پيكوثانية تقريبا (الپيكوثانية: تساوي 12-10 ثانية). ووجدنا أيضا أن الومضات تحدث بانتظام كبير لا يصدّق، إذ لا يتغير الزمن بين ومضتين (الذي يساوي عادة 35 ميكروثانية) بأكثر من 40 پيكوثانية.
ولتحديد نصف قطر فقاعة التألق الصوتي سلط باربر ليزَرا عليها ثم قاس الضوء المتبعثر عن الحزمة. وبما أن شدة الضوء المتبعثر عن جسم كروي تتناسب مع مربع نصف قطر هذا الجسم فإن الجذر التربيعي للإشارة التي يعطيها المكشاف الفوتوني يدل على قيمة نصف قطر الفقاعة.
وقد بيّنت قياساتنا أن نصف قطر الفقاعة يبلغ عدة ميكرونات قبل أن يبدأ الحقل الصوتي بتمديدها، ثم يعمل انخفاض الضغط على تضخيم حجمها إلى نحو خمسين ميكرونا. وهكذا يستمر التمدد إلى أن ينقلب الحقل الصوتي من خلخلة الفقاعة إلى ضغطها.
وفي لحظة التمدد الأعلى الأعظمي يتكون شبه خلاء في داخل الفقاعة بسبب ازدياد حجمها بصورة كبيرة، لكن عدد الجزيئات الموجودة في داخلها لا يتغير، ومازال فعل الضغط الجوي مؤثرا فيها من الخارج. وهكذا يؤدي فرق الضغط بين الداخل والخارج إلى حصول انهدام تام للفقاعة، إذ يتناقص نصف قطرها من القيمة العظمى (50 ميكرونا) إلى نحو نصف ميكرون. وعند هذه القيمة يتوقف سطح الفقاعة عن اندفاعه نحو الداخل كما لو أن الفقاعة قد اصطدمت فجأة بجدار، فلا يمكنها أن تصبح أصغر من ذلك بسبب قوى التنافر بين ذرات الغاز وجزيئاته (يعطى قدُّ (حجم) الفقاعة في هذه المرحلة بقوى ڤان در ڤالسvan der Waals forces المؤثرة في ما تحويه الفقاعة من الغاز). وتصدر الومضة الضوئية عند نقصان قدِّ الفقاعة إلى القيمة الدنيا [انظر الشكل العلوي في الصفحة المقابلة]. وبعد إصدار الضوء تثب الفقاعة بمرونة عدة مرات في حجمها ثم تظل ساكنة في الماء إلى حين قدوم دورة صوتية جديدة.
وعلى الرغم من إمكان قياس التجارب لقدِّ الفقاعة فلا تستطيع أي نظرية تفسير تغير قطرها. وبما أن قدّ الفقاعة يعتمد على كمية الغاز الموجودة داخلها فإنني أدرس حاليا مع لوفْستدت الآلية التي ينتشر بها الغاز المنحل في ما يحيط به من الماء نحو داخل الفقاعة. وعندما تكون الفقاعة كبيرة الحجم يكون الضغط داخلها منخفضا لذلك يتدفق الغاز إلى داخلها من السائل المحيط بها، وعندما تصبح الفقاعة صغيرة يحدث الأمر المعاكس. وهكذا يحدد التوازنُ بين تدفق جزيئات الغاز نحو داخل الفقاعة أو نحو خارجها قدّها الوسطي.
