هل أطلع بور آخرين
هل أطلع بور آخرين
على أسرار نووية ؟
تقابل نيلز بور مع موظف سوڤييتي في نهاية عام 1945. وعلى الرغم من أن
البعض قد اتهم بور بإفشاء أسرار نووية، فقد وفَّرت مذكرة
اكتُشِفت حديثًا البرهان على عكس ذلك.
< A.H. بيته> ـ < K. گوتفريد> ـ < Z.R. ساگديڤ>
“جاءت أكثر المعلومات أهمية لصنع أول قنبلة ذرية سوڤييتية من العلماء الذين صمموا القنبلة الذرية الأمريكية في لوس ألاموس.. لقد وافقوا على اقتسام معلومات الأسلحة النووية مع العلماء السوڤييت….”
جاء هذا الادعاء المثير في كتاب المهام الخاصة Sepecial Tasks الصادر عام 1994، والذي يتمادى إلى حد اتهام بور وغيره من العلماء المشهورين ـ الذين شاركوا في مشروع مانهاتن ـ بإعطاء الجواسيس السوڤييت معلومات سرية عن المجهود الأمريكي لصنع قنابل نووية. والكتاب مبني على معلومات < P. سودبلاتوڤ> (أحد أفراد الشرطة السرية الرفيعي المستوى التابعين للرئيس ستالين). والكتاب لا يوثق اتهاماته الخطيرة بأي براهين تثبت صحتها. وعلى الرغم من ذلك، أثار نشر الكتاب جدلا حادا حول صدق هذه الادعاءات.
لقد رُفع الحظر منذ وقت غير بعيد عن مذكرة من محفوظات المخابرات السوڤييتية (المعروفة بالـ KGB) كانت قد رُفِعت لستالين. وتتضمن الوثيقة ما يفترض أنه نص حرفي لما دار في الاجتماع الذي عُقِد في الشهر11/ 1945، والذي يدعي أن بور قدم فيه للسوڤييت معلومات محظورة. لقد راجعنا هذه الوثيقة مراجعة دقيقة للغاية، ووجدنا البرهان على أن الاتهامات الموجَّهة لبور هي اتهامات زائفة.
يتعذر فهم الجدل المثار، وأيضا تحليلنا للمذكرة، إلا إذا كان للقارئ بعض الإلمام بتطور الفيزياء النووية قبل الحرب وبالجهود التي بُذلت لتطبيق المعرفة العلمية الناتجة للأغراض العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. لقد تحقق العلماء في أوائل القرن الحالي من أن الذرة تتكون من إلكترونات تدور في مسارات حول نواة تحتوي على بروتونات موجبة الشحنة. وكانوا يعلمون أيضا أن الطاقة داخل النواة أكبر ملايين المرات من الطاقة التي تتحرر من التفجيرات الكيميائية. ولكن لم يكن معلوما إلا القليل عن تركيب النواة إلى أن اكتشف < J. شادويك> النيوترون عام 1932، وكان يعمل في جامعة كامبريدج. وقد أوضحت بحوث شادويك أن النوى تتركب من بروتونات ونيوترونات.
تبين الصورة اللقاء الذي تم بين <N.بور> وموظف المخابرات السوڤييتية <I. ترلتسكي> (في اليمين) كما تخيله أحد الفنانين. تمت الزيارة في الشهر 11/1945 في مكتب بور بكوبنهاغن. أحضر ترلتسكي مترجما معه (في اليسار)، وكان مع بور اثنان من أبنائه، إرنست (في أقصى اليمين) وكان واقفا للحراسة في غرفة مجاورة ومعه مسدس معدٌّ للإطلاق، وآگا (واقف) الذي بقي في غرفة الاجتماع. رُفعت مذكرة لجوزيف ستالين (توجد ترجمة لجزء منها في يسار الصورة) تحتوي على مضبطة للمحادثة بين بور وترلتسكي. توجد أجزاء من المضبطة ضمن ما هو مؤطر في الصفحات التالية. |
وبسرعة، أصبح النيوترون مجسا حاسما لاكتشاف خواص النواة. ولأن النيوترونات لا تحمل شحنة كهربائية فإن النوى الموجبة الشحنة لا تطردها، وبالتالي يمكن للنيوترونات أن تدخل بسهولة في نوى العديد من العناصر، وتسمى هذه العملية أَسْر النيوترونات. وقد دُرِست تفاعلات نووية كثيرة تتضمن أَسْرا للنيوترونات ولكن لم ينتج من أي منها تغيرات مثيرة في النوى.
ومع ذلك، ففي عام 1938، شاهد < O. هان> و <F. ستراسمان>، وكانا يعملان في معهد القيصر ويلهلم ببرلين، تفاعلا غريبا يتضمن اليورانيوم ـ وهو أثقل العناصر المعروفة حينذاك. لقد دهش الاثنان عندما وجدا أن أحد نواتج التفاعل الناشئ عن قذف اليورانيوم بالنيوترونات هو عنصر الباريوم الخفيف نسبيا. وعلى الفور فسر <O. فريش> و <L. مايتنر> (لاجئان من ألمانيا النازية) مشاهدات هان وستراسمان على أنها تشير إلى انقسام نواة اليورانيوم إلى نواتين لهما الحجم نفسه تقريبا. وأطلق فريش ومايتنر اسم “الانشطار” fission على هذه العملية. وكان رأيهما هذا مبنيا على أن التنافر الكهربائي بين البروتونات الكثيرة الموجودة في النوى الأثقل يجعل هذه النوى تكاد تكون غير مستقرة، وبالتالي فإن أسْر نيوترون إضافي يمكن أن يسبب تفريق النوى. وقد وجدا، بالحساب أيضا، أن انقسام اليورانيوم إلى جزءين يحرر طاقة أكبر كثيرا جدا من تلك التي تم الحصول عليها في جميع التفاعلات النووية التي سبق إجراؤها.
