المادة المضادة الكونية
المادة المضادة الكونية
إن الجسيمات المضادة شديدة الندرة
وتدعو إلى الحيرة. لكنها قد تكشف
عن بعض أسرار الفيزياء الفلكية.
<G. تارلي> ـ <P .S. سوردي>
تسرع جبهة صدمة المستعر الأعظم البروتونات، وتُحدِث (تخلق) الاصطدامات العنيفة للبروتونات المسرعة هذه أغلب المادة المضادة التي يشاهدها العلميون. تنتج بعض الصدمات وابلا من البوزيترونات والإلكترونات وجسيمات أخرى (في الأعلى)، في حين تنتج الاصطدامات الأشد عنفا البروتونات المضادة (في الأسفل). |
في عام 1928 تنبأ الفيزيائي البريطاني <M .A .P. ديراك> بوجود المادة المضادة، وقال إن لكل جسيم من المادة العادية جسيما مضادا ذا كتلة مساوية لكتلة الجسيم ولكنه يحمل شحنة كهربائية مختلفة الإشارة. ويمكن أن تتجمع الجسيمات المضادة لتشكل ذرة مضادة، وتتجمع الذرات المضادة لتشكل أشياء مقابلة لكل شيء موجود في الكون: نجوما مضادة ومجرات مضادة وحتى بشرا مضادا. وعندما يصطدم جسيم بجسيمه المضاد يفنى كلاهما وتنطلق أشعة گاما عالية الطاقة. فلو تصافح إنسان وإنسان مضاد فإن الانفجار الحاصل سيكافئ ألف انفجار نووي قوته ميگاطن يكفي الواحد منها لتدمير مدينة صغيرة.
ولم تمض أربع سنوات على تنبؤ ديراك العجيب حتى اكتشف <D .C. أندرسون> (من معهد كاليفورنيا للتقانة) أول جسيم مضاد. وخلال استخدام أندرسون الغرفة السحابية (الغيمية) لدراسة الأشعة الكونية ـ وهي جسيمات عالية الطاقة واردة إلى الأرض من الفضاء الخارجي ـ لاحظ وجود أثر من البخار أحدثه جسيم له كتلة الإلكترون وعكس شحنته (أي موجب الشحنة). أطلق على هذا الجسيم المضاد للإلكترون اسم البوزيترون. أما العثور على البروتونات المضادة فكان أمرا محيرا، ولم يتحقق إلا عام 1955 عندما شُكِّلت هذه الجسيمات باستعمال مسرّع (معجل) الجسيمات في مختبر لورانس بيركلي. كما استطاع المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات في العام نفسه تركيب ذرات الهيدروجين المضادة ـ فترة من الزمن ـ بدمج البوزيترونات والبروتونات المضادة في مسرع للجسيمات.
وفي السنوات الأخيرة بنى العلميون مكاشيف معقدة للبحث عن المادة المضادة في الأشعة الكونية. ولما كانت جسيمات هذه الأشعة تتفكك نتيجة اصطدامها بنويات جزيئات الهواء فقد رفع الباحثون مكاشيفهم إلى طبقات الغلاف الجوي العليا حيث تقل الكثافة إلى أدناها. ونحن نشارك في إحدى هذه التجارب واسمها مقراب (تلسكوب) المادة المضادة عالية الطاقة (HEAT): وهو مقراب محمول على مناطيد عالية الارتفاع للكشف عن البوزيترونات في الأشعة الكونية. وهناك مكاشيف أخرى محمولة تستطيع رصد البروتونات المضادة، وثمة مشاريع أخرى قيد الدرس تطمح إلى وضع المناطيد والمكاشيف على مدارات في الفضاء. وقد تمدنا نتائج هذه التجارب بمعلومات كثيرة عن مصادر المادة والمادة المضادة، وقد تمدنا بمعلومات عما إذا كانت النجوم المضادة والمجرات المضادة موجودة فعلا أم لا.