ُتسّخّن فقاعة هوائية مهندمة في عدة مراحل. في البدء، تسخن الفقاعة أثناء ازدياد الضغط الصوتي الذي يسبب انكماشها (1)، ثم تسخن أيضا عندما تفوق سرعة جدران الفقاعة سرعة الصوت، وهذا ما يؤدي إلى حدوث موجة صدم متقاربة نحو مركز الفقاعة (2)، ويسخن الغاز أيضا عند ارتداد موجة الصدم عن مركز الفقاعة (3) التي تنفجر نحو الخارج (4). |
يبدو أن نصف قطر الفقاعة التي يسيِّرها حقل صوتي ضعيف يتبع تنبؤات هذا النمودج. ولكن تطبيق المحاكمة نفسها على حقل صوتي قوي، يستطيع إصدار الضوء من الفقاعة، يؤدي إلى تناقض مع هذه البيانات [انظر الشكل العلوي في الصفحة السابقة]، إذ يبدو أن نصف القطر الوسطي للفقاعة يزداد طردا مع اشتداد الصوت. لكن من الناحية العملية، يحدث انقطاع غير طبيعي في هذه العلاقة عندما يبدأ التألق الصوتي بالظهور، إذ يتناقص نصف القطر الوسطي فجأة عند هذا الانقطاع ثم يعود إلى الزيادة مرة ثانية مع زيادة الشدة الصوتية، وبوسعنا القول إنه يجب أن تحكم أو تحدِّد حالة التألق الصوتي آلية جديدة لتدفق الطاقة (وهذا لايزال أمرا مجهولا).
قلب متّقد
يبدو الوهج الأزرق الخافت لفقاعة التألق الصوتي مثل نجم في السماء ليلا عند النظر إليه بالعين المجردة. وفي عام 1991 حدّد أحد طلبتي (في الدراسات العليا) <A .R. هيلر> كمية هذا الإشعاع الضوئي الواقع في المجال المرئي من الطيف، وقد وجد أن فيه الكثير من الإشعاع الذي لا تدركه العين. وبينت النتائج أن الفقاعة تُصْدِرُ ضوءا أرجوانيا أكثر من إصدارها للضوء الأحمر، وضوءا فوق بنفسجي أكثر من الضوء الأرجواني. ولم نتمكن من تتبع الطيف إلى ما وراء طاقة للفوتونات تعادل 6 إلكترون ڤلط وهي توافق ضوءا فوسجيا (فوق بنفسجي) ذا طول موجة يساوي 0.2 ميكرون، إذ إن الضوء لا ينتشر في الماء عند طاقات أعلى من ذلك، (وللسبب نفسه وجب علينا استعمال حوجلة من الكوارتز بدلا من استعمال الزجاج الذي يمتص الأشعة فوق البنفسجية). وتوافق قيمة الطاقة 6 إلكترون ڤلط درجة حرارة تبلغ 000 72 كلڤن، وهذا يعني أن قلب الفقاعة يتّقد بحرارة لاذعة.
يحصل الانتقال إلى حالة التألق الصوتي عندما تصل الشدة الصوتية إلى قيمة حرجة. وبشكل عام، يتزايد نصف القطر الوسطي للفقاعة مع ازدياد شدة الموجة الصوتية. وحين تبلغ هذه الشدة القيمة الحرجة يبدأ التألق الصوتي ويتناقص نصف قطر الفقاعة فجأة. وتظل الآلية الكامنة وراء هذا الانتقال غير مفهومة حتى الآن. |
ويمكن تفسير الارتفاع الهائل لدرجة حرارة فقاعة الغاز المنهدمة اعتمادا على التجربة اليومية لساكني المناطق الجبلية، حيث يصبح الجو حارا عندما تهب الريح من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة. فعندما يؤثر فرق الضغط الجوي بين المنطقتين في هواء المنطقة المرتفعة قبل أن يجد هذا الأخير الوقت الكافي لتبادل حرارته مع البحر والأجسام الأبرد الأخرى في المنطقة المنخفضة، فإن الهواء يسخن بشكل كظوم adiabatically ـ وهذا يعني ازدياد درجة حرارته من دون إضافة أي طاقة حرارية.
ويتناقص حجم فقاعة التألق الصوتي نحو مليون مرة عندما يتناقص نصف قطرها مئة مرة. وفي الخمسينيات من هذا القرن وجد باحثون من مختبر مولارد للبحوث الإلكترونية في إنكلترا أن الانضغاط الكظوم في داخل الفقاعة يؤدي إلى بلوغ درجة حرارة تعادل 000 10 كلڤن وضغوطات تفوق 000 10 ضغط جوي، (ربما لا يتبخر سطح الفقاعة بسبب حدوث المعدلات العالية من الانضغاط والتسخين في مركز الفقاعة تماما).