إمكانية التفاعل المتسلسل
تبع ذلك نشاط محموم لجماعة الفيزيائيين النوويين الدولية المحدودة العدد. وكان دافعهم الغالب في البداية هو الفضول العلمي، وكانوا جميعا يعلمون أن النتائج العلمية الجديدة يتم نشرها من دون قيود. ولكن اتضح أن لكشفين تمّا في بداية عام 1939 أهمية رئيسية بالنسبة للبرامج العسكرية التي بدأت بعد غزو هتلر لبولندا في الشهر 9 / 1939.
في شتاء العام نفسه أتى بور من كوبنهاغن لزيارة جامعة پرنستون. وخلال الزيارة، أكد بور ظنه أن خام اليورانيوم الطبيعي لا يحتوي إلا على جزء ضئيل جدا من النوى المسؤولة عن الانشطار المشاهَدْ. والكشف الحاسم الآخر، الذي توصلت إليه مجموعتان مستقلتان من العلماء، هو انبعاث نيوترونات متعددة من نواة اليورانيوم خلال عملية الانشطار. وبالتالي، يمكن أن تسبب هذه النيوترونات الثانوية انشطار نوى أخرى بالحث، وتبدأ بذلك تفاعلا متسلسلا.
وجد بور، بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي < J. هويلر> نظرية مفصلة للانشطار. وقد مكّنت هذه النظرية العالِمَيْن من التنبؤ بما إذا كانت نواة عنصر معين ستنشطر أم لا بعد عملية الأسر النيوتروني. وقدّرا أيضا احتمالات انشطار النوى “تلقائيا” spontaneously، أي من دون أن تصبح أولا غير مستقرة بوساطة نيوترون مأسور.
أكد بور وهويلر، باستخدام نظريتهما الجديدة، صحة فكرة بور التي تنص على أن جزءا صغيرا من النوى في اليورانيوم الطبيعي يقبل الانشطار بالحث النيوتروني. وقد برهَنَا بالتحديد على أن مثل هذه النوى توجد في صورة نادرة تعرف باليورانيوم 235. ومثل أغلب العناصر، يوجد اليورانيوم في صور متعددة تسمى نظائر isotopes، ويختلف الواحد منها عن الآخر فقط في عدد النيوترونات الموجودة في نواته. فمثلا اليورانيوم 235 الذي يكوِّن 0.7 في المئة فقط من خام اليورانيوم الطبيعي تحتوي نواته على 143 نيوترونا وعلى 92 بروتونا، والعدد الكتلي 235 هو مجموع عدد النيوترونات والبروتونات. والنظير الأكثر وجودا، وهو اليورانيوم 238، له 146 نيوترونا إضافة إلى 92 بروتونا.
حديث في كوبنهاغن
المقتطفات التالية هي من المناقشة التي تمت بين ترلتسكي وبور مأخوذة من ترجمة للمضبطة التي أُرسلت لستالين عام 1945. ويمكن الحصول على المضبطة كاملة من ساينتفيك أمريكان على (أمريكا باتصال مباشر) America Online.
ترلتسكي: ما الطريقة العملية التي استُخدمت للحصول على كميات وفيرة من اليورانيوم 235، وما الطريقة التي تبشر بالنجاح أكثر من غيرها (الانتشار أو المغنطيسية أو غيرهما)؟ بور: إن نظرية الحصول على اليورانيوم 235 معروفة جيدا لعلماء جميع الدول، وقد تم إنجازها قبل الحرب، ولا تتضمن أي أسرار. ولم تقدم الحرب شيئا جديدا جوهريا. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن مسألتي مفاعل اليورانيوم والبلوتونيوم الناشئ عنه قد تم حلهما خلال الحرب، ولو أن أساس الحل لم يكن أيضا جديدا. لقد نُفذا عمليا. والتطور الأساسي يتعلق بفصل اليورانيوم 235 من الخليط الطبيعي للنظائر. وبعد الحصول على الكمية المطلوبة من اليورانيوم 235 لن تكون هناك صعوبة نظرية في سبيل القنبلة. ويتم فصل اليورانيوم 235 بطريقة الانتشار، وهي معروفة جيدا، وأيضا بطريقة التحليل الطيفي للكتلة. لم تُستخدم أي طريقة جديدة. ويرجع النجاح الأمريكي إلى التنفيذ العملي لتصميمات معلومة جيدا وعلى نطاق كبير بدرجة يصعب تصديقها. ويلزم تحذير هنا: عندما كنت في الولايات المتحدة، لم أشارك في التطوير التقاني للمشروع، وبالتالي فليس لي دراية بملامح تصميمه أو بحجم الأجهزة أو حتى بأي جزء منها.. تعليق المؤلفين: إذا كانت هذه هي فعلا إجابة بور، فإنه يكون قد لجأ إلى عجرفة المفكرين، وهو أمر لم يُعهد فيه، ليتجنب الإجابة الواقعية. يمكن أن تعزِل طرقُ الفصل التي ذكرها كميات صغيرة للغاية من نظائر بعينها، وليس كيلوغرامات. وكان الاعتقاد السائد (لا سيما عند بور) أن هذه المشكلة تمثل عقبة في طريق صنع القنابل النووية يصعب تجاوزها. وكان يجب ابتداع أفكار لفصل النظائر على نطاق ضخم. كانت إجابة بور غير كاشفة وتماثل في ذلك إجابة نيوتن، بافتراض أنه سئل عن كيفية إرسال شخص إلى القمر بأن “كل ما يلزم موجود في الپرنسيپيا Principiaفيما عدا بعض التفاصيل التقنية”. ترلتسكي: ما عدد الانشطارات التلقائية في وحدة الزمن لكل من المواد التي سبق ذكرها [يورانيوم 235، يورانيوم 238، بلوتونيوم 239، بلوتونيوم 240]؟ بور: الانشطار التلقائي غير مهم ويجب إهماله في الحسابات. إن عمر الانشطار التلقائي هو نحو 7000 عام. ويتعذر عليَّ إعطاؤك تقديرا أكثر دقة، وبسبب هذه القيمة لعمر الانشطار التلقائي، فلا يُنتظر أن يؤثر بفعالية في العملية. تعليق المؤلفين: جاء هذا السؤال بعد سلسلة من الأسئلة عن المفاعلات وتلا مباشرة سؤالا عن عدد النيوترونات التي تتحرر بالانشطار، وهو سؤال يتعلق بكل من المفاعلات والقنابل. وعلى ذلك، فليس واضحا ما إذا كان السؤال يشير إلى القنابل أو إلى المفاعلات. وإجابة بور صحيحة بالنسبة لتصميم المفاعل، وغير صحيحة بالنسبة لتصميم القنبلة. وكما هو موضح في المقالة، فإن الانشطار التلقائي اعتبار أساسي وحاسم بالنسبة لقنبلة البلوتونيوم، لأنه يستلزم تصميما جديدا تماما. ترلتسكي: ما المواد التي صنعت منها القنابل الذرية؟ بور: لا أعلم بالضبط ما المادة التي استُخدمت في القنابل التي ألقيت على اليابان. ولا أعتقد أن أي عالم أكاديمي سيجيب عن هذا السؤال. العسكريون فقط هم الذين يعرفون الإجابة. ويمكنني القول: إنها صنعت إما من البلوتونيوم أو من اليورانيوم 235. تعليق المؤلفين: كثير من العلماء الرئيسيين في لوس ألاموس (بيته مثلا) كانوا على علم بالمواد التي استخدمت. ولكننا لا ندري هل كان بور على علم بها أم لا. ترلتسكي: هل تُستخدم المادة العالية الكثافة قبل تفجير القنبلة أم بعد صدمة الانفجار؟ بور: ليس هناك حاجة إلى ذلك. الأمر المهم هو أن تتحرك جسيمات اليورانيوم أثناء الانفجار بسرعة تساوي سرعة النيوترونات. وإذا لم يتحقق ذلك ستتداعى القنبلة في تفجير صغير. ولكن، مع الانفجار ولتساوي السرعة، تستمر عملية انشطار اليورانيوم حتى بعد الانفجار. تعليق المؤلفين: السؤال محرَّف. وقد يكون المفروض هو التساؤل عما إذا كانت الكثافة العالية للمادة القابلة للانشطار ـ التي تنتج من التفجير الكيميائي الأولي ـ تعزز التفاعل المتسلسل. وستكون الإجابة في هذه الحالة قيّمة جدا. ونحن لم نتمكن من استيعاب القول المنسوب لبور، كما أن الشيء نفسه لا بد أن يكون صحيحا أيضا بالنسبة للسوڤييت. |
أكدت عدة تجارب صحة ما تنبأ به بور من أن اليورانيوم 235 فقط هو الذي ينشطر بالحث النيوتروني. وكان هذا التأكيد يعني أن التقانات المبنية على انشطار اليورانيوم ستتطلب في الغالب عزل اليورانيوم 235. ولكن التوصل لمثل هذا العزل سيكون بالغ الصعوبة. يتحدد سلوك الذرة في جميع العمليات الكيميائية بالشحنة الكهربائية للنواة، وبالتالي لا يتوقف هذا السلوك على عدد النيوترونات. وعلى ذلك، يتعذر فصل اليورانيوم 235 عن اليورانيوم 238 في الخام بأي عملية كيميائية. ستعتمد عملية الفصل على الفرق الصغير للغاية (واحد في المئة) بين وزني النظيرين. وفي ذلك الوقت، لم تكن هناك أي طريقة معقولة التكاليف معروفة لفصل كميات محسوسة من النظيرين.
ألقت هذه الصعوبة في البداية الشكوك حول إمكانية وجود تطبيقات عملية للانشطار النووي. فطن كثير من الفيزيائيين في جميع الدول الكبرى، التي كانت على وشك محاربة بعضها البعض، إلى أن التفاعل المتسلسل في اليورانيوم يمكن أن يكون له مهمتان مميزتان بالغتا الأهمية وتتعلق كل منهما بالأخرى. إحداهما هي أن التفاعل المتسلسل الذاتي الاعتماد self-sustaining ـ الذي يمكن التحكم فيه ـ سيجعل توليد الطاقة
النووية أمرا ممكنا. والأخرى هي أنه إذا تضاعف التفاعل المتسلسل من دون حد فقد ينشأ عنه انفجار هائل. ولكن، لأن الأمل في عزل كمية من اليورانيوم 235 تكفي لصنع قنبلة كان بعيدا، لم يعتقد أحد أن مثل هذا الجهاز يمكن تصنيعه في المستقبل القريب، أو أن يكون له تأثير في نتيجة الحرب.
وعلى الرغم من أن هذا التوقُّع كان بعيد الاحتمال، فقد ساد الخوف من أن تصنع ألمانيا ـ التي كان لها دور مهم للغاية في الفيزياء الحديثة ـ أسلحة نووية. وأدى هذا الخوف إلى تأييد الفيزيائيين في بريطانيا والولايات المتحدة لاستكشاف الاستخدامات العسكرية المحتملة للانشطار. بدأ البرنامج الأمريكي للأسلحة النووية بداية متواضعة عام 1940، وذلك بتمويل حكومي قدره 6000 دولار قُدّم إلى < .E فيرمي> وعلماء آخرين كان الكثير منهم لاجئين من أوروبا. وكان فيرمي قد هرب من إيطاليا وذهب إلى جامعة كولومبيا في الشهر 1/19399. ومشروع فيرمي الأول كان الحصول على تفاعل متسلسل ذاتي الاعتماد في اليورانيوم الطبيعي وذلك على الرغم من قلة ما يحويه هذا الخام من اليورانيوم 235 القابل للانشطار. نجحت أخيرا محاولات فيرمي في شيكاغو في الشهر 12/1942.
