اكتشاف الأشعة السينية
اكتشاف الأشعة السينية
في الشهر 11/1895 حصل العالِم رونْتْگِنْ، مصادفة، على أول صور
من نوعها أُخذت بالأشعة السينية x-ray.
<G. فارميلو>
كان لا بد من إرسال الخادمة عدة مرات لاستدعاء <C.W. رونتگن> من المختبر الذي كان يعمل فيه. وعندما عاد رونتگن الذي كان رئيسا لقسم الفيزياء بجامعة ڤورتسبورگ للمنزل وانضم لزوجته على مائدة العشاء، كان مشغول البال، يأكل قليلا ويتكلم قليلا. وما إن أنهيا عشاءهما حتى عاد إلى مختبره. كان ذلك في 8/11/1895. فقد كان رونتگن يبحث منذ عدة شهور في خصائص الأشعة الكاتودية (المهبطية) cathode rays (المنبثقة عن الكاثود أي القطب السالب) التي عرفها علماء آخرون فيما بعد على أنها الإلكترونات.
كان يدرك أن هذه الأشعة المتولدة بكميات غزيرة بوساطة أنبوب زجاجي (صمام) خاص مفرَّغ ذي قطبين بينهما توتر كهربائي عال، لا تخترق سوى بضعة سنتيمترات من الهواء. وقد أصابته الدهشة في مساء ذلك اليوم (الجمعة) قبل العشاء عندما شاهد تلألؤا خارج الأنبوب في منطقة أبعد من أن تبيح تفسير هذا التلألؤ بأنه صادر عن الأشعة الكاتودية، ولكن لم يكن هذا التلألؤ ليظهر إلا بوجود هذه الأشعة.
كان رونتگن يتابع ذلك الحدث باهتمام في تلك الليلة دون أن يسمع طرق باب المختبر من قِبَل مساعده الكهولي ـ الذي دخل ثم خرج. وقد أمضى الأيام التالية للحدث وهو يأكل وينام في مختبره (مشغول البال بذلك اللغز لدرجة أنه أخفق حتى في الالتزام بالقواعد والتعليمات الأساسية بشأن إجراءات التجارب في المختبرات، فلم يبدأ بتدوين ملاحظاته ومشاهداته إلا بعد مرور أسبوع على ذلك). وقد اتضح لرونتگن من تكرار التجربة وجود نوع جديد من الإشعاع الذي كان سببا في التلألؤ الذي رآه، وحيث إنه لم يكن قد عرف طبيعة هذه الأشعة فقد سماها أشعة إكس(1) x-ray.
لم يخبر رونتگن أحدا بالحدث ـ باستثناء زميله المقرب إليه، عالم الحيوان في ڤورتسبورگ <H.T. بوڤري> ـ عندما قال له “لقد اكتشفت شيئا مشوقا ولكنني لا أعرف إذا كانت ملاحظاتي عنه صحيحة.” وكانت زوجته بيرثا أول من شهد تجاربه عندما دعاها إلى المختبر يوم الأحد قبل عيد الميلاد، حيث أظهر لها صورة بالأشعة تبين تفاصيل عظام يدها اليسرى ـ وهي أول صورة دائمة أُخِذت بالأشعة السينية لجزء من جسم الإنسان [انظر الشكل العلوي الأيسر في الصفحة 35].
قام رونتگن في الأسبوع الذي تلا عيد الميلاد بنشر موجز نتائج بحثه. وفي الأسبوع الأول من السنة الجديدة بدأت الصحف العالمية تكتب عن الاكتشاف الذي لم يسبق لسواه من الاكتشافات العلمية أن أثار مثل هذه الضجة الإعلامية في الصحافة العامة. ولئن كان أواخر القرن التاسع عشر قد شهد عددا من الاختراعات المهمة فعلا، فإن الجمهور كان أشد إعجابا بصفة خاصة بما اكتشفه رونتگن.. ذلك الاكتشاف الذي مهد الطريق للتشخيص الداخلي لجسم الإنسان دون الحاجة إلى فتحه بالعمليات الجراحية.
كان إدراك واستيعاب القدرة التشخيصية للأشعة السينية قد تمّا في وقت قصير جدا. وفي غضون شهر بدأ الجراحون في أوروبا والولايات المتحدة بتسخير استخداماتها لأغراض مختلفة. ولكن ربما كان أبكر التطبيقات وأعجبها هو المحاولة التي وصفتها كلية الأطباء والجراحين College of Physicians andSurgeons بمدينة نيويورك بأنها تهدف إلى “تثبيت التفاصيل التشريحية في أذهان الطلبة بشكل يجعلها أكثر دواما مما تفعله طرائق التعليم التقليدية.” وقد مضى ما يقارب 20 عاما قبل أن يتمكن العلماء من تحديد الطبيعة الحقيقية للأشعة السينية. وهكذا تبين أن الإعلان الأول لرونتگن بشأنها كان واحدا من أهم الاكتشافات التي حفل بها تاريخ الفيزياء بالرغم من قول العديد من العلماء وقتها بأن عملية الاكتشاف كانت أقرب للحظ السعيد منها للمهارة العقلية لشخص رونتگن.
