الحوسبة المُشبّكة في التسعينات
الحوسبة المُشبّكة في التسعينات
نشأت الحواسيب كآلات مربكة تديرها نخبة من التقنيين، ثم تطورت
إلى أدوات مكتبية تأتمر بأمر الفرد. ومن المتوقع أن يقوم تعاون
نشيط بين المستخدم والجيل القادم من الحواسيب.
<G .L. تسلر>
في عام 1970 عُرض فيلم بعنوان : “المارد: مشروع فوربن”، يخرج فيه حاسوب من كهوف جبل قد جُوِّف للهيمنة على العالم. يتولى العناية بحجيراته المغطاة بأضواء وامضة ومُسيِّرات أشرطة دوّارة، جيش من المبرمجين بقمصان بيضاء.
تغيرت هذه الصورة السطحية بين عامي 1977 و 1988 عندما دخل الحاسوب الشخصي البيوت والمكاتب. وسرعان ما انعكست هذه الحقيقة الجديدة في الأفلام التي تلت: ففي عام 1987 مثلا، عُرض فيلم “وول ستريت” الذي صوَّر آلة تقلصت إلى قَدِّ (حجم) سطح طاولة مكتبية، واستُبْدِل بأضوائها وأشرطتها أنبوب أشعة مهبطية (كاتودية) ولوحة مفاتيح وفأرة mouse (هي دحروجة تشغِّل مؤشرا على الشاشة)، واختفت تلك الهالات الكهنوتية للمبرمجين ليحل محلها مستخدم فرد ـ وهو في هذا الفيلم مصرفي استثمار ـ صار الحاسوب بالنسبة له وسيلة وليس رسالة.
أما أفلام التسعينات فستصوِّر الحواسيب كأدوات خفية ـ أقرب ما تكون إلى الساعات اليدوية منها إلى الساعات الكبيرة. وتكون شاشاتها نحيلة منبسطة مزودة بميكروفونات وأقلام بدلا من لوحات المفاتيح، ومُرسلات لاسلكية عوضا عن مضمِّنات ـ كاشفات (موديمات) modems ذات حزم كبلية. وفضلا عن ذلك ستتغير علاقتها بالمستخدم من وسيلة إنتاجية معزولة إلى متعاون نشيط يسعى لاكتساب استخدام وتكوين المعلومات، ومُيسِّر للتفاعل البشري. وبالطبع، فإن ما سأقدمه الآن من نبوءات وغيرها يعكس آرائي الشخصية، وإن كان معظمها مقبولا على نطاق واسع في مهنة الحوسبة.
فهناك مثلا ذلك الاعتقاد السائد بأن الحاسوب سيؤدي دورا أكثر فاعلية في تعاونه مع المستخدم. وقد لا يبقى هذا الحاسوب المتعاون محدودا بأداة خاصة بل سيكون بمقدوره أن تتحرك، مثلا، من راحة اليد إلى قاعدة بيانات (معطيات) حاسوب كبير أو إلى سطح المكتب. ويمكن للمستخدم، وهو يتنقل من مكتبه إلى سيارته ثم إلى قاعة الاجتماعات، أن يوكل إلى الحاسوب (الأداة الإلكترونية) المهمات التالية:
ـ في أي يوم من الشهر 2 سَجلتُ محادثة هاتفية مع <سام>؟
ـ حَدّد لي موعدا في متجر إطارات، يقع على طريق عودتي إلى المنزل ويفتح بعد السادسة مساء.
ـ وزِّع هذه المسودة على بقية أفراد الجماعة وأعلمني عند انتهائهم من قراءتها.
ـ كلما نُشِرتْ ورقة علمية عن جزيئات الفلَّرين fullerine، اطلب نسخة لمكتبتي.
سيقوم المبرمجون بإسباغ سمات الذكاء على هذه الحواسيب بمنحها قدرات استنتاجية معينة. وستعمل هذه الحواسيب على استشارة قواعد البيانات data bases، فإذا ما أُربكت تطلب إلى المستخدم الإرشاد والتوجيه. فهي بالأحرى أشبه ما تكون بمساعد بشري، عدا أنها تفتقر إلى الحدس والمقدرة على الارتجال. ومع ذلك، فستكون قادرة على تعرُّف الأنماط المتكررة في عمل المستخدم ومعاينة الرسائل الواردة وتدوين المواعيد النهائية لإنجاز الأعمال. وبهذا يمكن للحواسيب غالبا، وقد تسلحت بمثل هذه المعلومات، التنبؤ بالحاجات قبل أن يفصح المستخدم عنها أو حتى يدركها، كما يمكن لحاسوب متنقل اللحاق بمستخدمه ساعة تناوله الإفطار ليقول:
ـ لقد سألتني عن آخر محادثة هاتفية سجلتها مع سام. كان ذلك يوم 27/2. هل أعيد عليك التسجيل؟
ـ دَوَّنتَ لي ملاحظة في الأسبوع الفائت بأن إطارات سيارتك كانت شبه فارغة، بإمكاني ترتيب موعد لك هذه الليلة.
ـ لقد رمى <لازلو> المسوّدات الأربع التي أرسلتها له جانبا من دون أن يقرأ أيا منها.
ـ طلبت أوراقا علمية عن بحوث الفُلرين. هل أطلب أيضا أوراقا عن مجموعات عضوية أخرى؟
وعلى الرغم من أن الأوامر والاستجابات تُمثَّل هنا كجمل إنكليزية مطبوعة، فهناك إمكانية استخدام أشكال أخرى، قد تكون مكتوبة باليد أو منطوقة، تتبع قواعد لغوية ذات دلالات بيّنة بشكل أو بآخر، بلغات بشرية أخرى أو ربما بلغة حاسوبية أكثر صرامة (مثل لغة SQL، وهي لغة صممت لسؤال قواعد البيانات)، كما يمكن تفصيلها بوضع إشارات إلى جانب الخيارات، وملء الفراغات في استمارة ما، أو بتقديم إجابات موجزة لسلسلة من الأسئلة التي يطرحها الحاسوب.
إن التغيرات في دور الحاسوب ـ من مهبط متنسك منعزل للوحي إلى وسيلة شخصية، فمساعد ناشط ـ جاءت على شكل أمواج جلية يمكن تشبيهها بتحولات النماذج، وهو تعبير استخدمه <S .T. كُون> (الفيلسوف في معهد ماساتشوستس للتقانة MIT) في وصفه للثورات في التفكير العلمي. لقد أمكن تحقيق نماذج الحوسبة هذه عبر التحسينات المطردة التي تحققت في مختلف ضروب التقانات، يواكبها نضج السوق. ويبدو أن هذه التحولات تحدث بتواتر زمني يقدر بفاصل عقد تقريبا.