لو عاش الفيزيائي الإنكليزي اللورد رايْلي في المناطق الجبلية فلربما قادته خبرته بالطقس إلى التنبؤ بظاهرة التألق الصوتي كجزء من البحوث التي أجراها على الفقاعات عام 1917 عندما طلبت إليه البحرية الملكية مساعدتها على فهم تآكل رفّاصات (مراوح) propellers السفن. وقد بيّن رايلي أن الفقاعات الهوائية الصغيرة، التي تنشأ عندما يقطع (يشرّح) الرفاص سطح الماء، هي المسؤولة عن ذلك، إذ تسبب الفقاعات تآكل الرفاص عند انهدامها عليه بقوة تفوق الضغط الجوي بعشرة آلاف مرة. ولكنه عند وصفه لحركة الفقاعات افترض أن انهدام الفقاعة يتبع قانون بويْل. وبمعنى آخر، ظن رايْلي أن الحرارة في داخل الفقاعة تبقى ثابتة، فلو أدرك أن الانهدام كان سريعا جدا إلى درجة أنه كان كظوما لتنبأ حتما بالحرارة العالية التي ترافق إصدار الضوء.
أمواج الصدم في الفقاعات
في الماضي، ربط الباحثون الذين درسوا التألق الصوتي والكيمياء الصوتية بين الغمامات الانتقالية للفقاعات الكهفية وبين المواضع الساخنة المتكونة في داخل كل فقاعة. وفي هذا النموذج التقليدي تسبب الطاقة المتركزة بوساطة انهدام الفقاعات انفصام وتفكك الجزيئات التي تصدر الضوء لاحقا عند اتحادها.
ومع ذلك لا يمكن أن يفسر ما هو معروف عن التكهف الانتقالي الطيفَ فوق البنفسجي القوي الذي تصدره فقاعة وحيدة متزامنة مع الحقل الصوتي، إذ تدل قياساتنا على أن درجة الحرارة تفوق فعليا 000 10 كلڤن في داخل الفقاعة. ويمكن الوصول إلى درجة الحرارة هذه إذا كان انهدام فقاعة واحدة متزامنة متناظرا وسريعا جدا بحيث يطلق موجة كروية نحو داخلها. وأثناء تركيز موجة الصدم ذات القطر Rs تزداد سعتها وسرعتها. وفي هذه الحال يعطى حل المعادلات الهيدروديناميكية بالعلاقة: Rs = Atb حيث A هو ثابت تجريبي وt هو الزمن المقيس ابتداء من لحظة التركيز حيث يكون Rs = 0 وbثابت يساوي 0.7 في الهواء. ويُرفق عدد ماخ Mach بكل موجة صدم، وهو يمثل نسبة سرعة الصدم إلى سرعة الصوت في الوسط. وتكون درجة الحرارة خلف جبهة الصدم أعلى من درجة الحرارة أمامها، وتتناسب النسبة بين هاتين الدرجتين مع مربع عدد ماخ. ومن أجل فقاعة هوائية تنفجر نحو الداخل، يقارب عدد ماخ اللانهاية عندما تصبح جبهة الصدم قريبة من البؤرة، وهذا يعني حدوث مقدار هائل من التسخين. فضلا عن ذلك، عندما تضرِبُ الصدمة المركز وتُحدِث الانفجار نحو الخارج فإن الجزيئات التي كانت وراء الصدمة تصبح أمامها فجأة مرة أخرى، وهكذا تصدم الجزيئات الساخنة مرة ثانية وترتفع درجة حرارتها بعامل آخر يساوي مربع عدد ماخ. وفقا لهذا النموذج الرياضياتي تكون درجة الحرارة التي يمكن الوصول إليها مرتفعة بصورة لا يمكن تصورها، لكن يحد من ارتفاعها ـ في الواقع ـ عدم استقرار جبهة الصدم. وفي نموذج موجة الصدم يتوقف التألق الصوتي على جبهة الصدم التي تبقى كروية حتى يبلغ نصف قطرها نحو 0.1 ميكرون. وتقوم جبهات الصدم الكروية بدور