ري المحاصيل بمياه البحر
ري المحاصيل بمياه البحر
كلما ازداد عدد سكان العالم وغدا مخزون المياه العذبة أعزَّ طلبا،
تطلع الباحثون إلى مياه البحار لري بعض المحاصيل المنتقاة.
<P .E. جلين> ـ <J .J. براون> ـ <W .J. أوليري>
قد تكون الأرض كوكب المحيطات، إلا أن معظم المخلوقات التي تعيش على اليابسة ـ بما فيها البشر ـ تعتمد في غذائها على النباتات المروية بمياه الأمطار أو المياه العذبة من الأنهار والبحيرات والينابيع والجداول. ولا تستطيع أي من النباتات الخمسة الرئيسية التي يقتات بها الإنسان (القمح والذرة والأرز والبطاطا وفول الصويا) أن تتحمل الملوحة: فبتعريضها لمياه البحر، تنكمش وتذبل ثم تموت في غضون أيام.
إن من أكثر المشكلات العالمية إلحاحا هو توفير الكفاية من الأرض والمياه لتأمين احتياجات العالم من الغذاء. فمن أجل تغذية الأعداد المتزايدة لسكان المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية في غضون الثلاثين سنة القادمة تقدِّر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو FAO) التابعة للأمم المتحدة الحاجة إلى نحو 200 مليون هكتار (494.2 مليون إكر acre) كأراض جديدة لزراعة المحاصيل ـ وهو ما يوازي مساحة ولايات أريزونا ونيومكسيكو ويوتا وكولورادو وإداهو ووايومينگ ومونتانا مجتمعة. وحتى الآن لا يتوافر لهذه الأمم من أجل التوسع الزراعي سوى 93 مليون هكتار، الجزء الأكبر منها تشغله الغابات التي يجب الحفاظ عليها، مما يبدو معه بجلاء أننا بحاجة إلى مصادر بديلة من المياه والأراضي لزراعة المحاصيل.
أنواع من الأُشنان glasswort (هنا، الساليكورنيا بايجيلوفيي Salicornia bigelovii) التي تنمو عادة في المستنقعات الشاطئية. وبسبب قابليتها للازدهار في مياه البحر تُعَدّ نباتات الأشنان من أكثر المحاصيل المبشِّرة حتى الآن للنمو باستعمال الري بمياه البحر، على طول الشواطئ الصحراوية. إنها يمكن أن تُؤكل من قِبل الماشية، كما يُستخرج من بذورها زيت له مذاق البندق. |
وبمساعدة من زملائنا، اختبرنا جدوى الزراعة باستعمال مياه البحر، فوجدنا أنها تصح جيدا في الترب الرملية من البيئات الصحراوية. وتُعرَّف الزراعة بمياه البحر بأنها تنمية المحاصيل المتحملة للملوحة في أراض تُستعمل فيها المياه المأخوذة من المحيطات بالضخ. فلا يوجد نقص في مياه البحر: إذ إن 97 في المئة من المياه في الكرة الأرضية موجود في المحيطات. وكذلك فإن الأراضي الصحراوية واسعة الانتشار: إذ إن 43 في المئة من المساحة الكلية لليابسة هي أراض قاحلة(1) أو شبه قاحلة ولكن جزءا يسيرا من هذه الأراضي قريب من البحر بما يكفي لجعل الزراعة بمياه البحر مجدية. ونقدِّر بأن نحو 15 في المئة من الأراضي غير المنماة في صحاري العالم الساحلية والداخلية المالحة يمكنها أن تناسب زراعة المحاصيل باستعمال المياه المالحة. وتصل هذه الشريحة إلى 130 مليون هكتار من الأراضي الجديدة التي يمكن استخدامها في إنتاج الغذاء للإنسان والحيوان، من دون اللجوء إلى اجتثاث الغابات أو تحويل المزيد من المياه العذبة الشحيحة للاستعمال في الزراعة.
