نُفايات نووية طبيعية
نُفايات نووية طبيعية
في الگابون وتحت طبقة ثخينة من الرواسب انطمرت
نفايات مشعّة نتجت من مفاعلات نووية طبيعية. ويقوم
متخصصون في تخزين النفايات ـ من أجل عزلها بشكل
أفضل ـ بتحليل هجرات العناصر المشعّة في تلك الرواسب
تحت الأرضية بغية حجزها بشكل أفضل.
<L-P. بلان> ـ <F. كوتييه-لافاي> ـ <E. لودُو>
قبل 25 سنة اكتشف باحثو مركز مفوّضية الطاقة الذرية في پييرلات ظاهرة الأوكلو Oklo: فقبل إرسال كميات من اليورانيوم مصدرها الگابون من أجل إغنائها كان هؤلاء الباحثون يقومون بالقياسات المعتادة، وعندها لاحظوا وجود نقص قدره 1% في اليورانيوم 235 الذي هو نظير اليورانيوم القابل للانشطار والمستخدم في محطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية. فهل كان هذا النقص نتيجة لعمل تخريبي في مصنع إعادة التكرير بمالڤيزي Malvési في منطقة الأودAude؟ لقد ظلَّت هذه القضية سرا خلال عدة أشهر، تم أثناءها إجراء تحاليل للعينات ووضعت عدة فرضيات. وفيما بعد، وفي الشهر 7/ 1972أعلنت مفوضية الطاقة الذرية عن اكتشاف أول مفاعل نووي طبيعي: لقد نتج الشذوذ من تفاعلات نووية كانت تنطلق تلقائيا قبل نحو بليوني سنة في مكمن أوكلو مصدر ركاز minerai اليورانيوم.
وبعد استثمار للمكمن دام 25 سنة، أتاح لعدة حملات عالمية دراسة مفاعلات قديمة طبيعية في أوكلو، فكّر مستثمر المكمن في إيقاف نشاطاته في المنجم؛ لكن هذا سيؤدي إلى إغراق المنجم حالما يتوقّف ضخ مياه الترشيح. فهل يمكن أن نسمح باختفاء هذا الموقع الفريد من نوعه في العالم؟
ففي الفترة التي فكّرنا فيها بتخزين النُّفايات تحت الأرض، أتاح لنا تحليل هجرة العناصر المشعّة في الطبقات الجيولوجية (في أوكلو) فهم عدة آليات وثيقة الصلة بهذا الموضوع في مواقعها الطبيعية تتعلق بتحليل الأمان.
ونتيجة لذلك تقترح مجموعة العمل الأوروبية حول أوكلو، الحفاظ لا على الموقع الرئيسي وإنّما على المكمن الملحق في بانكومبه التي تبعد 20 كم عن أوكلو. يقع هذا المفاعل النووي على عمق 12 مترا فقط ومن السهل الوصول إليه. ويتعرض في الوقت الحاضر إلى تغيّرات كيميائية بسبب الأمطار التي تهطل عليه، لكن هذا بالضبط هو ما يتيح لنا دراسة هجرة العناصر المشعّة في الطبقات الجيولوجية.
المفاعلات الطبيعية
يقع مكمن أوكلو في طبقات الفرنسڤيلّي Francevillien الرسوبية، التي ترسّبت قبل نحو 2.2 بليون سنة. ففي العصر الذي حصلت فيه التفاعلات، كان ركاز اليورانيوم موجودا على عمق يتراوح ما بين 3500 و 5000م في طبقة من الحجر الرملي الخشن(1). وتقع هذه الطبقة [انظر الشكل 2] التي تبلغ ثخانتها 6 أمتار في قمة طبقات من حجر رمل الأساس الذي ينتمي إلى عمر الفرنسڤيليA، ويغطيها تعاقب ينتمي إلى عمر الفرنسڤيلي B مؤلّف من رواسب الپليت(2) ومن الحجر الرملي الدولوميتي(3).
لقد كان اليورانيوم في الأصل مبعثرا في طبقات الحجر الرملي الأسفل الذي ينتمي إلى عمر الفرنسڤيلي A على شكل أيونات U4+ (كل ذرة يورانيوم فقدت 4 إلكترونات) غير قابلة للانحلال تقريبا، وعندما غُسلت المستويات السفلية بالمياه المؤكسدة انتقل اليورانيوم إلى الشكل الأيوني U6+ المنحل، وترسّب ثانية (على شكل U4+) عند ملاقاته الهيدروكربونيات hydrocarbures الصادرة عن رواسب الپليت الأسود التابع للفرنسڤيليB.