يعتقد الفيزيائيون الفلكيون أن القسم الأعظم من المادة المضادة المرصودة في الأجواء العليا ناتج من الاصطدامات العنيفة للجسيمات تحت الذرية في الفضاء بين النجمي (البينجمي). تبدأ هذه السيرورة على النحو التالي: عندما ينفجر المستعر الأعظم فإن الحقول المغنطيسية الموجودة في موجة الصدمة تُسرّع البروتون (أو نواة الذرة الأثقل) بين النجمي وتحوله إلى شعاع كوني عالي الطاقة ـ عالي السرعة. وعندما يصطدم الشعاع الكوني بجسيم ما في الفضاء بين النجمي يتحول جزء من هذه الطاقة العالية إلى زوج من جسيم وجسيم مضاد.
دلو من الأشعة الكونية
تنتج بعض الاصطدامات أزواجا من البيونات، وهي جسيمات غير مستقرة تتفكك سريعا إلى بوزيترونات وإلكترونات ونيوترينوات ونيوترينوات مضادة. أما حصيلة الاصطدامات الأعلى طاقة، التي تقارب فيها سرعة الجسيمات المصطدمة سرعة الضوء، فهي أزواج من البروتونات والبروتونات المضادة. إن هذه السيرورة هي عكس سيرورة فناء الزوج المؤلف من جسيم وجسيم مضاد: حيث تتحول الطاقة إلى مادة في السيرورة الأولى والمادة إلى طاقة في السيرورة الثانية.
ومع هذا فإن عدد الجسيمات المضادة الناتجة من الاصطدامات في الفضاء بين النجمي صغير نسبيا. وعدد الجسيمات التي يرصدها مقراب المادة المضادة عالية الطاقة في الأشعة الكونية يفوق بكثير عدد الجسيمات المضادة. ولكي ندرك صعوبة الكشف عن المادة المضادة نتخيل دلوا مملوءا بلوالب من الفولاذ، مئة منها عادية يمينية اللولبة (تمثل الإلكترونات ذات الشحنة السالبة في الأشعة الكونية) وعشرة يسارية اللولبة (تمثل البوزيترونات ذات الشحنة الموجبة). وتحتوي الأشعة الكونية أيضا على بروتونات تحمل شحنة موجبة كالبوزيترونات إلا أن كتلتها أكبر بكثير من كتلة البوزيترونات. ويمكن تمثيل هذه البروتونات بإضافة عشرة آلاف لولب ثقيل يساري اللولبة إلى الدلو. ويتحتم علينا الآن أن نزن كل لولب يساري لمعرفة ما إن كان يمثل بروتونا أو بوزيترونا، وأن نقوم بهذا العمل بدقة فائقة؛ فلو وقع خطأ في وزن واحد من ألف من البروتونات فإنه سيؤدي بنا إلى مضاعفة عدد البوزيترونات.
إن معدل خطأ المقراب (HEAT) أقل من واحد من كل مئة ألف. ويستعمل في هذا الجهاز مغنطيس فائق التوصيل ومجموعة من المكاشيف لتعرّف البوزيترونات. فبعد مرور الأشعة الكونية بسرعة عالية عبر فتحة مجمِّعة يحرف المغنطيس الفائق التوصيل الإلكترونات السالبة في اتجاه معين ويحرف البوزيترونات والبروتونات الموجبة في الاتجاه المعاكس. وتقيس المكاشيف شحنة واتجاه كل جسيم قبل دخوله الحقل المغنطيسي كما تقيس الانحراف (الانعطاف) الذي سببه الحقل. وهذا القياس الأخير يساعد على التمييز بين البروتونات والبوزيترونات. وبسبب كون البروتون أثقل وزنا فإنه يسير في مسار أكثر استقامة من المسار الذي يتخذه البوزيترون ـ الذي له السرعة نفسها.