الأشعة الكاتودية
بالرغم من أن رونتگن أحرز الشهرة كعالم فيزياء فإنه كان يخطط أصلا ليكون مهندسا. فقد ولد عام 1845 في عائلة ميسورة الحال تعمل في التجارة في بلدة لنپ بشمال غربي ألمانيا، وقضى معظم طفولته في هولندا ثم انتقل إلى زيورخ عندما بلغ ال20 من عمره. وحصل على البكالوريوس في الهندسة بعد 3 سنوات من المعهد الفيدرالي للتقانة Federal Institute of Technology. وبالرغم من أنه لم يأخذ أي درس في الفيزياء التجريبية أثناء دراسته الجامعية فإنه قرر متابعة دراسته العليا في ذلك الحقل، بتشجيع من مرشده الخاص <E.A.كندت> أستاذ الفيزياء في المعهد.
وبعد حصوله على الدكتوراه عام 1869 تولى رونتگن سلسلة من المناصب التدريسية في عدد من الجامعات الألمانية. وقد قام أيضا بالاشتراك مع كندت بدراسات دقيقة حول طبيعة المادة وتصرفاتها، وكان ـ على سبيل المثال ـ أول من أثبت بالتجربة، مستخدما ميزان حرارة بيتي الصنع، أن تسخين الهواء الرطب أسهل بكثير من تسخين الهواء الجاف. أما الجوانب الأخرى لأعماله فكان لها إسهام كبير في دعم وتأييد النظرية الموحَّدة للكهرباء والمغنطيسية التي قدمها عالم الفيزياء والرياضيات الاسكتلندي <J.C. مكسول> في سبعينات القرن التاسع عشر.
كان رونتگن قد بلغ 43 عاما عندما أصبح أستاذا للفيزياء ورئيسا لمعهد الفيزياء بجامعة مدينة ڤورتسبورگ، وهي إحدى المدن الصغيرة المزدهرة في مقاطعة باڤاريا الألمانية. وقد كان حينذاك يشارك زوجته مسكنا فسيحا بالدور الثاني من المعهد يتضمن أيضا مكتبا دراسيا متصلا بأحد مختبرين خاصين بهما. ومما لا شك فيه أن ذلك المنصب الأكاديمي كان مصدر بهجة وسرور كبيرين، لا سيما أن الجامعة ذاتها كانت قد رفضت تعيينه أستاذا فيها قبل 18 سنة لعدم حصوله وقتها على شهادة استكمال دراسته الثانوية.
كان رونتگن يكرس الكثير من وقته ومساعيه للحصول على المزيد من الأساتذة والمساعدين، والغرف وأماكن المختبرات، والموارد الأخرى اللازمة لقسم الفيزياء بالجامعة الذي كان في طور النمو. وبفضل جهوده فقد سعى لجعله من أفضل أقسام الفيزياء في الجامعات الألمانية. لقد عرفه رفاقه بأنه طموح بحق ومثابر ومطّلع بشكل بارز جدا على أحدث مستجدات العلوم الفيزيائية. وعلى الرغم من أنه كان اجتماعي الطبع طوال حياته العملية فإنه قلما كان يتبادل أحاديث المهنة مع الفيزيائيين الآخرين الذين يحتك بهم.
كان رونتگن قد بدأ في الشهر 6/1894 بدراسة الأشعة الكاتودية، تلك الدراسة التي لاقت شعبية كبيرة من بين موضوعات البحث العلمي التي كانت سائدة وقتذاك. ومن الجدير بالذكر أن الفيزيائي الألماني <E. گولدشتاين> (من جامعة برلين) كان قد أعطى اسما لهذه الأشعة قبل ذلك بـ 18 عاما. فقد أثبت گولدشتاين مع آخرين أن الأشعة الكاتودية شحنات سالبة وتنتقل بسرعة أبطأ بكثير من سرعة الضوء، ولكن اللغز المحير الذي ظل قائما يكمن في الفهم الدقيق لطبيعة هذه الأشعة. فبينما كان معظم الفيزيائيين البريطانيين يعتقدون أنها جسيمات، كان اعتقاد نظرائهم الألمان بأنها نمط من الاضطرابات في الأثير المنتشر في كل مكان.
وقد يكون من الصعب معرفة الدوافع الحقيقية لاهتمام رونتگن بالأشعة الكاتودية، ولكن الملاحظات المدونة في مفكرته تشير إلى أنه كان يتحقق من النتائج التي حصل عليها اثنان من الباحثين بجامعة بون وهما <R.H.هرتز> ، مكتشف الموجات اللاسلكية، ومساعده <A.E.P. لنارد>. وقد توقف عمل رونتگن في الخريف عندما اختير رئيسا للجامعة ـ وهو أعلى منصب إداري فيها. وعلى الرغم من أن بعض العلماء يعشقون عادة مغريات المناصب الإدارية فإن رونتگن لم يكن كذلك، فقد عاد مرة أخرى إلى مختبره ليعاود عمله في خريف السنة التالية.
