شبكات عصبية تُمكِّن الحيوانات الفقارية من الحركة
شبكات عصبية تُمكِّن الحيوانات الفقارية من الحركة
تتحكم شبكات عصبية متخصصة في أداء الحركات التي تستخدمها
الحيوانات في السباحة والجري والطيران. وقد أمكن تعيين هذه
الدارات العصبية لدى سمكة عديمة الفك تعرف باسم الجَلَكى.
<S. گريلنر>
يصعب علينا أن نفهم كيف يستطيع دماغ الإنسان تحقيق متطلبات الجري وحتى المشي: فيقرر أي مفصل ينبغي تحريكه، وفي أي لحظة بالضبط يجب أن ينثني ذلك المفصل، وإلى أي قدر ينبغي أن يكون الانثناء، وبالتالي إرسال الدُّفْعات (الموجات) impulses الصحيحة المتتالية على طول الأعصاب بغية تفعيل (تنشيط) التركيبة الملائمة من العضلات. إن البراعة التي تبديها حتى المخلوقات الدنيا وهي تسبح وتطير وتجري وتقوم بأي شكل من دفع أجسامها في الأوساط المحيطة، لهو أمر رائع بحق؛ حتى أن أداء أكثر الإنسالات (الروبوتات) المتحركة تعقيدا يكون هزيلا إذا ما قورن بأداء هذه المخلوقات.
ومع أن العديد من ألغازِ آليةِ تحرك الحيوانات لم يحل بعد، فقد بدأ العلماء يفهمون الطريقة التي تستطيع بها الفقاريات (المخلوقات ذات السلسلة العظمية الظهرية، بما في ذلك الإنسان) تنسيق الحركات المعقدة التي يمكن أن تشمل مئات العضلات من دون جهد يذكر. ويتم تبسيط المهمة الشاقة لتدبير حركات الجسم المختلفة بفضل نسق رائع من التعضية (التنظيم) organization العصبية، يقوم بتوزيع مسؤولية تنسيق مثل هذه الأفعال على شبكات متميزة من الخلايا العصبية. وتكون بعض هذه الدارات circuits المتخصصة (كتلك التي تُبْقي تنفسَ المرءِ مستمرا) جاهزة للعمل جاهزية تامة منذ الولادة، والبعض الآخر (كتلك التي تتحكم في الزحف والمشي والجري) قد تستغرق زمنا لتنضج.
والشبكات العصبية التي تحكم حركات نوعية (معينة) كثيرة التكرار تُدعى أحيانا مولدات النسق (النمط) المركزي central pattern generators. وهي تستطيع تنفيذ فعل معين بشكل راسخ مرة تلو الأخرى من دون حاجة إلى جهد واع. ويشتمل جذع الدماغ brain stem (الذي يحيط بالقسم العلوي من النخاع الشوكيspinal cord) على دارات التحكم العصبية الرئيسية التي يستخدمها الآدميون (البشر) للتنفس والبلع والمضغ وبعض حركات العين. ومن الغريب أن الدارات المسؤولة عن المشي والجري (وكذلك بعض المنعكسات reflexes وردود الأفعال الواقية) غير موجودة في الدماغ على الإطلاق، بل في النخاع الشوكي نفسه.
منذ أواخر الستينات، وأنا أحاول مع زملائي الكشف عن مخطط المنظومات العصبية التي تُنَسِّق عملية التنقل لدى حيوانات تجريبية مختلفة على أمل أن يساعد هذا البحث العلماء على فهم بعض تعقيدات الجهاز العصبي البشري. وهناك الكثير مما ينبغي أن نتعلمه، إلا أننا توصلنا إلى مخطط دقيق للشبكات العصبية المسؤولة عن الحركة في فقاري بسيط ـ هو ضَرْب من الأسماك اللافكية يدعى الجَلَكى lamprey.
ما يخص الفئران والبشر
عرف العلماء الكثير عن تعضية الجهاز العصبي المركزي لدى البشر من دراساتهم لحيوانات المختبر. لكن إدراكهم لأهمية النخاع الشوكي في عملية التنقل كان لأول مرة بُعَيْدَ بداية القرن الحالي، حينما لاحظ عالما فسيولوجيا الأعصاب البريطانيان الرائدان <S .Ch. شيرنگتون> و<G .T. براون> أن الحيوانات التي قُطِع فيها النخاع الشوكي تستطيع أن تؤدي حركات متعاقبة في الأرجل على الرغم من انقطاع الاتصال بالدماغ. وبعد ذلك بوقت طويل، استطعت مع زملائي أن نثبت وبصورة قاطعة أن هذه الحركات تطابق الحركات المستخدمة في التنقل. وهكذا تمكنا أن نستنتج أن أنساق الإشارات signalpatterns العصبية الرئيسية المسؤولة عن التنقل تتولد بتمامها داخل النخاع الشوكي.