تُعَدُّ الزراعة بمياه البحر فكرة قديمة، وقد حظيت بالاهتمام الجدي لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1949 ذهب كل من <H. بويكو> (المتخصص في البيئة) و<E. بويكو> (المتخصصة في البستنة) إلى مدينة إيلات على البحر الأحمر لاستحداث بيئة ريفية خضراء يمكن أن تجذب المستوطنين. ونظرا لشح المياه العذبة، لجأ هذان الزوجان إلى استعمال مياه الآبار المالحة أو تلك التي يجري ضخُّها مباشرة من البحر، وأوضحا أن العديد من النباتات تستطيع النمو في الترب الرملية إلى ما يتجاوز حدودها الطبيعية لتحمل الملوحة [انظر:”Salt-water Agriculture,”by Hugo Boyko;Sceintific American, March 1967].
وعلى الرغم من أن العديد من أفكار الزوجين <بويكو> حول كيفية تحمُّل النباتات للملوحة لم يقيض لها الوقت الكافي للتجريب، فإنها أثارت اهتماما واسع الانتشار ـ بمن فيهم اهتمامنا نحن ـ بهدف تخطي عوائق الملوحة التي تواجه الزراعة التي تروى بالطرق التقليدية.
ولكي تكون الزراعة بمياه البحر مجدية من حيث الكلفة، يتعين أن تحقق شرطين: أولهما، أن تنتج محاصيل مفيدة بمردود عال بما يكفي لتبرير تكاليف ضخ مياه الري من البحر. وثانيهما، ضرورة تطوير الباحثين تقانات زراعية لتنمية محاصيل مرويَّة بمياه البحر بطريقة مستدامة، ومن دون الإضرار بالبيئة. وقد ثبت أن تذليل هاتين العقبتين مهمة جسيمة، ولكننا حققنا في ذلك بعض النجاح.
المحاصيل الملحية
لقد اتخذ تطوير الزراعة بمياه البحر مَنْحََيَيْن؛ إذ حاول بعض الباحثين إدخال صفة تحمُّل الملوحة إلى بعض المحاصيل التقليدية كالقمح والشعير. وعلى سبيل المثال، أوضح فريق أبحاث <E. إيبشتاين> (في جامعة كاليفورنيا بديفز) منذ وقت بعيد يعود إلى عام 1979، أن سلالات الشعير التي تكاثرت عدة أجيال بوجود مستويات منخفضة من الملح، استطاعت إنتاج مقادير صغيرة من الحبوب عند ريها بمياه البحر ذات الملوحة الزائدة نسبيا. ولسوء الطالع، فإن الجهود اللاحقة (التي بُذِلَت لزيادة درجة تحمُّل الملوحة لدى بعض المحاصيل التقليدية من خلال الاستنبات(2) الانتقائي selective والهندسة الجينية (الوراثية)genetic engineering، التي عن طريقها تضاف جينات تحمّل الملوحة إلى النبات مباشرة) لم تُنتِج سلالات مرشحة بجدارة للري بمياه البحر. ولايزال الحد الأعلى لملوحة مياه الري في المدى الطويل، حتى لأكثر المحاصيل تحملا للملوحة مثل نخيل البلح، أقل من خمسة أجزاء بالألف (ppt) ـ وهو ما يقل عن 15 في المئة من المحتوى الملحي لمياه البحر. وجدير بالذكر هنا أن ملوحة مياه البحر العادية تبلغ ppt 35، ولكنها تصل عادة في المياه الموجودة على امتداد الصحاري الشاطئية، مثل البحر الأحمر والخليج الشمالي لكاليفورنيا (بين الشاطئ الغربي لسونورا في المكسيك وبين باجا كاليفورنيا) وكذلك الخليج العربي إلى ما يقرب من ppt 40 (يغلب في مياه البحر وجود ملح كلوريد الصوديوم المعروف بملح الطعام، وهو من أكثر المواد ضررا على نمو النباتات).