أول صورة بالأشعة السينية أُخذت للجسم البشري بوساطة < L. زندر>، أحد مساعدي رونتگن، في الشهر 8/1896 . والصورة تمثل تجميعا لعدة صور مختلفة لأجزاء جسم الإنسان تم أخذها لعدة أشخاص، حيث تراوحت مدد تعرضهم للأشعة مابين 5 و 15 دقيقة. |
يوم الاكتشاف
اليوم.. يمكن لزائر الغرفة رقم 119A الواقعة في الكلية الفنية في ڤورتسبورگ أن يدرك بسرعة أنها تقع في جزء خاص من المبنى [انظر الصورة في الصفحة 37]، وهي غرفة ذات سقف عال مساحتها 6 أمتار مربعة تطل على حدائق قسم النبات وطريق پلتشر الدائري المورق (المعروف حاليا بطريق رونتگن الدائري). فهذه هي فعلا الغرفة التي توصل فيها رونتگن إلى ذلك الاكتشاف الذي أذهل العالم. وعلى الرغم من أن هذا المتحف ـ الأحادي الغرفة ـ لا يحوي جميع الأدوات والمعدات التي استخدمها رونتگن فإنه مازال يعبق بأنفاس التاريخ، فلا عجب إذًا أن يخفض أعضاء الكلية أصواتهم وقارا أثناء مرافقة الزائرين إليه.
كانت ليلة 8/11/1895 ـ مع ما سبق ذلك من آثار ونتائج سبعة أسابيع من السرية والكتمان ـ مصدرا غنيا من الافتتان والتأملات، لا سيما أن رونتگن نفسه قد فعل الكثير لدعم ذلك الاهتمام الذي لم يكن مقصودا بلا شك بقدر ما كان نابعا من طبعه التحفظي الغامض، وكذلك لأنه لم يعط قط تقريرا واضحا لما حدث فعلا. ولذلك فإن وصف الاكتشاف هنا يعتبر مجرد نسخة من الأحداث التي تم تجميعها وصياغتها من خلال الملاحظات والكتابات المبتورة التي تركها رونتگن.
كانت الأدوات التي استخدمها رونتگن لتحري الأشعة الكاتودية من أفضل ما توفر وقتذاك. كان يفضل تجهيز وإعداد معداته المختبرية بنفسه ما أمكن، إلا أن معظم معدات مثل هذه التجارب كانت تُصمَّم وتورَّد بوساطة روّاد صناعة الأجهزة والمعدات المختبرية. فلإعداد أنبوب الأشعة الكاتودية ـ مثلا ـ استعان رونتگن بخواءة (مضخة تخلية) لتفريغ محتوياته من الغازات والأبخرة. وفي هذا الإجراء التقليدي كان تشغيل الخواءة على الأنبوب يستمر ما بين 3 و 4 أيام دون توقف إلى أن يتم تخفيض ضغطه الداخلي إلى أقل من 0.001 ضغط جوي. فظروف مثل هذا الضغط المنخفض تمكِّن الأشعة الكاتودية من المرور بأكبر قدر ممكن من الحرية عبر الأنبوب بحيث تكون احتمالات اصطدامها بالجزيئات الغازية المتبقية ضئيلة جدا.
كان التيار الكهربائي المطلوب للأنبوب يأتي من ملف coil حث كهربائي (وشيعة) شبيه بمحول توليد كهرباء التوتر العالي لشرارة محرك السيارة. كان المحول transformer الذي استخدمه رونتگن يتزود بـ 200 ڤلط من مجموعة بطاريات (مدخرات) موضوعة في سرداب المعهد وتحوّل التيار بوساطة ذلك الملف إلى نبضات كهربائية يصل توترها إلى 35000 ڤلط من كل بطارية بحيث كان يحصل على 8 نبضات في الثانية، والنبضة الواحدة كانت مصحوبة بطقطقة عالية ناتجة من الانفراغ الكهربائي بين قطبي الملف الثانوي.
كان رونتگن كعادته يعمل بمفرده وكان متيقنا بأن الأشعة الكاتودية المسلطة على الشاشة المطلية بمركب پلاتينوسيانيد الباريوم هي السبب في تألق الشاشة بضوء أخضر معروف. ومن المحتمل أنه كان يجد صعوبة في تمييز ذلك التألق لأنه كان مصابا وقتها بدرجة من عمى الألوان، وهو ما دفعه إلى تعتيم الغرفة بحجب جميع الأضواء الصادرة عن الشارع الخارجي ـ الذي كان مضاء بمصابيح الغاز ـ إضافة إلى أنبوب الأشعة الكاتودية ذاته بقطع سوداء من الورق المقوى قام بلصق بعضها ببعض حول الأنبوب بشكل يمنع تسرب أي ضوء مرئي منه.
كان <W. رونتگن> باحثا انعزاليا بطبعه ويمتاز بقوة التدقيق وقلما كان يتكلم مع الفيزيائيين الآخرين عما يقوم به. وقد أثار اكتشافه غير المتوقع للأشعة السينية ضجة كبيرة في الصحافة العالمية مما أعطاه قدرا كبيرا من الشهرة والتقدير لدرجة أنه كان يتجنبهما وينأى بنفسه عنهما ما استطاع. |
وفي الظلمة الحالكة اتفق لرونتگن أن لاحظ ـ أثناء سماعه أصوات الطقطقة الصادرة عن الملف الكهربائي في السرداب ـ تألق ورقة صغيرة كانت متروكة على منضدة العمل وكأن شعاعا ضوئيا قد وقع عليها. وقد أدرك أيضا أن ذلك الضوء المتلأليء كان صادرا عن حرف الـ”A” الذي سبق أن كتبه أحد الطلبة بمحلول الپلاتينوسيانيد. لا شك أنه كان مشدوها من ذلك لأنه لم يكن يصدق بأن الأشعة الكاتودية عَبَرت كل هذه المسافة بين الأنبوب والورقة لتظهر ذلك التأثير المرئي. وقد أظهرت التجارب اللاحقة فعلا أن ذلك التألق كان صادرا عن انبعاث شيء من الأنبوب ذي قدرة اختراقية تفوق القدرة الاختراقية للأشعة الكاتودية.
