معالجة الحركات الاضطرابية بوساطة الحواسيب الفائقة
معالجة الحركات الاضطرابية بوساطة الحواسيب الفائقة صارت الحواسيب حاليا قادرة بدرجة كافية على توضيح أمثلة بسيطة من هذه المسألة التقليدية العظيمة. وفي بعض الحالات ستسمح الحواسيب للمهندسين بالسيطرة على هذه الحركات. <P. موين > ـ <J. كِمْ>
جريان الموائع ظاهرة تطالعنا باستمرار، ومن دونها لا يمكن للحياة أن تستمر. فالدم يجري في شراييننا، والهواء (في التعبير الصحيح «المائع») يتدفق في رئاتنا. وتتحرك مَرْكباتنا في الغلاف الجوي للأرض أو عبر بحيراتها وبحارها بطاقة مستمدة من موائع أخرى أيضا كالوقود والمؤكسد اللذين يمتزجان في حجرات الاحتراق الخاصة بالمحركات. وفي الواقع، فإن العديد من القضايا المتعلقة بالبيئة أو الطاقة التي نواجهها اليوم يتعذر حلها من دون معرفة تفصيلية بميكانيك الموائع.
إن جميع جريانات الموائع التي يهتم بها العلماء والمهندسون عمليا هي جريانات اضطرابية turbulent flows؛ فالحركة الاضطرابية هي القاعدة، لا الاستثناء، في علم ديناميك (تحريك) الموائع. وعلى سبيل المثال، يُخوّل الإدراك الراسخ للحركة الاضطرابية المهندسين خفض السحب (الجر) الدينامي الهوائيaerodynamic drag المطبّق على سيّارة أو طائرة نقل تجارية، أو زيادة قدرة مقاتلةٍ نفاثة على المناورة، أو تحسين كفاءة محرّك ما. كما أن فهم الحركة الاضطرابية ضروري أيضا لإدراك جريان الدم في القلب، ولا سيما في البُطيْن الأيسر حيث تكون الحركة سريعة بشكل مميز.
لكن ما هي الحركة الاضطرابية بالضبط؟ قد توضح بعض الأمثلة التي نصادفها يوميا المقصود. افتح صنبور الماء قليلا فإن المياه ستتدفق من الفتحة رقراقة شفافة. يعرف هذا الجريان بالجريان الصفحي (الطبقي) laminar. وإذا زدت من فتحة الصنبور قليلا سيصبح الجريان أكثر تلويا وتموجا ـ أي بعبارة أخرى مضطربا. ويمكن ملاحظة الظاهرة نفسها في الدخان المتصاعد من سيجارة تحترق في هواء ساكن. فالجريان فوق السيجارة مباشرة صَفحي، وإلى الأعلى من ذلك قليلا يصبح الجريان متموجا ومنتشرا.
يتكون الاضطراب من دوّامات: مجموعة مناطق من مائع ما، متعرجة وفي غالبها دوَّامية، تتحرك عشوائيا بالقرب من الاتجاه العام للحركة وحوله. ومن الناحية التقنية تنشأ حالة الشواشية chaotic للمائع عندما تزيد سرعة المائع على عتبة محددة، أما دون تلك السرعة فإن قوى اللزوجة تخمد السلوك الشواشي.
غير أن الاضطراب ليس ببساطة ظاهرةً غير مستحبة يجب التخلص منها عند كل فرصة. بل على العكس؛ فالكثير من المهندسين يعملون بجد لزيادتها. فالاضطراب في أسطوانات محرك الاحتراق الداخلي، على سبيل المثال، يعمل على تعزيز مزج الوقود والمؤكسد مولدا احتراقا أنظف وأكثر كفاءة. كما أن الحركة الاضطرابية فقط هي القادرة على تعليل كيف تمكّن النقرات الموجودة على كرة الگولف اللاعب الماهر من إرسالها مسافة 250 مترا بدلا من مئة متر على الأكثر.
ولربما حصل الاضطراب على سمعته السيئة لكون التعامل معه رياضياتيا هو من أكثر المسائل الشائكة في الفيزياء التقليدية (الكلاسيكية). ولا يعرف عن ظاهرة كهذه، موجودة عمليا في كل مكان، إلا القليل جدا. فقد اعتبر <R. فاينمان>، الفيزيائي المرموق الفائز بجائزة نوبل، الاضطراب «أهم مسألة غير محلولة في الفيزياء التقليدية». وفي عام 1932 عبَّر الفيزيائي البريطاني <H . لامب> بحذق عن صعوبة المسألة، حين أفاد في خطاب أمام الجمعية البريطانية لتقدم العلوم قائلا «إنني حاليا رجل مسن، وعندما أموت وأذهب إلى الجنة هنالك مسألتان آمل أن يأتيني الإلهام فيهما، إحداهما الكهردينامية الكموميةquantum electrodynamics، والأخرى الحركة الاضطرابية للموائع. وبخصوص المسألة الأولى فأنا متفائل إلى حد ما.»