لقد جرت التفاعلات النووية في أجزاء المكمن، حيث كان تركيز اليورانيوم أعلى من %10: وبدءا من كمية معينة من اليورانيوم، تدعى الكتلة الحرجة، اصطدمت النيوترونات الصادرة عن تفكك ذرة من اليورانيوم 235 بذرات أخرى منه وحرّضت الانشطار. وهذا ما ولّد نيوترونات أخرى حرّضت بدورها أيضا عمليات انشطار أخرى وهكذا.. إن وجود الماء الذي كان يبطّئ النيوترونات، منع هذه الأخيرة من اختراق اليورانيوم بسرعة كبيرة ومن ضياعها في المواد المجاورة غير القابلة للانشطار. وقد بدأت التفاعلات النووية في ممرات الكسور التي كانت تقطع الحجر الرملي وحيث كانت كمية المياه أكبر. وأصبحت المياه التي كانت تتسخّن بهذه التفاعلات أكثر فعالية، ممّا أدى إلى وصول نسبة انحلال سيليس الحجر الرملي إلى %80.
1- في الگابون كانت المفاعلات النووية الطبيعية ناشطة قبل بليوني سنة. فقد اكتشفت هذه المفاعلات في مقلع من معدن اليورانيوم في موقع أوكلو شمال مدينة فرنسڤيل (في الأعلى). وفي عام 1978 صنف جزء من المفاعل 2 كصرح وطني گابوني (في اليمين). ويتألف الجانب الغربي من المقلع (في الأسفل) من بلاطة من الحجر الرملي ترسبت فوقها طبقة من الركاز التي جرى استثمارها. ومازالت هذه البلاطة تُبدي آثار التيارات البحرية التي تدلّ على الأصل الشاطئي أو الدلتاوي للراسب. |
لقد أدّى اختفاء الملاط السيليسي إلى تحويل الحجر الرملي إلى كومة من حبيبات ضعيفة الالتحام مؤلفة من أكسيد اليورانيوم ومشبعة بالماء. ولم تنطلق التفاعلات النووية لكون التمديد الناجم عن الحرارة خفّض كثافة الماء، ولأن النيوترونات التي لم تتم تهدئتها ضاعت في طبقات الحجر الرملي السفلية وفي رواسب الپليت العلوية.
وما أوقف التفاعلات النووية ليس نفاد الوقود وإنما انهيار الطبقات العلوية التي فقدت دعاماتها من الحجر الرملي. إن رصّ اللب الذي أدّى إلى طرد الماء، أوقف عملية التهديد وأنهى التفاعل التسلسلي. وفي الأمكنة حيث وجد الكثير من الماء تبلور اليورانيت (وهو الشكل المتبلور من اليورانيوم) بكثرة لتكوين صخر، يسميه الجيولوجيون «سحنة المفاعل النووي» faciés pile. وعلى أطراف هذه المناطق حيث كانت كمية اليورانيوم أقل، تبلورت المواد المتبقية التي اغتنت بالغَضار (الطين) بعد انحلال السيليس مُشكِّلة «غَضاريات المفاعل النووي»argiles de pile.
إن مفاعلات أوكلو الطبيعية تختلف عن المفاعلات النووية ذات الماء المضغوط بصورة خاصة في توزيع الوقود وفي المهدّئ modérateur: ففي أوكلو لا ينفصل الماء المهدّئ عن الوقود بأغلفة كتيمة، كما لا يوجد أبدا فصل بين دارة أولية مهدّئة وبين دارة ثانوية تؤمّن التبريد وتستعيد الطاقة المنتَجة.
في أية درجة من الحرارة كانت تعمل المفاعلات الطبيعية؟ لقد قمنا أولا بتفحّص هذا السؤال وذلك بتحليل المحتبسات inclusions في معادن minérausأوكلو. فعند عملية التبلور يمكن أن تحتبس هذه المعادن قليلا من المائع الذي كان يغمرها. وإنّ الكثير من هذه المحتبسات المائعة تكون في درجات عادية من الضغط والحرارة في حالة طورين diphasiques (غاز وسائل). وتحليلها يزودنا بمعلومتين: فدرجة حرارة الانجماد تحدد تركيز الملح المعدني، وتكشف درجة حرارة التجانس homogénéisation (حيث لا يشكّل المحتبس إلا طورا واحدا) عن درجة الحرارة الدنيا للانحباس. ونحصل، بوساطة تقدير متمم للضغط، على درجة حرارة تبلور المعدن.
