السكان والفقر والبيئة المحلية
السكان والفقر والبيئة المحلية
مع انحسار الغابات والأنهار، يصبح عمل الأطفال أكثر قيمة
لآبائهم، محدثا بذلك حلقة مفرغة تُوقِع أُسَرَهم في شراك الفقر.
<S .P. داسگوپتا>
لكل منا، كما هي الحال في السياسة، آراؤه المختلفة عن السكان. فالبعض يشير إلى نمو السكان على أنه سبب الفقر وتدهور البيئة، في حين يعكس البعض ترتيب عناصر هذه السلسلة من الأسباب مقدِّمين الدليل على أن الفقر هو سبب وليس نتيجة ازدياد أعداد السكان. ولكن عند دراسة المناطق شبه القاحلة في أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى وفي شبه القارة الهندية، لم ينظر علماء الاقتصاد إلى الفقر ونمو السكان والبيئة المحلية على أنها عناصر مترابطة. فإلى حد بعيد اتخذ البحث في كل عنصر من هذه العناصر مسارا ضيقا خاصا به، وتسيطر على مناقشة تفاعلاتها المقالات والدراسات الشائعة، التي وإن كانت كثيرا ما تساعد على توضيح بعض جوانب المشكلة فإنها تتجه أساسا نحو الوصف وليس التحليل.
إن الحصول على الماء في راجاستان بغرب الهند يستغرق عدة ساعات في اليوم لكل أسرة. وعندما تتضاءل الموارد وتصبح بعيدة المنال على نحو متزايد، فإن الأيدي العاملة الإضافية تصبح أكثر قيمة لمثل هذه الأعباء اليومية مما يفرض على الأسرة الحاجة إلى إنجاب المزيد من الأطفال. ويضغط النمو السريع للسكان ضغطا أشد على البيئة مولدا الحاجة إلى مزيد من الذرية ضمن حلقة مفرغة من تزايد الفقر والسكان وتدمير البيئة. |
وخلال السنوات الماضية، قام عدد من الخبراء بدراسة دقيقة للعلاقات بين هذه العناصر. وهذه الدراسة تقوم بدمج الصياغة النظرية مع النتائج العملية التي تم استنباطها من عدد من العلوم مثل علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم السكان (السكانة، الديموغرافيا) وعلم البيئة وعلم الاقتصاد وعلم التغذية وعلم السياسة. وبالتركيز على العديد من المجتمعات الريفية الصغيرة في أكثر مناطق العالم فقرا، تم تحديد ظروف غالبا ما تجعل نمو السكان والفقر وتناقص الموارد المحلية ذات تأثير بيّن بعضها في بعض. وقد أوضح البحث أنه ليس أي من هذه العناصر الثلاثة هو سبب مباشر للعنصرين الآخرين، بل إن كلا منها يؤثر وبالتالي يتأثر بالعنصرين الآخرين. وقد صار لهذا المنظور الجديد معان ذات مغزى مهم في تشكيل السياسات التي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة لبعض السكان في العالم الذين يعانون الفقر المدقع.
وعلى النقيض من هذا المنظور الجديد، الذي يركز على الخبرات المحلية، فإن الدراسات المتداولة عن البيئة ونمو السكان قد أخذت نظرة شاملة تركِّز على الآثار الضارة التي ستُلْحِقها أعداد السكان الهائلة بكوكب الأرض على المدى البعيد. وعلى الرغم مما يتميز به هذا الرأي، فإنه صرف الانتباه عن البؤس الاقتصادي المستفحل حاليا. والكارثة ليست حَدَثًا من المحتم على أكثر الناس فقرًا أن يتوقعوه مستقبلا، وإنما هو ما يحدث حاليا. وإلى جانب هذا، ففي الدول النامية، يتم إلى حد بعيد اتخاذ القرارات المتعلقة بإنجاب الأطفال والمشارَكَة في التعليم والغذاء والعمل والرعاية الصحية والموارد المحلية، يتم ذلك داخل وحدات صغيرة مثل الأسر. لذا فإنه من المقبول أن تتم دراسة الصلة بين الفقر والنمو السكاني والبيئة من خلال أعداد وفيرة من الآراء المحلية بل والفردية أيضا.