وبالطبع، لم يكن لامب ليتنبأ بتطوّر الحاسوب الفائق supercomputer الحديث. فقد مكّنت هذه البدائع التقانية المهندسين والعلماء أخيرا من اكتساب تبصُّرات مبسطة ولكنها قيِّمة بخصوص الحركة الاضطرابية. وقد قاد هذا العمل بالفعل إلى تقانة هي الآن قيد التطوير الذي يمكن أن يطبق في المستقبل على أجنحة الطائرات لخفض السحب بضعة أجزاء مئوية، وهذه كافية لتوفير بلايين الدولارات من تكاليف الوقود. وفي الوقت نفسه، ترشد هذه التبصرات إلى تصميم محركات نفاثة ذات كفاءة (مردود) وأداء محسّنين.
وعلى الرغم من أن الحركة الاضطرابية مسألة عويصة بما يكفي في وضعها الحالي، فإن دراستها جزء رئيسي من ميدان أوسع في علم ديناميك الموائع، ذلك العلم الذي يعالج حركة جميع السوائل والغازات. وكذلك، فإن تطبيق الحواسيب الجبارة لمحاكاة أشكال جريان الموائع ذات الصبغة الاضطرابية ودراستها يشكل جزءا ضخما من ميدان مزدهر لعلم ديناميك الموائع الحاسوبي computationalfluid dynamics CFD. ففي السنوات الأخيرة، استخدم علماء ديناميك الموائع الحواسيب الفائقة لمحاكاة جريانات في حالات متنوعة كمسابقة كأس أمريكا لليخوت وحركة الدم في قلب صُنعي.
مسيرة علم ديناميك الموائع الحاسوبي ماذا نعني بقولنا محاكاة جريان مائع ما بالحاسوب؟ بمفردات بسيطة: يقوم الحاسوب بحل سلسلة من المعادلات المعروفة جيدا، المستخدمة لحساب سرعة المائع وضغطه عند أي نقطة من نقاط الفضاء القريبة من جسم ما يجري المائع حوله. ولقد اكتُشفت هذه المعادلات منذ أكثر من قرن ونصف بصورة مستقلة من قبل المهندس الفرنسي < C. ناڤير> والرياضياتي الإيرلندي <G. ستوكس>. وتعرف هذه المعادلات المستنتجة مباشرة من قوانين نيوتن في الحركة باسم معادلات ناڤيرـ ستوكس. وكان استعمال الحواسيب الفائقة لحل هذه المعادلات هو الذي أدى إلى ظهور ميدان علم ديناميك الموائع الحاسوبي. وهذا التزاوج هو أحد المنجزات العظيمة في علم ديناميك الموائع منذ أن تمت صياغة المعادلات نفسها.
مَعْلمٌ في المحاكاة
وعلى الرّغم من نجاح ذلك الاقتران فإن أمر تحقيقه كان طويلا إلى حد ما. فالحواسيب الفائقة لم تبدأ إلا في أواخر الستينات بإنجاز معدلات معالجة سريعة بدرجة تكفي لحل معادلات ناکير ـ ستوكس في حالات مباشرة وبسيطة نسبيا كالجريانات الثنائية البعد المتحركة ببطء حول عائق ما. وقبل ذلك، كانت الأنفاق الهوائية عمليا هي الطريقة الوحيدة لاختبار تصاميم الطائرات الجديدة من الناحية الدينامية الهوائية. وحتى يومنا هذا لايزال قصور أفضل الحواسيب الفائقة يجعل من الضروري اللجوء إلى الأنفاق الهوائية بُغْية التحقق من تصميم طائرة جديدة.