إن تنقل البشر ـ مثل سائر الحيوانات الفقارية ـ ينسقه الجهاز العصبي المركزي. فهناك دارات عصبية متخصصة في مقدم الدماغ (الأحمر) تنتقي واحدا من بين تشكيلة “البرامج المحركة” وذلك بتفعيل أجزاء معينة من جذع الدماغ (الأزرق). ويستهل جذع الدماغ بدوره عملية التنقل ويتحكم في سرعة هذه الحركات باستثارة شبكات عصبية (تسمى مولدات النسق المركزي) موجودة داخل النخاع الشوكي (الأرجواني). وتشتمل هذه الشبكات الموضعية على دارات التحكم الضرورية لبدء وإيقاف التقلصات العضلية الضالعة في عملية التنقل في الأوقات الملائمة. وكذلك تتحكم شبكات من العصبونات داخل جذع الدماغ في عمليات التنفس والمضغ والبلع وحركات العين وغيرها من الأنماط الحركية الكثيرة التكرار. |
ومع ذلك يبقى السؤال قائما فيما يخص كيفية تحكم الدماغ في هذه الدارات، واختياره لتلك التي ينبغي أن تعمل في لحظة ما بعينها. وقد جاء الكثير من التبصر في هذه العملية خلال الستينات من هذا القرن حينما أثبت الباحثان الروسيان <N .G. أورلوفسكي> و<L .M. شيك> (وكانا يعملان في أكاديمية العلوم بموسكو حينذاك) أنه كلما ازداد تنشيط أجزاء معينة في جذع دماغ القطة ازدادت سرعة تحرك الحيوان المدروس. وعند زيادة التنبيه تنتقل القطة من المشي البطيء إلى الهرولة(2) وأخيرا إلى العدو السريع. وبهذا فإن إشارة تحكم بسيطة تصدر عن منطقة محدودة من جذع الدماغ تستطيع توليد أنساق (أنماط) معقدة تشمل عددا كبيرا من العضلات في الجذع والأطراف، عن طريق تنشيط مولدات أنساق مسؤولة عن التنقل تتواجد داخل النخاع الشوكي للحيوان.
إن مولدات النسق (النمط)، التي تفصل بين الشبكات العصبية التي تتحكم في كل طرف من الأطراف، تستطيع التآثر (التفاعل) فيما بينها بطرق مختلفة لتعطي مشيات متباينة (مثل الرَّهْو والخَبَب والركض) خاصة بالحصان. ففي الرهو(1) (في الأعلى) يتعين على الحيوان أن يحرك الرجل الأمامية والرجل الخلفية في أحد شقيه بشكل متواز. أما الخبب (في الوسط) فإنه يتطلب حركة الأطراف القطرية (الأمامية اليمنى والخلفية اليسرى، والأمامية اليسرى والخلفية اليمنى) في انسجام. وأما الركض (في الأسفل) فإنه يتضمن إعداد الرجلين الأماميتين ثم الرجلين الخلفيتين للعمل معا. |
وفضلا عن تقديم هذه التجربة لأدلة عن التآثرات (التفاعلات) interactions ما بين الدماغ والنخاع الشوكي، فقد ساعدت على تفسير الكيفية التي تستطيع بها الحيوانات التحرك فيما حولها بعد استئصال (إزالة) الجزء الأكبر من دماغها جراحيا. فبعض الثدييات (مثل جرذ المختبر الشائع) تبقى قادرة على المشي والجري وحتى الحفاظ على توازنها إلى حد ما بعد أن يُستأصل منها مقدم الدماغ (المخ) forebrain كله. وبالرغم من تحرك هذه الحيوانات بمشية إنسالية من دون بذل أي جهد لتفادي العوائق الموضوعة في طريقها، فإنها تكون قادرة تماما على تشغيل عضلات أرجلها وتنسيق خطواتها.