ولقد تحرّى الجيولوجيون عن الأمكنة التي ترسبت فيها المعادن والتي يمكن أن تحتجز مثل هذه المحتبسات، وكان ذلك على الأطراف الرملية للمفاعلات في مناطق أقل حرارة من اللب، حيث وجدت عروق من الكوارتز ترسبت في زمن الانشطار: وهذه العروق كانت قد حجزت موائع حرارتها أعلى من 370 درجة مئوية. وفي المناطق الأقرب من اللب، حيث توجد في الوقت الحاضر غضاريات المفاعل، أذابت المياه السيليس؛ ويُستنتج من ذلك أن حرارتها كانت أعلى من حرارة دارة أولية لمفاعل ذي الماء المضغوط، حيث حافظت الحرارة على درجة أقل من 345 درجة مئوية في تماس أغلفة الوقود النووي. وعلى الرغم من ضعف قدرة مفاعلات أوكلو، فإنه يمكن تفسير درجات الحرارة المرتفعة التي سادت هناك بسبب الانتقال السيئ للحرارة. إضافة إلى ذلك فمن المفترض أنّ الضغط كان ضعفي ضغط المفاعلات ذات الماء المضغوط.
حاولنا أن نؤكّد هذه التقديرات باستخدام خواص اللوتِسيوم lutétium في احتجاز النيوترونات. إن هذا العنصر يوجد على شكل نظيرين: اللوتسيوم 176 وكميته قليلة جدا واللوتسيوم 175. فعندما تحتجز ذرة (اللوتسيوم 176) نيوترونا فإنها تتحول إلى هفنيوم hafnium، ويعوّض اللوتسيوم 175 هذا النقص باحتجازه نيوترونا ويتحول إلى لوتسيوم 176. إن احتجاز النيوترونات يختلف بحسب درجة الحرارة، ولذلك فإن نسب اللوتسيوم 175 إلى اللوتسيوم 176 يجب أن تسجل درجة حرارة التفاعل: فقد حصل <R. نوده> من مفوضية الطاقة الذرية و<H. هيداكا> من جامعة طوكيو على تقديرات لدرجات الحرارة أعلى من 1000 درجة مئوية من أجل المنطقتين 5 و 10.
ويبدو أن هذه التقديرات، الصعبة جدا بسبب كميات اللوتسيوم الضئيلة جدا في الركاز، كانت مفرطة: فالغليان يجعل الماء يفقد خواصه المهدئة؛ ومع ذلك فإن غليانا جزئيا، وهو نوع من الاستحماء caléfaction (الذي يحدث عندما تتدحرج قطرة من الماء على لوحة شديدة الحرارة) مع تماس حبيبات مفرطة التسخين يمكن أن يكون قد أدى دورا، عن طريق البخار، في تحرير عناصر كانت موجودة على شكل محلول في الماء والتي لم تستطع بعد ذلك أن تنحل ثانية.
2- كانت مفاعلات أوكلو مندسَّة بين طبقة من حجر رمل الأساس وطبقة من صخور تدعى پليت pélites (صخر غضاري). ففي طبقة ركاز اليورانيوم خلّف انحلال السيليس (اللون الرمادي) وجود حبيبات أكسيد اليورانيوم (اللون الأحمر) مع الماء، مهدئ النيوترونات: وهذا ما أدى إلى حدوث الانشطار النووي (في اليسار). وفي نهاية الأمر، انهار الغطاء الصخري للمفاعلات (في اليمين) بشكل أدّى إلى امتصاص الصخور المجاورة للنيوترونات التي لم تجر تهدئتها، وبذلك توقف التفاعل النووي. لقد ترك التفاعل النووي آثارا؛ فحول لب المفاعلات نجد «غضاريات المفاعل» argiles de pile المتشكلة من إعادة تبلور المعادن التي انحلت من قبل، كما نجد أحجارا رملية متبقية استطاعت مقاومة عملية الانحلال. |
ويمكن مقارنة درجات الحرارة التي تمّ الحصول عليها في هاتين الطريقتين من تحليل المحتبسات ومن تحوّل اللوتسيوم مع درجات الحرارة التي تسود في مفاعلات الماء المضغوط: فدرجة الحرارة المستمدة من المحتبسات المائعة هي نفس درجة حرارة المهدّئ، في حين تمثّل درجة الحرارة المحددة بدءا من اللوتسيوم درجة حرارة الوقود. لنلاحظ هنا أنّ هذه الدرجات المرتفعة من الحرارة التي تساعد على هجرة العناصر المختلفة تكون بالفعل أعلى من درجات الحرارة التي نتوقّعها من تخزين صناعي للنفايات المشعّة: فإذا كان لا بدّ وأن يكون للتسخين الناجم عن النفايات المخزونة أثر ضار، فإنّ هذا الأثر لا يتجاوز ما نلاحظه في أوكلو.