ومع أن علم ديناميك الموائع الحاسوبي والأنفاق الهوائية يُستخدمان حاليا في تطوير صناعة الطائرات، إلا أن الإنجازات المستمرة في تقانة الحاسوب والخوارزميات تعطي علم ديناميك الموائع الحاسوبي إسهاما أكبر في هذه العملية. وهذا صحيح في المراحل الأولى من التصميم عندما يُزمع المهندسون وضع أبعاد بيِّنة (مفتاحية) ومعاملات (وسطاء) أساسية أخرى للصناعة الجوية. وتهيمن المحاولة والخطأ على هذه العملية، وبالتالي فإن عملية اختبار النفق الهوائي مكلفة جدا، لأنها تتطلب من المصممين بناء كل نموذج تال واختباره. وبسبب ازدياد أهمية الدور الذي يؤديه علم ديناميك الموائع الحاسوبي فإن دورة التصميم النموذجية في الأنفاق الهوائية تتضمن حاليا ما بين اختبارين وأربعة اختبارات لنماذج أجنحة، في حين كان الطبيعي سابقا أن نحتاج إلى ما بين 10 و15 اختبارا.
ومما يدعو للغرابة أن من الميزات الأخرى للمحاكاة بوساطة الحواسيب الفائقة قدرتها على محاكاة شروط طيران أكثر واقعية. فاختبارات النفق الهوائي يمكن أن يشوبها الخلل بفعل تأثير جدران النفق والهيكل الذي يثبِّت النموذج في مكانه. في حين أن بعض مركبات طيران المستقبل تطير بسرعة تبلغ أضعاف سرعة الصوت وتحت شروط قاسية جدا على اختبارات النفق الهوائي. وفي حالة الطائرات فرط الصوتية hypersonic (تلك التي تطير بسرعة تعادل 200 ضعفا من سرعة الصوت) والمركبات الفضائية التي تطير عبر الجو وخارجه، سيكون علم ديناميك الموائع الحاسوبي أداة التصميم الوحيدة القابلة للتطبيق. إذ ستعبر هذه المركبات الطبقات الرقيقة العالية جدا من الجو، والتي يجب أن يؤخذ في الحسبان عندها الكيمياء اللاتوازنية للهواء والفيزياء الجزيئية.
ويعتمد مصممو المحركات أيضا بشكل مكثف على التقنيات الحاسوبية، وبخاصة في تطوير المحركات النفاثة. وثمة برنامج يدعى تقانة المحرك التوربيني ذي الأداء العالي المتكامل Integrated High Performance Turbine EngineTechnology IHPTET ينشد الوصول إلى تحسين قدره 100 في المئة في نسبة الدّفع إلى الوزن للمحركات النفاثة، وتحسين قدره 40 في المئة في كفاءة الوقود، وذلك بحلول عام 2003. وتدعم هذا المشروع وزارة الدفاع الأمريكية. وإدارة علم الطيران والفضاء القومية (NASA) وعدد من هيئات تصنيع المحركات النفاثة.
إن جريان الهواء والوقود عبر أجزاء المحرك النفاث ووصلاته معقد جدا. فثمة مروحة تدفع الهواء إلى حجرة داخلية تدعى الضاغط. وهناك تعمل مراحل عديدة تدويرية موضعية على زيادة الضغط 20 مرة. وهذا الهواء ذو الضغط العالي يُدفع إلى حجرة الاحتراق حيث يمتزج بالوقود ويشتعل. وأخيرا، تُدير النواتج الساخنة المتمددة بشدة إحدى العنفات. وتزود هذه العنفة المروحة والضاغط بالطاقة؛ والأهم من ذلك، هو أن العنفة تولد دفعا نتيجة توجيه النواتج إلى الخارج عبر مخرج طارد الغازات في المحرك بسرعة عالية جدا. وحاليا يستعين المهندسون بعلم ديناميك الموائع الحاسوبي في تصميم شفرات العنفة وقنوات المدخل والأشكال الهندسية لحجرات الاحتراق. وتساعد المحاكاة المهندسين أيضا على تشكيل أدوات المزج القابعة وراء حجرة الاحتراق، التي تزود الطائرات الحربية بدفع إضافي من أجل المناورة. كما تؤدي المحاكاة دورا في تصميم قمرات آلة الطائرة nacelles والأنف البصلي bulbous لها وأغطية المحرك الأسطوانية، التي تتدلى نمطيا أسفل الأجنحة.
تطبيق المعادلات من أجل فهم عمل معادلات ناڤيرـ ستوكس فكر في جريان الهواء فوق طائرة ما أثناء الطيران. وفي الواقع ربما تنقضي عقود كثيرة قبل أن تصبح الحواسيب ذات قدرة كافية على محاكاة جريان المائع حول طائرة ما بِكُليّتها بالتفصيل الدقيق. غير أنه من الناحية النظرية، يمكن لمعادلات ناکير ـ ستوكس أن تُبيّن سرعة الهواء المندفع وضغطه في جوار أي نقطة قريبة من سطح الطائرة. ويستطيع المهندسون بعد ذلك استخدام هذه البيانات لحساب جميع المعاملات الدينامية الهوائية التي تهمنا من أجل شروط طيران مختلفة، وهي بشكل رئيسي الرفع والسحب والعزوم (قوى الليّ (الفتل) twisting forces المؤثرة في الطائرة.