أما وضع مخطط لتفاصيل كيفية قيام الدماغ بتفعيل الشبكات العصبية في النخاع الشوكي فقد استغرق سنوات. فنحن نعرف اليوم أن مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية في مقدم الدماغ والتي تدعى العقد القاعدية basal ganglia، تتصل (بشكل مباشر وعبر خلايا مُرَحِّلَة) بالعصبونات المستهدَفة (الهدف) targetneurons في جذع الدماغ، والتي تستطيع بدورها استهلال عدد من برامج الحركة المختلفة. وفي ظروف الراحة، تكبح (تثبط) العقد القاعدية باستمرار مختلف مراكز الدماغ الخاصة بالحركة، بحيث لا تحدث أي حركات. ولكن عند التخلي عن ذلك الكبح النشط، فمن الجائز أن تبدأ الحركات المتناسقة بالظهور. وهكذا فإن العقد القاعدية تعمل على وضع مختلف برامج الحركة في الجهاز العصبي تحت سيطرة صارمة. وهذا القمع (الكبت) suppression أساسي: فالتشغيل المخالف لأعراف أحد البرامج المحركة يمكن أن يكون كارثة لأي حيوان بصورة عامة.
ففي البشر (على سبيل المثال) يمكن أن تسبب أمراض العقد القاعدية تعابير وجهية لاإرادية في الأيدي والأرجل. ويحدث فرط الحِرَاك hyperkinesis هذا عادة في شلل المخ وفي داء هانتنگتون، كما يحدث كتأثير جانبي سيئ لبعض الأدوية. هذا وقد تؤدي أمراض أخرى في العقد القاعدية إلى موقف معاكس، يتمثل في تطبيق قدر من الكبح يفوق المطلوب، وعندها تجد الضحية صعوبة في استهلال الحركات. ويمثل مرض پاركنسون أفضل الأمثلة المعروفة لمثل هذا العجز.
فيراري أم النموذج T؟
مع أن الباحثين الطبيين يتوقون لفهم طريقة نشوء مثل هذه الاضطرابات العصبية وما الذي يمكن عمله لتصحيحها، فمازال من الصعب إحراز النجاح في ذلك بسبب التعقيد فوق المعتاد للجهاز العصبي البشري، والذي يؤوي تريليونا(3) من العصبونات تقريبا. ومازال من غير المحتمل فحص الدارات العصبية لدى البشر (أو حتى لدى أي من الثدييات) بتفصيل كبير. لذا قمتُ مع زملائي بتركيز دراساتنا على الحيوانات الفقارية الأكثر بساطة، ففتشنا عن حيوان تجريبي له التعضي العصبي الأساسي نفسه لدى البشر، ولكن بعناصر أقل كثيرا.
تشكل السباحة التموجية في الجلكى (الشبيهة بالأسماك الثعبانية) هيئة بسيطة نسبيا من تنقل الفقاريات، يستطيع علماء الأعصاب دراستها بفعالية. واستجابة للإشارات التي تصدر عن الدماغ، تمر الموجة تلو الأخرى من انقباض العضلات (الأحمر) وانبساطها (الأخضر) من الرأس إلى الذيل على طول جسم السمكة، دافعة إياها قُدُما خلال الماء (في اليسار). ويمكن لموجات مشابهة تمر من الذيل إلى الرأس أن تدفع هذا المخلوق إلى الخلف (في اليمين). |
يشابه منهجنا الأساسي ذلك الشيء الذي يمكن أن يتبعه باحث خيالي من الفضاء الخارجي في استنباط الآليات الأساسية للسيارة. فأداء باحث الفضاء الخارجي سيكون أفضل كثيرا إذا ما بدأ هذا التحليل باستخدام النموذج (T) للسيارة فورد (إذا أمكن الحصول على إحداها)، لأن تلك المركبة العتيقة تشتمل على جميع المكونات الأساسية للسيارة (محرك داخلي الاحتراق وجهاز نقل الحركة والفرامل والمقود) واصطُنِعَت عن تصميم بسيط، ورُتبت بحيث يسهل فحصها. أما الدراسات التي تبدأ مباشرة بفحص لنموذج أكثر تطورا مثل السيارة فيراري الحديثة ذات المحرك التربيني فإنها قد تكون أكثر إحباطا. فنحن نفترض أن إلمامنا بالنموذج (T) يمثل الأساس المطلوب لفهم تركيب السيارة الأكثر أناقة وتعقيدا.