ابتُكر النموذج الأصلي للحاسوب في أواخر الأربعينات عندما صُمِّمَت الآلة الحاسبة المبرمجة كأداة هندسية، ثم أخذ شكله العملي التجاري في الخمسينات. بدأ التغير الأول في الستينات مع تبني الشركات للحاسوب كآلة لمعالجة البيانات. أما التغير الثاني فحصل في السبعينات عندما بدأت خدمات الحاسوب تُقتسم بين العديد من المشتركين. وفي الثمانينات، حدث التغير الثالث محولا الحاسوب إلى أداة إنتاجية مكتبية للأفراد. أما التغير الرابع فمازال يأخذ مجراه الآن، وتبدو بشائره متمثلة بتزايد الأدوات الحُجْرية المشبّكة networked laptop devices، وتقاويم الجيب الإلكترونية ـ أسمي الآلات المتنقلة الحواسيب المحيطية pericomputers، فهي ذات قيمة مزدوجة وذلك لمحدودية الوظائف التي تنجزها بشكل منعزل وقدرتها على الولوج إلى عالم المعلومات المجسَّد إلكترونيا.
لقد أدت كل من هذه التغيرات إلى تبدل جذري في طريقة إدراك الناس للحواسيب. ففي الستينات، على سبيل المثال، كانت الطاقة الحاسوبية مرتفعة الثمن، وكانت الأمور تُعدّ بما يلائم الآلة، إذا جاز التعبير. أما البيانات فكانت تُعالج بدفعات واحدة كبيرة كي تتمكن هذه التقانة من تسديد نفقاتها، وكان هذا الأمر بمقدور المنظمات الكبيرة فقط. إذ تقوم الشركات، على سبيل المثال، بتشغيل برنامج جدول الرواتب لمعالجة بطاقات العمل الأسبوعية، ومن ثم بتحميل الحاسوب مباشرة “مهمة” أخرى قد تكون برنامجا مع بياناته المرافقة. كانت هذه المهمات تكوَّد على بطاقات مثقبة أو أشرطة مغنطيسية، وتسلم النتائج كقوائمlistings مطبوعة على ورق مخرَّم ذي طيات مروحية. كما كان على الحاسوب ـ عند مواجهة خطأ ما في البرنامج أو في البيانات ـ أن يتوقف عن العمل ويعيد المهمة الخطأ إلى صاحبها لإجراء التصحيح. ولا ريب أن تكرار هذه العملية لساعات أو حتى أيام عدة مدعاة للجنون.
وفي السبعينات، صارت معالجة البيانات عبر مشاركة الزمن time-sharing أكثر اقتصادية للمستخدم؛ وذلك لسماحها لعدد كبير من المشتركين بتشاطر تكلفة الحاسوب فيما بينهم. وتم ذلك بتكييف نظام التشغيل (الذي ينسق الحاسوب من خلاله أنشطته الداخلية) بحيث يوزّع اهتمام الآلة بين تلك “المهمات” كما لو كان يتعامل مع محطة نهائية لمستخدم معين. ويتنقّل الحاسوب في أثناء ذلك من مهمة إلى أخرى في فواصل زمنية تتراوح بين أقل من عشر الثانية إلى ثانية أو أكثر تبعا لعبء العمل آنذاك. لقد أضحت الحواسيب أيسر استخداما مع إمكانية الوصول إليها من محطة نهائية، واستنطاقها في زمن حقيقي real time. أي، إمكانية تلمس الطريق من خلال مسألة ما عبر طرح سؤال والاستفادة من الجواب لصياغة السؤال الذي يليه.
تنخفض تكلفة الحوسبة إلى النصف تقريبا كل ثلاث سنوات، كما هو مبين في هذا الرسم البياني لأكثر الحواسيب مقدرة في كل فترة. |
ففي البدء، وفّرت الحواسيب الشخصية خدمات مشابهة لمشاركة الزمن، وإن كان على نحو أكثر ملاءمة. وأفسح التقدم في المعالجات المكروية (الصِغرية)microprocessors المجال لأرباب الصناعة (لِزَرعِ) حاسوب على شيپَّة chip واحدة، مما جعل شراء حاسوب صغير أرخص ثمنا من المشاركة في آخر كبير. والآن، وقد انتهى اعتماد المستخدِمين على التجهيزات المشتركة العالية التكلفة، أصبح بمقدورهم العمل وفقا لرغباتهم في أمور كانت تتطلب جدولة زمنية في السابق. وصارت معالجة النصوص word processing وتكوين الرسوم البيانية أمورا اعتيادية بسيطة.
وقد أمكن، نتيجة لذلك، إرشاد صنف جديد من المستخدمين عبر سلسلة من البرامج ذات قدرات متزايدة، مثل تطبيقات الصحيفة الجدولية spreadsheetوالوسائل المساعدة في عملية الإخراج الفني للصفحة؛ كما أُسبغ عليها قالب عملي عبر تخصيص طاقة معالجة لا مثيل لها للفرد الواحد. كذلك أصبحت عملية الاستنطاق interrogation أيضا أكثر سهولة بسبب انتقال عبء تسلسل الأوامر المحتملة من المستخدم إلى الحاسوب. وفي الوقت الحاضر مثلا تُعرض على الشاشة خيارات متعددة على شكل لوائح الخيارات menus أو لوحات يمكن أن يمسحها (يلمحها) المرء ببصره قبل انتقاء الخيار المطلوب.
تعتبر الشاشات المسطحة ـ كتلك العاملة بالبلورات السائلة من الشركة IBM (في اليسار)، وبالبلازما من شركة فوجيتسو (في اليمين) ـ حتمية في تطوير الحواسيب المحمولة المدمجة. يترتب على التصاميم في المستقبل أن تستهلك طاقة أقل. |
أما ملايين الناس ممن تمكنوا من اقتناء الطاقة الحاسوبية لأول مرة، فقد غدت الفوائد المجنية مغرية جدا. إذ لم يعد يترتب عليهم إعادة طباعة صفحة لمجرد إضافة جملة، أو انتظار الآخرين لأسابيع كي يؤمنوا لهم التنضيد اللازم أو الإخراج الطباعي، أو اتخاذ قرار مبني على تنبؤات مالية تم حسابها بعناء؛ أو طرح فكرة مثيرة في قالب رتيب. إذ أخذت الخدمات الجديدة تبدو ضربا من ضروب الرفاهية ـ وإن تحولت بسرعة إلى أمر مفروغ منه ـ تماما كما حصل، لقرن خلا، بالنسبة للآلة الكاتبة.