وتتخذ الأسرة مظاهر متنوعة في مختلف أنحاء العالم. فقبل عدة سنوات كان <S .G. بيكر> (من جامعة شيكاگو) أول باحث يتناول هذه المشكلة. وقد استخدم ناحية مثالية من المفهوم لكي يستكشف كيف تستجيب الاختبارات التي تتم داخل الأسرة للتغيرات التي تحدث في العالم الخارجي مثل فرص العمل وتوافر الائتمان (التسليف) والتأمين والرعاية الصحية والتعليم.
ولكن هناك مشكلة في الطريقة التي اتبعها بيكر، لاحظْتها عندما بدأت أبحاثي في عام 1990، وهي أنها كانت تقوم بدراسة الأسر بمعزل عن الأمور الأخرى. فلم تحاول هذه الطريقة استقصاء القوى المحركة بين العناصر المتفاعلة. فإضافة إلى القوى المؤثرة التي كانت تشجع الزوجين على تفضيل أسرة كثيرة العدد، كنت أريد أن أصل إلى فهم الطرق التي تنتهي بقرار إنجاب طفل، الذي تتخذه كل أسرة، إلى إلحاق الضرر بسائر الأسر.
وبدراسة كيف تتم هذه الاختيارات أمكن تحديد مشكلة أخرى في المقاربة الأولى: فقد قام الباحثون، من خلال افتراضهم أن اتخاذ القرار شارك فيه البالغون على قدم المساواة، بتكوين رأي معتدل تماما في هذا الصدد. وعلى الرغم من ذلك، تتم السيطرة على اختيارات الأسرة بأسلوب غير متكافئ. وإذا كان لي أن أفهم كيف يتم اتخاذ القرارات، فلا بد لي أن أعرف من الذي يحسم القرار.
النفوذ والجنس
غالبا ما يمكن الاستدلال على أولئك الذين يتمتعون بأقصى درجات النفوذ داخل أسرة من خلال الأسلوب الذي تتبعه هذه الأسرة في تقسيم مواردها. فقد لاحظ باحثون من مجلس السكان ومن المركز الدولي لبحوث المرأة ومن جامعة هارڤارد وآخرون، أن نسبة المشاركة في الموارد داخل الأسرة غالبا ما تكون غير متساوية حتى عندما تؤخذ في الحسبان الفوارق في الاحتياجات. فعلى سبيل المثال، عادة ما يحصل الرجال والأولاد في الأسر الفقيرة في شبه القارة الهندية على الدعم والمساندة أكثر مما تحصل عليه النساء والبنات، ويحصل الكهول على نصيب أقل من الشباب.
وتسود مثل هذه الإجحافات في اختيارات الإنجاب أيضا. فهنا كذلك يسيطر الرجال على الرغم من أن النساء هن اللواتي يتحملن الجزء الأكبر من عبء الإنجاب. ولإدراك مدى ثقل هذا العبء، ندخل في اعتبارنا عدد الأطفال الأحياء الذين تنجبهم المرأة عادة إذا ما بقيت على قيد الحياة على مدى سنوات قدرتها على الإنجاب. وهذا العدد، الذي يطلق عليه “معدل الخصوبة الكلي”، يبلغ ما بين ستة وثمانية أطفال في أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى. وتشمل كل ولادة ناجحة هناك مدة سنة ونصف السنة على الأقل، وهي فترة الحمل والرضاعة. لذا ففي المجتمع الذي يكون فيه العمر المتوقع لحياة المرأة عند الميلاد 50 عاما، وبافتراض أن معدل الخصوبة هو سبعة، فإن ما يقرب من نصف حياة المرأة ينقضي، إما وهي تحمل جنينا في رحمها أو وهي تقوم بإرضاعه. وهذا التقدير لا يتضمن حالات الحمل الفاشلة.
وهناك مؤشر إلى الثمن الذي تدفعه المرأة وهو معدل الوفيات نتيجة الحمل. ففي معظم الدول الفقيرة تشكل التعقيدات المرتبطة بالحمل السبب الأساسي لوفيات النساء أثناء سنوات قدراتهن على الإنجاب. وفي بعض مناطق أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى تموت امرأة من بين كل خمسين مولودا يبقون على قيد الحياة. (المعدل المقابل في الدول الاسكندنافية هو 1 لكل 20000). وعند معدل خصوبة كلي يبلغ سبعة أو أكثر يُقدّر احتمال عدم بقاء المرأة على قيد الحياة خلال سنوات قدرتها على الإنجاب، بنحو واحد من ستة. لذا فإن إنجاب الأطفال يعني ممارسة لعبة الروليت الروسية Russian roulette.