مسار آخر للقنبلة
كان الفيزيائيون في ألمانيا وروسيا والولايات المتحدة قد تنبهوا في وقت سابق إلى احتمال وجود طريق آخر لصنع القنبلة الذرية. وتنبؤوا، منفردين وسرا، بأن نظير اليورانيوم 238 ـ الموجود بوفرة في الخام ـ يمكن أن يتحول إلى عنصر جديد عند أسره لنيوترون (سمي هذا العنصر الآن البلوتونيوم) وبأن هذا العنصر الجديد يمر بعملية الانشطار بالحث النيوتروني مثله في ذلك مثل النظير النادر اليورانيوم 235. وبما أن البلوتونيوم هو عنصر بذاته، فمن الممكن فصله عن اليورانيوم الذي أنتج فيه بطرق كيميائية. وبالتالي يتاح تجنب الطريقة المقلقة للفصل، وقد ظهر أن مفاعل اليورانيوم، الذي صممه فيرمي، يصنع البلوتونيوم أيضا. وقد كان هذا المفاعل النموذج الأولي لمصنع إنتاج البلوتونيوم الذي أنشئ في هانفورد بولاية واشنطن.
إذا عدنا إلى عام 1940، عندما كان الجهد البحثي النووي الأمريكي لايزال مركزا على إجابة عن سؤال “هل يمكن تشغيل المفاعل النووي؟”، نجد أن البريطانيين كان لهم دور حاسم في إثبات أن الأسلحة النووية قد تكون هدفا واقعيا. كان فريش و < R. بيرلز>، وهو لاجئ آخر من ألمانيا، يعملان سرا ومن دون دعم حكومي في جامعة برمنگهام بإنگلترا، وقاما في الشهر 3 بحساب أقل كمية من اليورانيوم 235 النقي تؤدي إلى تفاعل تفجيري متسلسل. وقد توصلا إلى نتيجة مذهلة، هي أن هذه الكتلة الحرجة صغيرة جدا وتبلغ عدة كيلوغرامات فقط.
يُظن أن فيزيائيَيْن من أصدقاء بور هما <L.P.كاپيتزا> (في الأعلى) و<D.L. لانداو> (في الأسفل) قد وفرا الوازع لبور للتحدث مع السوڤييت. سجن لانداو ولم يُسمح لكاپيتزا بالعودة إلى إنگلترا بعد زيارة لأقاربه. ويبدو بأن بور كان يأمل أن يوفر اللقاء له فرصة لنقل شعوره بتأييد العالِميْن والقلق عليهما. |
رُفعت مذكرة عن هذه النتيجة التي حصل عليها هذان العالمان وكذلك عن أفكارهما المتفائلة عن فصل النظائر إلى مجلس وزراء ونستون تشرشل. وقرر المجلس المتابعة الجادة للبحث العلمي بهدف تصنيع قنبلة نووية. وقد ساعد القرار البريطاني على إقناع الرئيس الأمريكي
فرانكلين روزفلت عام 1942 بإقرار مشروع مانهاتن. وقد قام الجهد الأمريكي لتصنيع الأسلحة النووية بعد ذلك بفترة قصيرة بتوظيف الآلاف في مختبر تصميم الأسلحة في لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو، وكذلك في كثير من المواقع العلمية الكبيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
كانت سياسة الولايات المتحدة هي عدم صرف النظر عن أي احتمالات، وبالتالي قامت بمتابعة البحث في كل من مسارَي البلوتونيوم واليورانيوم إلى القنبلة. وأول مفهوم للقنبلة نُظر فيه في مختبر لوس ألاموس ـ وهو ما يسمى تصميم البندقية gun design ـ كان يتضمن إطلاق كتلة دون الحرجة من اليورانيوم 235 في أخرى لتكوين فجائي لكتلة حرجة. كان تصميم القنبلة التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية في 6/8/1945هو تصميم البندقية، واليورانيوم 235 الذي استخدم فيها كان نقيا تماما، تقريبا، وتم فصله من الخام بتكلفة باهظة.
ولكن الأسلوب نفسه لا يصلح بالنسبة للبلوتونيوم. وقد وصلت أول عينة من البلوتونيوم إلى لوس ألاموس عام 1944 وجلبت معها مفاجأة كبيرة. فلقد وُجد أن للبلوتونيوم ميلا شديدا إلى الانشطار تلقائيا. وإذا استخدم أسلوب تصميم البندقية لتجميع الكتلة الحرجة، ستولِّد النيوترونات المنبعثة خلال الانشطار التلقائي تفاعلا متسلسلا وسينتج من ذلك كمية هائلة من الحرارة. وهذه الحرارة تسبب تعويقا للجهاز، وبالتالي فإن الانفجار الحادث يكون ضئيلا.
تم ابتكار ترتيب جديد تماما وأصعب كثيرا هو تصميم الانفجار الضمني theimplosion design. استخدمت كرة حرجة من البلوتونيوم محاطة بمفجرات عادية. يسبب انفجار كيميائي انضغاط البلوتونيوم وبالتالي تزداد كثافته بدرجة كبيرة، وتصبح أعلى كثيرا من قيمتها في الظروف العادية. وبسبب هذه الكثافة العالية، ينمو التفاعل المتسلسل بسرعة كبيرة. وبسبب سرعة الانضغاط، لا يكون هناك وقت يسمح للانشطار التلقائي بتعويق الجهاز. ولقد استُخدم تصميم الانفجار الضمني في القنبلة التي ألقيت على ناگازاكي في 9/8/1945.