لقد تمثلت مقاربتنا (منهجنا) في تدجين نباتات برية متحملة للملوحة، تدعى النباتات الملحية(3)، بقصد استعمالها محاصيلَ غذائية أو علفية(4) أو زيتية. وقد بدا لنا منطقيا أن تغيير الأساس الفيزيولوجي لأي محصول تقليدي من حساس للملوحة إلى متحمل لها، سيكون أمرا صعبا؛ وعليه فإنه من الأجدى تدجين نبات بري متحمل للملوحة، آخذا في الاعتبار أن المحاصيل المزروعة حاليا إنما بدأت أساسا نباتاتٍ برية. وفي الواقع، إن بعض النباتات الملحية ـ مثل بذور الحشيشة المتحملة للملوحة المسماة Distichlis palmeri (أو عشب النخيل Palmer’sgrass) كان يقتاتُها لأجيال عديدة بعض الشعوب البدائية (بمن فيهم شعب الكوكوپا) التي عاشت حول مصب نهر كولورادو في خليج كاليفورنيا.
بدأت جهودنا في مجال الزراعة بمياه البحر بجمع بضع مئات من النباتات الملحية عبر العالم ثم تصنيفها حسب درجة تحملها للملوحة وكذلك محتواها الغذائي. فهناك ما بين 2000 و 3000 نوع من النباتات الملحية على شكل أعشاب أو شجيرات أو أشجار مثل نبات القرم mangrove تشغل مجالا واسعا من الموائل(5)يتراوح ما بين سبخات شواطئ البحار الرطبة والصحاري الداخلية الملحية الجافة. ولقد عثرنا بالتعاون مع آخرين على نحو اثني عشر نباتا ملحيا أبدت دلالات واعدة على إمكانية إنمائها تحت ظروف زراعية في تجارب حقلية.
وفي عام 1978 بدأنا تجاربنا على أكثر النباتات تبشيرا بالنجاح في الصحراء الساحلية لپورتو پيناسكو عند الساحل الغربي للمكسيك. فكنا نروي النباتات يوميا بغمر الحقل بمياه البحر العالية الملوحة (ppt 400) والمأخوذة من خليج كاليفورنيا. ولما كان معدل هطول الأمطار لا يتجاوز 90 مليمترا في السنة في پورتو پيناسكو ـ وبسبب قيامنا بغمر أحواض زراعاتنا التجريبية من الأرض بعمق إجمالي سنوي يقدر بنحو 20 مترا أو أكثر من مياه البحر ـ فقد كنا واثقين من أن نمو النباتات اعتمد بصفة شبه كاملة على مياه البحر (قمنا بحساب معدليْ هطول المطر والري تبعا للعمق بالأمتار للمياه التي تسقط على الحقول بدلا من الأمتار المكعبة التي هي مقياس للحجم).
تتطلب الزراعة بمياه البحر تقانات زراعية تختلف عن الزراعة بالمياه العذبة. فمن أجل تنمية الشجيرة الملحية saltbush (الأتريپلكس Atriplex) (باعتبارها نباتا متحملا للملوحة يمكن استعماله لتغذية الماشية) يجب أن يغمر المزارعون المستخدمون لمياه البحر حقولهم مرارا (الصورة اليسرى). |
وعلى الرغم من التفاوت في كميات المحصول بين الأنواع النباتية، فإن أكثر النباتات الملحية إنتاجا أعطت ما بين 1 و 2 كغ من الكتلة الجافة الحية (الحيوية)(6) للمتر المربع ـ وهذا ما يعادل تقريبا نتاج القت (الفصّة/البرسيم الحجازي)alfalfa المروية بالمياه العذبة. ولقد كان من بين أكثر النباتات الملحية تحملا للملوحة وعطاء في الإنتاج، الأنواع الشجيرية المسماة الساليكورنيا Salicornia(الأُشنان glasswort) والسويدا Suaeda (البقلة البحرية sea blite) والأتريپلكسAtriplex (الشجيرة الملحية salt bush) من العائلة السرمقية Chenopodiaceae، التي تشتمل على نحو 20 في المئة من أنواع النباتات الملحية كافة. هذا وقد أعطت إنتاجيةً عالية تلك الأعشاب المتحملة للملوحة مثل الديستيكلس Distichlisوالأعشاب الكرمية المفترشة للأرض ذات الأوراق العصيرية مثل الباتيس Batis. (وهذان النباتان لا يعتبران من العائلة السرمقية Chenopodiaceae وإن كانا ينتميان إلى عائلتي القبا Poaceae والباتيدياسي Batidaceae على التوالي).