ونتيجة لهذه التكلفة الباهظة التي تترتب على الإنجاب، يتوقع المرء أنه إذا ما أعطيت للنساء فرصة الاختيار، فسيفضِّلن إنجاب عدد أقل من الأطفال. ولكن هل معدلات المواليد هي في الواقع أعلى في المجتمعات التي تكون فيها المرأة الطرف الضعيف المغلوب على أمره في أسرتها؟ إن البيانات عن واقع المرأة في 79 دولة في العالم الثالث تقدم نموذجا واضحا لعناصر متشابكة تتمثل في: خصوبة مرتفعة ومعدلات أمية عالية ومشاركة متدنية في الوظائف المدفوعة الأجر ونسب مئوية مرتفعة للأعمال المنزلية غير المأجورة. ومن الإحصائيات وحدها يصعب تحديد العناصر التي تتسبب مباشرة في إحداث الخصوبة المرتفعة، وتلك التي تسهم في ذلك. ولكن النتائج تتفق في أن عدم توافر تعليم مناسب ووظائف مدفوعة الأجر يحد من قدرة المرأة على اتخاذ قرارات في موضوع إنجابها وبالتالي يعزز النمو السكاني.
إن معدل الخصوبة الكلي في أنحاء العالم (وهو متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة) يزداد بشكل عام بزيادة نسبة الأمية بين النساء في بلد ما (الشكل العلوي) أو بزيادة نسبة من يعملن بلا أجر داخل الأسرة (الشكل الأوسط). وتنخفض الخصوبة عندما يزداد نصيب النساء من الوظائف المدفوعة الأجر. فتوافر دخل مادي للمرأة يعزز موقفها في اتخاذ القرارات داخل أسرتها ويساندها في مقاومة الضغط لإنجاب المزيد من الأطفال. |
وهناك سبب معقول آخر للاعتقاد بأن عدم وجود وظائف تدعم دخل الأسرة يقلل من تلك القدرة لدى المرأة بطريقة مباشرة أكثر من عدم التعليم. ولهذا الإدراك البديهي استدلالات لوضع السياسات في هذا المضمار. فلا بأس على سبيل المثال، في حثّ حكومات الدول الفقيرة على الاستثمار في برامج محو الأمية؛ إلا أن النتائج قد تكون مخيبة للآمال، فكثير من العناصر تعمل ضد الأسر الفقيرة وتمنعها من الاستفادة من التعليم القائم على المعونات. فإذا دعت الحاجة إلى أن يعمل الأطفال داخل البيت وخارجه، فإن إبقاءهم في المدرسة (حتى وإن كانت زهيدة التكاليف) سيكون باهظ الثمن. وفي المجتمعات التي يُنسب فيها المرء إلى أبيه يلاحظ أنه ليس من السهل أيضا التأثير في الفتيات المتعلمات ودفعهن إلى الزواج. وفي واقع الأمر فإن الإعانات التي تُقدَّم حتى للتعليم الابتدائي، تحصدها العائلات الأحسن حالا.
وعلى النقيض من ذلك، فإن السياسات التي تهدف إلى زيادة إنتاجية المرأة في المنزل وتحسين ما تحصل عليه من أجر في سوق العمل ستعزز بطريقة مباشرة نفوذها وبخاصة داخل أسرتها. والقوة المتعاظمة لدخل المرأة ستبين أيضا للرجل التكاليف الكامنة في الإنجاب (الذي يحول دون حصول المرأة على دخل مادي). وهذا لا ينفي قيمة الاستثمار العام في التعليم الابتدائي والثانوي في الدول النامية. ولكن لا بد من القول إن علينا أن نحذر من الادعاءات بأن مثل هذا الاستثمار هو العلاج للمشكلة السكانية برمتها.
ولحسن الحظ، فإن أهمية دور عدم المساواة بين الجنسين في تزايد السكان بالدول الفقيرة أخذت تحظى باعتراف دولي. فقد ركز مؤتمر الأمم المتحدة للسكان والتنمية الذي عُقِد في القاهرة في الشهر 9/ 1994 على حقوق المرأة في الإنجاب وعلى حماية هذه الحقوق وتعزيزها. ولكن ثمة ما هو أكثر من عدم المساواة بين الجنسين بالنسبة للمشكلة السكانية. فحتى عندما يشترك الوالدان في قرار الإنجاب، يُلاحظ وجود عدة مسارات يصبح من خلالها الاختيار ضارا بالمجتمع. وقد تم اكتشاف هذه المسارات بالبحث حول الدوافع المختلفة للإنجاب.