أعلنت الحكومة الأمريكية تقريرها الرسمي عن مشروع مانهاتن بعد يومين من إسقاط القنبلة الثانية. وحرر هذا التقرير الفيزيائي <D.H. سميث> وقد أفشى التقرير كمًّا هائلا من المعلومات، وحقق أيضا أهدافا أمنية. لقد عمل الآلاف في المشروع وكان من الضروري تحديد الأمور ذات الصفة السرية من دون لبس. وفي تقديمه للتقرير، كتب الجنرال <L. گروفز>، القائد العسكري لمشروع مانهاتن: “يجب عدم التقدم بطلب للحصول على أي معلومات إضافية.”
علماء سوڤييت وجواسيس
وبالطبع، كان السوڤييت أيضا مهتمين بالسلاح النووي خلال الحرب. ويرجع الفضل إلى كتاب <D.هولواي> الجديد ستالين والقنبلة Stalin and the Bomb في توضيح التفاعل والتداخل بين العلم، والجاسوسية والسياسة اللذين اتسم بهما هذا الجهد في العالم الغربي.
في ثلاثينات هذا القرن، كان هناك عدد من التجريبيين الشبان يعملون في معهد الفيزياء التقنية بلينينغراد بقيادة <V.I. كورشاتوڤ>، وقد اكتسب هؤلاء مهارة عالية في البحث النووي. فمثلا، كان <N.G. فلروڤ>، أحد تلاميذ كورشاتوڤ، أول من أكد صحة تنبؤ بور وهويلر بأن اليورانيوم ينشطر تلقائيا، وقد وصف هذه النتيجة في الدورية الأمريكية Physical Review في الشهر 7/19400.
كان الفيزيائيون النظريون السوڤييت على أعلى مستوى عالمي. وفي معهد الكيمياء الفيزيائية بلينينغراد، أجرى<B.I. خاريتون> و<B.I. زيلدوفتش> (الذي قاد بالاشتراك مع <A.ساخاروڤ> مشروع القنبلة الهيدروجينية بعد الحرب) ودراسات رائدة في موضوع التفاعل المتسلسل للانشطار في اليورانيوم الطبيعي. وفي عام 1941، بعد فرض السرية، قدر خاريتون وزيلدوڤتش الكتلة الحرجة لليورانيوم 235 تقديرا صحيحا، مثلهما مثل فريش وبيرلز اللذين سبقاهما في ذلك. (من الغريب أن الفيزيائيين الألمان لم يقوموا قط بحساب هذه الكتلة أثناء الحرب، على الرغم من أن السمعة المتميزة للعِلْم الألماني كانت السبب في إقناع تشرشل وروزفلت بضرورة الحصول على القنبلة مهما كان الثمن.)
لقد أوضح الفيزيائيون السوڤييت لحكومتهم الإمكانات العسكرية للانشطار. ولكن الاتحاد السوڤييتي كان عليه أن يناضل ضد غزو هتلر بعد الشهر 6/1941، ولم يكن في استطاعته توفير الموارد الضخمة لهدف القنبلة النووية، الذي كان تحقيقه غير مؤكد، واستمرت الحال كذلك حتى هزيمة ألمانيا.
ولكن الجاسوسية السوڤييتية حققت نجاحا عظيما. ففي الشهر 9/1941، حصل الجواسيس السوڤييت في لندن على تقرير مرفوع إلى الحكومة البريطانية أساسه مذكرة فريش وبيرلز. وهذه المعلومات، التي يبدو أنها سُرِّبت عن طريق موظف حكومي بريطاني رفيع المستوى، كانت ثمينة للغاية؛ لأنها أوضحت أيضا أن الحكومة البريطانية قررت التعاون مع الولايات المتحدة في بحوث القنبلة. وبعد ذلك بعدة أشهر، أصبح المصدر الرئيسي لمعلومات السوڤييت هو الفيزيائي <K.فوكس>، وهو شيوعي هرب من ألمانيا النازية واستقر في بريطانيا وكان يعمل مع بيرلز. قدّم فوكس متطوعا سيلا من التقارير التقنية من بريطانيا وبعد ذلك من الولايات المتحدة عندما كان واحدا من أفراد المجموعة البريطانية المشاركة في مشروع مانهاتن. وتضمنت هذه الوثائق وصفا لفصل النظائر وللمفاعلات النووية. وفي الشهر 6/1945، قدم للسوڤييت المواصفات التفصيلية للقنبلة ذات التفجير الضمني والتي استخدمت فيما بعد في ناگازاكي، وبالطبع كان ذلك من أهم الأسرار التي نقلها لهم.
وعلى ذلك، فعندما أرسل الرئيس هاري ترومان قبل أسبوعين من إلقاء القنبلة على هيروشيما إشارته الخفية الشهيرة إلى ستالين “بأن لدينا سلاحا جديدا له قوة تدمير غير عادية،” كان مخطئا في ظنه أن ستالين لم يفهم تلميحه. على العكس من ذلك، فقد أمر ستالين فورا بتعجيل المجهود السوڤييتي الخاص بصناعة الأسلحة النووية. كما عيّن ستالين<A .Lبيريا> رئيس شرطته السرية ـ المشهور بسمعته السيئة ـ مشرفا على هذا المشروع.
كان بيريا يبعث الخوف في كل من يقع داخل دائرته. ولم يكن يثق في أحد ـ لا في علمائه ولا في جواسيسه. كان كورشاتوڤ، الذي ترأس البحث العلمي الخاص بالمشروع منذ بدايته، هو العالِم الوحيد الذي لديه معلومات تفصيلية عن التجسس النووي. ومع ذلك، فقد وظَّف بيريا في عام 1945 مجموعة صغيرة من العلماء لتحرير ملفات التجسس التي كان عددها يزداد باستمرار. وكان هذا الفريق يعمل تحت قيادة <I.ترلتسكي>، وهو فيزيائي شاب مستواه العلمي أقل بكثير من مستوى فريق كورشاتوڤ، ولكنه واقع تحت سيطرة بيريا تماما.