إن الجلكى البحرية (Petromyzon marinus) التي قد تبلغ المتر طولا، تلائم الدراسة التي أجراها المؤلف على تنقل الفقاريات. وكانت بمثابة حيوان تجريبي مثالي. ولما كان الجهاز العصبي لهذه السمكة يتألف من خلايا قليلة العدد نسبيا، فإن جذع الدماغ (البني) والنخاع الشوكي (البيج) يمكن عزلهما وسبرهما في المختبر (الصورة المدرجة داخل الشكل). |
لقد درسنا العديد من الكائنات التي تصلح للدراسة قبل أن نستقر أخيرا على الجَلَكى، تلك السمكة المتطاولة عديمة الفكين ذات الفم الكبير المتكيف للمص. والجلكى فقاري ذو جهاز عصبي مؤلف من عدد قليل من الخلايا نسبيا (يقارب 1000 خلية في كل قطعة (جزء) segment من قطع النخاع الشوكي)، مما يجعله مثاليا بالنسبة لأهدافنا. ويناسبنا الجلكى أيضا لأن الباحث <M .C. روفينين> (من جامعة واشنطن) كان قد بيّن أن الجهاز العصبي المركزي لهذه السمكة يمكن حفظه في طبق زجاجي ودراسته لأيام عديدة بعد استئصاله من الحيوان. وفضلا عن ذلك فإن الشبكات المحركة في الجهاز العصبي المعزول تبقى فاعلة.
إن استراتيجية انتقاء حيوان تجريبي بسيط ولكنه مناسب للدراسة، قد أثمرت تبصرات رئيسية للعديد من العمليات الحيوية المختلفة. فمثلا قدم فحص الخلايا العصبية لدى حيوانات لافقارية مثل الحبَّار وأم الرّبيان (الكَرْكَنْد) lobsterالأدلة الهامة الأولى عن كيفية تولد الدفعات (الموجات) العصبية، وكيفية عمل شبكات الخلايا العصبية.
سمكة ذات توصيلات محكمة
منذ بداية دراستنا على الجلكى في أواخر السبعينات، ركزتُ مع زميلي <P.والن> وعدد من المساعدين على فهم الملامح الأساسية لسباحة هذا الحيوان. فالجلكى (شأنها شأن الأسماك الأخرى) تدفع بنفسها نحو الأمام عبر الماء بفضل تقلص عضلاتها على هيئة ذبذبة متماوجة تنتقل بامتداد جسم هذا المخلوق من الرأس إلى الذيل.
وكيما يولّد هذا الحيوان موجة دافعة، فإنه لا بد أن يولِّد هبّات من النشاط العضلي تحني كل جزء (مقطع) من العمود الفقري نحو أحد الجانبين ثم نحو الجانب الآخر في تناوب متواتر (إيقاعي). ولكن الجلكى تحتاج كذلك إلى تنسيق تقلصات القطع المتعاقبة على طول جسمها بحيث تتشكل موجة رفيقة سلسة. ولكننا سرعان ما اكتشفنا أن التحكم العصبي لهاتين القابليتين موزع على طول النخاع الشوكي. فإذا تم عزل النخاع الشوكي لأحد أسماك الجلكى ومن ثم فُصِل إلى عدة أقسام، فإننا نستطيع أن نجعل كل قطعة منه تُظْهِر النموذج التناوبي المميز، وتبقى الفعالية بين القطع المتجاورة داخل الجزء الواحد متناسقة.
سلسلة عمليات متوازية
يوجد داخل الجزء الواحد من النخاع الشوكي للجلكى شبكة معقدة من الخلايا العصبية المتشابكة. وتثير إشارات مرسَلَة من جذع الدماغ في هذا الحيوان مجموعات من العصبونات (العِلَب) تقع في الجانبين الأيسر والأيمن من النخاع الشوكي. وهناك عصبونات متخصصة داخل هذه التجمعات تستجيب لذلك بإرسال إشارات استثارية (الأحمر) وتثبيطية (الأرجواني) إلى الخلايا المجاورة. ومن ثم تقوم عصبونات تعرف باسم الخلايا E(اختصارا للمصطلح excitatory استثارية) موجودة في أحد جانبي الجزء الشوكي بتفعيل العصبونات المحركة motoneurons M التي تسبب بدورها تقلص العضلات في ذلك الجانب من السمكة. وكذلك تحث الخلايا E هذه عصبونات تثبيطية inhibitory I لإنقاص مستوى الاستثارة في مجموعة العصبونات الموجودة في الجانب المقابل من النخاع الشوكي بحيث تؤمن استرخاء العضلات المقابلة.