أيادٍ صغيرة تقدم المساعدة…
ثمة اعتبار واحد مشترك بين الناس جميعهم فيما يتعلق بالأطفال وهو أن هؤلاء غاية في حد ذاتها. ويتراوح ذلك بين الرغبة في إنجاب الأطفال لما يضفونه من متعة وبهجة على أسرهم، وبين الرغبة في مجاراة التقاليد واتباع التعاليم الدينية. وأحد هذه التعاليم يحتم على النساء أن ينجبن الكثير من الأطفال [انظر: “الخصوبة العالية في جنوب الصحراء الكبرى (الأفريقية)”، مجلة العلوم، العدد 7 (1992)، ص 56].
وغالبا ما تدوم مثل هذه المعتقدات من خلال سلوك مطبوع على التقليد. فالإنجاب في المجتمعات المترابطة ليس فقط أمرا خاصا، ولكنه أيضا نشاط اجتماعي يتأثر بالمحيط الثقافي. فغالبا ما توجد مبادئ وقواعد سلوكية تؤدي إلى ارتفاع معدلات الخصوبة ولا ترغب أية أسرة في انتهاكها منفردة (وقد صمدت هذه المبادئ السلوكية واستمرت أكثر من أي أساس منطقي قامت عليه). ونتيجة لذلك، بما أن الجميع يهدفون إلى تكوين أسر كثيرة الأفراد، فلا توجد أسرة ترغب بمفردها في الانحراف عن هذا الهدف. وهكذا، من الممكن أن يَعلَق المجتمع باتباع سلوك مستديم ذاتيا يتميز بخصوبة عالية وبمستوى متدن من التعليم.
وهذا لا يعني أن المجتمع سيظل أسيرا لهذا السلوك إلى ما لا نهاية، فالناس، كما يحدث دائما، يختلفون في مدى الاستجابة للمعتقدات والتقاليد. ومن المحتم أن البعض، لسبب أو لآخر، سيقوم بممارسة التجربة، والإقدام على المخاطرة، ويحجم عن الاندفاع مع التيار. وهؤلاء المخالفون يساعدون على توجيه المسيرة، وتمكّن الزيادة في عدد النساء المتعلمات من انطلاق تلك المسيرة.
ومازالت هناك دوافع أخرى للإنجاب تنطوي على اعتبار الأطفال مصادرَ للدخل. ففي الاقتصاد الريفي، حيث تكون سبل الادخار محدودة جدا، يَنظر الآباء إلى أطفالهم على أنهم مصدر أمان لهم في شيخوختهم. وقد قام<M. كين> (من مجلس السكان سابقا) بدراسة هذا الموضوع دراسة شاملة. وهناك دافع آخر ناقشه بدرجة أقل، حتى عهد قريب، عدد من الباحثين بمن فيهم كاتب هذا المقال. وينشأ هذا الدافع عن كون الأطفال ذوي قيمة لآبائهم ليس فقط من أجل الحصول على الدخل في مستقبل هؤلاء، ولكن باعتبارهم مصدرا للدخل في حاضرهم أيضا.
واقتصاديات بلاد العالم الثالث في معظم الأحوال هي اقتصاديات تعتمد على ضرورات الحياة (تقترب من مستوى الكفاف). فأهل الريف يدبرون أمور معيشتهم بشق الأنفس ويقتصدون في أرزاقهم باستخدام المنتجات التي يحصلون عليها مباشرة من النباتات والحيوانات. وعليهم تحمل الكثير من المشاق حتى من أجل الأعمال البسيطة. إضافة إلى ذلك، لا تستطيع الأسر الريفية الفقيرة الحصول على المصادر الحديثة من الطاقة المحلية أو المياه من الحنفيات. وفي المناطق القاحلة الجافة وشبه القاحلة لا توجد إمدادات للمياه في الأمكنة القريبة، ولا يتوافر أيضا حطب الوقود عندما تنحسر الغابات. وإلى جانب زراعة المحاصيل ورعاية الماشية وطهي الطعام وإنتاج السلع البسيطة القابلة للتسويق، فإن على أفراد الأسرة قضاء ما يقرب من خمس إلى ست ساعات في اليوم لإحضار المياه وجمع علف الماشية والحطب.