إن للسحب (الجر) أهمية خاصة لكونه يحدد كفاءة وقود الطائرة. فالوقود هو أحد أكبر نفقات تشغيل معظم الخطوط الجوية. وليس من المستغرب أن تنفق شركات الصناعات الجوية مبالغ ضخمة لخفض السحب ولو بمقادير صغيرة جدا. وعلى الرغم من سهولة حساب قوة الرفع نسبيا، فإن حساب العزوم أصعب، والأصعب منهما هو حساب قوة السحب.
ويصعب حساب السحب لأنه المعامل الأكثر اعتمادا على الاضطراب. وبالطبع نحن لا نشير في هذا الصدد إلى المطبات الهوائية التي تدعو قائد الطائرة إلى تذكير الركاب بضرورة ربط أحزمة مقاعدهم. وحتى عندما تطير الطائرة طيرانا سلسا فإن جريان الهواء ضمن عدة سنتيمترات من سطحها، في حيز يدعى الطبقة الحَدّية boundary layer، هو جريان مضطرب. وبسبب الاضطراب يندفع الهواء ذو السرعة العالية الموجود على بعد بضعة مليمترات من سطح الأجنحة مقتربا اقترابا شديدا نحو السطح معانيا تباطؤا مباغتا يعمل على تدني الزخم، وينجم عن رد الفعل المساوي والمعاكس لهذا الجريان المتباطئ سَحْبٌ مؤثر في الطائرة. وتنصب معظم جهود علماء ديناميك الهواء على فهم آلية (ميكانيكية)mechanics توليد وتدمير الحركة الاضطرابية بصورة حسنة تمكنهم من التحكم فيها.
ولحل معادلات ناڤير ـ ستوكس يبدأ المهندسون بإدخال متغيرات معينة في هذه المعادلات تعرف بالشروط الابتدائية والحديّة. وفي حالة طائرة ما أثناء طيرانها تتضمن الشروطُ الابتدائية سرعة الريح والتغيرات الجوية مثل التيارات الهوائية. وتتضمن الشروط الحدية الشكلَ الدقيق للطائرة مصاغا بمعادلات رياضياتية.
وقبل تطبيق المعادلات على طائرة ما ينبغي على المتخصصين بالحواسيب تمثيل سطح الطائرة والفضاء المحيط بها على هيئة قابلة للتطبيق حاسوبيا. لذا فإنهم يمثّلون الطائرة والوسط المحيط بها باعتبارهما سلسلة من نقاط منتظمة في تباعدها تعرف بالشبكة الحاسوبية. ومن ثم يعمل المختصون على تزويد الإحداثيات والمعاملات ذات العلاقة بالشبكة للبرامجيات التي تُطبِّق معادلات ناڤير ـ ستوكس على تلك البيانات. ويحسب الحاسوب قيم المعاملات المعينة ـ سرعة الهواء وضغطه ـ لكل نقطة من نقاط الشبكة.
وفي الواقع، تُفكّك الشبكة الحاسوبية (المعنى الفني هو «تقطيع» discretizes) المسألة الحاسوبية في الفضاء (المكان)؛ وتجري العمليات الحاسوبية في فترات زمنية منتظمة محاكية بذلك عملية مرور الزمن، وبالتالي فإن عملية المحاكاة مجزأة زمنيا أيضا. وكلما كانت النقاط في الشبكة الحاسوبية أكثر تراصا ـ وبالتالي أكثر عددا ـ وكلما كانت عمليات حسابها أكثر تكرارا (أي كلما قصر الفاصل الزمني) كانت المحاكاة أكثر دقة وأقرب للحقيقة. وفي الواقع، إن مجرد تعريف السطح وتوليد شبكة حاسوبية لأجسام ذات أشكال معقدة يمكن أن يكون تحديا.
