اتجاهات في علم الوراثة البشري
اتجاهات في علم الوراثة البشري
بيانات حيوية
<T.بيردسلي>
إذا ما نالت شركة التقانة الحيوية المعروفة باسم ميرياد جيناتكس في أواخر هذا العام ما تريد، فإن آلافا من نساء الولايات المتحدة الصحيحات (المعافيات) سيسمعن أخبارا مزدوجة السوء. فمن ناحية، قد تعلن قريبة لصيقة (ربما الأخت) بأنها مصابة بسرطان الثدي breast cancer. ومن ناحية أخرى، قد يرى طبيب المريضة بأن هذا النوع الخاص من السرطان قد نجم على الأرجح عن طفرة تتساوى في احتمال الإصابة بها كل من المريضة والقريبة الصحيحة. وتُنصح المريضة عندئذ بأن تقترح على قريباتها كافة أن يجرين اختبار الطفرة. وقد يُطلب إلى اللواتي يحملن الطفرة بأن يفكرن في استئصالٍ وقائي للثديين، إذ يرجح أن يصبن هن أيضا بسرطان الثدي. ولكن ما مقدار هذه الأرجحية؟ يصعب أن نعرف، إذ إن طفرات الثدي لم تدرس بعد بعمق، بيد أن هذه الأرجحية قد تصل إلى 85 بالمئة.
سيواجه معظم الناس مآزق يفرضها إجراء اختبارات لجينات (مورثات) ترتبط بأمراض خطيرة. ولكن الجين BRCA1 ـ أو جين سرطان الثدي الذي تقترح الشركة ميرياد أن تبدأ في اختباره على نطاق واسع هذا العام ـ ليس إلا واحدا فقط من مجموعة قد يبلغ عددها العشرات، سيطلب الأطباء قريبا إجراء اختباراتها على نحو روتيني بحثا عن الطفرات. إن هذه الاختبارات كلها (إنما بدرجات متفاوتة) هي من نتاج مشروع الجينوم (المجين) البشري Human Genome Project، وهذا مشروع جريء مدته خمسة عشر عاما تبلغ كلفة إنجازه الفيدرالية ثلاثة بلايين دولار، ويهدف إلى تحليل الإرث الجيني (الوراثي) البشري في أبعد تفاصيله الجزيئية الممكنة.
وعلى الرغم من أن المشروع قد بدأ رسميا منذ خمس سنوات ونصف فقط، فإن التقدم جاوز التوقعات. ويرى <S.F.كولينز> ـ مدير المركز الوطني لبحوث الجينوم البشري (NCHGR) لدى معاهد الصحة الوطنية (NIH) ـ أن المشروع «قد يُنْجَزَ قبل الموعد المحدد بسنتين»، أي في العام 2003. ولقد تمكنت التقانات التي طورت لتلبية احتياجات العمل من مضاعفة معدل اكتشاف جينات الأمراض البشرية أربع مرات وذلك وفقا لتقديرات المركز NCHGR. ويتم كل أسبوع تقريبا تحديد خصائص خصلة صغيرة من الدنا لها أهميتها الطبية. وسيتزايد تسارع العمل مرة أخرى قريبا مع اقتراب المشروع من مراحله الأخيرة. وسنصل في نهاية المطاف إلى سَلْسَلَة sequencing جين جديد كل ساعة (أي تعيين تتالي المكونات الكيميائية له).
لقد طُرح المشروع أصلا لأنه بدا وكأنه أفضل أمل للتغلب ليس فقط على الأمراض التي عُرف منذ زمن بعيد بأنها وراثية، بل أيضا على أمراض أخرى لها علاقة بالجينات أكثر مراوغة، بما في ذلك السرطان. لكن الطريق إلى تلك النرڤاناnirvana الجينية ستكون طويلة. لقد كانت النتائج الأولى لأحد التطورات التي انتظرها الباحث بتلهف، نعني العلاج بالجينات، مخيبة للآمال. ثمة بيولوجي واحد على الأقل من بيولوجيي الجينوم، هو <W.D. درل> من وزارة الطاقة، يتنبأ «بتطور قانوني خبيث» لدعاوى براءات الاكتشاف المرتبطة بالجينات، لأن الهيئات المختصة تسعى مسعورة لربط تتابعات الدنا بسعر تجاري. لقد أثارت المتاجرة بالإرث المشترك للجنس البشري احتجاج الناشطين الذين يرون في ذلك إهانة لكرامة الطبيعة. وفي الوقت نفسه، حذر أحد علماء الوراثة البارزين من أن غلاء المعالجات المرتكزة على الجينات سيحد كثيرا من انتشارها.