لذا فإن الأطفال مطلوبون للعمل حتى في فترة شباب آبائهم. ولا تستطيع الأسر الصغيرة البقاء من دون عون خارجي، فكل منها يحتاج إلى الكثير من الأيدي العاملة. وقد لوحظ في بعض المناطق الهندية أن الأطفال ما بين سن العاشرة والخامسة عشرة يقومون بالعمل فترة تبلغ مرة ونصف مرة عدد ساعات العمل التي يقوم بها البالغون من الذكور. وعند بلوغهم سن السادسة، يقوم الأطفال في الريف الهندي بالعناية بالحيوانات الأليفة ورعاية إخوتهم الصغار وجلب المياه، وجمع حطب الوقود والروث وعلف الماشية. وهكذا تزداد فائدة كل يد عاملة إضافية مع تناقص الموارد المتوافرة، كما يتم قياسه، مثلا، ببعد هذه الموارد عن مصادر الوقود والمياه.
جمع الحطب هو إحدى الطرق التي يسهم فيها الإخوة في أريتريا لإنجاز العمل المطلوب لأسرتهم. وتعتمد الأسر في معظم أنحاء العالم الثالث على الشباب والأطفال لإنجاز أنواع مختلفة من الأعمال، مثل رعي البقر والمعز ورعاية الإخوة الصغار وجلب المياه والبحث عن الوقود وعلف الماشية. وغالبا ما يعمل الأطفال الأكبر سنا خلال عدد من الساعات يبلغ مرة ونصف المرة عدد ساعات عمل الرجال. ويُفرَض على الكثير منهم العمل لقاء تسديد ديون آبائهم. |
… ولكن مقابل ثمن غير منظور
من الممكن أن تؤدي الحاجة إلى الكثير من الأيدي العاملة إلى موقف مدمر، لا سيما عندما لا يمكن للآباء تحمل تكاليف تربية أطفالهم بالكامل بل يشاركهم المجتمع في تحمّل تلك التكاليف. وفي السنوات الأخيرة تغيرت العادات والتقاليد التي كانت يوما ما تُنظِّم استخدام الموارد المحلية. فمنذ الأزمنة الغابرة كانت الأصول والممتلكات في الريف، مثل بحيرات القرية وآبار المياه وأجران دق الحنطة والمراعي والغابات المحلية مشاعا. وقد ساعد هذا الشكل من التنظيم الأسر في المناطق شبه القاحلة على تحمّلٍ جماعي للأخطار التي تواجهها. وفي هذا الصدد يشير الباحثون إلى أن بعض المجتمعات فرضت حمايتها على الممتلكات المحلية المشتركة ضد الإفراط في استغلالها وذلك من خلال الحث على الالتزام بالتقاليد المتوارثة وفرض غرامات على السلوك المنحرف وما إلى ذلك.
ولكن عملية التنمية الاقتصادية نفسها قد تقضي تدريجيا على أساليب التحكم التقليدية. ويمكن أن يؤدي إلى ذلك أيضا التحضر والتنقل المتزايدان. كما أن النُّظم والقوانين الاجتماعية يتهددها خطر الصراع المدني واستيلاء أصحاب الأراضي أو الدولة على الموارد. وبانحلال المبادئ وتفسخها ينحو بعض الآباء إلى الاعتماد على المجتمع لتسديد نفقات أطفالهم وذلك من خلال استنزاف الموارد والممتلكات العامة. وإذا أمكن استمرار استغلال الموارد المشتركة، فإن الآباء يواصلون إنجابهم للكثير من الأطفال، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التكتل والازدحام وإلى التعرض للأمراض وأيضا إلى المزيد من الضغط على موارد البيئة. ولكن لا توجد أسرة واحدة تأخذ في اعتبارها منفردة، مدى الضرر الذي تلحقه بالآخرين عند إنجابها المزيد من الأطفال.
يبين الشكل العلوي تفاعل الفقر مع نمو السكان وتدهور البيئة في حلقة مفرغة. يوضح الجدول السفلي أن الخصوبة أكثر ارتفاعا في الدول الأكثر فقرا. |
وتنخفض نفقات الآباء التي يسببها الإنجاب عندما يقوم الأقارب بتقديم يد المساعدة. وعلى الرغم من أن الأم هي التي تتحمل عبء حمل الطفل وولادته، فإن تكاليف تربيته غالبا ما يشترك الأقارب فيها. وقد لاحظ بعض الباحثين أن إرضاع وتربية أطفال الآخرين شيء مألوف في كثير من مناطق أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى، وأن هذا يقدم شكلا من أشكال الحماية التأمينية في المناطق شبه القاحلة. وقد لوحظ في أجزاء من غرب أفريقيا أن ما يقرب من ثلث الأطفال يعيشون باستمرار مع أقربائهم. فأبناء وبنات الأخ أو الأخت يتمتعون بحقوق المسكن والإعالة نفسها التي يتمتع بها أبناء الأسرة الطبيعيون. وقد أَوضحتُ في بحث سابق أن هذا النظام يشجع الزوجين على إنجاب المزيد من الأطفال إذا ما كانت درجة المنفعة والفوائد التي تعود عليهما من الإنجاب تزيد على نصيبهم في تحمل النفقات.