التخزين الصناعي
حتى هذا اليوم، لم يتوقف تصميم المنشآت تحت الأرضية لتخزين النفايات، وكذلك تحديد الموقع أو الوسط الجيولوجي للتخزين. فهل من الممكن أن تُوجِّه دراسة أوكلو هذه المشاريع؟ يجب في البداية أن نتأكد من تطابق التشابه الطبيعي. لنلاحظ أولا أن النفايات المشعّة الصناعية ذات طبيعة واحدة، وتنجم عن التفاعلات نفسها التي تعطي العناصر الناتجة من التفاعلات النووية الموجودة في أوكلو: تُميَّزُ منتجات انشطار وعناصر ثقيلة ترانسيورانية(4).
فمن جهة يولّد انشطار النوى الثقيلة نوى أخف، ومشعة في الغالب، من كافة الفصائل الكيميائية. إن سميتها الإشعاعية(5) تصبح أسوأ بسبب طبيعتها الكيميائية: فالنظائر المشعّة للعناصر المكوّنة للكائن الحي أو للعناصر الأثرية(6)الضرورية للحياة، تدخل في دورات أيضية (استقلابية) وفي السلاسل الغذائية للكائنات الحية.
3- توزع العناصر المشعة في اليورانيت (أكسيد اليورانيوم) في المفاعل 13 في أوكلو. على العيّنة الملاحظة (قطرها 0.5 مليمتر) نشاهد (باللون الأزرق) اليورانيوم (a) والتوريوم (b) وهما عنصران قليلا الحركة يشكلان أرضية الضمام. رَكّزت ألمينوفسفات I(c) aluminophosphate بين حبيبات اليورانيت، اللانتان lanthane ا(d)، المشكّل بالانشطار النووي. وشكّلت أشباه البلاتين (الروتينيوم والروديوم والبلاتين، (e)) والعناصر الأخرى المنحلة في اليورانيت (البزموت والبلاديوم، (f)) تجمعات فلزية منفصلة يصل قطرها إلى 0.1 مليمتر. |
ومن جهة ثانية، عندما تمتص الذرات النيوترونات الواردة، فإنها تُولّد، بدلا من أن تتحطّم، نوى ذات عدد ذري أعلى من العدد الذري لليورانيوم؛ والعناصر المتشكلة، «الترانسيورانية»، لا توجد في الطبيعة وليس لأي منها نظير مستقر. وأكثر هذه العناصر شهرة البلوتونيوم(7)، ولكن النفايات النووية تحوي أيضا النپتونيوم (عدده الذري 93) والأمريسيوم (95) والكوريوم (96). ولهذه العناصر سمية إشعاعية قوية، وهي سموم كيميائية.
تنوي الصناعة النووية تخزين عدة أنماط من النفايات النووية المشعّة في أعماق الأرض. وتتألّف النفايات ذات النشاط الإشعاعي المرتفع من الوقود المستهلك، الذي هو خليط من منتجات الانشطار وعناصر ثقيلة في ضُمام matriceمن أكسيد اليورانيوم ومن النفايات المزججة (المتحولة إلى زجاج) الناجمة عن إعادة المعالجة. إن هذين النوعين من النفايات لهما فترة تضاؤل طويلة (من 1000 سنة إلى عدة ملايين من السنين) ويطلقان الحرارة. أما النفايات ذات النشاط الإشعاعي المتوسط، فتتألف بصورة خاصة من نفايات استغلال المصانع لدورة الوقود؛ وهذه النفايات تُغرق في براميل من الأسمنت أو من الحُمَّر (البيتوم).
وهناك اقتراح لحصر النفايات بثلاثة حواجز: ستوضع النفايات في حاويات من فولاذ لا يصدأ وستكون الأخيرة هذه في منشآت تحت أرضية مع مواد معدّة لتغليف النفايات، مثل خليطة من الرمال والغضار القابل للانتفاخ (خليطة يزداد حجمها عندما تبتلّ)، مشكلة حاجزا كتيما للماء وحاجزة العناصر المشعّة بامتزازها على الغضاريات (يتيح السطح الكبير الناتج من البنية الصفائحية امتزاز العديد من الأيونات (الشوارد) ions، وأخيرا يمثل الموقع الجيولوجي، الذي سيحتضن المنشآت، الحاجز الثالث الذي سيحدّ من الهجرة المحتملة للعناصر المشعّة.