على مركز سَلْسَلَة الجينوم (في الأعلى) في كلية طب جامعة واشنطن الذي يرأسه <H.R.وترستون> (في الأسفل)، أن يبدأ هذا العام سَلْسَلة واسعة النطاق لصبغيات (كروموسومات) الإنسان (المؤطر في اليمين). |
ومن ناحية أخرى فقد بدأت بالفعل إساءة استعمال علم الجينوم الجديد. وهناك من الأدلة القاطعة ما يبين أن الأطفال الذين يتفق مستشاروهم الوراثيون على ألا يخضعوا لاختبار صفات معينة، يُختبَرون بالفعل وبأعداد كبيرة نسبيا اختبارات قد تلحق بهم الأذى. وعلى النقيض من ذلك، فلما كان الأشخاص قيد الخطر فيما يتعلق بحالة وراثية معيبة غالبا ما يُرفض طلبهم للتأمين الصحي أو التأمين على الحياة أو التوظيف، فإن المرضى يرفضون الآن إجراء الاختبارات الجينية لأنفسهم أو لأطفالهم حتى لو كانت لهذه الاختبارات قيمة طبية. كما أن البعض الآخر يُجري الاختبار ولكن تحت أسماء مستعارة.
إن مشروع الجينوم البشري ينتج فيضا من المعلومات التي ستكشف ما لدينا من استعدادات للمرض. وقد يُحدث هذا المشروع تحولا في العلوم الطبية. لكن أخطارا جديدة تتكشف أيضا.
لقد اعترف منذ البداية قادةُ مشروع الجينوم بأن علم الوراثة البشري سلاح ذو حدين. وقد أصابوا بالفعل في تخصيص ملايين الدولارات لدراسة القضايا الأخلاقية والقانونية والاجتماعية. لكن المكاسب التقنية تكاد تتخطى محاولات منظمي الجمعيات المهنية والهيئات الحكومية لترشيد استعمالات التقانة.
وتمضي السَّلْسَلَة قُدُمًا بالسرعة القصوى
في عام 1990 قدَّر مخططو المشروع أن تعيين تتابع الوُحَيْدات الكيميائية، أو ما يُسمى القواعد bases، لكامل الجينوم سيتطلب عشرات الآلاف من التقنيين الذين يعملون آلاف الساعات (فكتابة التتابع، باستعمال حرف واحد لكل قاعدة سيحتاج إلى 000 390 صفحة من صفحات مجلة ساينتفيك أمريكان بلا صور). فضلا عن ذلك، فإن السَّلْسَلَة التي ستكشف عن الوظائف المحتملة والمواقع على الصبغيات (الكروموسومات) لما يقدر بمئة ألف جين بشري، قد لا تبدأ على الفور؛ إذ كان من الضروري وجود منظور أولي يمكن به أن توصف الملامح الرئيسية للخلفية الوراثية.
لقد احتاج الباحثون إلى خريطة جينية، وهذه أساسا مخطط يصف كيف تتفارق وتتآشب (تتخالط) بين الأجيال البشرية آلاف التسلسلات الواسمة في الصبغيات. كما أدركوا أيضا بأنهم لن يتقدموا كثيرا في المشروع من دون خرائط فعلية (ملموسة) تبين على الصبغي ترتيب مواقع تتابعات ذات علامة tagged sites بتسلسلات يمكن تعرفها. فبوسع الباحث، إذا ما استعمل خريطة جينية، أن يقارن نمط التوريث لحالات معينة بخريطة تتابعات الواسمات. إن هذا سيتيح تعرّف الموقع المحتمل للجين المسؤول عن تلك الحالة من التوريث تعرفا سريعا. ويمكن للحاسوب عندئذ أن يربط البيانات الخارجة من مَكِنات السَّلْسَلَة بالهيكل الذي توافره المواقع ذات العلامة على الخريطة الفعلية. وستمكننا الخريطتان معا من سرعة تعرف الجينات المرتبطة بالمرض.
وعلى الرغم من أن الكونگرس قد وفر تمويلا سنويا يقل عن مبلغ المئتي مليون دولار الذي طلبه المشروع، فإن تعاونا دوليا مثمرا قد عجل في تقدم المشروع. وقد تم في أواخر عام 1994 وضع خريطة جينية جيدة تغطي الجينوم بأكمله، كما تتوافر حاليا خريطة فعلية عالية الجودة تغطي 95 في المئة من الجينوم. ومن المتوقع أن يتم هذا العام وضع خريطة فعلية عليها مواقع مُعلَّمة يفصل بين كل اثنين متتاليين منها مئة ألف قاعدة (وهذا هو الوضع المثالي). وهكذا، فإن الوقت صار مواتيا إذًا للبدء بالسَّلْسلة على نطاق واسع.
أوضحت الجهود التي بُذِلَت لسلسلة جينومات كائنات حية أخرى كيف يمكن تسريع العملية وخفض الكلفة. ويتم حاليا تطوير عدد من التقانات المبتكرة في السَّلْسلة. لكن كولينز يرى أن المقاربات الجديدة حقا لن تكون ضرورية للانتهاء في الموعد المحدد (عام 2005) لسَلْسلة الجينوم البشري بدقة تبلغ 99.9 في المئة. وقد أقنعه تزايد الكفاءة في السنتين المنصرمتين بأن التقانة الحالية تفي بصورة أساسية بمتطلبات إنجاز العمل المطلوب.