إن انبعاثات الاستثارة التي تسبب التقلص في أحد الجانبين تنتهي بطرائق عدة. فهناك عصبونات مستقبلة للشد (المثلثات الأرجوانية) على الجانب المقابل من السلسلة الفقارية تبث إشارات تثبط التقلص. وفي الوقت نفسه، تقوم مستقبلات شد أخرى (المثلثات الحمراء) بإثارة العصبونات الموجودة على الجانب المتمدد لبدء التقلص في ذلك الجانب. إضافة إلى ذلك، يمكن لجذع الدماغ أن يستحث الخلايا العصبية الكبيرة L large المثبطة والكائنة في الجانب المتقلص على تثبيط الخلايا I، الأمر الذي يسمح بتفعيل الجانب المقابل فيرسل إشارات تثبيطية بالتالي. وأخيرا، توجد بضع آليات كهرَكيميائية داخل الخلايا، بإمكانها أن تخمد عنوة دفعة التقلص، مما يساعد على تنظيم توقيت الشبكة. ومع أن دارات النخاع الشوكي الموضعية هذه تستطيع العمل تلقائيا، فإنها تقوم في العادة بتغذية معلومات راجعة إلى الدماغ حول ما يحدث في الشبكة من فعالية. ومن ثم يمكن ربط هذه الإشارات بأشكال أخرى من الدخل الحسي (مثل الدالات clues الواردة من الإبصار وجهاز التوازن في الأذن الداخلية) بقصد تغيير حركات الحيوان. |
وأظهرت الملاحظات اللاحقة أن التلكؤ (الفاصلة الزمنية) lag بين تفعيل القطع المتجاورة يبقى ثابتا أثناء الموجة نفسها، في حين تنتشر الحركة الموجية على طول جسم الجلكى من الرأس إلى الذيل. ولكن هذا التلكؤ يتغير حسب سرعة السمكة، بحيث يمكن للفترة الإجمالية لتلك الموجة (أي الزمن الذي تستغرقه الموجة للسريان على طول الحيوان كاملا) أن تتفاوت بين ما يقرب من ثلاث ثوان أثناء السباحة البطيئة جدا، وأن تقل إلى عُشْرِ الثانية عند الإسراع المفاجئ. وتَحدث هذه التقلصات المميزة نفسها بالضبط بترتيب عكسي عندما تسبح السمكة نحو الخلف.
ولكي نفهم كيفية مناغمة الجهاز العصبي في الجلكى لمثل هذه الحركات، احتجتُ مع زملائي أن نحدد تماما أي الخلايا تسهم في عملية التنقل وكذلك كيفية التآثر (التفاعل) فيما بينها، لذا ابتكرنا تجارب تستخدم مساري (أقطابا كهربية) ذات أسلاك يقل عرضها عن جزء من الألف من المليمتر. وباستخدامنا تلك المِحَسّات(4) sensors استطعنا أن نرسم بالتفصيل الاتصالات البعيدة، بوضع أحد المسريين الكهربيين داخل خلية منفردة في جذع الدماغ، وفي الوقت نفسه نستخدم المسرى الآخر لسبر الخلايا المستهدَفة المختلفة في النخاع الشوكي. وتطلَّب الأمر منا الكثير من المهارة والصبر لكي نعثر من بين مئات الاحتمالات على زوج (شفع) من الخلايا العصبية بمقدور إحدى خلاياه الاتصال بالأخرى. ولكن العمل المتقن لأناس كثيرين أتاح لنا أخيرا أن نحدد العصبونات التي تتحكم في عملية التنقل، وأن نتقصى كيف ترتبط اتصالات الخلايا بعضها ببعض.