ولتحقيق المتطلب الأول لجدوى كلفة الزراعة بمياه البحر، كان يجب أن نبيِّن إمكان إحلال النباتات الملحية محل المحاصيل التقليدية من أجل استعمال معين، وعليه فقد قمنا باختبار مدى صلاحية النباتات الملحية لتغذية الماشية، انطلاقا من أن توفير الكفاية من العلف لقطعان الماشية والأغنام والماعز يُعَدّ واحدا من أكثر المشكلات الزراعية تحديا في الأراضي الجافة من العالم؛ فحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن 46 في المئة من هذه الأراضي تدهورت بسبب الرعي الجائر. ويتصف العديد من النباتات الملحية باحتوائها على مستويات عالية من الپروتين والكربوهيدرات القابلة للهضم. ولسوء الطالع، فإن هذه النباتات تحتوي كذلك على كميات كبيرة من الملح؛ إذ يشكل تراكم الملح فيها أحد أساليبها للتلاؤم مع البيئة المالحة [انظر الشكل في الصفحة 9]. ونظرا لانعدام السعرات الحرارية (الكالوريات) في الملح مع احتلاله حيزا ضمن الخلية، فإن كميته العالية في النباتات الملحية تقلل من قيمتها التغذوية. كما أن الملوحة العالية لهذه النباتات تحد من المقادير التي يستطيع الحيوان أكلها. وتُعَدّ النباتات الملحية عادة «نباتات رعوية احتياطية» لا تلتفت إليها الحيوانات في حالات الرعي الحر إلا عندما تختفي النباتات الأكثر استساغة منها.
مقارنة موضحة لتقارب كميات المحاصيل المتحملة للملوحة المنماة باستعمال الزراعة بمياه البحر مع نوعين من النباتات التي تروى بالمياه العذبة والتي غالبا ما تستعمل علفا للماشية: وهما دَريس القت alfalfa hay ودَريس حشيشة (عشبة) السودان sudan grass hay (في اليسار، الأعمدة الزرقاء). فالأغنام التي ربيت على عليقة (خلطة غذائية) مضاف إليها نباتات متحملة للملوحة مثل الشجيرة الملحية saltbush والبقلة البحرية Sea blite والأشنان glasswort تكتسب وزنا وتعطي لحما لا يقل كما ونوعا عما تعطيه الأغنام الضابطة (الشاهدة) التي رُبيت على دَريس الأعشاب التقليدي، على الرغم من أنها تحول نسبة أقل من العلف إلى لحم، كما يجب أن تشرب ضعف كمية المياه تقريبا (في اليمين). |
لقد تمثلت خطتنا في إدخال النباتات الملحية جزءا من عليقة (خلطة غذائية) للماشية، بحيث تحل محل دريس العلف hay forage مكونة بذلك نسبة تتراوح بين 30 و 500 في المئة من الاستهلاك الغذائي الكلي للأغنام والماعز (وهذه النسب هي المستويات النموذجية للعلف المستعمل في تسمين حيوانات الذبح.) لقد وجدنا أن الحيوانات التي اقتاتت العلائق المحتوية على الساليكورنيا والسويدا والأتريپلكس قد حققت زيادة في الوزن تماثل تلك التي حققتها الحيوانات التي اقتاتت علائق تحتوي على الدريس. وعلاوة على ذلك، فإن نوعية لحم حيوانات الاختبار لم تتأثر بتناولها عليقة غنية بالنباتات الملحية. وعلى النقيض من مخاوفنا الأولية، فإن الحيوانات لم تُبْدِ صدودا لتناول العلائق المخلوطة بالنباتات الملحية؛ بل إنها في الواقع بدت منجذبة للمذاق الملحي، ولكن الحيوانات التي تغذت بهذه العلائق الغنية بنباتات ملحية شربت من الماء أكثر من مثيلاتها التي تغذت بالدريس، تعويضا عما تناولته من ملح زائد؛ كما أن نسبة التحويل الغذائي feed conversion ratio لدى حيوانات التجربة (بمعنى كمية اللحم التي أنتجتها في مقابل كل كغ من العلف) كانت أدنى بنسبة 100 في المئة عن الحيوانات التي تغذت بالعليقة التقليدية.