وبالمصادفة، كما يقول هو نفسه، اكتشف رونتگن أن هذا الانبعاث اخترق ورقة سوداء دون أية معوقات، برهن أيضا على أنها تخترق ورقة اللعب. وأخيرا استخدم كتابا سميكا لاحظ أنه يلقي ظلا واضح الحدود على الشاشة، مما يبين بشكل واضح وجود نوع من الإشعاعات التي تنتقل في خطوط مستقيمة. ويعتقد بأنه واجه أكبر المفاجآت عندما اختبر مدى اختراق هذه الأشعة للمعادن. فعندما وضع قطعة صغيرة من الرصاص في مسار الأشعة لم ير الظل الأسود لجسم قطعة الرصاص فحسب ولكنه رأى أيضا ظلا أخف منه لهيئة إبهامه وأصابعه، وقد احتوى ذلك الظل، بدوره، على إطار آخر لحدود عظام يده.
الاستخدامات المستديمة للتصوير بالأشعة السينية
كان رونتگن، في تحرياته الأولية، رائد ثلاثة من التطبيقات المهمة للأشعة السينية. أولها أنه أخذ صورة لصندوق خشبي مغلق يحوي أوزانا معدنية ظهرت صورها بوضوح، الأمر الذي كان بشير الاستخدامات الأمنية للأشعة السينية المألوفة في يومنا هذا في عمليات تفتيش أمتعة وحقائب المسافرين بطريق الجو (أعلى اليمين). أما الصورة الثانية بالأشعة السينية فهي التي التقطها لبندقيته التي كان يستخدمها في الصيد، وقد بيّنت الصورة خللا داخليا (أسفل اليسار). وتستخدم الأشعة السينية حاليا في العمليات الصناعية بشكل عام لإظهار العيوب البنيوية المحجوبة (غير المرئية) في القطع والأشياء الميكانيكية والتركيبية المتنوعة. والصورة الثالثة هي التي التقطها رونتگن لعظام اليد اليسرى لزوجته، وكانت الصورة الأولى من نوعها لجزء من جسم الإنسان (أعلى اليسار) والتي فتحت مضمار الاستخدامات الطبية للأشعة السينية.
|
بيَّن رونتگن خواص الأشعة السينية من خلال تجربة تقليدية استخدم فيها مغنطيسا لكي يتحقق من تأثيره في مسار حزمة من الأشعة الكاتودية وجعلها تنحرف فعلا عن مسارها نحو جدار الأنبوب المفرغ، وتقع على مناطق مختلفة منه مما أقنعه في غضون دقائق أن الأشعة السينية تنبعث من النقطة التي تضرب فيها الأشعة الكاتودية الجدار الداخلي للأنبوب وليس من أية نقطة أخرى من الدارة (الدائرة) الكهربائية. وقد بيَّن أيضا أن القوى المغنطيسية لم تؤثر في الأشعة السينية ذاتها مؤكدا بذلك أنها لا تحمل أية شحنات كهربائية.
وقد أثبت رونتگن بعد ذلك أن الأشعة السينية ـ كالأشعة الكاتودية ـ باستطاعتها أن تسود أفلام (لوحات) التصوير الضوئي. وقد التقط أيضا صورا دائمة بالأشعة السينية للأجسام بوضعها بين مصدر الأشعة واللوحة الضوئية الحساسة، وهي الطريقة التي استطاع بوساطتها معرفة قدرات هذه الأشعة على اختراق مواد مختلفة. وبالتقاط هذه الصور أصبح رونتگن رائدا في ثلاثة مجالات حيوية في حقل التصوير بالأشعة السينية: أولا، التقاط صورة لصندوقه الخشبي المغلق الذي كان يحوي قطع أثقال الأوزان (السنجات) المعدنية ـ والتي بيّنت تفاصيل محتويات الصندوق. وهذا الحدث مهّد السبيل لاستخدامات الأشعة للأغراض الأمنية عند نقاط تفتيش حقائب السفر في المطارات.
ثانيا، إن الصورة السينية للبندقية التي كان يستخدمها للصيد، والتي بيّنت خللا داخليا ضمن ماسورة البندقية، أتاحت للمرة الأولى رؤية الخلل البنيوي المحجوب دون الحاجة إلى تدمير أو فتح الأجسام والقنوات الحاوية للخلل. والشيء الأخير الذي كان أكثر إثارة هو التقاطه صورة دائمة بالأشعة السينية لليد اليسرى لزوجته، تلك الصورة التي بيّنت عظام أصابعها والخواتم التي كانت تتحلى بها، وهو الحدث الذي مهّد لاستخدامات الأشعة في تصوير العظام للأغراض الطبية. والجدير بالذكر أن التقاط هذه الصورة كان يتطلب أن تُبقي زوجته بيرثا يدها مرفوعة ومثبتة على لوحة التصوير لما يقارب 15 دقيقة، الأمر الذي عَرَّضها إلى كمية خطرة من الأشعة السينية التي فاقت الحدود المسموح بها في معايير السلامة والصحة الحديثة. ومثل هذه الأخطار تعتبر من المخاطر التي يتعرض لها عادة رواد العلم عن غير قصد.