وفي نهاية المطاف اكتشفنا أن الخلايا العصبية في جذع الدماغ لها استطالات طويلة (محاوير axons) تتصل بالعصبونات الموجودة على طول النخاع الشوكي والضالعة في عملية التنقل. فاستجابةً لإشارات واردة من الدماغ، تقوم شبكات موضعية من الخلايا داخل أجزاء متفرقة من النخاع الشوكي بتوليد انبعاثات (هَبّات) bursts من الفعالية العصبية. وهذه الشبكات بمثابة دارات متخصصة تستثير العصبونات في أحد جانبي قطعة (جزء) معينة من جسم الجلكى، في حين تكبت الخلايا العصبية المشابهة في الجانب المقابل. وهكذا يتثبط أحد الجانبين من قطعة ما تلقائيا عندما ينشط الجانب الآخر منها. وهناك خلايا عصبية أخرى متخصصة تدعى العصبونات المُحَرِّكة motoneuronsتربط أعصاب النخاع الشوكي بالألياف العضلية التي تقوم فعليا بمهمة تحريك الجلكى خلال الماء.
توحي السباحة الافتراضية في الجلكى المحاكاة بأن النماذج العصبية المبتكرة في المختبر يمكن أن تمثل لنا كيف يتحرك الكائن الحقيقي ببراعة خلال الماء. وتبين هذه الصور (المولدة بالحاسوب) سباحة الجلكى بشكل مستقيم (a) واستدارتها (b) وتدحرجها إلى أحد الجانبين (c) وغوصها إلى الأسفل (d). |
ولكن هذه الشبكات لا تمرر الإشارات النازلة من دماغ الحيوان فحسب. فمع أن جذع الدماغ هو الذي يُصدر الأمر الإجمالي المتعلق بسباحة السمكة، فإنه يَكِل مهمة تنسيق الحركات العضلية إلى هذه المجموعات المحلية التي تستطيع معالجة البيانات (المعطيات) الحسية الواردة وتكييف سلوكها الخاص وفقا لذلك. وبالأخص تستجيب هذه المجموعات “لعصبونات نوعية (خاصة) بمستقبلات الشد” specific stretch receptor neurons، تستشعر انحناء العمود الفقري للجلكى أثناء سباحتها.
وبينما يتقلص أحد جانبي الجسم يتمدد الجانب الآخر، وهذا التمدد هو ذاته الذي يثير (يقدح) trigger مستقبلات الشد. وبعد ذلك تتولى هذه الخلايا العصبية المفعَّلة واحدا من فعلين متتامين: فهي إما أن تستثير عصبونات في الجانب المتمدد فتحث العضلات الموجودة هناك على التقلص، وأن تثبط عصبونات في الجانب المقابل فتوجب على العضلات إيقاف التقلص. وبمثل هاتين العمليتين (إلى جانب العديد من الآليات الخلوية المعقدة إلى حد ما) تستمر الحركات التذبذبية للجهاز العصبي العضلي في الجلكى.
ولدى متابعتنا الدّارِيّةَ (مجموعة الدارات) circuitry العصبية للنخاع الشوكي في الجلكى توصلنا إلى أن بعض الشبكات العصبية الموضعية ترسل محاوير على طول العمود الفقري، وأن خلايا مثبطة خاصة في كل قطعة ترسل إشارات عبر هذه المحاوير باتجاه الذيل تصل إلى ما يعادل خُمْس طول العمود الفقري. ويشتمل ما يسمى بالخلايا الاستثارية على محاوير قصيرة نوعا ما تمتد في كلا الاتجاهين. وبذلك تستطيع فعالية أحد المراكز في النخاع الشوكي أن تؤثر في المناطق المتاخمة.
ولكن كيف بالضبط يمكن للإشارات الواصلة بين القطع المختلفة أن تُحدث الحركة الموجية المميزة؟ بعد الكثير من التفكير، اقترحنا أنه بإمكان الإشارات العصبية أن تستثير القطعة المتقدمة (بالقرب من رأس الجلكى) على نحو يجعل تقلصات تلك القطعة تتناوب إلى الأمام والخلف أسرع من ميل العمود الفقري للتذبذب على أي نحو آخر. وتتبع القطعة الثانية الواقعة خلف الرأس الحركات المُسَرَّعة للقطعة الأولى (لكون القطعتين مقترنتين بخلايا عصبية) ولكن مع تلكؤ بسيط تحاول فيه القطعة الأبطأ بطبيعتها اللحاق بالقطعة المتقدمة. وبمثل هذا المنطق، ينبغي للقطعة الثالثة بالتالي أن تتبع الثانية مع تأخر طفيف، وهكذا دواليك إلى أسفل الجسم. وبذلك تسمح التأخيرات التراكمية للجلكى (والتي استشفها حدسنا) أن تولد موجة متسقة.