ولدى وزارة الطاقة التي تمول قسما كبيرا من مشروع الجينوم في الولايات المتحدة، بضع عملياتِ سَلْسَلَةٍ تتم للاسترشاد بها. لقد دُشن أول مشروع سَلْسلة كبير في أواخر العام 1995 في مركز سانگر بإنكلترا، وهو مشروع مَوَّله اتحاد شركات ويلكام تراست. ويتوقع أن تبدأ السَّلسلة على نطاق واسع بالولايات المتحدة في ربيع هذا العام. ويرجح أن يكون ذلك في مركز <H .R.وترستون> للسَّلسلة بجامعة واشنطن.
إن هذا المدّ المتدفق من البيانات الجينية لم يؤثر بعد في معظم الناس، بيد أن هذا سيتغير. ويعزل الباحثون حاليا وبصورة روتينية طفرات جينية ترتبط بعلل واسعة الانتشار، كالسرطان ومرض ألزايمر وبعض الأمراض القلبية الوعائيةcardiovascular. وصار استنباط اختبارات للطفرات في جين معين أمرا يكاد يكون مباشرا. في الخريف الماضي أعلنت جينزايم، وهي شركة تقانة حيوية في ماساتشوستس، عن تقانة تشخيصية يمكن أن تحلل في وقت واحد الدنا DNAمن 500 مريض بحثا عن 106 طفرات مختلفة في سبعة جينات.
وعندما يُعرف ما يكفي عن تأثير الطفرات، فستصبح نتائج الاختبارات نعمة طيبة؛ إذ سيكون بوسعها أن تبين احتمال إصابة شخص ما بعلة معينة، بل وقد تقترح إشرافا طبيا معززا للحياة أو علاجا. لكن معرفتنا بتأثير الطفرات تتطلب دراسات مطولة. كما يمكن للبيانات الجينية أن تتسبب في أذى مباشر يقوض الحياة. فقد تُسهم، على وجه الخصوص، في حدوث تغيرات نفسية ضارة، كما أنها تُفْسِح المجال أمام التمييز بين الأفراد.
اقتصر التمييز الجيني في الماضي بصورة رئيسية على أفراد العائلات التي ابتُلِيت بأمراض نادرة ذات طراز واضح من التوريث. فمثلا، منذ زمن بعيد كان التأمين الصحي من الصعب ـ أو من المستحيل ـ أن يحصل عليه أفراد العائلات المصابون بمرض هنتنگتن Huntington (وهو اضطراب عصبي تنكسي مميت يتطور في أواسط العمر). ويؤكد كولينز أن «بضع مئات» من الناس ممن هم قيد الخطر بسبب تركيبهم الجيني قد فقدوا وظائفهم أو تأمينهم. وقد عانى معظمهم لأن فردا من العائلة قد شُخِّص بحالة عُرف منذ زمن بعيد بأن لها أساسا وراثيا. ولكن مع تزايد أنواع الاختبارات الجينية، فإن كولينز يتنبأ «بأننا سنشهد تفاقم هذا الوضع على نطاق واسع، ذلك أن كل واحد منا يتهدده خطر ما.»
ما تركيبُك الجيني؟
إن اختبار وجود الطفرات المرتبطة بالسرطان مثلا لا يُجرى حاليا إلا لأغراض بحثية في مراكز طبية كبيرة، ذلك أن تفسير النتائج يحفه الارتياب. لكن بعض الحقائق المقيتة لا يكتنفها الغموض. ففي العائلات التي يورث فيها سرطان الثدي (ويضم أقل من عشرة بالمئة من الحالات كافة)، تسبب طفرات الجين BRCA1استمرار خطر الإصابة بالمرض طوال الحياة بنسبة 855 في المئة، وبسرطان المبيض بنسبة 45 في المئة. وقد اختارت بعض النسوة في مثل هذه العائلات ممن عُرفن بأنهن يحملن الجين الطافر BRCA1، أن يخضعن للاستئصال الوقائي للثدي والمبيض، وهذا إجراء يقلل من خطر الإصابة بالسرطان ولكنه لا يلغيه.
الصبغي 17
إن هذه الخريطة الجينومية الجزئية التي تظهر على هذه الصفحة والصفحة التالية، نشرها في الشهر 12/1995 باحثون في معهد هوايتهد للبحوث البيوطبية والمؤسسة الفرنسية جينيتون. ويمكن تفحصها كاملة على البرنامج ذي الرمز:
http//www-genome. wi.mit.edu/cgi-bin/contig/phys-map.
|
لكننا سنجد الارتياب أكبر لدى النسوة اللواتي يحملن الجين الطافر BRCA1من دون تاريخ عائلي للإصابة بسرطان الثدي. والخطر بالنسبة لهن غير مؤكد لكنه قد يكون أقل احتمالا. كما أننا لا نعلم ما إذا كان الخطر يختلف بين الأفراد من الجماعات العرقية المختلفة (وإن كان من المعروف أن اليهود الأشكينازيين أكثر عرضة من غيرهم لحمل طفرة نوعية في الجين BRCA1، كما أن الأعراض التي تنشأ عن جين آخر يسبب الورم الليفي العصبي neurofibromatosis تكون أكثر حدة عند البيض مقارنة بالسود.) تسبب هذه وغيرها من ضروب الارتياب ورطة علاجية مفزعة. فالخيار ما بين الاستئصال الجراحي والمراقبة الصارمة (بالتصوير المتكرر للثدي) قد يكون صعبا، ثم إن العثور على جين آخر لسرطان الثدي (BRCA2) قد جعل الأمور أكثر تعقيدا.