في عام 1994 أطلقت وحدة المناطيد العلمية في الوكالة (ناسا) مقراب المادة المضادة عالية الطاقة من موقع في نيومكسيكو. وعلى الرغم من ثقل المعدات البالغ 2300 كيلوغرام فقد صعد بها منطاد ضخم مملوء بالهليوم إلى ارتفاع 000 37 متر، أي فوق 99.5 في المئة من الغلاف الجوي. وقام المقراب بقياسات للأشعة الكونية استغرقت 32 ساعة، ثم أنزل بالمظلة في پانهندل بتكساس. وأعادت الوكالة (ناسا) إطلاق المقراب مرة ثانية عام 1995 من موقع في مانيتوبا بكندا، وقد سمح هذا الطيران الثاني للجهاز بمراقبة (رصد) البوزيترونات المنخفضة الطاقة التي لا تستطيع اختراق الحقل المغنطيسي الأرضي إلا بالقرب من القطبين المغنطيسيين الشمالي والجنوبي.
مكشاف عالي الطيران
منطاد مملوء بالهليوم، يصعد بمقراب المادة المضادة عالية الطاقة (HEAT) إلى طبقات الجو العليا (في الأسفل). تُسرَّع الأشعة الكونية عبر فتحة مجمّعة في الجهاز وتحدد مجموعة من المكاشيف البوزيترونات. ويظهر في الصورة أحد المؤلفين (تارلي) مع المقراب HEAT بعد أول طيران له (في أقصى اليمين).
|
كانت نتائج هاتين الرحلتين الطيرانيتين مثيرة للاهتمام. فقد كان عدد البوزيترونات المنخفضة الطاقة التي سجلها المقراب قريبا جدا من العدد المتوقع الناتج من الاصطدامات بين النجمية. ولكن عدد البوزيترونات العالية الطاقة كان أكبر من المتوقع. لم يكن الفرق مهما، وقد يكون نتيجة أخطاء غامضة. إلا أنه يعني، إذا ما تحقق، وجود مصدر في الكون للبوزيترونات ذات الطاقة العالية لم يؤخذ بالحسبان. وأحد المصادر المرشحة هو الجسيم الثقيل الافتراضي الضعيف التفاعل (WIMP).
وقد يحل هذا الجسيم المفترض معضلة المادة المظلمة (السوداء). ومن أجل تفسير معدلات دوران المجرات يعتقد الفيزيائيون الفلكيون أن كل مجرة مغمورة في هالة ضخمة من المادة المظلمة التي لا يمكن مشاهدتها بالوسائل العادية. فقد تكون مكونة من الجسيمات WIMP الافتراضية لأن هذه الجسيمات لا تصدر الضوء أو أي إشعاع كهرمغنطيسي آخر. وإذا وجدت هذه الجسيمات بالكثافة المطلوبة فإن اصطداماتها فيما بينها ستنتج عددا لا بأس به من البوزيترونات العالية الطاقة. وستفسر هذه السيرورة بالتالي الفرق في عدد البوزيترونات الذي سجله المقراب HEAT. إلا أنه، قبل أي ادعاء من هذا القبيل، لا بد لنا وللعاملين الآخرين في هذا المجال من التأكد من قياسات هذا المقراب وغيره من المكاشيف بقياسات أخرى أكثر دقة.
وبينما كنا نحاول البحث عن البوزيترونات في الأشعة الكونية كان علميون آخرون يطاردون صيدا آخر أصعب منالا هو البروتون المضاد. فالبروتونات المضادة أكثر ندرة من البوزيترونات لأنها أثقل منها بألفي مرة تقريبا وتحتاج بالتالي إلى كمية من الطاقة أعلى بكثير لإنتاجها. يجب أن تتصادم البروتونات بين النجمية بسرعات تزيد على 99 في المئة من سرعة الضوء كي تستطيع إنتاج زوج مكوّن من بروتون وبروتون مضاد.
لقد وجدت مكاشيف المادة المضادة ـ مثل تجربة المادة والمادة المضادة النظيرية (المسماة اختصارا إيماكس Imax)، والتجربة التي حملها منطاد واستخدم فيها مقياس للطيف بملف لولبي فائق التوصيل والمسماة بسّ BESS ـ أن أعلى وفرة للبروتونات المضادة في هطل الأشعة الكونية هي بروتون مضاد واحد فقط مقابل كل 000 10 بروتون. وندرة هذه الجسيمات تضطر العلميين إلى اتخاذ الحيطة لتجنب القراءات الخاطئة. ويجب أن تقل نسبة خطأ المكاشيف عن واحد في المليون حتى تكون حساسيتها كافية.