4- نمذجة حركة المياه في موقع بنگومبه الذي تجري المطالبة بالحفاظ عليه في الوقت الحاضر. تُميز الألوان التكوينات الجيولوجية والنفاذية. وتدل المنحنيات السود على حركة المياه في الكتل الصخرية (إن المنحنيات الصفر، التي تقطع المنحنيات السود، تصل بين نقاط تساوي ضغط الماء). يمثل عرض الشكل نحو 200 متر. |
ستتألف المنشآت من آبار المداخل وأنفاق الخدمات وأنفاق التخزين. وستكوّم براميل النفايات ذات النشاط الإشعاعي المتوسط في الأنفاق على أرضية من المواد الماصة والمنتفخة التي ستسدّ الوسط وتمنع التسرّب المحتمل للمياه والعناصر المشعّة. وستمتلئ الفراغات المتبقية بالمواد نفسها. ومن المحتمل أن يتم تخزين حاويات النفايات ذات النشاط الإشعاعي المرتفع في آبار شاقولية محفورة في أنفاق التخزين نفسها. وهنا سيتم أيضا عزل الحاويات عن الصخر بمواد مازة وقابلة للانتفاخ ومقاومة أيضا للحرارة. ويجب أن يتم تأمين ختم المداخل والآبار إلى أجل طويل جدا (100 ألف سنة إلى مليون سنة)، ومن المحتمل أن تُستخدم هنا أيضا مواد حاجزة فيزيائية ـ كيميائية وسدادات ميكانيكية.
والسؤال الآن: هل ستكون هذه الحواجز كافية؟ إن دراسة أوكلو يجب أن تساعدنا على معرفة ذلك. لنلاحظ أولا أن صحة التشابه بين يورانيت أوكلو والوقود المشعّع الحديث تستند ـ إلى حد كبير ـ إلى التشابه المضاعف لدرجات الحرارة خلال الانشطار. وهي تبرر ما نتوقعه من المنتجات الثانوية من سلوك متشابه لجوار أوكلو ولمواقع التخزين.
من اليورانيت الطبيعي إلى الوقود المشعَّع
قام <Ph. هوليكر> (من مركز مفوضية الطاقة الذرية في پييرلات) بفحص يورانيت أوكلو بغية تحليل توزّع العناصر المختلفة فيها. وقد استخدم مسبارًا أيونيًا يقذف سطحا مصقولا بحزمة من الأيونات الأولية ويحلل الأيونات الثانوية المنعكسة، المُنتزعة بمطيافية الكتلة spectrométerie de masse؛ أي بحرفها بمجالات مغنطيسية وكهربائية. وهكذا اكتشف هوليكر عدة أنماط من التجمعات الفلزية: محتبسات حاوية أشباه البلاتين، تحتجز الروتنيوم والروديوم والپلاديوم والرصاص ومحتبسات حاوية تلّور tellure، وهذه المحتبسات تُرفق البزموت بالزرنيخ والكبريت.
إنّ هذين النمطين من التجمعات يشبهان التجمعات التي شوهدت في الوقود المشعَّع في المفاعلات، ولكنهما أكبر حجما في أوكلو. فالعناصر التي تؤلفهما لا تجد لها محلا في شبكة اليورانيت البلورية، ولكنها قليلة الانحلال في الماء (وهذا ما يفسر بقاءها في مواقعها خلال بليوني سنة). إن عزلها يعود إلى زمن التفاعلات النووية. ولا تكون بنية مواد لب المفاعلات هي نفسها إلا خلال التفاعلات. ومعادن اليورانيت هذه لم تكن من قبل إلا أكواما من الحبيبات ذات التحام ضعيف ومساميتها تتراوح ما بين 30 و 40 في المئة، لأن السيليس كله كان قد زال بعملية الانحلال. أما رواسب الپلّيت في الطبقات العلوية فقد انهارت مما أدى إلى ارتصاص الصخر، وبالتالي إلى إنقاص مساميته ونفاذيته. فحبيبات اليورانيت التحمت في كومة أبعادها من رتبة الملّيمترات مُشكِّلة مع السيليس وسيليكات اليورانيوم ضُماما matrice متراصا.