وعلى الرغم من أن التقدم المتوقع في فهم الجينوم قد يزيل مثل هذه الإشكالات، فإن معظم الباحثين لا يعتقدون بأنها ستتلاشى كليا في المستقبل المنظور. فللاختبار الإيجابي للجين BRCA1، بالنسبة لعلاج امرأة شُخصت فعلا على أنها مصابة بسرطان الثدي، معنى كئيب. بل وحتى إذا كانت نتيجة الاختبار سلبية، فستبقى المرأة تواجه طوال حياتها خطر الواحد من ثمانية الذي تواجهه كل نساء الولايات المتحدة. لقد دعت هذه العوامل كلا من الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية (وراثيات الإنسان) والائتلاف الوطني لسرطان الثدي (مجموعة مناصرة) لأن تطالب بألا تُجرى، حاليا على الأقل، اختبارات الطفرات BRCA1 إلا في مواقع البحث العلمي. وتقول <J.M.كاهن> (وهي عضوة في هذا الائتلاف، وواحدة من الناجيات من سرطان الثدي وذات تاريخ عائلي بهذا المرض): «إننا سنحارب أي مبيع لهذا الاختبار قبل حصول إجماع على الطريقة التي سيستعمل بها.»
ويتعارض هذا التحذير مع البرنامج التجاري. فالشركة ميرياد چيناتكس، التي تأسست في سولت ليك سيتي، تخطط لتسويق اختبار للجين BRCA1 في أواخر عام 1996 لكل من شُخِّصْن على أنهن مصابات بسرطان الثدي أو المبيض ولقريباتهن الحميمات. فإذا ما قبلت فقط المريضات اللواتي تم تشخيصهن، فإن عدد الاختبارات سيتجاوز 000 200 في العام الواحد. ويقول <D.P. ميلدرام> رئيس الشركة ميرياد إن شركته تدرس مدى التهديد لدى العشائر (الجمهرات) المختلفة. لكن كولينز يرى أن خطط ميرياد «ليست ناضجة»، لأنه يرتاب في أننا سنعرف عن الطفرات وعن خيارات المعالجة ما يكفي لتبرير إجراء الاختبار على نطاق واسع مع نهاية ذلك العام.
وفعلا تبيع الشركة أونكورميد في ولاية ميرلاند، خدمات اختبار الجين BRCA1لتُستخدم في بروتوكولات بحثية على نسوة لديهن خطر عال للإصابة. أما القيود التي يجب أن تتضمنها هذه البروتوكولات فهي محل دراسة عاجلة يجريها الآن الائتلاف الوطني لسرطان الثدي. كما تختبر الشركة طفرات ترتبط بشكل من أشكال سرطان القولون.
ولم يسبق لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) أن نظمت خدمات الاختبارات الجينية. لكن في الشهر 1/1996جَرَّدَتْ هيئة الاختبارات الجينية التي أنشأها برنامج الجينوم، حملة للاختبار الجيني لتقييم ما إذا كان من الأصوب أن تحث الإدارة FDA على أن تُقصر اختبارات الطفرات المرتبطة بالسرطان على الاستعمالات البحثية إلى أن تتوافر بيانات (معطيات) راسخة عن قيمة الاحتمالات العلاجية.
وتقول <B.B.بيسيكر> من المركز NCHGR إن بعض النسوة اللواتي يعلمن بأنهن يحملن الجين الطافر BRCA1 (بضع عشرات حتى الآن) لم يؤلين جهدا في إخفاء ذلك على شركات التأمين. وتعود إحدى المخاوف إلى أن المؤمِّن سيعتبر الطفرة حالة مسبقة الوجود ومن ثم يرفض تغطية المعالجات الخاصة بهذه «الحالة». ويصعب اعتبار ذلك القلق منافيا للعقل. ذلك أن شركات التأمين الصحي غالبا ما ترفض توقيع عقود تأمين (أو حتى قبول أقساط تأمين مرتفعة) ممن لهن تاريخ عائلي للإصابة بالسرطان. ففي العام الماضي رُفضت عدة مرات طلبات التأمين الصحي لعضوات مكتب واشنطن العاصمة للائتلاف الوطني لسرطان الثدي وعددهن ثماني لأن البعض منهن قد عولجن قبلا من سرطان الثدي. وكان عليهن، لتأمين التغطية، الانضمام إلى منظمة أكبر.
ويبدو أن الاتجاه نحو السرية فيما يتعلق بالاختبارات الجينية آخذ بالانتشار. فقد سأل <H.T.موري> (من جامعة كيس وسترن رزيرڤ) في الخريف الماضي، مستمعيه من الجمعية الأمريكية للوراثة البشرية عما إذا كانوا يعرفون مرضى طلبوا إجراء اختبار لصفة وراثية من دون ذكر الاسم أو باسم مستعار، فارتفعت الأيدي إيجابا في أرجاء القاعة كلها. وفي الكثير من الدراسات السريرية التي تُجرى حاليا يُحذَّر المرضى رسميا من أن نتائج اختباراتهم قد تسبب لهم مشكلات تأمينية إذا ما دخلت في سجلاتهم الطبية. ويحصل الباحثون أحيانا على وثائق قانونية خاصة تُعرف بشهادة السرية تمنع المحكمة من الاطلاع على البيانات التي جُمِعت للدراسة.