الزراعة من أجل الزيت
لقد وجدنا أن نبات الساليكورنيا بايجيلوڤيي Salicornia bigelovii هو أكثر النباتات الملحية تبشيرا بالنجاح. فهو نبات حوليّ عديم الأوراق وعصيري(7)، يستوطن المستنقعات المالحة محتلا مساحات جديدة في الأراضي الموحلة من خلال إنتاجيته العالية للبذور. وتحتوي هذه البذور على نسبة عالية من الزيت (30 في المئة) والپروتين (35 في المئة)، مماثلة في ذلك إلى حد بعيد فول الصويا ومحاصيل البذور الزيتية الأخرى، كما أن محتواها الملحي أقل من 3 في المئة. ويتميز ذلك الزيت بتعدد الروابط غير المشبعة مشابها زيت العصفر safflower في مكوناته من الحموض الدهنية (الدسمة). ويمكن لهذا الزيت أن يُسْتَخلص من البذور وينقى باستعمال تجهيزات تقليدية؛ وهو زيت غذائي ذو طعم طيب يشبه طعم البندق وذو قوام شبيه بزيت الزيتون. ولكن به هِنَة صغيرة تتمثل في احتواء البذور على مركبات الصابونين saponin المُرّة المذاق والتي تجعل البذور الخام غير مستساغة. وهذه المركبات لا تلوث الزيت، لكنها قد تبقى في الكُسْبَة بعد استخلاص الزيت. وهكذا فإن مركبات الصابونين هذه تحد من كمية الكُسْبَة التي يمكن إدخالها في عليقة الدجاج؛ إلا أن تجارب تغذية الحيوان أظهرت أن كسبة بذور الساليكورنيا يمكن أن تحل محل كسبة البذور التقليدية في المستويات التي تُستعمل عادة موادّ بروتينية في عليقة الماشية. وهكذا فإن كل جزء من أجزاء هذا النبات قابل للاستعمال والاستفادة منه.
لقد شاركنا في إنشاء عدد من مزارع الساليكورنيا كنماذج تمهيدية تصل مساحتها إلى 250 هكتارا في المكسيك ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والهند. وفي غضون ستة أعوام من التجارب الحقلية في المكسيك بلغ معدل المحصول السنوي للساليكورنيا 1.7 كغ كتلة حية إجمالية و0.2 كغ من الزيت لكل متر مربع. وهذا الكم من المحصول يساوي أو يفوق مردود فول الصويا ونباتات البذور الزيتية الأخرى المنماة باستخدام المياه العذبة. إضافة إلى ذلك، أوضحنا إمكان تعديل أجهزة الري في المزارع العادية تعديلا يحميها من التخريب الملحي الناجم عن استعمال مياه البحر. وعلى الرغم من اختلاف خطط الري باستخدام مياه البحر عن تلك التي تستعمل لمحاصيل المياه العذبة، فإننا لم نصادف أية صعوبات هندسية لا يمكن التغلب عليها، عند الانتقال من الاختبارات الحقلية إلى المزارع النموذجية الاختبارية.