ومن الجدير بالذكر أن النماذج القديمة لا تبطل كليا بحكم الضرورة. فتطور الحوسبة يعيد إلى الأذهان تطور المتعضيات التي غالبا ما تبقى حية في بيئات ملائمة على الرغم من أن أشكالا أخرى من الحياة قد حلت محلها في مكان آخر. فنظام مشاركة الزمن ـ على سبيل المثال ـ مازال مهيمنا على الصناعات التي تعالج عمليات متعددة ـ كالمعاملات المصرفية وخدمات التصنيف الائتماني ووكالات الحجز لشركات الطيران. ولقد طُورت أيضا تطبيقات جديدة للاستفادة من الحواسيب الشخصية، بحيث يمكن للمشتركين استخدام المضمنات ـ الكاشفات (الموديمات) الخاصة بهم للاتصال المباشر بخدمات الأنباء والتسوق والمصارف.
وعلى نحو مشابه، فإن المكونات المادية (المعدات) hardware المقترنة بالحوسبة المتنقلة لن تلغي دور الحواسيب المكتبية desktop. فالحاسوب المتصل بمقبس كهربائي يتمتع، فعلا، بطاقة أكبر من الحاسوب المُشغّل بالمدخرات الكهربائية (البطاريات). وستتاح للعامل على حاسوب مكتبي فرصة استغلال شاشة أعرض وتخزين أوسع لآلة أكبر، إضافة إلى إمكانية إدخال أسرع وأكثر دقة عبر لوحة مفاتيح keyboard كبيرة. وللحواسيب الثابتة ميزة دائمة تتمثل في الكم الهائل من المعلومات التي تُغذى بها. إذ تنقل الأسلاك بيانات أكثر مما تنقله الأمواج الراديوية. وستتسع الهوة بينهما مع استخدام الألياف الضوئية ـ الخليفة المتوقعة للأسلاك ـ وسيصبح هذا الفارق ملموسا في التداول conferencingبوساطة الحواسيب المكتبية والتطبيقات الڤيديوية الأخرى العطشى للبيانات.
تعكس كل مرحلة من مراحل الحوسبة سرعة الحساب المعاصرة، وتنوّع المعلومات التي يمكن معالجتها، والطرق التي يمكن بها وصل الحواسيب بعضها ببعض كشبكات، إضافة إلى البرامجيات software التي تُستغل من خلالها مثل هذه الشبكات والطرق التي يمكن للبشر التفاعل بوساطتها مع الأدوات. فقد تحسنت السرعة، وهي العنصر الجوهري، بشكل واسع بفضل النمنمة miniaturization.
وعندما يتقلص حجم الأدوات الإلكترونية، تَعبُر الإشارات هذه الأدوات بشكل أسرع. وبالتالي، يمكن تنفيذ عمليات أكثر في دور زمني محدّد، كما تنخفض تكلفة الحوسبة. ويمكن، في الوقت ذاته، حشر أدوات أكثر في الشيپَّة بما يسمح بتصنيعها على دفعات كبيرة، مما يؤدي إلى انخفاض تكلفة الوحدة التصنيعية. ولا شك في أن التكلفة المنخفضة ستزيد من حجم المبيعات وتحقق وفورات اقتصادية إضافية. فمن وجهة نظر المستخدم، يؤدي صغر القدّ (الحجم) إلى تحسينات سريعة في النفعية والملاءمة. فضلا عن ذلك، تتوافر كافة الأسباب التي تسمح بتوقع استمرار هذا الاتجاه [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].
تُحوِّل شيپَّة نكسيس التجريبية من الشركة IBM الإشارات من شكل ضوئي إلى إلكتروني بسرعة تكفي لتبادل البيانات بين الحواسيب في الزمن الحقيقي وعبر مسافات بعيدة. وتعتبر مثل هذه الإمكانات ضرورية للشبكات المتقدمة. تُكاِمل الشيپَّة أربعة مكشافات (مكاشيف) من أرسنيد الگاليوم مع الدارات التي تقوم بتضخيم إشارة المخرج (الخرج) وتعالجها مسبقا. جُعلت أقنية الألياف الضوئية (في الوسط) مرئية بوساطة نقل الضوء الأحمر. تستعمل الأشعة تحت الحمراء عادة لتقليل مفاقيد الطاقة. |
منذ ثلاثين عاما، كانت الحواسيب تُجمَّع بشكل مُضنٍ من ألوف الترانزستورات والمكثّفات. أما اليوم، فقد أخذت المعامل تنتجها بالجملة من حفنة من شيپات الدارات المتكاملة التي يحتوي كل منها على ملايين المكونات. وبدلا من حشر كل شيپة في غلاف مسطح ذي أرجل أشبه بالحريش (مئوي الأرجل)centipedelike، ستتوصل صناعة أشباه الموصلات إلى كثافات أعلى للدارات بإنتاجها وحدات modules متعددة الشيپات ذات بعدين أو حتى ثلاثة أبعاد. وستشكل هذه الأكوام من الشيپات قوالب بقدّ مكعبات السكر.
كما ستحسن النمنمة أيضا المكونات الأخرى لأنظمة الحوسبة. فعلى سبيل المثال، كانت الذاكرة memory ـ منذ مدة قريبة لا تتعدى العشرين سنة الماضية فقط ـ أكثر جسامة من الورق. ولتخزين نص من مليون حرف (ما يقارب الأحرف المحتواة في نسختين من هذا العدد من مجلة العلوم بشكل يمكن العودة الفورية إليه، كان المرء يحتاج إلى رزمة أقراص بحجم كعكة عيد الميلاد. وفي الثمانينات أمكن تخزين بيانات كثيرة في قرص صغير يمكن وضعه في جيب القميص. أما التسعينات، فستشهد تحميل هذه البيانات على أداة شبه موصلة لا يزيد حجمها على حجم بطاقة التسليف (الائتمان).