هل تحفظ السر؟
يتجنب بعض المرضى ببساطة إجراء الاختبارات الجينية، فيضيع بذلك عليهم أي فائدة طبية مرجوة منها. وكثيرا ما يجد المصابون بمرض ڤون هيپل ـ لينداو (von Hippel-Lindau (VHL ، وهذه حالة وراثية نادرة يمكن أن تسبب أوراما في الدماغ والكلية، صعوبة في الحصول على تأمين صحي بسبب التكلفة الباهظة للجراحة التي قد يحتاجون إليها. ومع أنه لا توجد معالجة واقية تمنع تشكل الأورام فبوسع مرضى VHL أن يطيلوا حياتهم إذا خضعوا دوريا لمسح تصويري بالرنين المغنطيسي متبوعا بالاستئصال الجراحي للورم. ووفقا لرئيس إدارة بحوث اتحاد العائلات <C.W.ديكسون> للمرضVHL فإن كثرة من الآباء ممن يحملون المتلازمة يتجنبون إخضاع أطفالهم لاختبار طفرات جين المرض VHLالمُكتَشف حديثا، خشية أن يحجب التشخيصُ الجيني عن أبنائهم التأمينَ الصحي.
وكما يقول <G.G.جيرمينو> (الباحث في كلية طب جامعة جونز هوپكينز) فإن الآباء المصابين بمرض تعدد الكُيَيْسات الكلوي، الذي قد يعد الأكثر شيوعا من حيث بساطة التوريث وفي تهديده للحياة، غالبا ما يقررون هم أيضا (لأسباب ترتبط بالتأمين) ألا يُخضعوا أطفالهم للاختبار. ويحمل هذا المرض نحو ستمئة ألف أمريكي منهم عدد كبير لا يعرف ذلك. ولقد تم في عام 1994 تعرف الجينPKD1 المسؤول عن حالات مرضية كثيرة باستعمال تقانات طُورت ضمن مشروع الجينوم. ويقول جيرمينو إن الاختبار الخاص بالجين PKD1 قد يحسن أحيانا المعالجة الطبية للطفل.
لقد دقَّت مثل هذه التقارير ناقوس الخطر لدى مسؤولي الصحة. (يعترف كولينز بأنه كان «انفعاليا» فيما يتعلق بالموضوع). وقد أوصى أخيرا فريق عمل يعالج المتضمنات الأخلاقية والقانونية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري بالاشتراك مع مشروع العمل على سرطان الثدي (وهو مبادرة رئاسية)، بأن يُحظر على شركات التأمين استعمال المعلومات الوراثية أو الطلب إلى الأفراد إجراء اختبارات معينة كأساس للحد من التأمين الصحي أو لرفضه.
ولا يعمد المؤمِّنون حاليا إلى طلب نتائج الاختبار الجيني على نحو مباشر. فالاستعلام عن صحة أو سبب وفاة أحد والدي الشخص يكفي لتعرف الكثيرين ممن هم مهددون بمخاطر كبيرة. لكن المؤمِّنين قد يهتمون بالبيانات الجينية في حالة عقود التأمين الفردية. وتقول<S.N. وكسلر> رئيسة مؤسسة الأمراض الوراثية: «إنهم لا يطلبون الآن اختبارات جينية، بيد أن هذا سيتغير،». وكسلر هذه تصل نسبة خطر إصابتها بمرض هنتنگتن إلى 50 في المئة.
ولأن المصابين بأمراض وراثية غالبا ما يمانعون في التعريف عن أنفسهم، فإن تحديد مدى التمييز يصير صعبا. لكن البيانات الجديدة تدعم التقارير النادرة السابقة التي تشير إلى انتشار هذه الظاهرة. ولقد وصفت <N.L.جيلر> (من كلية طب هارڤارد) وآخرون معها ـ في أول مسح شامل نشر في الشهر1/1996 في مجلة «الهندسة الوراثية والأخلاقيات العلمية Engineering and Scientific Ethics» ـ كيف أنهم أرسلوا استبيانات لأناس لا تبدو عليهم أي أعراض ولكنهم مهددون بخطر الإصابة بمرض ذي أصول وراثية، وأن 455 (من أصل 917 أجابوا عن الاستبيان) أكدوا بأنهم قاسوا من التمييز بعد أن كشفوا عن تشخيصهم الجيني.
«سنحارب أي مبيع لهذا الاختبار قبل التوصل إلى إجماع عن الطريقة التي سيستعمل بها.»