مهم في تصميم الأسلحة النووية. وقد استعمل الفيزيائي الإنكليزي <I .G. تيلور> صورا فوتوغرافية ومعادلات متعلقة بوصف الصدمات الانفجارية للحصول على أوائل مواصفات اختبارات القنبلة الهيدروجينية. وفي المستقبل، يمكن أن يكون فهمنا لكيفية إحداث حقل صوتي ـ مثل هذه الانهدامات الكروية الجميلة أثناء عملية التألق الصوتي ـ السبب في مساعدة الباحثين العاملين في معاهد مثل مختبر لورانس ليڤرمور الوطني وجامعة روشستر على تصميم نسخ محسّنة من الاندماج النووي المتحكم فيه بوساطة الحصر العطالي. ففي عملية الاندماج هذه تحث ليزرات عالية الطاقة انفجار كريات تحوي مزيجا من نظيري الهيدروجين (الديوتريوم والتريتيوم). ويشكل الانفجار الكروي نحو الداخل مفتاح الوصول إلى حرارات وكثافات كافية لتحقيق اندماج نوى الهيدروجين كي تعطي الهليوم والنيوترونات. ولعل هناك فرصة كبيرة في أن تكشف المقارنة بين التألق الصوتي والاندماج النووي المتحكم فيه بوساطة الحصر العطالي عن تشابه أعمق من ذلك. فإذا بقيت صدمة التألق الصوتي مستقرة حتى نصف قطر صغير جدا (لا يتجاوز 10 نانومتر) فإن درجة حرارة هذه المنطقة الضئيلة القدّ تبلغ قيما مناسبة للاندماج. ولا يصعب تصور وجود مفاعيل كثيرة تتماشى مع هذا السياق، نذكر منها عدم استقرار موجة الصدم والانتشار الحراري والتوهين (التخميد) الإشعاعي. ولكن بسبب قصور النماذج النظرية الحالية فإننا نراهن على عدم كفاية المحاكاة الحاسوبية لفهم هذه الظاهرة. وبإمكان التجارب المستقبلية فقط إعلامنا فيما إذا كانت درجة حرارة داخل الفقاعة تماثل سخونة داخل الشمس. |
ولكن كيف يمكن أن تولد الحرارة المرتفعة الضوء؟ يرى الباحثون الذين درسوا التألق الصوتي والكيمياء الصوتية أن الطاقة الناتجة من الانهدام تكون قوية بقدر كاف لتحطيم الجزيئات في الغاز الموجود داخل الفقاعة، ثم تصدر الجزيئات المنفصلة أو المتفككة الضوء عند إعادة اتحادها. وقد عرضَت <V. گريفينگ> (من الجامعة الكاثوليكية) هذا المفعول المدعو التألق الكيميائي أول مرة عام 1952 وهو يرافق حدوث تكهف انتقالي، وقد اسُتعمِل في بدء عمليات كيميائية غير عادية مثل صنع الحديد غير البلوري الذي قام به <S .K. سوسليك> من جامعة إلينويْز.
ومع أن فكرة التسخين الكظوم للفقاعات المنهدمة تعطي آلية مثيرة للإعجاب لعملية تركيز الطاقة إلا أنه لا يمكنها أن تكون الجواب التام الوحيد. فلا يسع هذا التسخين بمفرده إعطاء هذا الطيف فوق البنفسجي الذي رصدناه ورأيناه. لذلك ربما كان من الممكن حدوث مرحلة أخرى من تضخيم الطاقة. وقد استنتجتُ مع باربر آلية مقبولة إلى حد ما، إذ أدركنا أن السرعات فوق الصوتية للفقاعة المنهدمة يمكن أن تطلق أمواج صدم إلى داخل الفقاعة. ومع أن حركة الفقاعة تتوقف بفعل قوى تنافر الجزيئات الغازية بعضها مع بعض فيمكن لموجة صدم الانفجار داخليا أن تكمل طريقها إلى الداخل وتركز المزيد من طاقة الانهدام.