كذلك سيغدو من الممكن استخدام أنماط جديدة من البيانات مع كل نموذج حاسوب جديد. فقد كانت أنظمة معالجة الدفعة الواحدة القديمة تعالج الأرقام والأحرف الكبيرة فقط. أما أنظمة مشاركة الزمن فقد تمكنت من توفير وثائق تتفاعل مع المستخدم ومن تحرير الرسائل، ودعمت غالبا الرسوم البيانية المتجهة التي ساعدت على رسم الخطوط على الشاشة. ومع الحواسيب الشخصية جاءت الرسوم البيانية الماسحة، ومصفوفات النقاط كما في العنصورات (عنصر صورة، پيكسل) pixels المكوَّدة التي تمثل صور التلفزيون. وها هي الحواسيب الشخصية المكتبية تدعم تلك الوسائط السمعية والڤيديوية والرسوم المتحركة والبيانية الثلاثية الأبعاد، التي كانت تعالج من قبل بمحطات حاسوبية مكلفة. وسيركز الجيل القادم من الحواسيب المتنقلة على الفاكس (المثالة) facsimile وعلى الكلام. وهي وسائط مفيدة لا سيما لأولئك البعيدين عن مكاتبهم.
لقد تنامت أهمية الشبكات لأن تطوير النماذج المتعاقبة أفضى إلى دخول عدد كبير من الحواسيب إلى الخدمة. فعندما كان عدد معالجات الدفعة الواحدة قليلا، لم يكن هناك مبرر لجعلها تعمل كلها كمجموعة واحدة. ومع ذلك، لا يمكن تصور مشاركة الزمن من دون شبكات: إذ يجب على الخطوط الخاصة أو الهاتفية العامة أن تربط العديد من المحطات النهائية بحاسوب مضيف سواء أكان حاسوبا كبيرا (رئيسيا) mainframe لشركة كبرى أم حاسوبا صغيرا minicomputerيخدم نطاقا أضيق. لقد كانت الخطوة البديهية التالية إقامة شبكات أوسع فيما بين فروع المصارف المتعددة، مثلا، لتأمين تبادل إلكتروني للبيانات. إذ يتقاسم المستخدمون، بوساطة مشاركة الزمن، تسهيلات تخزين كبيرة وطابعات عالية السرعة توصل بالحاسوب المضيف. كما يتمكنون من إرسال الرسائل عبر البريد الإلكتروني لإعلام المستخدمين الآخرين عن مواعيد أدوارهم التالية في المحطات النهائية. كانت المحطات النهائية الأولى “غبية” إذ إنها عملت كمجرد روابط للبيانات. أما الأنماط الأحدث منها فقد تضمنت قدرة حاسوبية دنيا ممهدة الطريق بهذا إلى الحواسيب الشخصية.
في مرحلة الحوسبة المكتبية، اتخذت شبكات الحواسيب أشكالا جديدة. فالشبكات المحلية local-area networks تصل الحواسيب الشخصية بعضها ببعض وبالآلات المشتركة ـ سواء حواسيب الأغراض العامة التي تدعى الحواسيب المضيفة hosts، أو الحواسيب ذات الأغراض الخاصة التي تدعى “المخدِّمات”servers، وجميعها تؤمن ملفات جماعية وطباعة عالية الجودة وبريدا إلكترونيا على صعيد المؤسسات. أما الشبكات الوسيعة wide-area networks فتصل ما بين الأطراف المختلفة للمؤسسات لتربط الحواسيب الكبيرة ومخدمات الملفات بالآلات المكتبية. ومع ظهور الحواسيب المتنقلة، ستتزايد الوصلات اللاسلكية بحيث تصبح شبكة المعلومات مطلقة ومهيمنة.
ستتغير التطبيقات البرامجية أيضا بخروج الحواسيب المتنقلة من الحقائب والمحافظ وحتى الجيوب. فحواسيب اليوم المحمولة تستمر بأسلوب لائحة الخيارات بشكل رئيسي. غير أن العقد القادم سيشهد ظهور أساليب جديدة مكملة. فعلى سبيل المثال، ظهرت منذ مدة برامجيات النسخ التي تمكن الآلات المحمولة من عرض نسخ مطبوعة لكلمات مكتوبة باليد وتصويرمصقول لأشكال مرسومة على نحو تقريبي. تتعرف البرامجيات ذات الصلة الرموزَ المرسومة يدويا والتي يمثل كل منها أمرا أو فكرة كاملة. ومع تحسن التقانة، تجد برامجياتُ تعرّف الكلام speech-recognition، التي تأتمر بأوامر منطوقة، تطبيقاتٍ واسعةً.
تعمل معظم الحواسيب المحمولة في الوقت الحاضر ببرامجيات كتبت لآلات أكبر، بيد أنه تم تصميم رزم تطبيقية لأولئك العاملين بعيدا عن مكاتبهم. ففي هذه الحالات يقوم المستخدمون بتدوين ملاحظاتهم ومسوداتهم وقد لا يسعفهم الوقت لتشذيب وتنسيق أو تحرير ما دونوه. كما يقومون أيضا بتبادل المعلومات مع زبائنهم أو رفاقهم والاتصال بمكاتبهم الخاصة وتخطيط مواعيدهم وسبل الوصول إليها.
تشكل الآلات الكفّية palmtop، التي تنفذ مثل هذه المهام، الحواسيب المحيطية “الناضجة” الأولى. وعلى الرغم من أنها حتى الآن غير قادرة على إجراء حسابات كثيرة فهي تفي بالغرض في تلك الحالات التي تتعثر فيها الحواسيب ذات الوظائف الكاملة. إذ يمكن، على سبيل المثال، تنظيم جدول رحلة يومي على آلة مكتبية ومن ثم نقله إلى حاسوب محيطي لاسترجاع هذا الجدول بسرعة. كما يمكن تجهيز الملاحظات الحقلية (الميدانية) لإجراء التحرير المكتبي، وتأمين التوافق ما بين مفكرة جيبية وأخرى جماعية. ستسهم مثل هذه التطبيقات، على تواضعها، في تأسيس قاعدة واسعة من الزبائن بما يبرر إعداد برامجيات تخصصية ذات نطاق واسع، وستجعل هذه البرامجيات الجديدة السوق أكثر اتساعا.