زائر من موسكو
ذهب ترلتسكي إلى كوبنهاغن في الشهر 11/ 1945بتوجيه من بيريا ليقابل بور، وكان الأخير قد عاد منذ فترة قصيرة إلى وطنه بعد أن شارك في مشروع مانهاتن. وطبقا للمذكرة التي رفعها بيريا إلى ستالين، فإن بيريا دبّر هذه المهمة على أمل أن يذكر بور، الذي عُرف عنه تأييده للتعاون الدولي، شيئا مفيدا عن البحث النووي في الغرب. ومن المؤكد أن بيريا كان يعتقد أن إفشاء بور لأي أسرار، سواء أكانت دولية أم لا، سيساعد السوڤييت على التحقق من صحة استخباراتهم وبحوثهم الأخرى، وأيضا ربما يعرّض بور للابتزاز.
في 2/11، طلب أحد الأعضاء الشيوعيين في البرلمان الدانمركي إلى بور أن يقابل ترلتسكي سرا، وأخبره أن الأخير يحمل معه خطابا له من صديقه القديم <L.P.كاپيتزا> وفي الواقع، إن كاپيتزا، الفيزيائي التجريبي السوڤييتي الفذ على مستوى جيله كله، كان معتَقلا بأمر الحكومة السوڤييتية.
وصف متضمَّن في تقرير سميث، لتفاعل متسلسل ينطلق من انشطار نواة يورانيوم في مفاعل نووي مصنّع من خام اليورانيوم. وتقرير سميث هو التقرير الحكومي المعلن عن مشروع مانهاتن. وكما هو موضح في الشكل المأخوذ من الوثيقة، يُؤسَرْ نيوترون شارد (في الأعلى) ـ من انشطار نواة يورانيوم 235 غير موضحة في الشكل ـ بنواة يورانيوم 235 أخرى، التي تنشطر إلى جزءين وعدد من النيوترونات. وتؤسَرْ بعض هذه النيوترونات بدورها بنوى يورانيوم 235 أخرى والتي تنشطر هي أيضا (في الوسط) وتحرِّر نيوترونات تولِّد بالحث انشطارا إضافيا (في الأسفل). بدلا من ذلك، يمكن لليورانيوم 238 إذا امتص نيوترونات أن يتحول إلى بلوتونيوم (في اليسار). عندما أعطى بور تقرير سميث لترلتسكي، كان السوڤييت قد انتهوا تقريبا من ترجمته. |
وطبقا لرواية <آگا> ابن بور، وهو فيزيائي عمل أيضا في لوس ألاموس وفاز بجائزة نوبل ويعمل الآن بجامعة كوبنهاغن، أصيب بور بالدهشة وقال: إن هذا المسلك هو “خطأ مؤسف”، وأصر في رده على عضو البرلمان الدانمركي على وجوب علنية المحادثات وأخبره بأنه لن يناقش إلا المعلومات المتاحة والمعلنة. أخطر بور المسؤولين في الغرب بهذا الأمر، كما أبلغ البريطانيون گروفز بمحاولة الاتصال المشبوهة قبل أن يتم اللقاء، وقد عبّر المسؤولون عن قلقهم لاحتمال وجود محاولة لاختطاف بور.
وعلى الرغم من ذلك، فقد عقد اجتماع يوم 14/11/1945 ووفرت الحكومة الدانمركية الحماية لبور. كلف <إرنست> ابن بور، وكان عمره حينذاك 21 عاما، بأن يكون موجودا في الغرفة المجاورة وتم تسليحه بمسدس معد للإطلاق. وكانت السلطات الغربية توّاقة بالطبع لمعرفة الأسئلة التي سيطرحها موظف المخابرات السوڤييتية. وتوضِّح التقارير التي رُفعت عنها صفة السرية حديثا أن بور كان على اتصال بالسفارة البريطانية خلال الأسابيع التي سبقت اللقاء. وتوضح برقية أرسلت إلى موظف كبير في وزارة الخارجية البريطانية أن بور قام بزيارة للسفارة استغرقت وقتا طويلا في اليوم نفسه الذي التقى فيه مع ترلتسكي.
ثمة روايتان مستقلتان لشاهدي عيان عن محادثات بور وترلتسكي، وتتفق هاتان الروايتان اتفاقا جيدا للغاية. ظهرت مذكرات ترلتسكي في روسيا بعد فترة قصيرة من وفاته عام 1993. والرواية الثانية هي لآگا بور وكان عمره حينذاك 23 عاما، وقد ظل في غرفة الاجتماع طوال اللقاء كله، وذلك بناء على إصرار والده، وهو يتذكر بوضوح كيف سارت الأمور.
كان الاتصال بين الطرفين رديئا. قام بمهمة الترجمة خبير سوڤييتي في الشؤون الدولية ولم يكن جيد الاطلاع على الفيزياء. من المعروف عن بور، كما يمكن لاثنين من المؤلفين (بيته و گوتفريد) أن يؤكدا أنه كان يخفض من صوته الهادئ عندما يريد تأكيد نقطة حاسمة، وكان من الصعب فهمه عندئذ سواء كان يتحدث بالإنگليزية أو بالألمانية، حتى ولو كان المستمع على علم جيد بموضوع الحديث، وهو أمر لم يكن متوافرا لترلتسكي. وقد أقر ترلتسكي في مذكراته بأنه لم يفهم من حديث بور إلا القشور وأن المذكرات لم تكن تُحرّر إلا بعد أن يحاول هو والمترجم إعادة بناء المحادثة في وقت لاحق.