وقد أدرك زميلانا في الجامعة <H .P. روبرتس> و<Ch-.Ch. وو> الأهمية الكامنة في أمواج الصدم أثناء التألق الصوتي، كما حسبا مدى تركيز هذه الأمواج، وقد اعتمدا في دراساتهما على حل طوّره أول مرة الرياضياتي الألماني <G .K. گودرلي> في الأربعينيات، وبيّنا أن انهدام الفقاعة يمكن أن يطلق موجة صدم إلى داخل الفقاعة التي تزداد قوتها كلما توغل الانفجار داخليا. ويتعاظم الضغط ودرجة الحرارة العاليين المرافقين لجبهة موجة الصدم عند انقلاب اتجاهها من الداخل إلى الخارج، [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 30].
وتكون جبهات موجات الصدم، بوجه عام، عرضة لعدم الاستقرار الذي يجعّد سطوحها مما يحد من امتداد الانفجار نحو الداخل. وإذا بقيت جبهة الصدم المتجهة نحو الداخل، التي أطلقتها الفقاعة، سليمة حتى بلوغها نصف قطر قدره 0.1 ميكرون من مركز الفقاعة فإن درجة الحرارة في جوارها ستبلغ نحو مئة ألف كلڤن. وتعادل هذه القيمة الحرارة اللازمة لإصدار الطيف فوق البنفسجي الشديد الذي رصدناه ورأيناه، وإذا تمكنت جبهة الصدم من الوصول إلى نحو 20 نانومتر (النانومتر يساوي9-10 متر) فيمكن أن تصل درجة الحرارة إلى مليون كلڤن، وهي درجة حرارة كافية لإصدار الأشعة السينية الضعيفة. لكننا لا نعلم إن كانت هذه الأشعة موجودة فعلا أم لا، بسبب عدم انتشار فوتوناتها في الماء. ويبدو احتمال الحصول على الأشعة السينية الضعيفة من الصوت ضئيلا، كما أنني أشك في وجود هذا الإصدار، ولكن ألم أشك من قبل في وجود ظاهرة التألق الصوتي نفسها؟
يبين طيف التألق الصوتي أن معظم الضوء الصادر يكون فوق بنفسجي. وقد أشار <P. روبرتس> و<Ch-.Ch. وو> إلى تشابه الإشارة الصادرة مع إصدار الكبح، وهذا يعني أن الضوء صادر عن وسط پلازما تبلغ درجة حرارته نحو مئة آلف كلڤن. |
إضافة الغازات الخاملة
ومع أنه يصعب تفسير آلية التألق الصوتي الناتج من فقاعة وحيدة فإنه يسهل إحداث هذه الظاهرة بحد ذاتها وتعديلها، وهي حساسة جدا تجاه تغير المعاملات التجريبية المتحكم فيها مثل شدة الصوت ودرجة حرارة الماء. فمثلا يزداد مقدار الضوء الصادر في كل نبضة بعامل يبلغ 200 عندما تهبط درجة الحرارة من 35 درجة مئوية إلى الصفر. وعند درجة الصفر تعطي الفقاعة نحو عشرة ملايين فوتون في كل نبضة.
ويدعو تأثر الحساسية بدرجة الحرارة إلى إمكان فهم أعمق للتألق الصوتي بتغيير المقادير الأخرى. وقد حاولنا إيجاد تألق صوتي ناتج من فقاعة واحدة في سوائل أخرى غير الماء ولكننا لم ننجح في ذلك. وعوضا عن تغيير السائل حاولنا تغيير غاز الفقاعة. ويستدعي هذا التغيير تخلية الماء من الغاز باستعمال مفرغة هوائية، وهي عملية تنزع الهواء الذائب في الماء، ثم نذيب الغازات التي نريدها في الماء. وبالطبع يجب أن تجري هذه العملية في جهاز مُحْكَمِ الإغلاق، وكان هيلر ـ الذي صمم الجهاز ـ قد استعمله أول مرة للحصول على فقاعات من النتروجين (الآزوت) الصرف اعتقادا منه أننا نحصل على النتائج نفسها فيما لو استعمل الهواء، إذ إن النتروجين يكوِّن ثمانين في المئة من تركيب الهواء.