وقد اهتم رونتگن أيضا بمقارنة خواص الأشعة السينية بخواص أشعة الضوء المرئي. ووجد، على الرغم من أن كلتا الأشعتين حياديتان neutral كهربائيا ولهما القدرة على إظهار ظل الأجسام، أن الأشعة السينية تبدو، من جوانب أخرى، مختلفة عن الضوء. فهو لم يتمكن من جعلها تنعكس عن المرآة، أو تنكسر (تغير اتجاهها عندما تمر من وسط لآخر، وذلك بإمرارها ـ مثلا ـ عبر منشور زجاجي). فضلا عن ذلك، لم يجد رونتگن أي دليل على إمكانية حيودها (انعراجها). فقد اتضح أن الأشعة لم تنعطف حول الأجسام التي تعوق مسارها.
ومع ذلك فإن التشابه بين الأشعة السينية والضوء قاد رونتگن إلى فكرة وجود نوع من القرابة بينهما. فالضوء، وفق النظرية التي قدمها مكسوِل عام 1873، هو موجات كهرمغنطيسية تنتقل في الأثير ولها حقلان، كهربائي ومغنطيسي، متعامدان ويتذبذبان باتجاه عمودي على منحى حركة الموجات. ثم حاول رونتگن أن يفسر الأشعة السينية بأنها اهتزازات (ذبذبات) تحدث في الأثير وفي منحى سير هذه الأشعة . وقد أنهى بهذا التكهن ـ الذي اتضح خطؤه فيما بعد ـ ورقته العلمية التي كان عنوانها “ضرب جديد من الأشعة ـ تقرير تمهيدي” والتي كانت تحفة من الفيزياء التجريبية، مازالت جامعة فورتسبورك تتلقى الطلبات لنسخ منها إلى يومنا هذا.
سلّم رونتگن مخطوطة اكتشافه ـ التي كتبها بيده في 10 صفحات ـ للجمعية الفيزيائية الطبية في ڤورتسبورگ بعد ثلاثة أيام من عيد الميلاد لعام 1895 مع رجاء استثنائي بأن تُنْشر فورا. وفي اليوم الأول للسنة الجديدة ـ بعد أن بعث بنسخ من مخطوطته (مرفقة بالصور التي حصل عليها) إلى العديد من الفيزيائيين الأوروبيين الكبار ـ قال لزوجته متخوفا “الآن سيحل البلاء العظيم.”
يُعتقد أن الأدوات المنزلية الصنع تعتبر من أقدم معدات التصوير بالأشعة السينية التي مازالت حتى يومنا هذا. فقد بدأ الطبيب الإنجليزي <J.رنولدز> مع ابنه رَسِلْ في بناء مثل هذه العدة بعد وقت قصير من اطلاعهما على اكتشاف رونتكن في صحيفة لندن ستاندرد في 7/1/1896. ويظهر في (أعلى يسار وسط الصورة) ملف الحث الكهربائي الذي يستمد طاقته الكهربائية من سبع بطاريات حمض الكروميك حجم الواحدة منها ربع گالون (على الأرض في الخلف). وقد قام فريق رنولدز بلف سلك الملف يدويا، وهي عملية شاقة لم تكن بالهيّنة أو الصغيرة، فعملية لف الدارة الثانوية تتطلب سلكا يبلغ طوله 20 كيلومتر. وكانت وظيفة الملف تأمين التوتر العالي المطلوب لأنبوب إنتاج الأشعة السينية الذي كان مثبتا على حامل من خشب الماهوگاني. |
النتيجة المباشرة
بعد شهر من انتشار خبر الاكتشاف بعث رونتگن برسالة لمساعد سابق له قال فيها “بعد أيام قليلة من نشر الخبر شعرت بالاشمئزاز من هذه المسألة، فقد لاحظت من قراءتي للتقارير المنشورة عنه بأنني لم أعد أستطيع تعرّف العمل الذي قمت به.” كان رونتگن غاضبا ومستاء من التقارير الصحفية الأولى التي نشرت الخبر لأن تركيزها كان ينصب على مجرد إظهار الصور الرائعة فقط وكأنها تمثل أهم جانب من تجاربه في حين أن اهتمامات رونتگن كانت تنصب دائما على اكتشاف الطبيعة الحقيقية لهذه الأشعة وخصائصها معا.
فقد ظهر أول تقرير صحفي يوم الأحد 5/1/1895 في جريدة ڤينّا پرسّ الصادرة بمدينة ڤيينا، وفي اليوم السادس عشر من الشهر نفسه وصل الخبر إلى جريدة نيويورك تايمز. إن معظم العلماء يقرؤون عادة هذه التقارير قبل توفر النسخ المترجمة للمخطوطة الأصلية مما لا يستدعي الاستغراب بأن الكثيرين منهم قلما يصدقون في البدء ما يرد فيها. وقد كان اللورد كلفن ـ من جامعة گلاسگو، الذي كان يعتبر من أعظم العلماء الأحياء حينذاك ـ من المتشككين بهذا الاكتشاف. فقد ظن كلفن في بادئ الأمر بأن إعلان الخبر كان مجرد خدعة (ولكنه سرعان ما غيَّر رأيه.)