ولسوء الحظ، فإن إدخال الشروط الابتدائية والحدية لا يضمن حلا ما، وذلك على الأقل ليس في الحواسيب المتوافرة حاليا أو حتى في المستقبل المنظور. وتنشأ الصعوبة عن حقيقة كون معادلات ناڤير ـ ستوكس لاخطية؛ وبكلمات أخرى، فإن المتغيرات العديدة في المعادلات تتغير بالنسبة إلى بعضها بعضا وفق قوى من الدرجة الثانية أو أعلى. وتولد تفاعلات هذه المتغيرات اللاخطية مدى عريضا من المقاييس التي يمكن أن تجعل حل المعادلات صعبا جدا. وفي الحركة الاضطرابية، على وجه التحديد، يمكن أن يتغير مدى حجم الدورات الملتفة 1000 ضعف أو حتى أكثر من ذلك. وثمة عوامل معقِّدة أخرى، مثل الاعتماد الشامل، ذلك أن طبيعة المعادلات تجعل ضغط المائع عند نقطة معينة يعتمد على الجريان عند نقاط عديدة أخرى. وبسبب تداخل الأجزاء المختلفة من المسألة تداخلا كبيرا لا بد من الحصول على حلول عند نقاط كثيرة في آن واحد.
بُعْبع الحسابات وعلى الرغم من أن الشرح السابق يُبسِّط الأساسيات لمحاكاة ديناميك الموائع، فإنه يستبعد الحركة الاضطرابية، التي من دونها تصبح مناقشةُ الإمكانات الحقيقية لديناميك الموائع الحاسوبي ومحدداته أمرا لا فائدة منه. ومن جهة ثانية، فإن التعقيدات الناشئة عن الاضطراب تحد بشدة من مقدرتنا على محاكاة جريان الموائع محاكاة حقيقية.
وربما كانت أبسط طريقة لتعريف الحركة الاضطرابية هي الرجوع إلى عدد رينولدز Reynolds number، وهو معامل (وسيط) يميز الجريان بدقة. وهذا العدد المسمى باسم المهندس البريطاني <O. رينولدز> يشير إلى نسبة قوى عطالة (قصور) الجريان، أو أهميتها، منسوبة إلى قوى لزوجته. (تحسب قوة عطالة الجريان بضرب كثافة المائع ومربع سرعته معا، ثم قسمة حاصل الضرب هذا على طولٍ مميزٍ للجريان، كعرض السطح الانسيابي، وذلك إذا كان الجريان فوق جناح ما).
وتميل قوى العطالة الكبيرة، مقارنة بقوى اللزوجة، إلى تعزيز الحركة الاضطرابية، في حين تدرأ اللزوجة العالية حدوثها. وبتعبير آخر، تحدث الحركة الاضطرابية عندما يتجاوز عدد رينولدز قيمة معينة. ويتناسب هذا العدد مع حجم الجسم وسرعة الجريان معا. وعلى سبيل المثال، يقارب عدد رينولدز لهواء يجري (يتدفق) فوق جسم طائرة تجارية تطوافية 100 مليون، وقيمته لهواء يجري بالقرب من كرة سريعة تبلغ نحو000 200 ، في حين تبلغ قيمته للدم الذي يجري في شريان متوسط الحجم نحو 1000.
فكما رأينا، إنّ ثمة خاصية مميزة لجريان اضطرابي ما تتمثل في أنه يتكون من دوامات، تُعرف أيضا بدوّامات لولبية، تكون على نطاق كبير من الحجوم. وهذه الدوّامات تتشكل وتتفكك باستمرار. وتتفكك الدوامات الكبيرة إلى دوّامات أصغر، تتفكك بدورها إلى دوّامات أصغر من سابقاتها، وهكذا. وعندما تصبح الدوّامات صغيرة بما يكفي تتبدد تبددا لزجا إلى حرارة. وقد وصف عالم الطقس البريطاني <F .L. ريتشاردسون> هذه العملية شعرا: تحوي الفلكات (اللفات) الكبيرة فلكات صغيرة، تتغذى بسرعاتها، وتحوي الفلكات الصغيرة فلكات أصغر، وهكذا حتى اللزوجة.
إن حل معادلات ناڤير ـ ستوكس للجريان فوق طائرة ما، مثلا، يتطلب شبكة حاسوبية ذات فواصل دقيقة، وذلك كي نميز أصغر الدوامات. ومن ناحية أخرى، يجب أن تكون الشبكة كبيرة بما يكفي لمسح الطائرة بأكملها، إضافة إلى جزء من الفضاء القريب من حولها. ويمكن حساب التفاوت في مقاييس الطول لجريان اضطرابي ما ـ نسبة حجم أكبر الدوامات إلى أصغرها ـ برفع عدد رينولدز للجريان إلى القوة4/3. ويمكن أن تستخدم هذه النسبة لتقدير عدد النقاط اللازمة في الشبكة للحصول على محاكاة دقيقة بدرجة كافية. وبسبب وجود ثلاثة أبعاد فإن العدد يتناسب مع مكعب هذه النسبة لمقاييس الطول. ولهذا، فإن عدد نقاط الشبكة المطلوب في حالة محاكاة عددية ما يتناسب مع عدد رينولدز مرفوعا للقوة 4/9. وبكلمات أخرى، ينجم عن مضاعفة عدد رينولدز زيادة في عدد نقاط الشبكة اللازمة لمحاكاة الجريان تقارب خمس مرات.