البحث عن العوالم المضادة
كان الفيزيائي <W .L. ألڤاريز> أول من بادر عام 1960 إلى البحث الشامل عن المادة المضادة الكونية. فقد بدأ بالبحث عن الجسيمات المضادة الثقيلة في الإشعاع الكوني كنواة الهليوم المضاد أو الكربون المضاد أو الأكسجين المضاد. ولا يمكن لهذه الجسيمات ـ نظرا لضخامة كتلها ـ أن تنتج من اصطدامات الجسيمات بين النجمية، خلافا لما هو عليه الأمر بالنسبة للبوزيترونات والبروتونات المضادة. فاكتشاف نواة هليوم مضاد يعني والحالة هذه أن جزءا من المادة المضادة بقي بعد الانفجار الأعظم؛ كما يعني اكتشاف نواة كربون مضاد أو أكسجين مضاد وجود نجوم مضادة، لأن الكربون والعناصر الأخرى الأثقل لا تتكون إلا في النجوم.
ومعظم الفيزيائيين الفلكيين لا يعتقدون بوجود نجوم مضادة. صحيح إن الضوء الصادر عن النجوم المضادة لا يختلف عن ضوء النجوم العادية، ولكن اصطدام الجسيمات بين النجمية بالنجوم المضادة يُنْتح دفقا هائلا من أشعة گاما. لاحظت المكاشيف المدارية أشعة گاما منخفضة الطاقة مما يدل على فناء ذؤابة ريش هائلة من البوزيترونات قد تكون آتية من مركز مجرتنا. ومع ذلك لا يعتقد العلميون بصدور هذه البوزيترونات عن نجم مضاد. لأن هذا الأخير، إن وجد، سيبدو كمنبع شديد ومرَكَّز لأشعة گاما ذات طاقة أعلى بكثير من تلك التي رصدتها المكاشيف. وهذا ما يدفعنا إلى القول بعدم وجود نجوم مضادة في المجرة. كما نصل، بالمحاكمة نفسها، إلى القول بعدم وجود مجرات مضادة في أي عنقود (جمع) مجرات محلي.
وماذا عما هو كائن على مسافات أبعد؟ فقد يوجد في الكون مجرات مضادة معزولة تفصلها مسافات شاسعة عن المجرات المؤلفة من المادة العادية. قام الفلكيون في العقد الماضي بدراسات مستفيضة لتوزع المجرات شملت المجرات التي يصل بعدها إلى بليون سنة ضوئية. ولم تظهر هذه الدراسات أي منطقة معزولة يمكن اعتبارها مكونة من مادة مضادة. وعلى العكس من ذلك فقد أظهرت الدراسات وجود نسج (شبكة) من عناقيد (جموع) مجرات محيطة بفضاء خال، كأنه حوض استحمام هائل ممتلئ بالفقاعات المزبدة. ولو كانت أجزاء واسعة من الكون مؤلفة من المادة المضادة لأنتجت المناطق التي تتداخل فيها المادة والمادة المضادة مقادير ضخمة من أشعة گاما في بدء نشأة الكون. ولم يكتشف الفلكيون أي توهج قد يعود إلى هذه الأشعة. وإن كان للمجرات المضادة وجود، فلا بد من أن تكون خارج مدى أفضل المقاريب (التلسكوبات) ـ أي على بعد لا يقل عن عدة بلايين من السنين الضوئية.