إضافة إلى ذلك، فعندما تضعف الروابط الأسرية، كما هي الحال في أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى، لا يتحمل الآباء في أغلب الأحيان نفقات أطفالهم. وقد أوضح علماء تاريخ علم السكان (السكانة، الديموغرافيا) الاختلاف الجوهري بين أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر والمجتمعات الصناعية الحديثة. ففي الأولى كان الزواج يعني عادة تأسيس أسرة جديدة وتحمل الآباء نفقات تربية أطفالهم. وقد أدى ذلك إلى أن الزواج أصبح يتم متأخرا. وبالفعل، فقد هبطت الخصوبة في فرنسا قبل أن تنخفض معدلات الوفاة، وقبل أن تتوافر الأساليب الحديثة لتنظيم الأسرة، وقبل أن تتعلم النساء القراءة والكتابة.
وقد أدى الإدراك بانخفاض نفقات الإنجاب وارتفاع فوائده إلى إغراء بعض الأسر على إنجاب الكثير من الأطفال. وفي ظروف معينة يمكن أن تبدأ سيرورة مدمرة. فعندما يتم استنزاف موارد المجتمع، تبدأ الحاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة لجمع الوقود والمياه للاستخدام اليومي؛ وبالتالي يزيد إنجاب الأطفال مما يؤدي إلى تدمير البيئة المحلية كما يؤدي بدوره إلى توفير حافز للأسرة إلى زيادة عدد أفرادها. وعند حدوث ذلك يبدأ كل من الخصوبة وتدهور البيئة في دعم وتعزيز الآخر بحركة لولبية متصاعدة. وعندما يحين الوقت الذي تبدأ فيه بعض العناصر المضادة ـ سواء كانت السياسة العامة أو تناقص الفوائد الناتجة من إنجاب المزيد من الأطفال ـ العمل على إيقاف هذه الحركة اللولبية يكون ملايين الناس قد عانوا الفقر المدقع.
الناتج القومي الصافي الأخضر
يعتقد بعض علماء الاقتصاد أن النمو السكاني يؤدي إلى النمو الاقتصادي. وهم يستشهدون بالإحصائيات التي تبين، ما عدا في أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى، أن إنتاج الغذاء والدخل الكلي للفرد ارتفعا بصفة عامة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحتى في المناطق الفقيرة تَحَسَّن كل من معدل بقاء الرضع على قيد الحياة والتعليم وكذلك توقعات الحياة عند الولادة، على الرغم من نمو السكان بسرعة هائلة أكثر مما كان يحدث في الماضي.
وإحدى نقاط الضعف في هذه الحجة أنها ترتكز على الإحصائيات التي تتجاهل نضوب قاعدة الموارد البيئية التي يعتمد عليها أساسا مجمل الإنتاج. وهذه القاعدة تشمل التربة وغطاءها (من النبات) والمياه العذبة وهواء التنفس ومصايد الأسماك والغابات. ومما لا شك فيه أنه يمكن أن نستنتج من الاتجاهات السابقة أن إبداع الإنسان يمكن الركون إليه للتغلب على الضغوط التي تفرضها أعداد السكان المتزايدة على البيئة الطبيعية. ولكن من المحتمل ألا تكون هذه هي الحال. فالمجتمعات تستهلك كمية هائلة تبلغ 40 في المئة من صافي الطاقة الناتجة من التمثيل الضوئي في أنحاء الكرة الأرضية. وقد قام كل من<G. M. هيل> (من جامعة كولومبيا) و <M .J. هارتويك> (من جامعة كوينز) و <G .K. مالين> (من المعهد الدولي لاقتصاديات البيئة في استوكهولم) وكاتب هذا المقال بإيضاح كيفية إدخال تدهور البيئة في تقدير الناتج القومي الصافي NNP، الذي يتم حسابه بطرح قيمة الفحم المستخرج وأشجار الغابات التي يتم قطعها وتحويلها إلى أخشاب من الناتج القومي الإجمالي GNP. وهذا الناتج القومي الصافي الأخضر “greenNNP” لا يستحوذ على الإنتاج الحالي فقط ولكن أيضا على إمكانية الإنتاج في المستقبل الذي توفره الموارد التي نورثها للأجيال المقبلة. وبالنظر من خلال الناتج القومي الصافي يبدو المستقبل أقل إشراقا. ففي الواقع لا يوجد عالِم واحد من علماء البيئة يعتقد أن السكان البالغ عددهم 11 بليون نسمة (كما هو متوقع في عام 2050) باستطاعتهم إعالة أنفسهم عند مستوى المعيشة المادي الذي يتمتع به الفرد الأمريكي العادي حاليا. |