لننظر إلى طائرة نقل طول جسمها 50 مترا، وذات جناحين يبلغ طولهما الوتري (المسافة بين الحافة الأمامية والحافة الخلفية) نحو خمسة أمتار. فإذا كانت الطائرة تتحرك بسرعة 250 مترا في الثانية على ارتفاع000 10 متر، فإننا سنحتاج إلى نحو 10 كوادريليون (106) نقطة شبكية، لمحاكاة الاضطراب قرب السطح بتفاصيل معقولة.
ما نوع المتطلبات الحاسوبية التي يفرضها هذا العدد من النقاط؟ إن تقديرا أوليا اعتمد على الخوارزميات والبرامجيات الحالية يشير إلى أنه حتى بحاسوب فائق قادر على إنجاز ترليون (1012) عملية نقطة عائمة في الثانية سنحتاج إلى بضعة آلاف من السنين لحساب الجريان لمدة ثانية واحدة من زمن التحليق! ومثل هذا الحاسوب غير متوافر حاليا، ويسعى الباحثون في مختبرات سانديا القومية إلى بناء حاسوب سيكون أسرع بنحو عشر مرّات من أكثر الحواسيب المتوافرة.
اختصارات في المحاكاة لحسن الحظ، لا يحتاج الباحثون إلى محاكاة الجريان على طائرة بأكملها للحصول على معلومات مفيدة. وفي الحقيقة، إن القيام بذلك قد يزودنا بمعلومات أغزر بكثير مما نستطيع تناوله واستيعابه. ويهتم علماء ديناميك الموائع نموذجيا فقط بتأثيرات الاضطراب في كميات مهمة من الناحية الهندسية، مثل متوسط الجريان لمائع ما، أو السحب والرفع وانتقال الحرارة في حالة الطائرة. أما في حالة المحرك، فقد يهتم المصممون بآثار الاضطراب في المعدلات التي يمتزج بها الوقود والمؤكسد.
لذا فإنه غالبا ما يؤخذ وسطي معادلات ناکير ـ ستوكس على مدى التأرجحات الاضطرابية. وما يعنيه هذا هو أن الباحثين، من الناحية العملية، نادرا ما يحسبون حركة كل دوامة صغيرة بعينها، بل يحسبون بدلا من ذلك الدوامات الضخمة، ثم يجرون تطبيقات نمذجة ملازمة لتقدير آثار الدوامات الصغيرة في الدوامات الأكبر. ويؤدي هذا النهج إلى توليد جريان محاكي متوسط أنعم من الجريان الحقيقي، وسيعمل ذلك بالتالي على خفض عدد نقاط الشبكة اللازمة لمحاكاة حقل الجريان بشكل كبير.
ويتراوح التعقيد في النماذج الخاصة التي تتطلبها عملية إجراء المتوسط هذه ما بين معاملات لزوجة بسيطة جدا ومنظومات إضافية كاملة من المعادلات. وتتطلب جميع هذه النماذج عددا من الافتراضات، كما تحوي معاملات قابلة للمواءمة مستخلصة من التجارب. لذا، فإن جودة محاكاة الجريانات الاضطرابية الموسَّطة، في الوقت الحاضر، هي فقط بجودة النماذج التي تحويها.
غير أنه مع ازدياد مقدرة الحواسيب يجد علماء ديناميك الموائع أن بإمكانهم محاكاة نسبة أكبر من دوامات الاضطراب مباشرة، مما يمكنهم من خفض مدى المقاسات التي تتم نمذجتها. وهذه الطرق هي حل وسط بين المحاكاة العددية المباشرة للاضطراب التي تحلل بها جميع مقاسات الحركة، وحسابات القيم المتوسطة للاضطراب.
وبغية التنبؤ بالطقس، استخدم علماء الأرصاد الجوية لسنوات عديدة، هذه الاستراتيجية المسماة محاكاة الدوامات الكبيرة large-eddy simulation. إن للحركات الاضطرابية ذات النطاق الكبير أهمية خاصة في علم الأرصاد الجوية؛ لذا فإنه في التطبيقات الرصدية، بشكل عام، تُحاكى الدوامات الكبيرة نسبيا بكليتها. أما الدوامات الصغيرة النطاق فمُهمّة فقط بقدر ما قد تؤثر في الاضطراب ذي النطاق الكبير، لذا فهي تنمذج فحسب. وقد بدأ المهندسون حديثا باستخدام هذه الطرائق لمحاكاة جريان الموائع المعقدة، مثل حركة الغازات داخل أسطوانة محرك احتراق داخلي.