إن القدرة المذهلة للأشعة السينية على اختراق المادة كانت دافعا لظهور الكثير من الرسوم الهزلية التي ضللت الرأي العام بخصوص الأشعة الجديدة. فضلا عن ذلك فقد أنعش الاكتشاف نفسه الكثير من أعمال الشعوذة للاستغلال التجاري التي سادت حينذاك، فقد نشرت إحدى شركات صناعة الملابس اللندنية في بريطانيا إعلانا دعائيا حول إنتاجها أنواعًا من الملابس الداخلية المقاومة للأشعة السينية، في حين حاول فرنسي متحمس استخدام الأشعة الجديدة لتصوير الروح البشرية؛ أما في ولاية آيوا الأمريكية فقد روي عن فلاح أنه استخدم الأشعة الجديدة لتحويل قطعة نقد معدنية من فئة 13 سنتا إلى ذهب لتصل قيمتها إلى 153دولارا.
كان المهندسون والمصورون بشكل عام أسرع من الأطباء في التنبؤ بالقدرات المحتملة الواسعة لاستخدامات أجهزة توليد الأشعة السينية، كما نشرت مجلة مهندس الكهرباء الأمريكية في الشهر 3/1896 في تعليقها “لا شك أنك لن تجد، على الأرجح، من بين الذين يملكون أنبوبا مفرغا وملف حث كهربائي، أي رجل لم يضطلع بتكرار تجارب الأستاذ رونتگن.” وفعلا.. شهدت نهاية تلك السنة تشغيل واستخدام مئات الآلات ـ البدائية الصنع ـ في أرجاء المعمورة لتوليد الأشعة السينية. لكن المحاولات الأولية للتصوير بالأشعة كانت تتم كيفما اتفق، لأن ممتهني التصوير كانوا يعتمدون على مبدأ التخمين في تقدير الفترة المطلوبة للتعرض للأشعة للحصول على الصور الواضحة. وفي عام 1899 بدأ الأطباء يختبرون إمكانية استخدام هذه الأشعة لعلاج السرطان والسل والالتهابات المختلفة. وكانت نجاحات هذه المساعي متفاوتة، إذ أصيب بعض المرضى والأطباء ببعض الحروق الإشعاعية البليغة.
كان رونتگن يحاول دائما المضي في مواصلة بحثه، وقد أصبح في دور غير مألوف ـ كونه أحد مشاهير العالم ـ فلم يرد على معظم الرسائل التي كان يتلقاها، كما رفض جميع الدعوات المرسلة إليه لإلقاء المحاضرات ما عدا اثنتين منها، كانت إحداهما استجابة لطلب استدعاء من البلاط الإمبراطوري في برلين الذي طلب إليه عرض اكتشافه في 13/1 للإمبراطور ولهلم الثاني، لاسيما أن رونتگن كان يُكِنّ له كل تقدير لإعجابه بسياسته واهتمامه بالعلم. وقد منح الإمبراطورُ رونتگن الوسام الملكي الألماني من الدرجة الثانية بعد العرض الناجح الذي قدمه، وفوض الإمبراطور بعد ذلك ثلاثة علماء آخرين للنظر في إمكانية تسخير اكتشاف رونتگن للأغراض العسكرية. وعلى الرغم من أن رونتگن كان يعلم بتلك المساعي العسكرية فإنه لم يسهم فيها ولم يمنعها.
أما المحاضرة الثانية فكانت لأعضاء وطلبة الجامعة في ڤورتسبورگ وكبار العسكريين ورجال الدولة، وكان يتكلم فيها بهدوء وبلهجة هولندية واضحة. لقد عرض نتائج اكتشافه وأمتع المستمعين بإعداد صورة إشعاعية أمامهم ليد صديقه وزميله <A.E. ڤون كُلِكَرْ> (أحد مؤسسي علم الأنسجة histology) الذي دعا الحضور بعدها للهتاف ثلاث مرات من أجل رونتگن، ثم اقترح وقتها تسمية الأشعة بأشعة رونتگن. وعلى الرغم من أن التسمية كانت خارجة عن إرادة رونتگن فإنه سرعان ما تم تبني التسمية في جميع الدول الناطقة بالألمانية ـ حيث مازالت متداولة حتى يومنا هذا.
كانت الغرفة رقم 119A في الكلية الفنية في فورتسبورگ ـ التي تعتبر حاليا متحفا بحد ذاتها ـ الغرفة التي توصل فيها رونتگن إلى اكتشافه في وقت مبكر من مساء الجمعة في 8/11/1895. والمدهش في تلك المفاجأة هو أن الاكتشاف ذاته لم يأت مبكرا وكأنه كان بانتظار رونتگن، لاسيما أن المئات من الفيزيائيين كانوا يقومون وقتها بإجراء تجارب شبيهة بالعمل الذي كان يقوم به رونتگن. |
أول جائزة نوبل
على الرغم من ارتباط رونتگن بانشغالات الشهرة التي لم يرحب بها فإنه استكمل أبحاثه بكتابة ورقتين أخريين عنها، كانت الأولى في الشهر 3/1896 والثانية بعد سنة. وقد قدّم في الورقتين القصيرتين ـ اللتين كتبهما بالأسلوب الموجز نفسه لورقته الأولى ـ تقريرا حول تأثيرات تعرض المواد المختلفة للأشعة السينية. وعلى الرغم من أنه واصل بقية حياته في البحث في خواص الأشعة السينية فإنه لم يكتب شيئا جديدا عنها سوى ما جاء في هاتين الورقتين.