<J.M.كاهن>، عضوة الائتلاف الوطني لسرطان الثدي
|
وقد وفرت مقابلات المتابعة التي قام بها الباحثون تفاصيل عن مؤمِّنين (على الصحة وعلى الحياة) رفضوا طلبات تأمين أو قاموا بإلغائها، وعن وكالات للتبني طلبت إلى الراغبين بالتبني أن «يجروا» اختبارا جينيا (وقد أسيء تفسير النتائج في إحدى الحالات)، وعن أرباب عمل سَرَّحوا أو رفضوا تعيين موظفين لديهم يحتاجون إلى معالجة جينية أو حتى لاحتمال احتياجهم إلى ذلك. وقد أعلن <R.P.بيلينگز> من المركز الطبي لشؤون المتقاعدين في كاليفورنيا، وهو أحد المشاركين في الدراسة «بأن الجمهور سيرفض الاختبارات الجينية خوفا من التمييز.» وفي دراسة أخرى وَجَدت <V.E.لافام> (من جامعة جورج تاون) ومعها آخرون، أن 22 في المئة من 332 شخصا لدى عائلاتهم اعتلالات وراثية، صرحوا بأن التأمين الصحي قد حُجب عنهم.
وقد قامت عدة دول أوروبية باتخاذ إجراءات للحيلولة دون سوء استعمال البيانات الجينية. إن إشكالات التأمين الطبي الأساسي غير موجودة في أوروبا لأن الحكومات تضمن ذلك. ومع هذا، فقد وضعت فرنسا وبلجيكا والنرويج قوانين تمنع استعمال المعلومات الجينية من قبل شركات التأمين على الحياة أو التأمين الطبي، وأيضا من قبل معظم أرباب العمل. وتضمن هولندا تأمينا أساسيا على الحياة، وهناك في ألمانيا بعض أنواع الحماية.
ووضعت ولايات عديدة في الولايات المتحدة تشريعات تحد من التمييز على أساس البيانات الجينية. ويحظر القانونُ الفيدرالي التمييزَ في التوظيف. ويُعرض حاليا على الكونگرس عدد من مشاريع القوانين تعوق على مستوى البلاد كلها التمييز في التأمين على أساس جيني أو حتى تحظره. لكن إمكانات التطبيق غير مؤكدة.
ويتزايد الاهتمام بالأذى النفسي الممكن الذي تتمخض عنه اختبارات الدنا. ولما كان للاختبار آثار محتملة على كل أفراد العائلة الخاضعة للاختبار وتفرعاتها، فإن الشعور القوي بالذنب وبالكآبة قد يقوض العلاقات الاجتماعية. وقد تُفسِّر الخشيةُ من تلك العواقب قلة الاستعمال غير المتوقع للاختبار الذي أتيح منذ عدة سنوات لتعرُّف حَمَلة مرض التليف الكيسي cystic fibrosis، من قبل أناس لا يقعون هم أنفسهم داخل حدود الخطر.
ويُجْمع المستشارون الوراثيون (وبسبب الأذى المحتمل) على ضرورة عدم إخضاع الأطفال لاختبار الطفرات التي تنبئ بأمراض لن تظهر أعراضها قبل سن البلوغ ما لم تكن هنالك علاجات طبية محتملة. ويحظر هذا المبدأ إخضاع الأطفال لاختبار داء هنتنگتن بسبب عدم توافر علاج واق ضد تطور الحركات الاهتزازية (الرقصية) والضعف العقلي اللذين يميزان الاعتلال. لكن الآباء يطلبون بالتأكيد إجراء الاختبار على أبنائهم، وقد كان السبب في إحدى الحالات هو تجنب دفع رسوم الدراسة الجامعية إذا ما كانت وفاة الصغير مرجحة.
وتعرف الشبكة الرئيسية لهذه المختبرات (المخابر) في الولايات المتحدة باسم هيلكس Helix (الحلزون). وطبقا لمسح أجرته <C.D. ورتز> و<R.Ph. رايلي> (من مركز شريڤر للتخلف العقلي في ماساتشوستس) فإن 23 في المئة من مختبرات الشبكة القادرة تقنيا على اختبار طفرة هنتنگتن، قد أجرت الاختبار على أطفال تقل أعمارهم عن 12 عاما. كما أن أكثر من 40 في المئة من مختبرات هيلكس أجرت اختبارات على المرضى مباشرة من دون تدخل الطبيب. وكما تقول ورتز فإن الجمهور يسيء بسهولة فهم التشخيص الجيني. وفضلا عن ذلك، فإن كثرة من الأطباء لا يعرفون ما يكفي لإبداء نصيحة وراثية.
أما إذا نظرنا إلى الجانب الإيجابي لهذه الاختبارات، فمن الواضح أن بعض المرضى في عائلات ابتليت بسرطان القولون الوراثي ـ وربما بسرطان الثدي أيضا ـ قد تبنّوا فعلا خيارا طبيا حكيما نتيجة الاكتشافات التي يسَّرها مشروع الجينوم. وبعضهم ممن لديه طفرة تؤهله للإصابة بسرطان القولون مثلا استأصل قولونه إثر ظهور الأعراض الخطرة، وربما كان هذا الإجراء هو ما أنقذ حياتهم. ومع ذلك، فإن المعالجات الجديدة التي يتوق إليها الناس لاتزال بعيدة المنال.
ويقول كولينز: «إنه بعد ست سنوات فقط من اكتشاف فريقه (في عام 1989) الجين المرتبط بالتليف الكيسي، طُورت عقاقير مضادة لتأثيرات الجين الطافر وتُختبر فعلا على المرضى. أما ما قد يستغرقه تطوير علاج حاسم فمازال في علم الغيب.»