وفي واقع الأمر إن البرامجيات ذاتها هي التي ستتغير أكثر من أي عنصر آخر في نموذج الحوسبة. وللمرة الأولى، ستُكتب هذه البرامجيات آخذة بعين الاعتبار الفرد والجماعة. ويعكس هذا التغير اتساع الشبكات الذي يُقَرِّب المستخدمين إلى العمل كما يقرب بعضهم إلى بعض. غير أنه يصعب أحيانا أن نتذكر أن الحواسيب كانت، وحتى نهاية السبعينات، تُشغَّل من قبل الخبراء التقنيين، الذين كانوا أرباب الحوسبة المدربين، وكان على المستخدمين تقديم الطلبات وانتظار الخدمات. لقد جاءت الحواسيب الشخصية لتتيح لجميع الناس من المستويات كافة استخدام الحواسيب. وكما في الطهي المنزلي، غالبا ما تدعو الحاجة إلى بذل مزيد من الجهود، غير أن النتائج تبقى على الأقل تحت سيطرة الفرد الكاملة وإن لم تتحقق المعايير التجارية المطلوبة.
في غضون خمس أو ست سنوات سيصبح التعاون من خلال شبكة حاسوبية أمرا طبيعيا جدا، مثل إعداد وليمة خلال العطلة مع الأصدقاء في مطبخ مشترك. تدعى البرامجيات التي تدعم الأنشطة الجماعية بالبرامجيات الجماعيةgroupware. أما النشاط التعاوني ذاته فقد أطلق عليه اسم العمل الجماعي المدعم بالحاسوب Computer Supported Cooperative Work CSCW. ويمكن القيام به في مكان واحد أو أكثر، في الوقت نفسه أو في أزمنة مختلفة: كاجتماع في غرفة مؤتمرات، أو تداول عبر الڤيديو من مواقع متباعدة أو لوحة إعلانات إلكترونية يتعاون خلالها العاملون في ورديات مختلفة أو نظام بريد إلكتروني يُمكِّن مؤلِّفا ومحررا من تبادل المسودات بينهما.
وعندما تُحفظ مفكرات أعضاء منظمة ما في مخدِّم الشبكة، يمكن إيجاد مواعيد اجتماع ملائمة لهم جميعا بشكل آلي عن طريق البرامجيات الجماعية كصانع الاجتماع Meeting Maker وهو منتج صممته الشركة On Technology في كامبردج بماساتشوستس. ينتقي الشخص المبادر زمنا وغرفة متاحة ويطبع جدول أعمال ويبثه إلى الحضور المتوقع. تدعو البرامجيات الأشخاص، وتسألهم عن نيتهم في الحضور وتمنحهم فرصة للتعليق. ويمكن للداعي إعادة ترتيب مواعيد الاجتماع بيسر لا يتطلب منه أكثر من جر التمثيل المرئي visual representation للاجتماع المنشود من طرف المفكرة إلى طرفها الآخر بوساطة فأرة أو قلم إلكتروني يشغَّل باليد، وعندها يُعلِمُ النظام المشاركين بالتغيير الذي طرأ.
وفي حين يعزز “صانع الاجتماع” إنتاجية المجموعة، تذهب البرامجيات الجماعية أبعد من ذلك بدعمها التعاون الفكري المجرد. وبهذا يمكن لمهندسين من أصقاع مختلفة من العالم، على سبيل المثال، أن يقوموا بتصميم مشترك كما لو كانوا يقفون قبالة السبورة نفسها. ويمكن للحواسيب المشبكة أن تحاكي العديد من أدوات التعاون القائمة وأن تتغلب على بعض محدوديتها. إذ يقدر حاسوب ما أن يحفظ سجلا دقيقا لحوار بغرض إعادة ترتيبه أو تحريره أو توزيعه في وقت لاحق. كما يمكن له أيضا أن يسهِّل إنشاء ورؤية وتعديل وعرض النماذج بأبعاد ثلاثة أو أكثر، وكذلك نقل مسودات بوساطة البريد الإلكتروني بحيث يتمكن كل مشترك من القيام بسرعة بتعديلاته التحريرية، وتعقُّب الشخص الذي قام بالتعديل وماهية تعديله ودمج التعديلات غير المتناقضة بشكل آلي.
عندما يتوافر حاسوب لدى كل مشارك في اجتماع عاصف، وتكون كل هذه الحواسيب مشبَّكة، يمكن التقاط الأفكار وعرضها في موضع مشترك يُمكِّن الجميع من رؤيتها إما على حواسيبهم المنفصلة أو على شاشة جدارية. وتبين تجربة مركز بحوث زيروكس بالو ألتو وغيره من مراكز بحوث “العمل الجماعي المدعم بالحاسوب” CSCW، أن الناس عادة يحكمون على الأفكار التي تظهر على الشاشة لقيمتها الذاتية أكثر من حكمهم المتأثر بمنصب أو لقب المشارك. وهناك ميزة إضافية تكمن في عدم حاجة الأفراد إلى انتظار أدوارهم أو حتى رفع أصواتهم ليسمعهم الآخرون [انظر “الحواسيب والشبكات والأعمال” في هذا العدد].
تزداد البرامجيات الجماعية قيمة عندما تسمح الاتصالات اللاسلكية للمستخدمين بولوجها عندما يشاؤون، بيد أن هذا الولوج أمر عصيب: فهناك من يريد تشكيل مجموعات عمل من غير سابق تخطيط في أي غرفة كانت، سواء توافرت فيها مقابس للشبكة الحاسوبية أو لا. ويبدو أن حاجتهم إلى الوصول لمفكرات جماعية تكون أكثر بروزا عندما يكونون بعيدين عن مكاتبهم. وعندما تصبح هذه الإمكانية عملية، ستتجلى احتياجات أخرى أيضا. إذ لا يمكن لشخص دائم الحركة أو فرد يحضر اجتماعا ما أن يحدق في شاشة أو يعطي تعليمات مفصلة، على سبيل المثال، غير أنه يسهل إعطاء أمر مقتضب لوسيط برامجي لا حدود لطاعته وصبره.
سيعتمد نجاح أو إخفاق البرامجيات الجماعية ـ وغيرها من البرامجيات الشبكية في كثير من الحالات ـ على أعشار الثانية، وهي الفترة التي تستغرقها كي تستجيب لتساؤل المستخدم. وفي أحيان عدة ستتفوق المنتجات المحدودة على تلك المتطورة لمجرد إنجازها العمل بشكل فوري. وينطبق ذلك خاصة على الخدمات الناشطة كالتي تقدمها البرامجيات في توجيهها قرارات الأفراد في الزمن الحقيقي. فالسائق الذي يرغب في تغيير مساره لتجنب ازدحام مروري، على سبيل المثال، لا يستطيع الانتظار طويلا لتلقي التوجيهات.