وأحد التوجهات الحديثة الأخرى في علم ديناميك الموائع الحاسوبي التي أمكن استخدامها بسبب الزيادة في السرعة الحاسوبية، هو المحاكاة المباشرة الكاملة للجريانات البسيطة نسبيا مثل الجريان في أنبوب ما. وعلى الرغم من بساطتها فإن محاكاة بعض هذه الجريانات التي تكون أعداد رينولدز فيها ذات قيمة متدنية تُزودنا بتبصرات قَيّمة عن طبيعة الحركة الاضطرابية. وقد كشفت تلك المحاكاة النقاب عن التركيب الأساسي للدوامات الاضطرابية قرب جدار ما، وتأثيراتها المتفردة في السَّحْب؛ كما قدّمت أيضا بيانات مفيدة خوّلت المهندسين إصلاح أو توليف النماذج النوعية الملازمة التي يستخدمونها في أنماط المحاكاة العملية للجريانات المعقدة توليفا دقيقا.
وقد ازداد مؤخرا عدد المهندسين والعلماء الراغبين في الاطلاع على هذه المعلومات ازديادا كبيرا لدرجة دعت مركز أبحاث إيمز التابع للإدارة (ناسا) إلى أرشفة معلومات هائلة ووضعها تحت الطلب. وعلى الرغم من أن معظم الباحثين لا يملكون إمكانات حاسوبية لإجراء أنماط محاكاة مباشرة للاضطراب، فإن لديهم إمكانات كافية، مثل محطات عمل حاسوبية قديرة لسبر غور المعلومات المفهرسة.
من التنبؤ إلى التحكّم وكلما صارت الحواسيب الفائقة أكثر سرعة صار بوسع علماء ديناميك الموائع قطع شوط يفوق التنبؤ بآثار الحركة الاضطرابية إلى التحكّم الفعلي فيها. ويمكن لهذا التحكم أن يُفضي إلى فوائد مالية ضخمة. فعلى سبيل المثال، يمكن لخفض قدره 10% في قوة السحب لطائرة مدنية أن يوفر زيادة قدرها 40% في هامش الربح لشركة طيران ما. وقد برهن مشروع حديث في مركز أبحاث لانگلي التابع للإدارة ناسا أن وضع أثلام طوليّة على شكل الحرف V، تدعى ضليعاتriblets، على سطح جناح الطائرة أو جسمها يؤدي إلى خفض يتراوح ما بين 5 و 6 في المئة في قوى السحب الخاصة باللزوجة. وتنخفض قوى السحب على الرغم من ازدياد مساحة السطح المعرّض للجريان. ومن أجل سُرعات نقل نموذجية للطائرة يجب أن تفصل بين الضليعات مسافات صغيرة جدا بحدود 40 ميكرونا، وذلك مثل أثلام أسطوانة الحاكي؛ لأن الضليعات الأكبر ستؤدي إلى زيادة قوة السحب.
وقد صادف الباحثون أثناء هذا العمل دراسة سوڤييتية تتناول تركيبات على جلد سمك القرش تشبه الأسنان تدعى النتوءات. وكانت هذه النتوءات تشبه الضليعات إلى حد كبير، وهذه الحقيقة فُسِّرت بأنها مصادقة الطبيعة على فكرة الضليعات. غير أنه في النهاية كانت المحاكاة العددية المباشرة للجريان الاضطرابي بمحاذاة الضّليعات هي التي أظهرت آلية عملها. إذ يبدو أن الضليعات تمنع حركة الدوامات عن طريق حظرها من الاقتراب من السطح (بحدود 50 ميكرونا). وبالحفاظ على هذه المسافة الرّهيفة للدوامات بعيدا عن السطح تعمل الضليعات على منع الدوامات من نقل المائع العالي السرعة قريبا من السطح لأنه يتباطأ ويستنزف زخم (اندفاع) الطائرة.
وثمة تطبيق حديث مثير للمحاكاة العددية المباشرة، يتجلى في تطوير استراتيجيات مباشرة للتحكم في الاضطراب (خلافا لاستراتيجيات غير مباشرة كالضليعات). ففي مثل هذه التقنيات يتحرك سطح ما، سطح الجناح مثلا، حركة طفيفة استجابة للتغيرات في اضطراب المائع الجاري فوقه. فسطح الجناح يبنى بمكوّنات فيها ملايين المحسات والمفعِّلات التي تستجيب للتغيرات في ضغط المائع وسرعته بطريقة يمكن معها التحكم في الدوامات الصغيرة المسببة للسحب بفعل الاضطراب.