أما المعالجة المتوقعة التي استثارت خيال الجمهور أكثر من غيرها فهي المعالجة بالجينات، ولعل أفضل وصف لها هو الاغتراس الجيني. لكن محاولات معالجة فرط الكولستروليمية العائلي hypercholestrolemia والتليف الكيسي وحثل دوشن العضلي Duchenne’s muscular dystrophy، قد فشلت جميعا في العام 1995. ولعل السبب يرجع إلى أن خلايا المرضى لم تستوعب من الجينات المُغْتَرَسَة ما يكفي. أما أولى المعالجات الخاصة بعوز دي أميناز الأدينوزين adenosinedeaminase، والتي كتب عنها في هذه المجلة <F.W.أندرسون> [انظر: I”Gene Therapy”, Scientific American, September 1995]، فقد أعطت في أفضل الحالات، أثرا متواضعا. واستنتجت مراجعة قامت بها معاهد الصحة الوطنية (NIH) في الشهر 1/1995، «بأنه لم يتم البرهان نهائيا حتى اليوم على الفاعلية السريرية لأي پروتوكول للعلاج بالجينات.»
الانسياق وراء المال
وعلى الرغم من هذه الإشكالات، فإن الثورة الجينية المتعاظمة تزلزل بالفعل عالم الأعمال. وقد رصدت الشركات الصيدلانية مئات ملايين الدولارات لبحوث قد تؤدي لاكتشاف جينات ذات صلة بالأمراض، لأن هذه الجينات قد تقود إلى تعرّف جزيئات ربما تكون أهدافا ملائمة لعقاقير أو لكواشف تشخيصية diagnosticreagents.
وتتمثل إحدى الاستراتيجيات المختصرة والمفضلة، والتي يعتبر<C.J. ڤنتر> (من معهد بحوث الجينوم في ميرلاند) رائدها الأول، في تحليل النتاجات الوسطية ـ أي أنواع الرنا RNA المرسال ـ التي تنشأ عندما تُنَشَّط الجينات في الخلية. وتنتج التقنية واسمات كيميائية تكشف بعض المعلومات الأساسية عن الجينات المرتبطة بها، بمجهود ضئيل نسبيا.
ولم يكن هناك انطباع قوي في البداية لدى بعض الباحثين بالنسبة لطريقة ڤنتر الخارجة عن التقنيات التقليدية، ذلك أن مقاربته لا توافر المعلومات الشاملة التي توافرها السَّلْسَلَة الكاملة. لكن التقنية أثبتت كفاءتها. وبادرت شركتان إلى هجمة مصغرة للعثور على جينات مربحة باستعمال استراتيجية ڤنتر، وهاتان الشركتان هما شركة علوم الجينوم البشري (الشركة الأم لمنظمة ڤنتر) وإنْسايْت للصيدلانيات في كاليفورنيا. والشركتان كلتاهما منهمكتان حاليا بتسجيل براءات تتابعات (تسلسلات) دناوية معينة.
ويقول<W.هيزلتاين> (رئيس شركة علوم الجينوم البشري) إن مؤسسته قد تعرّفت 90 في المئة من كامل الجينات البشرية. وأنها قد استعملت العشرات منها لتصنيع بروتينات ذات خصائص علاجية كامنة. كما أن شركة علوم الجينوم البشري قد كان لها «أثر فعال» ـ كما يقول هيزلتاين ـ على برنامج تطوير العقاقير لدى شريك أعمالها الرئيسي (سميث كلاين بيشام). أما الشركة إنسايت، فتزعم بأنها تعرّفت «معظم» الجينات البشرية وأنها عثرت على زبائن لقواعد المعلومات الخاصة بها.
إن الاستثمار التجاري المتوقع للجينوم يستثير احتجاجات هنا وهناك، وتتبلور معظم الاعتراضات السياسية في مبادرة تُعْرف بمشروع تنوع الجينوم البشري. ويهدف مشروع التنوع الذي لا يرتبط رسميا بمشروع الجينوم، إلى دراسة الاختلافات في التتابعات الوراثية بين الشعوب المختلفة من سكان العالم.
ويرى أنصار مشروع التنوع، الذي وضع تصوراته الأولى<L.L. كاڤالى- سفورزا> من جامعة ستانفورد، بأن التتابعات المنبثقة عن مشروع الجينوم الأصلي ستكون مشتقة أساسا من دنا أناس من أصل أوروبي أو أمريكي شمالي. ويقترح كاڤالي-سفورزا أن دراسة تباين الواحد في الألف بين الناس في أصقاع العالم قد توافر معلومات قيمة عن التلاؤم.
ويدرك <T.H.گريلي> أستاذ القانون في ستانفورد والمشارك في تنظيم مشروع التنوع، أن البيانات الخاصة بالتباين الجيني قد تشجع العرقيين على اختلاق أحكام اعتباطية تبرر التمييز العنصري. لكن گريلي يرى أن المشروع سيتقبل مسؤولياته في مواجهة مثل هذه الاستخدامات السيئة، كما أن البيانات المتاحة ستشير إلى تفاهة الفروق العرقية. فمعظم الواحد في الألف من الاختلافات في الإنسان توجد بين أفراد العرق الواحد لا بين الأعراق المختلفة.