وعملية الرصّ هذه تشبه تزجيج (تخزيف) المساحيق الذي يُطبق على أكاسيد اليورانيوم عندما يُحضّر الوقود النووي الحالي. ففي الحالتين ترتص المواد التي كانت سائبة في الأصل وتُحتجز الفراغات المتبقية بين بلورات أكسيد اليورانيت محتبسات الأكاسيد الفلزية. ولما كان طرد العناصر التي لم تجد لها محلا في شبكة اليورانيت البلورية قد جرى قبل التراص وبوجود الماء، فليس من المدهش إذًا أن تكون المحتبسات في فواصل الحبيبات أكبر في أوكلو: ففي قضبان مفاعلات الماء المضغوط تشكل أكاسيد اليورانيوم وسطا كثيفا لدرجة يحدّ من نمو هذه المحتبسات.
إن الأثر الرئيسي لقذف أشعة ألفا(8) alpha المنبعثة من النفايات، هو تفكك ذرة الماء، أو التحليل الإشعاعي، الذي يؤدي إلى انطلاق الهيدروجين والأكسجين وفوق أكسيد الهيدروجين، إلخ. يُستبعد الهيدروجين بالانتثار في حين يبقى الأكسجين فعالا. وفي حالة التخزين الأرضي، يُخشى أن تحل شروط مؤكسدة قد تؤدّي إلى تخريب الحاوية وانحلال ضُمام أكسيد اليورانيوم. فهل ثمة أساس لهذا التخوف؟
أكسجين أم كربون
نجد في أوكلو آثارا لتحلل إشعاعي للماء، سبّبها اليورانيوم والعناصر المشعة الناجمة عن التفاعلات النووية: لقد لوحظت ذرات أكسجين وهيدروجين حرة في المحتبسات المائعة لبلورات الكوارتز، وذلك على حدود لب المفاعل 10. وممّا يؤكد هذه الشروط المؤكسِدة بجوار بلورات اليورانيت، وجود كميات صغيرة من المينيوم minium والهيماتيت hématite. وهذه المركبات التي صيغتهاPb3O4 و Fe2O3 هي من أكاسيد الرصاص والحديد. ومع ذلك فإن لب المفاعلات الطبيعية بقي، في معظمها، فقيرا بالأكسجين، وتشهد على ذلك غزارة الرصاص الفلزي والگالين (كبريت الرصاص) والكوفينيت coffinite (سيليكات اليورانيوم).
لقد استمرت هذه البيئة المختزلة لكون المادة العضوية وفيرة في المكمن حيث كان تأكسدها يستهلك الأكسجين الحر حالما يتم إنتاجه. وفي الوقت الحاضر، لا تتحلل الصخور البيتومية بالماء في أوكلو إلا ببطء، بحيث تبدو أنها لا تحمي تماما اليورانيت من التحول الكيميائي السطحي. فما يحفظ معادن اليورانيت بشكل أفضل هو وجود المواد الگرافيتية، مما يشهد على الدور الماضي (القديم) للمواد العضوية. هذا ولم يُستدرك في أي مشروع تخزين، اتقاء الأكسدة بفضل المواد الهيدروكربونية، ولكن هذا الدور من الوقاية ربما يشجّع على اختيار الوسط milien الغضاري، حيث توجد بصورة عامة كمية صغيرة من المادة العضوية.
وأخيرا، يفضي انتقال العناصر المشعّة في البيئة الطبيعية إلى انحلال هذه العناصر في الماء. ومن المعروف أن انحلال الوقود المستهلك سيكون مشابها لانحلال اليورانيت الطبيعي، أي ناتج إما من تحول نووي إجمالي للوقود تسبّبه عملية الأكسدة وإما من انحلاله بعد تأكسده السطحي.
ففي أوكلو كان اليورانيت قد تحوّل قليلا منذ أن توقفت التفاعلات: فاليورانيوم كان قد تفكّك ببطء مشكلا الرصاص، في حين كانت تتخلف منتجات العناصر الترانسيورانية (فوق اليورانية) في شبكة اليورانيوم البلورية. وهكذا يدلّ تحليل المفاعلات الطبيعية الگابونية gabonais على أن تحرير العناصر المشعة في الوقود المستهلك، إذا كان قد حصل، ربمّا ينتج من انحلال سطحي للضُمام أكثر من تحول شامل، وهذا هو أقل إزعاجا من أجل السلامة: لقد بيّنا أنه في منطقة تقع بالقرب من اندساس لصخور بركانية، فإن الحرارة مع الموائع المرافقة لهذا الاندساس لم تحرك عناصر الانشطار؛ إنه الرصاص الذي كان العنصر الأكثر حركية.