ولا يكفي أن تتمتع البرامجيات بالسرعة لغاية الإرضاء فقط، إذ يتحتم أن تكون سهلة المنال أيضا. ويمكننا الآن تبيّن توجّه التسويق. إذ إن الحوسبة المكتبية الشخصية حفزت سوقا للتطبيقات العامة له جاذبية واسعة النطاق. وكانت نتيجة ذلك أن بدأ ناشرو البرامجيات بتوزيع رتيب (روتيني) لمنتجاتهم على شكل أقراص “مرنة” floppy disks أو أقراص بحجم الجيب عبر منافذ بيع التجزئة والطلبات البريدية. وعندما يصبح توزيع البرامجيات إلكترونيا، سيتمكن الأفراد من طلب منتج ما وتحميله على حواسيبهم في غضون دقائق. ولن يكون هناك مبرر يغري بالحصول على نسخ غير قانونية، الأمر الذي يقوم به العديد من الناس بقصد توفير الوقت وليس المال.
وقد يؤدي التوزيع الإلكتروني للبرامجيات إلى دفع الباعة لرَزْم البرامجيات في وحدات أصغر كي يتم بثها بسهولة أكبر. وسيتمكن المستهلكون من تشكيل تطبيقاتهم الخاصة من برامجيات تُقْتنى بشكل منفصل بحيث تصبح مشابهة لمكونات نظام سمعي منزلي. ولا شك أن حلول مثل هذه المركبات البرامجية سيعكس التوجه الذي ساد في العقد الماضي نحو تطبيقات أوسع وأكثر تكلفة وأصعب تعلما. فبدلا من الارتقاء بمعالج نصوص العام 1990 ذي العشرين سمة إلى نموذج العام 1991 ذي الأربعين سمة، يمكن للزبون انتقاء السمات المرغوبة من دليل تجاري. وسيكون بمقدور أولئك الراغبين في اقتناء سمات جديدة، الحصول عليها بشكل فوري أو آلي في بعض الحالات. وهذا ما يقوم به فعلا المشتركون في شبكة خدمة پرودجي، إذ تتلقى حواسيبهم الشخصية برامجيات محدثة تماما بعد تسجيل اشتراكاتهم في الخدمة.
يجلب المنظم الشخصي الشبكات إلى راحة يدك. يمكن تحميل هذه الأدوات المتنقلة بشكل مباشر (كما في الشكل أعلاه) أو عن طريق الهاتف. |
يتحتم إزالة العديد من العقبات قبل التحقيق الكامل للوعد بإيجاد شبكات شاملة. فقد يشكل العديد من العوائق اختناقات جدية، وهي مشكلة مألوفة في المراحل الأولى لنماذج سابقة. وعلى الرغم من أنه تم التنبؤ بمعالم الحوسبة الشخصية منذ عدة سنوات، مثلا، فقد تطلب الأمر تطوير تقانات كالمعالج المكروي ذي الشيپة الواحدة وشبه الموصل DRAM (اختصارا ل: ذاكرة الولوج العشوائي الدينامية dynamic random – access memory)، إضافة إلى العديد من العوامل التجارية، التي أسهمت في تحقيق هذه التنبؤات عام 1980. ولكي تصبح الحوسبة المتنقلة المشبكة الاتجاه السائد في عقد التسعينات، يستلزم تطوير عدد من التقانات وبخاصة ما يتعلق منها بالسرعة والوزن والحجم والصلابة والتكلفة واستهلاك الطاقة الكهربائية.
السيد والرجل: تغيرت صورة الحاسوب تبعا لتغير طريقة استخدامه. فعندما كانت الآلة باهظة الثمن، صعبة البرمجة، صُوِّرت كطاغية يُخشى الاقتراب منها كما في الفيلم السينمائي المارد: مشروع فوربن، عام 1970. وفي المشهد أعلاه يتكئ الدكتور فوربن على المارد، الحاسوب الذي صممه فعاد ليستعبده في نهاية المطاف. فهل يتمكن حاسوب الغد من أداء دور حميد لخادم شخصي مثالي ـ مهيمن وخفي في آن واحد؟ |
تبدو الشاشات الڤيديوية المدمجة المقتصدة في استهلاكها للطاقة ضرورة مطلقة للحواسيب المحيطية. كما تعتبر شاشات العرض بالبلورات السائلة LCDs liquid -crystal displays النموذج السائد حاليا على الرغم من أنها بدأت الآن فقط في مجاراة أنابيب الأشعة المهبطية جودة. ولعل أحد الاتجاهات الواعدة بحل هذه المشكلة، والذي أدت فيه مختبرات RCA وويستنگهاوس ـ كل على حدة ـ دورا رائدا، هو قطع عناصر البلورات السائلة بحيث تستقطب الضوء وتوجهه إلى مرشح لون مناسب. بيد أن شاشات العرض بالبلورات السائلة الملونة وأضواءها الخلفية المتفلورة تشكل حملا كهربائيا رئيسيا على المدّخرة (البطارية) المحمولة. وقد يكون البديل لذلك تقانات جديدة تُصدرُ الضوء مباشرة من الشاشة وتستهلك طاقة أقل. وتعتبر شاشة العرض بالإصدار الحقلي field-emission مرشحة لهذه الغاية لاحتوائها على آلاف المهابط المكروية الأبعاد.
يشكل استنزاف الطاقة من إلكترونيات حاسوب محمول أحد أهم العوائق في طريق أدائه. ولهذا أخذت الأدوات، التي تتطلب طاقة أدنى، تجذب اهتماما أكبر ومنها شيپات تصنع وفقا لعملية أشباه موصلات أكسيد المعدن المتتامةcomplementary metal oxide semiconductors CMOS’s ؛ وأنظمة تعمل عند ڤلطيات (جهود، توترات) منخفضة (3.3 ڤلط بدلا من 5 ڤلط العيارية على سبيل المثال)؛ ودارات تستخدم شيپات قليلة بما يقلل الحمل على توصيلات ما بين الشيپات؛ وبنيان هندسي يستعمل نظام مؤقت بطيء (وهو الذي ينظم المكونات بالطريقة نفسها التي ينظم بها قائد الجوقة الموسيقية الإيقاع).