وقد كشفت نتائج البحوث التي قام بها البنك الدولي منذ فترة وجيزة على أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى، عن العلاقات الأكيدة المتشابكة بين الفقر والخصوبة وتدهور البيئة، وهذه البيانات لا تستطيع كشف الروابط السببية، ولكنها في الواقع تدعم فكرة سيرورة تغذية راجعة (مرتدة) موجبة positive-feedback process كما سبق توضيحه. وبمرور الزمن يمكن لتأثير هذه الحركة اللولبية أن يتفاقم، وهذا أثبتته الصراعات من أجل السيطرة على الموارد [انظر: “التغيرات البيئية والصراعات العنيفة”،مجلة العلوم ، العدد (1/2)(1993) ، ص 91].
إن الضحايا الأكثر تضررا بين الأحياء هم المنبوذون من المجتمع ـ المهاجرون والمحرومون، والذين يصير بعضهم مع مرور الزمن شحاذين ضعفاء يتسكعون في شوارع المدن الكبيرة بالدول النامية. وتبين الدراسات التاريخية التي قام بها <W .R. فوجل> من جامعة شيكاگو والاستكشافات النظرية التي قمتُ بها بالاشتراك مع <D. ري >من جامعة بوسطن، إذا ما تم تناولها سويا، أن الحركة اللولبية المتصاعدة التي تمت الإشارة إليها سابقا، هي إحدى الطرق التي تنشأ عنها طبقة المعدمين. فالشحاذون الذين نراهم وقد أصابهم الهزال ليسوا بالكسالى، إذ إن عليهم ألا يفرطوا بالنزر اليسير من الطاقة المتوافرة لديهم. ونظرا لمعاناتهم سوء التغذية فلم يعد لهم دور في سوق العمل.
وعلى أي حال، فإن الأسرة التي لديها إمكانات أكثر للحصول على الموارد اللازمة لها، تكون في وضع يسمح لها بتحديد حجمها ويمكِّنها من الصعود إلى مستويات أعلى من الدخل. ولدي انطباع بأن الطبقات المتوسطة في المناطق الحضرية بشمال الهند، أمكنها تخفيض معدلات الخصوبة لديها. وتقدم الهند مثالا على أن الحلقة المفرغة التي قمت بشرحها، تمكّن الفقر المدقع من الاستمرار وسط ارتفاع مستويات المعيشة لدى سائر طبقات المجتمع. وينطبق على هذه الظاهرة في الدول الفقيرة المدقعة “مفعول متّى”(1) تماما والذي يقول: “لأن كل من له يُعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه.”
في مدينة بومباي الهندية ينام المعدمون في العراء، وقد هاجروا من القرى حيث الحلقة المفرغة من الفقر والتزايد السكاني وفساد البيئة جعلت الحياة مستحيلة. وبمرور الزمن يتحول بعض هؤلاء المحرومين إلى شحاذين وعمال ضعفاء هزيلين ينتشرون في المناطق الحضرية بالعالم الثالث. |
الهروب (الفرار)
يوحي هذا التحليل بأن الطريق لخفض الخصوبة هو إيقاف هذه الحركة اللولبية المدمرة. وإن رغبة الآباء في الإنجاب، وليس التقصير في توفير موانع الحمل، هي التي تفسر إلى حد كبير السلوك الإنجابي في الدول النامية. ولذلك لا بد من تحديد السياسات التي ستقوم بتغيير البدائل المتاحة للرجال والنساء من أجل أن يختار الزوجان تحديد عدد الأبناء الذين سينجبانهم.