إن الزيادة الطفيفة في عدد البوزيترونات العالية الطاقة التي سجلها المقراب HEAT توحي بإمكانية وجود مصدر آخر للطاقة المضادة ـ هو الجسيمات الافتراضية الثقيلة الضعيفة التفاعل WIMP. |
ومن جهة أخرى تزودنا نظريات الكوسمولوجيا (علم الكونيات) الحديثة بحجج تؤيد تكوّن الكون بكامله تقريبا من المادة العادية. فقد أنتج الانفجار الأعظم، حسب أكثر هذه النظريات شيوعا، فائضا صغيرا من المادة على المادة المضادة في لحظة الخلق الأولى. وقد حدثت هذه الظاهرة بسبب عدم تناظرٍ صغيرٍ في قوانين الفيزياء يعرف باسم انتهاك قاعدة بقاء الندية (CP) وشوهد في المختبرات. ففي مقابل كل ثلاثين بليون جسيم من المادة المضادة خلقت أثناء الانفجار الأعظم ظهر ثلاثون جسيما من المادة العادية مضافا إليها جسيم زائد. وبعد مضي نحو جزء من المليون من الثانية على الانفجار الأعظم بدأت الجسيمات والجسيمات المضادة بإفناء بعضها بعضا حتى لم يبق إلا فائض صغير من المادة العادية. وأصبح هذا الفائض النسبي ـ وهو في واقع الأمر عدد كبير من الجسيمات ـ الكون الذي نعرفه حاليا.
وعلى الرغم من أن هذه النظرية تبدو مقنعة، فقد تابع بعض العلميين البحث عن الجسيمات المضادة الثقيلة، وهم لايزالون مقتنعين بوجود مناطق واسعة من المادة المضادة، وبأن نوى المادة المضادة الثقيلة السائرة بسرعة تقارب سرعة الضوء تستطيع اجتياز المدى الشاسع الذي يفصل هذه المناطق عن مجرتنا، وفي الستينات والسبعينات نشر ألڤاريز وعلميون آخرون مكاشيف عديدة وحللوا عشرات الآلاف من صدمات الأشعة الكونية لتحديد ما إذا كان أحد الجسيمات الصادمة مادة مضادة ثقيلة؛ كما جمعت تجارب حديثة ملايين العينات من الأشعة الكونية. وعلى الرغم من هذه الجهود فإنه لم تظهر أية مادة مضادة أثقل من البروتون المضاد.
ليس هناك ما يمنعنا من تصور إصدارِ مجرات مضادة بعيدة جسيماتٍ مضادةً ثقيلة تَحُول الحقولُ المغنطيسية في الفضاء بين المجرّاتي بينها وبين بلوغ الأرض. أظهرت قياسات الإشعاع السينكروتروني المار عبر عناقيد المجرات أن شدة الحقل المغنطيسي في العناقيد تساوي جزءا من مليون من الحقل المغنطيسي على سطح الأرض. ولما كانت شدة الحقل تضاعفت نحو ألف مرة أثناء تشكل العناقيد فمعنى ذلك أن شدة الحقل في الفضاء بين المجرات تساوي جزءا واحدا من بليون جزء من شدة الحقل على الأرض.
ومع أن هذا الحقل أوهن من أن يزعزع إبرة البوصلة فإن مفعوله مهم إذا ما استمر طويلا ـ خلال رحلة الجسيم المضاد عبر المسافات الهائلة في الفضاء بين المجرّاتي. وسينعطف الجسيم المضاد بالتالي ويتحول مساره إلى حلزون يلتف حول أحد خطوط الحقل المغنطيسي، وقطر الحلزون لا يتجاوز بضع سنوات ضوئية. ولكن الفيزيائيين الفلكيين لا يتفقون فيما بينهم حول اتجاه الحقل المغنطيسي في الفضاء بين المجرّاتي. فمنهم من يعتقد أن الحقول متسقة كحقول المغنطيس العادي، في حين يدعي آخرون أن خطوط الحقل متشابكة ومعقدة؛ وإذا كان الأمر كذلك فلن تستطيع الجسيمات المضادة اجتياز مسافات طويلة في اتجاه واحد بل ستقفز عشوائيا بين خطوط الحقل المتشابكة. ويمكن أن نُشبِّه هذه الحركة بحركة رجل ثمل يحاول الذهاب من الحانة إلى داره التي تبعد عشرة كيلومترات عن تلك الحانة. يسير الرجل العادي في خط مستقيم ويصل إلى داره بعد بضع ساعات. أما الثمل فسيسير بشكل عشوائي في مختلف الاتجاهات ولن يتقدم إلا قليلا، وقد لا يصل إلى داره ولو بعد عام.