أحواجز صنعية.. أم طبيعية
هل تساعد الصخور الغضارية القابلة للانتفاخ على عزل النُّفايات؟ يحتوي غضار المفاعل النووي الذي يحيط بمفاعلات أوكلو على حبيبات متآكلة من الكوارتز ومعادن غير قابلة للانحلال. وهذه الحبيبات تنتج من إزالة سيلسةdésilicification الحجر الرملي الأصلي. وقد لاحظ <R. بروس> (من مركز مفوضية الطاقة الذرية في كاداراش) في أطراف المفاعل 10 إغناءً في اليورانيوم 2355. فقد جرى غسل جزء من العناصر المشعّة بالمحاليل الحارة المُدخلة إلى المركز، وهاجر (هذا الجزء) نحو الأطراف الغضارية. وهناك، فإن المعادن الغضارية، التي هي في طريقها إلى التبلور، دمجت في شبكتها البلورية، البلوتونيوم 239، سلف اليورانيوم 235. إن هذا البلوتونيوم 239 الذي ينتج بدءا من اليورانيوم 238 باحتجازه نيوترونات عند تفاعلات الانشطار، له عمر نصف(9) يقدر بنحو 24 400 سنة، لذا فإنه لم يتمكّن من الاندماج في الغضاريات إلا عند غزارته الأعظمية، وذلك عندما كانت المفاعلات نشيطة.
استخلص غسيل (حلحلة) حامضي طُبّق على العينة نفسها 74% من إجمالي اليورانيوم؛ وهذا اليورانيوم الفقير بالنظير 235 ظلَّ قابلا للانحلال، لأنه امتز على الجزيئات الغضارية، في حين إن اليورانيوم المُغنى المُندمج في الشبكة البلورية غير قابل للانحلال. واليورانيوم المفقّر أتى من تحرك لاحق لاندماج البلوتونيوم. وعلى الرغم من أن غضاريات المفاعل النووي لا تتمتع إلا بخواص امتزازية ضعيفة، فقد حجزت على سطحها كمية من اليورانيوم (أو من عناصر أخرى ترانسيورانية (فوق يورانية) ذات شعاع أيوني وتكافؤ متماثلين) أكبر بثلاث مرات من تلك التي اندمجت ضمن شبكتها البلورية.
وفي هذا لن تكون درجات الحرارة والضغط في التخزين مرتفعة بشكل كاف لتحريض تبلور معادن غضارية جديدة، غير أن الغضاريات القابلة للانتفاخ ستحجز تماما العناصر المشعة، لأنها تمثل في هذا الشأن خواص أفضل من خواص غضاريات المفاعل.
إضافة إلى ذلك، أشار <F.گوتييه-لافاي> منذ عام 1988 إلى وجود أباتيتات (معادن فسفاتية) معاصرة للتفاعلات النووية. ففيها وجدت محتبسات صلبة من اليورانيت المُغنى بمنتجات الانشطار والتنشيط activation ومن معادن الگالينا، ويدل تحليلها النظائري على أنها كانت تضمّ البلوتونيوم. وهنا أيضا يدل تحليل العناصر المشعّة الأثرية على انضمامها عند التفاعلات واحتباسها الدائم. وتبعا لهذه الملاحظات درس باحثو مفوضية الطاقة الذرية استخدام مواد جديدة من نمط الأباتيتي كحشوة بين قضبان الوقود المشعّع وحاوياتها.
محاكاة عمليات النقل
ولكي نأخذ في الاعتبار أثر عمليات التخزين في السكان الذين كانوا يعيشون بجوار المواقع، لا بد من أن نفهم حركة المياه الجوفية في الصخور وأن نحدد المواضع التي ستنبُع منها المياه التي من المحتمل أنها أذابت العناصر المشعة. إن نمذجة حركات المياه في أوكلو وما تحمله هذه المياه على شكل محاليل ونقل العناصر المنحلة، هي مُناسَبة لتقدير أداء عمليات التخزين في المستقبل.
هذا ولا يشكل أوكلو المثيل المطلق للتخزين الصناعي، ولا يكون كذلك إلا عند غياب الحاويات، كما أنه لا يشكل المثيل للمواقع الجيولوجية المرتقبة من أجل إقامة مختبرات تحت أرضية للتوصيف qualification، لكن له فائدة مضاعفة من وجهة نظر النمذجة، فهو يزودنا بموضوع حقيقي للدراسة وللنمذجة الهيدرودينامية، فهو يوفّر تعقُّدا فيزيائيا من مرتبة التعقد الفيزيائي للمواقع التي يحتمل اختيارها، كما يوفر تعقدا كيميائيا قريبا من التعقد الكيميائي لتخزين حقيقي.