وفي هذا الصدد، تؤدي الحريات المدنية ـ في وجه القسر والإكراه ـ دورا خاصا. فمنذ عدة سنوات، بينتُ مع زميلي<R .M. ويل> من خلال التحليل الإحصائي أنه، حتى في البلاد الفقيرة، تسير الحريات السياسية والمدنية جنبا إلى جنب مع التقدم والتحسن في الجوانب الأخرى من الحياة، مثل الدخل الفردي وتوقعات الحياة عند الولادة ومعدل بقاء الرضع على قيد الحياة. لذلك، فإن هناك الآن من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن مثل هذه الحريات ليست مرغوبة في حد ذاتها فقط، بل أيضا من أجل أن تساعد الأفراد على الانتعاش اقتصاديا. ومنذ فترة وجيزة بيّن <A. پرزورسكي> (من جامعة شيكاگو) أن الخصوبة أيضا، تنخفض في الدول التي يتمتع مواطنوها بالمزيد من الحرية المدنية والسياسية. (وتعتبر الصين استثناء لهذه القاعدة، فهي تمثل دولة واحدة فقط من بين دول كثيرة في هذا التحليل.)
وأكثر الحلول فعالية في المناطق شبه القاحلة في أفريقيا المتاخمة للصحراء الكبرى وشبه القارة الهندية، يكمن في تطبيق عدد من السياسات في آن واحد. فخدمات تنظيم الأسرة، لا سيما عندما ترتبط بالخدمات الصحية، وكذلك التدابير التي تعمل على تخويل النساء سلطات أوسع هي بالتأكيد نافعة ومفيدة. وعندما تتفكك القواعد الاجتماعية وتتداعى نظم الدعم التقليدية، فإن النساء اللاتي يقع اختيارهن على تغيير نمط السلوك الخاص بهن يصبحن بلا سند اجتماعي أو عون مادي. لذا فإن حافز التعليم وتوفير الوظائف للنساء هو عنصر أساسي لتمهيد طريق التحول إلى إنجاب عدد قليل من الأطفال.
ومن العناصر الأساسية أيضا العمل على تطوير التنسيق الاجتماعي وتوفير الأمن الاقتصادي للفقراء بطريقة مباشرة. فتوفير الوقود الرخيص الثمن ومياه الشرب سيعمل على التقليل من فائدة الأيدي العاملة الإضافية. فعندما يعتبر الطفل باهظ التكاليف، فإن الأمل يصبح في النهاية متاحا للتخلص من السيطرة الشرسة لمعدلات الخصوبة العالية.
وكلًّ من الوصفات التي تم اقتراحها وفق منظورنا الجديد إلى الروابط بين السكان والفقر وتدهور البيئة تلاقي إقبالا في حد ذاتها، وليس فقط عند استعراض تلك المشكلات. ويبدو لي أن هذا الانسجام بين الوسائل والغايات هو حقيقة مقبولة فيما يمكن أن يكون حقلا دراسيا يبعث على الكآبة.
المؤلف
Partha S. Dasgupta
تلقى تعليمه في ڤارانسي ودلهي وكامبردج، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة كامبردج وزميل كلية سانت جون. وهو أيضا رئيس مجلس إدارة معهد Beijer الدولي لاقتصاديات البيئة بالأكاديمية الملكية السويدية في استوكهولم وعضو الأكاديمية البريطانية. وقد شملت بحوث داسگوپتا نواحي عدة من اقتصاديات البيئة والموارد والسكان، ومنذ عهد قريب، الفقر وسوء التغذية.
مراجع للاستزادة
POPULATION, NATURAL RESOURCES, AND DEVELOPMENT. Special issue of Ambio, Vol. 21, No. 1; February 1992.
AN INQUIRY INTO WELL-BEING AND DESTITUTION. Partha Dasgupta. Oxford University Press, 1993.
POPULATION: THE COMPLEX REALITY. Population Summit Report of the World’s Scientific Academies, Royal Society, London. North American Press, 1994.
POPULATION, ECONOMIC DEVELOPMENT, AND THE ENVIRONMENT. Edited by Kerstin Lindahl Kiessling and Hans Landberg. Oxford University Press, 1994.
WORLD DEVELOPMENT REPORT. World Bank, annual publication.
POVERTY, INSTITUTIONS AND THE ENVIRONMENTAL RESOURCE BASE. Partha Dasgupta and Karl-Goran Maler in Handbook of Development Economics, Vol. 3. Edited by T. N. Srinivasan et al. North Holland Publishing, Amsterdam (in press).
Scientific American, February 1995
(1)Matthew effect ـ إنجيل متّى: إصحاح 25 ـ آية 29. (التحرير)