لا يمكن للمادة المضادة الجوالة أن تقطع مسافة طويلة في اتجاه ما، حتى ولو كانت خطوط الحقل المغنطيسي تربط بين المجرات المتجاورة. يتحرك الجسيم المضاد على مسار حلزوني حول خطوط الحقل بين المجراتي ويقفز عشوائيا من مجرة إلى أخرى. |
أما إذا كانت الحقول المغنطيسية بين المجرّاتية متسقة فقد تمتد خطوط الحقل على استقامة واحدة من مجرة إلى أخرى. وستجري الجسيمات المضادة عندئذ وكأنها في أقماع على طرق طولها ملايين السنين الضوئية. وحتى في هذه الحالة فلن تسير الجسيمات على الخطوط مستقيمة بل ستثب من مجرة إلى أخرى، تماما كما لو أن رجلنا الثمل الهائم قد اقتيد من زاوية شارع إلى الزاوية الأخرى ثم تُرك وحده ليتحرك عشوائيا في المفارق دون إحراز تقدم يذكر. وهكذا فلن تقطع الجسيمات المضادة أكثر من بضع مئات ملايين السنين الضوئية بدءا من نقطة انطلاقها حتى ولو أعطيت كل عمر الكون للقيام برحلتها. وهذه المسافة أقل بكثير من مليارات السنين الضوئية التي تفصلها عن أقرب المجرات المضادة المجاورة.
وحتى لو استطاع جسيم مضاد مثابرة الاقتراب من مجرتنا، ولو بمعجزة، فقد لا يستطيع الوصول إلى الأرض. ذلك أن الحقل المغنطيسي داخل المجرة أقوى بكثير مما هو عليه خارجها، وسيعطف أغلب الجسيمات المضادة نحو الداخل. وأخيرا وصل الثمل إلى منزله ولكنه لم يجد مفتاح الباب.
يبدو وجود الجسيمات المضادة في مجرتنا بعيد الاحتمال، ومع ذلك فالبحث مستمر. وترعى إدارة الطاقة في الولايات المتحدة مشروعا لوضع مكشاف للمادة المضادة حول مدار. كان الهدف الأول للجهاز ـ المسمى مقياس الطيف المغنطيسي ألفا (آمس) AMS ـ البحث عن نوى المادة المضادة الثقيلة. وتعتزم الوكالة ناسا اختبار المقياس آمس في مكوك الفضاء عام 19988. وإذا ما سارت الأمور حسب الخطة الموضوعة فإن آمس سيطير مع المحطة الفضائية الدولية مدة ثلاث سنوات ابتداء من مطلع عام 2002.
وهكذا، ونظرا لمدة تعرضه الطويلة، فستكون حساسية آمس أعلى مئة مرة من حساسية مكاشيف المادة المضادة السابقة. وسيكون التحدي الحقيقي هو ضمان الوصول إلى مستوى من الدقة قابل للقياس في التفريق بين الجسيم والجسيم المضاد: ولكي يتعرّف المكشاف جسيما واحدا مضادا ثقيلا من بين 100 مليون جسيم، عليه أن يحدد بالضبط انعطاف كل جسيم في الحقل المغنطيسي. تقوم أدق المعدات المحمولة على المناطيد ب15 قياسا أو أكثر لتحديد انعطاف الجسيمات المسرّعة، في حين لا يقوم المقياس آمس إلا بستة قياسات.