تستطيع اثنتان من البنى الهندسية الواعدة استخلاص سرعة أكبر من طاقة أقل بطرق مختلفة جدا. تسمى إحداهما الحاسوب ذا مجموعة تعليمات مختزلةreduced instruction set computer RISC ، لأنها تنقل كثيرا من الأعمال من المكونات المادية إلى البرامجيات. ومع ذلك، كانت معظم هذه البنى الهندسية المتاحة ذات استخدام محدود في الآلات المتنقلة، لأنها صممت لجعل الأداء مثاليا وليس لتقليص الحجم واستهلاك الطاقة. ويستثنى من هذا تصميم الشركة ARM المحدودة في كامبردج بإنكلترا.
تتجنب البنية الأخرى المبادلة ما بين سرعة المؤقت واستهلاك الطاقة وذلك بالتخلص من المؤقت. مثل هذا الدفق من المعلومات أو البنى الهندسية اللاتزامنية صُمم أصلا ليساعد في مجال المعالجة المتوازية. تُجدْوَل كل خطوة من خطوات المعالجة بحيث لا تبدأ إلا عند توافر البيانات اللازمة. غير أن الحوسبة بأسلوب “الوقت المناسب” تثير تعقيدات عدة. فهي أشبه ما تكون بجوقة موسيقية يلتقط بعض أفرادها الإيعازات من بعض وليس من قائد الجوقة.
وإذا كانت الطاقة ما ننشده، يجدر السعي لتحسين أداء المدخرات. فهناك مكامن ضعف في المدخرات الحالية تتجلى في عدم إمكانية استعمال الأنواع القلوية منها، وفي السعة المتدنية لمدخرات النيكل ـ كادميوم وكذلك ضخامة المدخرات الرصاصية الحمضية. بيد أنه يمكن تعديل نقاط الضعف هذه أحيانا. فقد حسَّنت النمنمة المكثفات مثلا بحيث أصبحت قادرة على تجميع الطاقة من منابع منخفضة المخرج (الخَرْج) وتوفيرها في فترات الطلب المرتفع. كما استخدمت البرامجيات أيضا لنزح الطاقة آليا من مدخرات النيكل ـ كادميوم قبل كل إعادة شحن وبالتالي الحيلولة دون فقد دائم لسعة التخزين، أو ما يدعى (مفعول الذاكرة). كذلك تعتبر المدخرات الجديدة المعتمدة على نيكل ـ هدريد المعدن والليثيوم مدخرات واعدة مثلها مثل الخلايا الفوتوڤلطية photovoltaic التي تستخدم حاليا في الآلات الحاسبة. ومن المؤسف أن الحفاظ على الطاقة يجعل من المتعذر لأي ترتيب طيِّع للخلايا الشمسية أن يوفر ضوءا خلفيا نيِّرا يكفي للتغلب على بهر الشمس.
اكتسبت تقانات الكتابة اليدوية وتعرُّف الكلام قدرا من الأهمية لأنها تجعل الحواسيب المتنقلة أسهل استعمالا، وهو الهدف الذي يجب أن نبقيه دائما نصب أعيننا كي لا ننجرَّ إلى الحكم على نظام ما فقط لعدد الكلمات التي يستطيع تمييزها أو نسبة الأخطاء التي يرتكبها. أسهمت ميزة تعرف الكتابة اليدوية في الترويج لإدخال الحواسيب في حياة أولئك الأفراد الذين لا يؤثرون الطباعة. وحتى الذين يؤثرونها لا يستطيعون القيام بذلك وهم واقفون أو ممسكون بآلة ما. لقد أصبحت هذه التقانة في اليابان مفتاحا رئيسيا لمبيعات الحواسيب بسبب غزارة الرموز الكتابية في اللغة اليابانية وتعذر احتوائها في لوحات المفاتيح.
إن الخبرة المستقاة من تعرف الكتابة اليدوية ستكتسب قيمة خاصة، لأنها ستقود ـ إلى حد ما ـ إلى تعرف الكلام. تتطلب كلتا التقانتين في تطبيقاتهما الأكثر تعقيدا تحليلا لغويا مفصلا تزيد البرامجيات بوساطته من فرصها في تعرف كلمة أو عبارة. كما تواجه كلتاهما تحديا في إيجاد أين تنتهي كلمة وأين تبدأ التي تليها. وأخيرا يتحتم أن تكون هاتان التقانتان قابلتين للتدريب بحيث يمكنهما تكييف تمثيلهما للأحرف والأصوات مع خط ولفظ المستخدم.
يتطلب تعرف الكلام المتعدد الجوانب طاقة حاسوبية ضخمة. غير أن باستطاعة مكونات مادية أقل تأمين قدرات محدودة غالبا ما تثبت جدواها. فمن العسير برمجة أي حاسوب ليسجل ما يُملى عليه بشكل مستمر من دون أن يخطئ بنهاية كلمة وبداية أخرى، وإن كان من السهل برمجة حاسوب محمول باليد ليميز بين كلمتي “نعم” و”لا”. وقد لا يتعدّى ما يحتاج معظم المستخدمين إلى نطقه، عندما تكون أيديهم مشغولة، بضعة أوامر. وقد تبين، على سبيل المثال، أن إنتاجية فارزي الرسائل البريدية تزداد عندما يهتفون بكودات المناطق البريدية zip codes بدلا من التوقف عن أعمالهم لملء الاستمارات اللازمة. ومع ذلك، فإن هذا التطبيق يتطلب تمييز النظام لعشر كلمات فقط، هي تلك المخصصة للأعداد.
تستطيع أنظمة التعرف تحديد جرة قلم أو رعشة صوت وذلك بتحليلهما إلى مجموعة من الخصائص، ويمكن إثر ذلك مقارنة هذه الخصائص بمُعيِّرة templateمخزَّنة في ذاكرة الحاسوب. وقد تُحلَّل هذه الخصائص، بدلا من ذلك بوساطة شبكات عصبية، سميت كذلك لمحاكاتها الطريقة التي يُعتقد أن الدماغ يعمل بها. يربط الحاسوب تمثيلا رقميا للعصبونات neurons داخل شبكة، ومن ثم يُبدِّل بشكل انتقائي الأوزان المخصصة لكل وصلة. وتقوم عملية التجربة والخطأ “بتدريب” النظام على التمييز بين الإشارات المختلفة.