وطبقا لكل من الروايتين، استغرق بور أغلب وقت اللقاء في حديث مطول عن كاپيتزا و <D.L.لانداو> كان كاپيتزا قد عمل في كامبريدج مع <E. رذرفورد> عام 1934 عندما منعه ستالين من العودة بعد زيارة لأقاربه في الاتحاد السوڤييتي. أما لانداو، وهو عالم نظري متألق، فقد عمل مرة في معهد بور للفيزياء النظرية بكوبنهاغن، وأمر ستالين بسجنه مدة عام قبل الحرب. وقد رأى بور أن يبعث بتأييده لهما إلى رئاسة الحكومة السوڤييتية عن طريق مبعوثها ترلتسكي.
انفجار نووي نتج خلال التجارب التي أجرتها الولايات المتحدة في الشهر 6/1946. أجرى الاتحاد السوڤييتي أول تجربة للأسلحة النووية في الشهر 8/1949. |
يروي ترلتسكي أيضا أن آگا كان لايزال حاضرا عندما حانت الفرصة له أخيرا لطرح أسئلته، وقد أثار ذلك فزعه. ويؤكد آگا ذلك قائلا: “بدا ترلتسكي يائسا بعض الشيء. وبعد حديث مستفيض عن كاپيتزا… كان ترلتسكي حريصا للغاية على طرح عدد من الأسئلة. وجاءت هذه الأسئلة على لسان المترجم بسرعة، ولم نفهم نحن تفاصيل محتواها.”
وخلال زيارة ثانية قصيرة في 16/11/1945، سلّم بور تقرير سميث إلى ترلتسكي. وكان قد تم بيع 000 100نسخة من هذا التقرير حتى هذا التاريخ، كما كانت الحكومة السوڤييتية قد أوشكت على الانتهاء من ترجمتها الخاصة للتقرير ذاته.
المَضْبطة
قدّم بيريا مذكرة عن مهمة ترلتسكي إلى ستالين، وأرفق بها مضبطة حرفية تتضمن الأسئلة التي طرحها ترلتسكي وإجابات بور عنها [انظر ما هو مؤطر أعلى الصفحات 16، 17، 18]. وسنقوم الآن بتحليل هذه الوثيقة وسنؤجل أمر قبولها كما هي إلى ما بعد.
طرح ترلتسكي 22 سؤالا، (أعدها فريق كورشاتوڤ). وكان أكثر من نصف عدد هذه الأسئلة يدور حول المفاعلات النووية وتقنيات فصل النظائر، وكانت هناك أيضا عدة أسئلة عن الانشطار بالتحديد وعن أجهزة تفجير القنبلة. وكان هناك سؤال عن إمكانية وجود نظام دفاعي ضد القنابل النووية.
وتؤكد المضبطة ما ذكره ترلتسكي من أن “إجابات بور كانت عامة للغاية، وكان في أغلب الأحيان يقول: إن المسؤولين في لوس ألاموس لم يذكروا له التفاصيل.. [وأيضا] أنه لم يزر قط مختبرات الساحل الشرقي حيث توجد مراكز وتسهيلات فصل النظائر.” والواقع، إن إجابات بور المتعلقة بالمفاعلات النووية وتقنيات فصل النظائر لم توفر إلا المعلومات المعروفة من قَبْل الحرب، وذلك على الرغم من أن التطورات التي تلت ذلك كانت موضحة بالتفصيل في تقرير سميث (خُصص نصف التقرير تقريبا لهذه الموضوعات). وعندما سُئل بور عن الانشطار بالذات، كان يرجع إلى ما تم نشره قبل اندلاع الحرب وعلى الخصوص إلى مقالته الشهيرة التي اشترك <هويلر> معه في كتابتها.
ومع ذلك، فمن المعتقد أن بور أعطى إجابة غير صحيحة عندما قال: إن الماء الثقيل لم يُستخدم “كمهدئ” moderator في أي مفاعل أمريكي لإبطاء النيوترونات. والواقع، إن الماء الثقيل استُخْدم في المفاعل الموجود في مختبر أرگون بالقرب من شيكاغو، وقد ذُكر ذلك في تقرير سميث. وليس معلوما ما إذا كان هذا الخطأ البسيط يرجع إلى بور أو إلى ترلتسكي.
تستحق أسئلة ترلتسكي عن تصميم القنبلة تفحُّصا دقيقا. عندما سُئل بور عن عدد النيوترونات التي تنبعث من النظائر المختلفة لليورانيوم وللبلوتونيوم، أجاب ببساطة “أكثر من اثنين”. وعندئذ سأل ترلتسكي: “هل يمكنك إعطاء عدد أكثر دقة؟” وكان رد بور “لا، لا أستطيع.. العدد المضبوط ليست له أهمية..” وفي الحقيقة، إن مقدار اليورانيوم 235 أو البلوتونيوم اللازم للقنبلة يعتمد بشكل دقيق تماما على عدد النيوترونات لكل انشطار.
يبدو أن السؤال الثاني الخاص بتصميم القنبلة كان يتعلق بالانشطار التلقائي، وهو كما رأينا أمر يجب دراسته عند تصميم قنبلة البلوتونيوم. ومع ذلك، فليس واضحا ما إذا كان سؤال ترلتسكي يشير إلى تصميم القنبلة أو إلى تصميم المفاعل. إن إجابة بور صحيحة فقط بالنسبة إلى تصميم المفاعل لأن الانشطار التلقائي لا أهمية له في هذه الحالة. وكان السؤال الأخير عن الكيفية التي يتطور بها التفاعل المتسلسل بعد أن يؤدي التفجير الكيميائي إلى انضغاط المادة القابلة للانشطار. وكانت إجابة بور نموذجا للإجابة المبهمة التي لا ترتبط مباشرة بالسؤال.
لم يكن بور في وضع يسمح له بإعطاء إجابات مفصّلة عن الأسئلة التي تتضمن فصل النظائر أو تصميم المفاعلات، لأنه لم يشارك في بحوث هذين الموضوعين خلال عمله في مشروع مانهاتن. ومع ذلك، فخلال الفترة التي قضاها في لوس ألاموس، أحاطه <R.فينمان> بالمعلومات عن التفاعلات المتسلسلة في القنابل وشارك في اختراع التصميم التفجيري. إن الإجابة عن هذه الأسئلة كانت ستوفر فرصة سانحة لبور لو أنه كان يرغب في توصيل معلومات أساسية. وبدلا من ذلك كانت إجابات بور للسوڤييت إما جزئية وإما غير قابلة للاستيعاب، وبالتالي لم يفشِ أي أسرار.