وفي الحالة العادية لا تروى المحاصيل إلا عندما تجف التربة حتى نسبة تقارب 50 في المئة من سعتها الحقلية(8)، وهي مقدار الماء الذي تستطيع التربة الاحتفاظ به. وعلاوة على ذلك، فإن المزارعين الذين يروون بالمياه العذبة يضيفون فقط كمية الماء اللازمة لتعويض ما استهلكته النباتات؛ وعلى النقيض من ذلك، فإن الري بمياه البحر يتطلب ريا غزيرا قد يتكرر يوميا ـ وذلك لمنع تراكم الملح في منطقة الجذور إلى الحد الذي يثبط النمو.
مواقع في الصحاري الساحلية والصحاري الداخلية المالحة (المساحات الخضراء) يمكن استعمالها للزراعة بمياه البحر ـ أو الزراعة باستعمال المياه الجوفية المالحة للري ـ من أجل تنمية أصناف من المحاصيل الغذائية والعلفية المتحملة للملوحة. |
في أولى تجاربنا الحقلية، استعملنا من مياه البحر ما يعادل (20 مترا في السنة) وهو أكثر بكثير مما يمكن استعماله اقتصاديا، ولهذا فقد بدأنا في عام 1992 بإجراء اختبارات لتحديد المقدار الأدنى من مياه البحر اللازمة للري لإنتاج محصول جيد، فقمنا خلال سنتين من التجارب الحقلية بتنمية نباتات الساليكورنيا في صناديق من التربة مطمورة في قطع أرض حرة الري مزروعة بالنبات نفسه. ونذكر هنا أن الصناديق، التي يطلق عليها الليزومتراتlisometers، كانت ذات مصارف قاعيّة يمكن أن تمرر الفائض من الماء إلى نقاط جمع عديدة خارج قطع الأراضي التجريبية، الأمر الذي يسمح لنا بقياس حجم ماء الصرف(9) وملوحته. وباستعمال هذه الليزومترات، قمنا ولأول مرة بحساب الميزانيْن المائي والملحي اللازمين لريِّ محصول مروي بمياه البحر. ولقد وجدنا أن كم الكتلة الحية التي يعطيها الساليكورنيا يمكن أن يزداد عندما تتجاوز ملوحة الماء الذي يغمر جذورها ppt 1000، وهو ما يعادل تقريبا ثلاثة أضعاف ملوحة البحر، لذا فإنها تحتاج إلى ما يقرب من 355 في المئة زيادة من مياه الري عند تنميتها باستعمال مياه البحر، وذلك مقارنة بالمحاصيل التقليدية التي تُنمى باستعمال المياه العذبة. وتحتاج الساليكورنيا هذا الماء الإضافي لأنها حينما تمتص الماء انتقائيا من مياه البحر تجعل درجة ملوحة المتبقي من هذا الماء متجاوزة حدود إمكان استعماله.
تشريح النباتات الملحية
|
السبيل إلى جعلها مربحة
هل يمكن أن تكون الزراعة بمياه البحر اقتصادية؟ إن أكبر تكاليف الزراعة بمياه البحر تكمن في ضخ المياه نفسها. وتتناسب نفقات الضخ هذه مع كميات المياه التي يتم ضخها والارتفاع اللازم صعودها إليه. ومع أن النباتات الملحية تحتاج إلى كميات من المياه تفوق حاجة المحاصيل التقليدية، فإن المزارع القريبة من مستوى البحر تتطلب رفعا للمياه يقل عما تحتاج إليه مزارع المحاصيل التقليدية، التي غالبا ما ترفع الماء من آبار يزيد عمقها على 100متر. ونظرا لأن ضخ مياه البحر عند مستوى البحر أرخص كلفة من ضخ المياه العذبة من الآبار، فلا بد أن تكون الزراعة بمياه البحر مجدية التكاليف في المناطق الصحراوية ـ حتى ولو كان مردودها أقل منه في الزراعة التقليدية بالمياه العذبة.