وبعد فترة قصيرة من اكتشاف هذه الأشعة كتب ألفرد نوبل Alfred Nobel وصيته الأخيرة التي تمنح الجوائز ـ الحاملة لاسمه ـ للإنجازات العلمية وغيرها، والتي أصبحت عرفا قائما حتى يومنا هذا. وقد مُنح رونتگن جائزة نوبل للفيزياء عام 1901، حين صوتت اللجنة المانحة بأغلبية ساحقة لصالحه على الرغم من المنافسة الاستثنائية الشديدة. وقد منح ثمانية من المتنافسين الأحد عشر جوائز خاصة بهم في وقت لاحق.
وقد تسلّم شارته النوبلية من ولي العهد السويدي وألقى بعد ذلك كلمة شكر بليغة في المأدبة التي أقيمت بهذه المناسبة، ولكنه غادر في اليوم التالي في غمرة من الحياء متجنبا إلقاء محاضرته ـ التي كانت مقررة لمناسبة حصوله على جائزة نوبل. وعلى الرغم من أنه قَبِل تعيينه بجامعة ميونخ ـ التي مكث فيها بقية حياته الأكاديمية ـ فإنه ظل يتبرع بجميع الجوائز المالية التي كان يحصل عليها لقسم الفيزياء بجامعة ڤورتسبورگ لتوفير الدعم المالي لطلبتها (علما بأن فوائد هذه الأموال مازالت تستخدم إلى يومنا هذا للغرض ذاته).
وقد ظهر ـ في غضون الشهور القليلة التي تلت ظهور اكتشاف رونتگن ـ العديد من النظريات المنافسة التي تناولت طبيعة الأشعة السينية، ولاقت اثنتان منها شيوعا خاصا. فقد وصفت إحداهما هذه الأشعة بأنها عبارة عن نبضاتimpulses (اندفاعات قصيرة short bursts) من الطاقة الكهرمغنطيسية تنطلق عندما تصطدم الأشعة الكاتودية فجأة بالمادة وتتوقف. أما النظرية الثانية فترى أن الأشعة ببساطة هي نوع (أو نمط) آخر من الموجات الكهرمغنطيسية التي تشبه الضوء المرئي ولكنها ذات أطوال موجية أقصر بكثير. ولم تظهر أية دلائل مهمة لصالح أي من النظريتين حتى عام 1912 عندما ظهر برهان صحة النظرية الثانية من خلال تجربة أُجْريت في ميونخ.
فقد تألق <F.T.M. ڤون لاويه> (من معهد الفيزياء النظرية) باقتراح يقول بأنه إذا كانت نظرية الموجات الكهرمغنطيسية صحيحة فلا بد أن تنعرج بوساطة البلورات crystals ـ التي شاع وقتها صحة الاعتقاد بأنها تتكون من ذرات مرصوفة بتباعد منتظم. وعليه فقد نقل ڤون لاويه الفكرة إلى اثنين من الطلبة، هما <W.فريدرتش> و <P. كنِّبنگ>، اللذين سرعان ما حصلا على بعض الأنماط والنماذج الضوئية المذهلة، التي دلت فعلا على إمكانية تحييد حزمة الأشعة السينية بوساطة بلورات كبريتيد الزنك.
وبعكس الاعتقاد الشائع فإن النتائج التي توصل إليها فريدرتش وكنبنگ لم تؤد إلى استبعاد النظرية المنافسة (النبضات الاندفاعية) نهائيا وسريعا لأنها كانت أكثر شيوعا وتصديقا حينذاك. فبعد إعلان هذه النتائج بشهور قليلة أثبت <A.H.لورنتز> (من جامعة ليدن) ببراعة مقنعة ـ باستخدام قوة الحجة في الجدل الأكاديمي النظري ـ أن بالإمكان أيضا تفسير هذه النتائج بنظرية النبضة الاندفاعية. ولما كان من غير الممكن دحض النظرية الاندفاعية بتجربة واحدة فإن الإجماع لصالح صحة النظرية الموجية جاء بشكل تدريجي.
وقد أسهم المؤرخ العلمي <A.هسنبروك> (من جامعة كامبردج) في وقت لاحق بتأملات مهمة في العوامل التي أدت إلى ذلك الإجماع. فقد أشار إلى أن تأثير نفوذ مجموعة اختصاصيي التصوير الإشعاعي الطبي، الناشئة وذات السمعة الطيبة، التي بدأت ـ منذ عام 1907 ـ تشير عموما إلى الأشعة السينية على أنها موجات كهرمغنطيسية، كما أن العاملين في هذا الحقل كانوا في معظمهم يتبنون النظرية الموجية. كان قبولهم المبكر لها وتسليمهم بها إسهاما كبيرا في تهميش النظرية الاندفاعية.
ومن ثم قادت النظرية الموجية إلى تفسير معقول بسيط لمشاهدات رونتگن في مختبره بڤورتسبورگ. فعندما ضربت حزمته الكاتودية (الإلكترونات) جانب الأنبوب المفرغ كان تأثير ذلك انخفاض سرعتها بشكل مفاجيء وفقدان معظم طاقتها الحركية أو كلها. فمن المعروف أن الإلكترونات ـ ككل الجسيمات المشحونة ـ تطلق أشعة كهرمغنطيسية، عندما تتسارع أو تتباطأ وهي الأشعة نفسها التي اكتشفها رونتگن على هيئة الأشعة السينية النفاذة.