وهناك تحد تقني آخر يواجه الحواسيب المحيطية اللاسلكية، يتمثل في سعة الوسط الكهرمغنطيسي ذاته. ولكي نمنع مرسلا من حجب المجال عن مرسل آخر، تُجمِّع شبكات البناء الواحد المرسلات على شكل خلايا صغيرة بحجم الغرفة. أما الخلايا الأكبر فتتطلب جهازا راديويا، على الرغم من أن الخلايا المحلية قد تختار الأشعة تحت الحمراء لأنها تستخدم جزءا من الطيف الكهرمغنطيسي لا يخضع لتنظيم السلطات الاتحادية أو الدولية.
ومثال السعة المحدودة لذلك الطيف الكهرمغنطيسي انحسار شعبية العُصبة المدنية CB citizens band الراديوية قبل نحو عشر سنوات وانهيارها تحت وطأة ثقلها الذاتي بسبب عجز مستخدمي العصبة عن سماع بعضهم أصوات بعض فوق مستوى الضجيج الراديوي فيها. غير أن تلك الجلبة في مجال العصبة ستبدو غير ذات شأن إذا ما بدأت الحواسيب المتنقلة “بضخ” ملايين الميگابايتات megabytes من البيانات عبر الأثير. ولن يفلح حتى تبني نظام المُرحِّلات الخلوية cellular relays، المستعمل حاليا في هواتف السيارات، في إرجاء بلوغ مرحلة إشباع العصبة لأكثر من بضع سنوات فقط.
وعلى أي حال، ستبقى الأنظمة الخلوية هذه ضرورية لتتبّع (تقفّي) الآلات الحاسوبية المتنقلة خلال تجوالها. فإذا ما خرج مستخدمان متعاونان عن مجال الاتصال، ترتّب على الشبكة إعادة وصل أحدهما بالآخر بشفافية من خلال تجهيزات تحديد المسار routing الوسيطة. ومع ذلك، سيأتي يوم تفقد فيه الأدوات المتنقلة اتصالها، مما يحتم تصميم برامجيات تمكِّن من إعادة الاتصال المقطوع بين المستخدمين المتضررين بيسر.
لا تقل الآثار البشرية المترتبة على التغيرات التقنية أهمية عن المتغيرات ذاتها. فقد أسهم كل نموذج جديد في تكوين الطريقة التي يدرك فيها المستخدم موضعه بالنسبة إلى الحاسوب. ففي أيام “الدفعة الواحدة” وأيام “مشاركة الزمن”، كان العديد من مستخدمي الحاسوب يشعرون بنوع من التبعية، وجاء الحاسوب المكتبي ليهبهم استقلاليتهم، أما الحواسيب المتنقلة المشبكة فستمنحهم الحرية.
وبهذا سيتمكَّن الحاسوب المشبك مستقبلا من تحدي ليس عالم الأعمال وحده بل المجتمع أيضا. فالترابط العالمي يثير مسائل تتعلق بالأمن وخصوصية الفرد والعمل، كما يثير قضية توزيع السلطة. ولاشك أن الهوة بين الأغنياء والفقراء قد تتسع، على سبيل المثال، اذا ما أتاحت أحدث نماذج الحوسبة فرصا أكثر أمام المتعلمين وفرصا أقل مما هي عليه أمام غير المتعلمين.
وسيغدو أمر تعليم كل الأفراد مهما جدا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية وذلك لتمكينهم من الإفادة على قدم المساواة من مصادر المعلومات التي توشك أن تتوافر. ولربما يمكن للديمقراطية أن تتعزز إذا ما عممت فوائد الشبكات. ويمكن تبين مثل هذا النمط من التطور في أوروبا الشرقية حيث عزز وجود الحواسيب الشخصية والآلات الناسخة وأجهزة الفاكس المُرسِلة الثورات التي قامت فيها حديثا.
كل ذلك يعني أن الحاسوب تغير كثيرا منذ الزمن الذي صورته فيه الأفلام السينمائية كدماغ متفوق لا يلين، يبسط سلطان طغيانه على العالم أجمع. كذلك تغيرت صورة الحاسوب الشائعة وإن تم ذلك ببطء يسير. وليس ببعيد ذلك اليوم الذي ستصبح فيه الحواسيب المتنقلة أمرا عاديا حيث تدخل الأفلام والأجهزة السينمائية على حد سواء، فتتسلّم الحواسيب إدارة كل شيء بدءا بالمسودة الثالثة والعشرين لكاتب النص (السيناريو) وانتهاء ببطاقات أجور الساعات الإضافية. عندما يحل ذلك اليوم، يواكب الفنُ الحياة ويماثلها ويتخذ الحاسوب عندئذ شخصية جديدة.
المؤلف
Lawrence G. Tesler
نائب رئيس المنتجات المتقدمة في شركة أپل كمبيوتر المتحدة. أعدّ خلال مناصبه السابقة لدى الشركة، مجموعة بحوث مركزية وأشرف على منتجات البرامجيات، مثل الواجهة الاتصالية interface لتطبيقات حاسوب <ليزا> ومستخدمه، ونظام تطوير برامجيات <ماك أپ> و <أپل إيڤنتس> (وهي آلية تسمح للتطبيقات البرامجية بالتعاون من أجل المستخدم). عمل تسلر في السبعينات، لدى شركة زيروكس، حيث أدخل التحرير اللاطرائقي واستعراض “النوافذ” windows المؤطَّرة والتي غدت سمة دائمة في العديد من الواجهات الاتصالية. أدار تزلر في الستينات شركة برامجيات صغيرة. وطوّر برامجيات سهلة الاستخدام للرسوم المتحركة، كما قام ببحوث حول النمذجة الإدراكية والمعالجة الطبيعية للغة وذلك في مختبر الذكاء الصنعي في جامعة ستاندفورد، التي تخرج فيها.
مراجع للاستزادة
COMPUTERS AND COMMUNICATIONS. Koji Kobayashi. MIT Press, 1986.
THE MEDIA LAB: INVENTING THE FUTURE AT MIT. Stewart Brand. Viking Penguin, 1987.
COMPUT’ER-SUPPORTED COOPERATIVE WORK: A BOOK OF READINGS. Edited by Irene Greif. Morgan Kaufmann Publishers, 1988.
GROUPWARE: COMPUTER SUPPORT FOR BUSINESS TEAMS. Robert Johansen. Free Press, 1988.
IDEAS AND INFORMATION: MANAGING IN A HIGH-TECH WORLD. Arno Penzias. W. W. Norton & Company, 1989.
SHARED MINDS: THE NEW TECHNOLOGIES OF COLLABORATION. Michael Schrage. Random House, 1990.