وفي عام 2000 سينطلق جهاز آخر من مركز الفضاء الروسي في بايكانور يدعى پاميلا PAMELA يهدف إلى رصد الجسيمات المضادة الكونية من مدار حول الأرض. وسيقوم پاميلا بالبحث عن البوزيترونات والبروتونات المضادة والنوى المضادة الثقيلة، وسيستعمل نظما أكثر تطورا من تلك الموجودة في المقياس آمس. إلا أن ما سيجمعه پاميلا من الأشعة الكونية سيكون أقل كثيرا نظرا لصغر حجمه. ومعنى هذا أنه قد لا يستطيع القيام ببحث شامل عن الجسيمات المضادة الثقيلة.
وحاليا، تلوح في الأفق مشروعات منطادية للبحث عن المادة المضادة الكونية. وعلى سبيل المثال، نقوم حاليا ببناء نموذج جديد من المكشاف HEAT بهدف البحث عن البروتونات المضادة العالية الطاقة. ونأمل أن نحسّن قياساتنا بإطالة المدة التي يبقى المكشاف فيها في الجو. ولقد أطلقت الوكالة ناسا مناطيد إلى طبقات الجو العليا في المنطقة القطبية الجنوبية تطير فترات تتراوح ما بين 10 و 20 يوما، وتسير على دائرة حول القطب الجنوبي. ويطور فريق من الوكالة ناسا بنى لمناطيد تتيح لها الطيران مدة تصل إلى مئة يوم. وفي الأشهر القليلة القادمة سيبدأ اختبار طيران هذه المناطيد.
خضع البحث عن المادة المضادة لتقلبات عديدة. فقد كانت دوافع التجارب الأولى الرغبة في التناظر symmetry والحماس لإثبات تساوي كمية المادة وكمية المادة المضادة في الكون. إلا أن النتائج أظهرت لا تناظر asymmetry واسع النطاق. فقد وجدت مكاشيف المادة المضادة قليلا من البوزيترونات والبروتونات المضادة في الأشعة الكونية ولكنها لم تجد أي مادة مضادة ثقيلة. قد تكون النجوم والمجرات المضادة مختبئة في مكان ما من الكون على بعد بلايين السنين الضوئية عن مجرتنا؛ إلا أن احتمال وصول الجسيمات المضادة الثقيلة الصادرة عنها إلى الأرض ضعيف جدا مما يجعل البحث عنها مهمة عديمة الجدوى. ومع هذا فقد يسهم البحث عن البوزيترونات والبروتونات المضادة في الكشف عن طبيعة المادة المظلمة التي تعتبر من أعظم أسرار الفيزياء الفلكية.
المؤلفان
Gregory Tarlé – Simon P. Sowrdy
يتابعان البحث في الأشعة الكونية منذ أكثر من عشرين عاما. حصل تارلي، وهو أستاذ الفيزياء في جامعة ميتشيگان، على الدكتوراه من جامعة بيركلي عام 1978. وله نشاطات في التجارب التي تبحث عن وحيد القطب المغنطيسي وعن النيوترينو الكوني واهتزازات النيوترينو. أما سوردي، وهو أستاذ في جامعة شيكاگو، فنال عام 1979 الدكتوراه من جامعة بريستول، وكان عضوا في فريق الباحثين القائمين على «تجربة نوى الأشعة الكونية» التي طارت مع المكوك الفضائي عام 1985.
مراجع للاستزادة
THE EARLY UNIVERSE. Edward W Kolb and Michael S. Turner. Addison-Wesley, 1990.
COSMIC RAYS AT THE ENERGY FRONTIER. James W. Cronin, Thomas K. Gaisser and Simon P. Swordy in Scientific American, Vol. 276, No. 1, pages 32-37; January 1997.
CONSTRAINTS ON THE INTERGALACTIC TRANSPORT OF COSMIC RAYS. Fred C. Adams et al. in Astrophysical Journal, Vol. 491, pages 6-12; . December 10, 1997.
Information on the HEAT experiment can be p found athttp://tigger.physics.lsa.umich.edu/www/heat/heat.html on the World Wide Web.
Information on the AMS experiment can be found at http://hpl3snO5.cern.ch:8080/ams01. • html on the World Wide Web.
Scientific American, April 1998