حقيقة عملية
حتى مع مخططاتنا للتوصيلات الكهربية (التشبيك wiring) التي طورناها حديثا، وكذلك الكم الهائل من المعلومات التفصيلية حول خصائص الأنواع المختلفة من الخلايا العصبية الضالعة بالعملية، فقد واجهتنا التحديات طويلا لصياغة نصوص تتجاوز حد العمومية والتواضع حول كيفية عمل هذه الدارات العصبية المعقدة. ومن أجل اختبار ما إذا كانت المعلومات التي جمعناها شيئا بعد شيء تفسر كيفية سباحة الجلكى بحق، اشتركت مع زملائي وكل من <A. لانسنر> و<o. إيكبرگ> (من المعهد الملكي للتقانة في استكهولم) للعمل على ابتكار نماذج حاسوبية متنوعة لهذه العملية.
ففي البداية طورنا برامج تستنسخ reproduce سلوك العصبونات المختلفة المستخدمة في عملية التنقل. ومن ثم أفلحنا في محاكاة simulating التركيبة الكاملة للخلايا المتآثرة (المتفاعلة) على حاسوبنا. وقد سمحت لنا هذه الممارسات العددية أن نختبر ضروبا من الآليات الممكنة، كما أثبتتْ أنها أدوات لا يمكن الاستغناء عنها في تحليل التعضّي العصبي للجلكى. ولما كانت النماذج الحاسوبية تستطيع توليد نسق (نمط) من الإشارات شديد الشبه بالنسق الإشاري الذي يحدث أثناء عملية التنقل الفعلية، فإننا نستطيع القول أخيرا وبشيء من الثقة إن الدارات التي حلَلْنا لغزها تكشف بالفعل عن أجزاء أساسية من شبكةِ تحكمٍ حيوي واسعة النطاق.
لم تبين تشبيهاتنا الحاسوبية التقلصات المتناوبة على جانبي العمود الفقري فحسب، بل وصقلت مفهومنا عن التلكؤ (الفاصلة الزمنية) في تفعيل القطع المتجاورة. وينشأ هذا التلكؤ عن عصبونات تمتد بطول النخاع الشوكي وتثبط القطع باتجاه الذيل. وتكفل هذه الاتصالات العصبية أن يكون مستوى الاستثارة بصفة عامة أعلى ما يمكن عند الطرف الرأسي للحيوان، الأمر الذي يؤدي إلى تفعيل متأخر للقطع (الواحدة تلو الأخرى) على طول جسم الحيوان. وقد وجدنا أيضا أنه بإمكاننا أن نعكس النسق العادي عن طريق زيادة سرعة استثارة excitability القسم الأبعد باتجاه الذيل من النخاع الشوكي، وبذلك نمكن الحيوان من السباحة للخلف. وهكذا تحتفظ الشبكة الشوكية ذات التوصيلات الكهربية (التشبيك) المحكمة في الجلكى بدرجة كبيرة من المرونة.
وفي أغلب الأحوال، أخذنا بعين الاعتبار المحاكاة الحاسوبية التي تقلد فقط النشاط العصبي للجلكى. ولكن الجهود الحالية التي قادها إيكبرگ نجحت في الاقتداء modeling بالجلكى بكاملها، بدءا بالألياف العضلية التي تتحكم في القطع المختلفة وانتهاء بخصائص لزوجة الماء المحيط بها. وقد قدمت دارات التحكم العصبي، التي خططناها سابقا، كل ما تحتاج إليه هذه السمكة في الواقع لسباحتها.
الخروج زحفا من الماء
يمكن أن نقنع الآن بأن مقدرة الجلكى على التنقل يمكن فهمها على أساس التآثرات (التفاعلات) بين الخلايا العصبية الشوكية. ولكن ما مدى تيقننا من عمل هذه الآليات في أنماط الحياة الأكثر رقيا؟ لقد تشعب الجلكى عن الخط الفقاري الرئيسي في وقت مبكر أثناء مسيرة التطور (منذ نحو 450 مليون سنة) في وقت لم تكن الفقاريات فيه قد اكتسبت أطرافا. وبذلك لم يتضح لنا مباشرة ما إذا كانت نتائجنا مناسبة للحيوانات الأخرى.