وحتى ثلاث سنوات مضت، كانت هذه التقانة تبدو بعيدة الاحتمال. إلا أن اختراع منظومات كهرميكانيكية دقيقة microelectromechanical systems MEMS بقيادة سلاح الطيران الأمريكي مكَّن من الوصول بمخطط كهذا إلى حافة الإنجاز. فتقانة المنظومات (MEMS) تستطيع تصنيع دارات متكاملة بما فيها من محسات دقيقة ودارات تحكم منطقية ومفعّلات. إن للتحكم الفعلي في الاضطراب قرب سطح الجناح نظيرا مشجعا أيضا في المخلوقات البحرية؛ فالدلفينات تكتسب أداء دفعيا متميزا عند سباحتها، ومنذ عهد بعيد خمّن علماء ديناميك الموائع بأن هذه المخلوقات تقوم بذلك بتحريك جلودها. ويبدو أن جلود الطائرات الذّكية أيضا تستحوذ على مباركة الطبيعة.
إن كرات الگولف التي ذكرناها سابقا تقدم مثالا مثيرا عن كيفية تأثير بنية السطح في التحكم في جريان الهواء [انظر الشكل في الصفحة 34]. فأهم سحب مؤثر في كرة الگولف يأتي من قوى ضغط الهواء. وتنشأ هذه الظاهرة عندما يكون ضغط الهواء أمام الكرة أعلى بكثير من الضغط خلفها. وبسبب الاضطرابات المتولّدة بالنقرات، يمكن للكرة أن تحلِّق نحو مرتين ونصف أبعد مما تطيره كرة مماثلة تماما ولكن من دون نقرات.
ويشير الإقبال المتنامي على استخدام علم ديناميك الموائع الحاسوبي لدراسة الاضطراب إلى عهد مبشر بدأ يتحقق مؤخرا، وإلى زيادة مطردة سريعة في القدرة الحاسوبية. وباقتراب معدلات المعالجة في الحواسيب الفائقة من ترليون عملية من عمليات النقطة العائمة في الثانية وتجاوزها خلال السنوات القليلة القادمة، سيبدأ علماء ديناميك الموائع معالجة تدفقات أكثر تعقيدا وبأعداد رينولدز ذات قيم أعلى. وربما يتمكن الباحثون خلال العقد القادم من محاكاة تدفق الهواء عبر ممرات رئيسية في محرك نفاث، ويحصلون على محاكاة واقعية لمنظومة الأسطوانة ـ المكبس العاملة في محرك احتراق داخلي، بما في ذلك مقدار الوقود المزود للمحرك والوقود المحترق وخروج الغازات عبر الصمامات. ومن خلال محاكاة كهذه سيبدأ الباحثون أخيرا بتعرّف بعض الأسرار العميقة المتضمنة في المعادلات التي اكتشفها ناڤير وستوكس منذ قرن ونصف.
المؤلفان Parviz Moin – John Kim عملا معا في بداية الثمانينات بمركز أبحاث إيمز القومي لعلوم الطيران وإدارة الفضاء. يشغل موين حاليا منصب أستاذ كرسي فرانكلن وكارولين جونسون في الهندسة بجامعة ستانفورد، ومدير مركز أبحاث الحركة الاضطرابية فيها. وقد انصبّ عمله على التحكم في الاضطراب وعلى تفاعل الاضطراب مع الموجات الصدمية وعلى الضجيج الذي تولده الجريانات الاضطرابية. أما كِمْ فهو أستاذ كرسي روكويل إنترناشيونال في الهندسة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وانصبت معظم أعماله الحديثة على تطبيق الشبكات العصبية في ميدان التحكم في الحركة الاضطرابية.
مراجع للاستزادة PHYSICAL FLUID DYNAMICS. D. J. Tritton. Oxford Science Publications, 1988. TURBULENT TIMES FOR FLUIDS. Tom Mullin in Exploring Chaos: A Guide to the New Science of Disorder. Edited by Nina Hall. W. W. Norton, 1993. FEEDBACK CONTROL OF TURBULENCE. Parviz Moin and Thomas Bewley in Applied Mechanics Reviews, Vol. 47, No. 6, Part 2, pages S3-S13; June 1994. Scientific American, January 1997 |