وكانت دهشتنا كبيرة عندما لم تصدِر فقاعات النتروجين النقي إلا قليلا من الضوء. وتوقعنا حينئذ أن يكون الأكسجين أكثر إصدارا للضوء، لكننا وجدنا أن ضوء فقاعة الأكسجين كان خافتا جدا. وكذلك كان إصدار الضوء ضعيفا من مزيج مكوّن من ثمانين في المئة من النتروجين وعشرين في المئة من الأكسجين. وهذا المزيج هو الموجود في عبوة الهواء السائل التي بحوزتنا. لقد فتشنا عن سر ذلك بلهفة إلى أن اكتشفنا خطأنا.
وفي الحقيقة كانت قياساتنا صحيحة، فالهواء العادي يحوي واحدا في المئة من غاز الأرگون argon، ولكن هذا الأرگون منزوع من الهواء السائل المباع تجاريا، ولذلك تزيد إضافة الأرگون إلى هذا الهواء السائل من شدة الضوء الصادر. وتقوم إضافة الهليوم والزينون xenon بالشيء نفسه مع أن لكل غاز خامل طيفا مميزا له، ولا نعلم حتى الآن لماذا كانت إشابة الهواء السائل بالغاز الخامل بنسبة واحد في المئة تعطي القيمة المثلى لحدوث التألق الصوتي.
ماذا نفهم من التألق الصوتي في ضوء نتائجنا التجريبية؟ في المقام الأول، نحن في صدد التعامل مع حقل صوتي «رفيع المستوى»، فهو يضع فقاعة الغاز في الموضع المناسب تماما لكي يؤثر فيها بنحو متناظر وبالقوة العظمى. ثم إن نظرية الانضغاط الكظوم الذي تتبعه موجة انفجار نحو الداخل تشكل نموذجا مغريا يساعد على توجيه بحوثنا في المستقبل.
لكن مازال هذا النموذج، مؤقتا، يحتاج إلى المزيد من التحسينات، فهو يخفق في تفسير مجاهيل كثيرة: منها قدُّ الفقاعة ودور الغازات الخاملة وآلية إصدار الضوء. والأهم من ذلك كله أن النظرية والتجربة قد أخفقتا في تعيين الحد الذي يمكن الوصول إليه في تركيز الطاقة. ومن المؤكد أن هذه الآلية هي المنظومةSاللاخطية الأكثر تعقيدا الموجودة في الطبيعة ومع ذلك يمكن التحكم فيها وتجنيبها كل مظاهر الشواش. ومصدر قوة ظاهرة التألق الصوتي هو النشاط والحساسية الكبيرين لمفعول إصدار الضوء، بحيث إنه عند تغيير أي معامل تجريبي فإننا نحصل على مفاعيل فيزيائية جديدة.
المؤلف
Seth J. Putterman
حصل على الدكتوراه من جامعة روكْفِلر عام 1970 قبل التحاقه بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. ومن اهتماماته العلمية في البحوث دراسة الدفق المضطرب والجريان الفائق والميكانيك الكمومي للذرات المنفردة. يشكر المؤلف طالبه <R. لوفْستدت> على المساعدة القيّمة التي قدمها له أثناء صياغة أفكار هذه المقالة.
مراجع للاستزادة
OBSERVATION OF SYNCHRONOUS PICOSECOND SONOLUMINESCENCE. Bradley P. Barber and Seth J. Putterman in Nature, Vol. 352, No. 6333, pages 318-323; July 25, 1991.
SENSITIVITY OF SONOLUMINESCENCE TO EXPERIMENTAL PARAMETERS. Bradley P. Barber, C. C. Wu, Ritva Lofstedt, Paul H. Roberts and Seth J. Putterman in Physical Review Letters, Vol. 72, No. 9, pages 1380-1383; February 28, 1994.
EFFECT OF NOBLE GAS DOPING IN SINGLEBUBBLE SONOLUMINESCENCE. Robert Hiller, Keith Weninger, Seth J. Putterman and Bradley P. Barber in Science, Vol. 266, pages 248-250; October 14, 1994.
Scientific American, February 1995