ولكن <A. روبرتس> وزملاءه (في جامعة بريستول) أماطوا اللثام عن آلية التنقل على المستوى الخلوي لدى حيوان فقاري آخر هو يرقة (شرغوف) الضفدعtadpole. وقد أراحني بشكل خاص أن أرى أن الجهاز العصبي ليرقة الضفدع يشبه شبكة الجلكى في معظم النواحي. وكذلك الأمر بالنسبة للفقاريات الأخرى (من السمك وحتى الرئيسات) فإن التعضي العصبي الإجمالي ينتظم حسب مخطط مشابه. فتستهل مناطق منفصلة في جذع الدماغ عملية التنقل، ثم يعالج النخاع الشوكي الإشارات باستخدام دارات متخصصة.
ومازالت الآليات الخلوية المستخدمة في التنقل لدى هذه الحيوانات الأخرى مجهولة إلى حد كبير. وقد بين الباحثون وجود مولدات للنسق (النمط)، كما سبروا بعض مكوناتها العصبية، ولكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من حل لغز هندسة بنيتها الداخلية. ومع ذلك فقد أمكن خلال السنوات القليلة الماضية إيجاد تقانات جديدة لعزل النخاع الشوكي عند طوائف أخرى من الفقاريات (كالثدييات والطيور والزواحف). ويبدو محتملا أن يتمكن الباحثون في السنوات القليلة القادمة من الكشف عن كيفية تحكم هذه الحيوانات في المشي والجري والطيران.
ولما اقتصرت الفقاريات الأوائل في تنقلها على استخدام السباحة التَّمَوُّجيّة، فقد لا تختلف الشبكات التي تطورت فيما بعد للتحكم في الزعانف والأرجل والأجنحة اختلافا كبيرا عما انتهيتُ بالفعل من دراسته مع زملائي. إن التطور قلما ينبذ التصميم الجيد، ولكنه عوضا عن ذلك يحور ويزين ما هو موجود بالفعل. وسيكون من المستغرب جدا أن نكتشف وجود تشابهات قليلة بين الجلكى والبشر في تعضي أجهزة التحكم في عملية التنقل. بل وقد يستطيع العلماء ابتداع طرق لتخطيط وتفعيل الدارات الهاجعة المولدة للنسق لدى أناس أصيبوا بفصل في النخاع الشوكي. وفي الواقع، قد لا تكون مثل هذه الإنجازات الخارقة بعيدة جدا عنا: فالفيراري ذات المحرك التربيني ما هي ـ على الرغم من كل شيء ـ إلا سيارة من نوع آخر.
المؤلف
Sten Grillner
حصل على الدكتوراه في الطب وفي الفلسفة عام 1969 من جامعة گوتيبورگ في السويد والتي انضم إلى هيئتها التدريسية حينذاك. ثم انتقل في عام 1975 إلى قسم الفسيولوجيا في معهد كارولينسكا في استوكهولم. وانضم إلى معهد نوبل للفسيولوجيا العصبية عام 1987. ويعمل اليوم رئيسا لكل من معهد نوبل وقسم العلوم العصبية في كارولينسكا. وهو عضو في لجنة نوبل للفسيولوجيا والطب منذ عام 1987.
مراجع للاستزادة
NEUROBIOLOGICAL BASES OF RHYTHMIC MOTOR ACTS IN VERTEBRATES. S. Grillner in Science, Vol. 228, pages 143-149; April 12, 1985.
NEURAL CONTROL OF RHYTHMIC MOVEMENTS IN VERTEBRATES. Avis H. Cohen, Serge Rossignol and Sten Grillner. Jon Wiley & Sons, 1988.
THE NEURAL CONTROL OF FISH SWIMMING STUDIED THROUGH NUMERICAL SIMULATIONS. O. Ekeberg, A. Lansner and S. Grillner in Adaptive Behavior, Vol. 3, No. 4, pages 363-384; Spring 1995.
NEURAL NETWORKS THAT CO-ORDINATE LOCOMOTION AND BODY ORIENTATION IN LAMPREY. S. Grillner, T. Deliagina, O. Fkeberg, A. El Manira, R. H. Hill, A. Iansner, G. N. Orlovski and P. Wallen in Trends in Neuroscience, Vol. 18, No. 6, pages 270-279; June 1995.
Scientific American, January 1996
(1) سير الفرس بتمهل.
(2) جري بين المشي والعدو.
(3) 1210 = trilion.
(4) أجهزة الكشف عن الاستجابة