لقد تمّ تنفيذ هذه الدراسات في موقعين: في موقع أوكِلوبوندو Okélobondoالعميق الذي أتاح دراسة انتقال العناصر المشعة مسافة تبلغ 4000 متر من منطقة التفاعل، عبر رواسب مختلفة جدا؛ وفي موقع بانگومبه Bangombé السطحي حيث الرواسب أكثر تجانسا ولكنها معرّضة لتغيّر كيميائي بفعل التهطالات. فقد زودت السبور المنجمية(10) sondages miniers بعض البيانات حول نوعية الصخور وتشققها وتحديد مواقع مصادر المياه وارتفاع مستويات هذه المياه في الرواسب المجواة المغطية للنفايات المشعة. وكان على أفرقة مشروع أوكلو إتمام هذه البيانات خلال عمل حقلي كاف من أجل التوصل إلى نمذجة رياضياتية لحركة المياه وانتقال المواد المنحلة حول المواقع القديمة للتفاعل. ففي موقع أوكلوبوندو سمحت المحاكاة عن طريق نماذج هجرة مستشفّات traceurs المياه الطبيعية مثل الأكسجين 18 أو التريتيوم، في وضع مخطط لحركة المياه الجوفية مقرون بمدد الانتقال بدءا من منطقة التفاعل حتى المخارج السطحية. أما في بانگومبه، فقد استكمل مسعى مماثل بوساطة نمذجة جيوكيميائية لهجرة اليورانيوم في جوار منطقة التفاعل وذلك باستخدام العائد النظيري من اليورانيوم 235 واليورانيوم 238 لتتبع أثر تلك الهجرة.
وبفضل أوكلو إلى حد كبير، يبدو أن طمر النفايات كان الحل الأقل كلفة والأكثر ديمومة، فهو إذًا الحل الذي سيؤدي إلى تقليل الأعباء البشرية الحالية والمستقبلية: إنه الحل الطبيعي الأفضل. وهذا ما يبرر الحفاظ على أسهل المفاعلات المستحاثية وصولا إليه وتعرّفه.
المؤلفون
P.-L. Blanc – F. Gauther-Lafaye – E. Ledoux
نسّق بلان (المهندس في معهد الحماية والوقاية النووية) المرحلة الأولى من برنامج المجموعة الأوروبية CCE: «أوكلو الشبيه (المثيل) الطبيعي» في الفترة ما بين عامي 1991 و 1995. وگوتييه-لافاي مكلف بالأبحاث لدى المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS)، المرتبط بجامعة ستراسبورغ؛ أما لودو فهو مدير مركز المعلوماتية الجيولوجية في مدرسة المناجم بباريس.
مراجع للاستزادة
Roger NAUDET, Oklo, des rencteurs nucleaires fossiles, etude physique, editions CEA-Eyrolles,1991.
P-L. BLANC et al., Oklo, Natural Analogue far a Radioactive Waste Repository, Rapport CCE, EUR 16857 EN /FR, 1996.
H. HIDAKA, Isotopic Evidence for the Retention of Fissiogenic Nuclides in and around Reactor Zones, in Oklo Working Group : Proceedings of the 4th joint ECCEA Progress and Final Meeting, 1995.
R. BROS et al., Occurrence of Naturally Enriched 235U, in Geochim. Cosmochim. Acta, 57, pp. 1351-1356,1993.
Pour la Science N° 237, Juillet 1997
(1) grès grossier: صخر مكون من حبيبات رملية ملتحمة بملاط : وهي حبيبات من الكوارتز، أي من السيليس، وحبيبات من الپتشبلند pechblend وأكسيد اليورانيوم، ملتحمة بملاط من السيليس.
(2) pélites: وحول قديمة مكوّنة من حبيبات من الكوارتز والغضار والفلسبار.
(3) رمال ملتحمة بملاط دولوميتي مؤلّف من كربونات الكالسيوم والمغنيسيوم. (التحرير)
(4) transuraniens، عناصر عددها الذري يفوق العدد الذري لليورانيوم.
(5) تخرِّب الأنسجة الحية.
(6) trace elements، هي العناصر الفلزية أو غير الفلزية الموجودة في جسم الإنسان بكميات ضئيلة جدا والتي هي ضرورية للحياة ولكنها ضارة إذا تجاوزت حدا معينا، مثل الحديد والنحاس والفلورين والكروميوم.
(7) عدده الذري، أي عدد بروتونات نواته يساوي 94. (التحرير)
(8) جزيئات مؤلفة من بروتونين ونيوترونين.
(9) half-life، عمر النصف لمادة مشعة: الزمن اللازم لتفكك نصف مقدار مفروض من هذه المادة. (التحرير)
(10) mining probes.