ومع ذلك فإن المشروع مازال يواجه مقاومة سياسية. فالمؤسسة الدولية للتقدم الريفي (RAFI)، وهي منظمة صغيرة تُعنى بالأمور العامة ومركزها أوتاوا، تحشد القوى لمعارضة تسجيل براءات الاختراع على المادة الحية. وترى <J.كريستي> (العاملة بهذه المؤسسة) أن منظمتها تناهض مشروع التنوع لأنه سينتج خطوطا خلوية cell lines يمكن تسجيلها كبراءات اختراع من قبل شركات في البلدان الغنية تتصيد الجينات أينما كانت.
ويصر كريلي على أن بروتوكولات المشروع تستبعد احتمال استعمال العينات بغرض الربح من دون موافقة المعطي. وعلى الرغم من هذا التأكيد، فإن لجنة منبثقة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قد انتقدت عدم اتصال المخططين للمشروع بالسكان المحليين. وقد أدى جدل حول براءة حق الملكية لخط خلوي أخذ من رجل من غينيا الجديدة ومنحت لمعاهد الصحة الوطنية (NIH)، إلى زيادة الخشية من الاستغلال. وقد يفسر هذا القلق السبب في فشل مشروع تنوع الجينوم حتى الآن في استقطاب تمويل واسع النطاق.
أما النتائج التي سيتمخض عنها سباق تسجيل براءات الاكتشاف فهي أمر يكتنفه الغموض. ويرى كولينز بأن التسابق لتسجيل براءة اكتشاف لكل جين يُسَلْسَل «سيزعزع استقرار المشروع»، لأنه سيعرض التعاون بين الباحثين للخطر. كان الباحثون ـ تقليديا ـ أحرارا في إجراء بحوث لا تعوقها البراءات. وتقول<R.آيزنبرگ> (وهي خبيرة براءات الاكتشاف في جامعة ميتشيگان) إن تلك الحرية لم تعد أمرا مُسَلَّمًا به. وبتزايد عدد الباحثين ذوي الصلات التجارية، فإن نزعة تملُّك الجينوم ستقوى على نحو واضح.
وقبل أن تُسجل براءة اكتشاف جين ما، فإن على «المكتشف» أن يعرف شيئا عن وظيفة هذا الجين كي يحقق الشرط القانوني الخاص بالمنفعة. ولأن الصناعة تتحكم في معظم القدرات البحثية التي تؤدي إلى اكتشاف خصائص مفيدة، فإن المتاجرة تبدو عندئذ نتيجة حتمية للاستكشاف العلمي للجينوم مثلما هي الحال في الاستكشافات الأخرى. وعلى الرغم من أن مكتب تسجيل براءات الاكتشافات عقد أخيرا جلسات استماع لتفحص الاعتراضات التي أثارها موضوع تسجيل البراءات، فإن ما يدعو إليه بعض المنتقدين من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وحظر تسجيل تلك البراءات يبدو أمرا صعب التحقيق. ومادام لا توجد تشريعات تضبط طريقة تمويل الشركات لهذه البحوث، فإن الأفراد في البلدان الغنية سيفيدون من مرارة الجوع في البلدان الفقيرة.
أما كم سيحقق سائر العالم من مكاسب فسؤال جدير بالاهتمام. إن بعض العلاجات بالجينات التي يتم الآن تقويمها سيُصَمَّم لكل مريض على حدة. لكن <V .J. نيل> (وهو رائد في علم الوراثة البشرية بجامعة ميتشيگان) قد حذر أخيرا من أن «العلاجات الفردية ستكون تكاليفها باهظة جدا لدرجة تحول دون انتشارها». ويؤكد أن التداخلات المتواضعة كالغذاء المحسَّن والتمارين الرياضية قد تؤخر من الإصابة بالداء السكري لدى البالغين بكلفة تقل كثيرا عما يتطلبه الطب الوراثي. ويطالب نِيْل الوراثيين بأن يركزوا اهتمامهم ليس فقط على دنا البشر بل أيضا على البيئة المتردية التي يقطنها الكثير من الناس.
ومع ذلك، فسباق الجينات مستمر. وسيتم قطعا العثور على أدوية أفضل، وسيجني البعض ثروات طائلة، وقد يصاب البعض الآخر بالأذى. لكنه رهان آمن أن يشترك البشر جميعا في الدنا لكنهم لا يشتركون جميعا في منافعه. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن 12.2 مليون من أطفال العالم النامي ممن تقل أعمارهم عن خمس سنوات قد ماتوا في عام 1993. وتقول المنظمة لقد كان من الممكن تجنب أكثر من 95 في المئة من هذه الوفيات لو توافرت لهؤلاء الأطفال التغذية والرعاية الصحية (التي تمارس فعلا على نحو معياري في البلدان القادرة على تأمينها). وقد يبقى الدواء الجيني دائما حلما بعيد المنال بالنسبة لعدد كبير من تعساء العالم.
Scientific American, March 1996