وفي إجابته عن احتمال إيجاد نظام دفاعي ضد القنبلة، أسهب بور حول الحاجة إلى الرقابة الدولية، وهو موقف استمر في تبنيه علانية، ولكن إجابته المتضمَّنة في المضبطة احتوت على العبارة السخيفة وغير المعقولة : “لقد تقاعد أوبنهايمر العظيم احتجاجا وتوقف عن العمل في المشروع.” وعلى الرغم من أن<R.J.أوبنهايمر> قد ترك فعلا لوس ألاموس وعاد إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي، فإنه أصبح بعد ذلك أشد مستشاري حكومة ترومان تأثيرا في مجال السياسة التي تُتّبَع بالنسبة للأسلحة النووية.
وفضلا عن الشك الذي يجب أن تُعامل به أي وثيقة تحمل توقيع بيريا، فإن العبارة المنسوبة لبور عن أوبنهايمر تقنعنا بأن إجابات بور قد تم إجراء “رتوش (تعديلات طفيفة)” لها قبل وصولها إلى مكتب ستالين. والواقع، إن ترلتسكي يروي أن ضابط الشرطة السرية المسؤول عن مهمة كوبنهاغن كان يدربه على الأسلوب الأفضل لإعادة تحرير ما يسمعه. وعلى الرغم من هذه الجهود، فقد خاب أمل بيريا من النتائج، “وأصبح عاجزا عن التحكم في حديثه” وكان يقاطع ترلتسكي عند تقديمه لتقريره عن محادثاته مع بور “بألفاظ نابية عن بور وعن الأمريكيين.” ومع ذلك، زعم بيريا في مذكرته لستالين أن مهمة ترلتسكي كانت ناجحة ـ وذلك ليس غريبا؛ لأن بيريا هو الذي فكر في هذه المهمة وخطط لها. ومن المثير للاهتمام أن المذكرة لم تتضمن أي شيء يخص تقرير سميث. وكما يبدو، لم تتم مقارنتها بهذا التقرير للتحقق من مضمونها. ومن المحتمل أن بيريا وبطانته ظنوا أن وثيقة تحتوي على هذا الكم الضخم من المعلومات لا بد وأن تكون نموذجا رائعا للمعلومات المزيفة. وبالتالي يتعذر إهمال ما ادعاه ترلتسكي من أن بور، بتقديمه تقرير سميث، أعطى مصداقية للوثيقة لم تكن لتحصل عليها لو لم يتم ذلك.
بصرف النظر عن مدى التغيير الذي أجراه ترلتسكي وغيره من أعوان بيريا في كلام بور، فإن المذكرة المرفوعة لستالين تقدم أوثق رواية متاحة عن المقابلة. والهدف من أي تعديلات تكون قد أجريت عليها هو المبالغة في أهمية المعلومات المقدمة من بور. ولكن المضبطة لم تتضمن أي أقوال لبور عن المسائل المهمة تقنيا أو عسكريا غير تلك التي تضمنها تقرير سميث. وعلى ذلك فالادعاء بأن بور أشرك السوڤييت في الأسرار النووية هو ادعاء يُكذِّبه تقرير بيريا نفسه عن لقاء مبعوثه ببور.
المؤلفون
Hans. A. Bethe – Kurt. Gottfried – Roald. Z. Sagdeev
يجمعهم اهتمام مشترك منذ فترة طويلة بالمضامين السياسية للأسلحة النووية. كان بيته، الذي يعمل الآن أستاذا شرفيا في جامعة كورنيل، رئيسا لقطاع الفيزياء النظرية في مختبر لوس ألاموس خلال الحرب العالمية الثانية. وقد فاز عام 1967 بجائزة نوبل لبحوثه في الفيزياء الفلكية. وفي الفترة الأخيرة أجرى بحوثا في موضوع انفجار المستعرات العظمى supernova. أما گوتفريد فيعمل أستاذا للفيزياء في كورنيل، وهو متخصص في الفيزياء النووية والجسيمات الأولية، وشغل رئاسة القسم. كما أنه أحد الأعضاء المؤسسين لاتحاد العلماء المهتمين (بأمور المجتمع). أما ساگديڤ فيشغل وظيفة أستاذ للفيزياء ومدير مركز الشرق والغرب لبحوث الفضاء في جامعة ميريلاند، وقبل مجيئه للولايات المتحدة كان يعمل مديرا للمعهد السوڤييتي لبحوث الفضاء، كما كان المستشار العلمي للرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف.
مراجع للاستزادة
THE MAKING OF THE ATOMIC BOMB. Richard Rhodes. Simon & Schuster, 1986.
ATOMIC ENERGY FOR MILITARY PURPOSES: THE OFFICIAL REPORT ON THE DEVELOPMENT OF THE ATOMIC BOMB UNDER THE AUSPICES OF THE UNTIED STATES GOVERNMENT, 1940-1945. Henry D. Smyth. Reissued by Stanford University Press, 1989.
SPECL4L TASKS: THE MEMOIRS OF AN UNWANTED WITNESS: A SOVIET SPY-MASTER.
Pavel and Anatoli Sudoplatov. With Jerrold L. and Leona p. Schecter. Little, Brown and Company, 1994.
STALIN AND THE BOMB. David Holloway. Yale University press. 1994.
WERE THE ATOMIC SCIENTISTS SPIES? Thomas powers in New York Review of Books, Vol. 41, No. 11, pages 10-17 June 9, 1994.
Scientific American, May 1995