واصل رونتگن استثمار شهرته للعمل من أجل تقدم الفيزياء في ألمانيا حتى عام 1923 عندما توفي بسبب سرطان معوي. وقد كان لنفوذه لدى الإمبراطور ولهلم الثاني أثر كبير في بناء متحف تاريخ التقانة الألماني في ميونخ (بدلا من برلين التي كانت المقر المفضل للمتحف) وقد عثرت الصحفية<A. شيدل>، وهي أحدث المختصين بسير حياة المشاهير، على الكثير من الأدلة الملموسة التي تشير إلى أن رونتگن استمتع بعمله السياسي أكثر بكثير مما كان معتقدا عموما.
وعلى الرغم من اشتهار رونتگن بالانطوائية والانعزالية، فقد عللت شيدل هذه السمعة بأنها ناجمة على الأرجح عن انقطاعاته الطويلة عن الجامعة أثناء تكريس نفسه لملازمة ورعاية زوجته المريضة التي توفيت عام 1919 إثر إصابتها بمغص كلوي حاد. وقد تقاعد إثرها عن العمل في السنة التالية كسير القلب من شدة حزنه عليها.
لعل أكثر ما يثير الاستغراب بخصوص الأشعة السينية هو أنها لم تكتشف قبل ذلك. فالكثير من العلماء الآخرين كانوا مؤهلين للقيام بعمليات الرصد اللازمة لاكتشافها، ولا بد أن تكون مفعولاتها قد شُوهدت، وإن لم تُفْهم بشكل جيد، قبل عام 1895 بزمن طويل. فقد لاحظ <W.كروكس>، من جامعة لندن، وقبل ذلك بـ 15 عاما، بأن ألواح التصوير الضوئي الموضوعة بالقرب من أنابيب الأشعة الكاتودية تصبح ضبابية أحيانا لدرجة أنه أعاد بعضها إلى المصنع شاكيا من عدم صلاحيتها.
وهنالك عدة علماء ادعوا بأنهم اكتشفوا الأشعة السينية قبل رونتگن، وهناك آخرون كثيرون ممن ردوا الاكتشاف إلى مجرد مصادفة سعيدة. وقد كان لنارد مساعد هيرتز من أشد الحاقدين وأكثرهم تهورا، لأنه كان يعتقد أنه كان على رونتگن أن يعترف بالعمل الذي كان يقوم به لنارد. ومن جانب آخر، فإن لنارد كان قد صمم نموذجا معدَّلا خاصا من أنبوب كاتودي قبل فترة قصيرة جدا من الإعلان عن اكتشاف رونتگن، وكان رونتگن قد حصل على واحد منها من لنارد نفسه. وبالرغم من أن رونتگن لم يستخدم معدات لنارد في التوصل لاكتشافه إلا أن لنارد علق بغضب قائلا “إذا كان رونتگن يُعتبر ولاّدة الاكتشاف فقد كنت الأم.” ولكن رونتگن كان يقابل مثل هذه الاستخفافات وغيرها، منه ومن سواه، بعدم الاكتراث.
لكن مما لا شك فيه أن رونتگن كان في وضع جيد إلى أبعد الحدود لبلوغ اكتشافه. فقد كان بحوزته أفضل الأجهزة والمعدات التي تميزت بقمة جودتها التصنيعية والتي صُمِّمت خصيصا للعمل الذي كان يقوم به، مضافا إليها مهارته التجريبية الكبيرة ومعرفته العلمية الواسعة. فهل يعقل بأنه كان مجرد محظوظ؟ إذا كان بالإمكان أن ينسب الحظ لما يحدث عندما تنتهز مثل هذه الفرصة الاستثنائية فإن الجواب بالتأكيد يجب أن يكون “نعم”.
المؤلف
Graham Farmelo
يعمل حاليا رئيسا للبرامج في متحف العلوم بلندن، حيث التحق به عام 1990 بعد إجازة سبتية Sabbatical قضاها بجامعة نورث إيسترن التي يعمل فيها حاليا أستاذًا منتدبا Adjunct Professor للفيزياء. وقد كان محاضرا في الفيزياء ما بين عامي 1977 و 1990 بالجامعة المفتوحة، وشملت اهتماماته البحثية تبعثر الجسيمات النواتية Scattering of Subnucleaar particles والشواش في المنظومات الكمومية وفي التبعثر التقليدي chaos in quantum systems and in classical scatlering، وهو يستمتع بقراءة الأدب والمسرح والسينما والموسيقى والطبخ.
مراجع للاستزادة
WILHELM CONRAD RONIGEN AND THE EARLY HISTORY OF THE ROENTGEN RAYS. Otto Glasser. (Reprint of 1934 edition.) Norman Publishing, 1993.
THE LIFE OF WILHELM CONRAD RONFGEN, DISCOVERER OF THE X-RAY. W. Robert Nitske. University of Arizona Press, 1971.
NEW KINDS OF RAYS. In Inward Bound: Of Matter and Forces in the Physical World. Abraham Pais. Oxford University Press, 1986.
MULTIPLE EXPOSURES: CHRONICLES OF THE RADIATION AGE. Catherine Caufield. University of Chicago Press, 1990.
EARLY MEDICAL APPLICATIONS OF X-RAYS. Arne Hessenbruch in Physics Education, Vol. 30, No. 6; November 1995.
Scientific American, November 1995
(1) حرف (x) يرمز للمجهول، في الرياضيات بشكل خاص؛ ويقابله في العربية الحرف (س)، ومنه اشتقت كلمة السينية. (التحرير)