لا يتطلب الري بمياه البحر تجهيزات خاصة. فالمزارع الاختبارية الكبرى التي ساعدنا على إقامتها، استعملت إما الري بغمر أحواض واسعة أو الري برشاشات على روافع متحركة moving booms، وهذه الطريقة الأخيرة تُستعمل في إنتاج العديد من المحاصيل. وعند استعمال مياه البحر، يتم إدخال أنبوب بلاستيكي في الرافع بحيث يمتنع تماس مياه البحر مع المعدن. هذا وقد تم جني بذور الساليكورنيا بنجاح باستعمال حصّادات درَّاسة عادية أُعدت لاستبقاء أكبر قدر ممكن من البذور الصغيرة جدا والتي يقارب وزنها ملّيغراما واحدا فقط.
ومع ذلك فإن الساليكورنيا، التي تمثل ذروة نجاحنا حتى الآن، لا تعتبر النبات المثالي. فهذه النباتات تنزع نحو الرقاد (تستلقي منبسطة أفقيا في الحقل) عند اقتراب الحصاد، ويمكن للبذور أن تتبعثر (تنتثر قبل حصادها). يضاف إلى ذلك، أن البذور التي يمكن جمعها من الساليكورنيا تبلغ نحو 75 في المئة فقط مقارنة بما يزيد على 90 في المئة لمعظم المحاصيل. وعلاوة على ذلك، فإنه لدعم فرص الإنتاجية العالية من محصول البذور، يتعين إنماء الساليكورنيا مدة تقارب 100 يوم في درجات حرارة منخفضة قبل إزهارها. ويقتصر إنتاج هذا المحصول حاليا على المناطق شبه الاستوائية ذات الشتاء البارد والصيف الحار، مع أن أوسع مساحات الصحاري الساحلية في العالم تقع في المناطق الاستوائية الأشد حرارة نسبيا.
أما المتطلب الثاني لجعل تكلفة الزراعة بمياه البحر ذات جدوى فهو الاستدامة sustainability على المدى الطويل. ولكن تلك الاستدامة ليست مشكلة تقتصر على الري باستعمال مياه البحر: ففي الواقع، لا يفلح العديد من مشاريع الري التي تُستعمل فيها المياه العذبة في اجتياز اختبار الاستدامة بنجاح. فغالبا ما يطبق في المناطق القاحلة الري بالمياه العذبة في أحواض من الأرض ذات صرف محدود، الأمر الذي يقود إلى زيادة تملح المياه في طبقات ما تحت التربة بالحقول. إن ما بين 20 و 24 في المئة من أراضي العالم المروية بالمياه العذبة تعاني زيادة تركيز الملح في منطقة الجذور. وعند استفحال المشكلة، يجب أن ينشئ المزارعون نُظُمًا للصرف المغطى باهظة التكاليف، وقد يؤدي التخلص من مياه الصرف المتجمعة فيها إلى خلق المزيد من المشكلات. وكمثال على ذلك فإن فضلات المياه التي ترشحت (تصرفت) في الأراضي الرطبة بوادي سان جواكان في كاليفورنيا قد أدت إلى موت الطيور المائية وتشوهها بسبب التأثيرات السامة لعنصر السيلينيوم، ذلك العنصر الذي يتواجد بصورة تقليدية في تُرَبَ غرب الولايات المتحدة الأمريكية ولكن استمرار تجمعه قد تَسبب في رفع تركيزاته إلى مستويات عالية في مياه الصرف.
إن الزراعة بمياه البحر ليست بالضرورة بمعزل عن مثل هذه المشكلات، لكنها تقدم بالتأكيد بعض المزايا؛ ففي المقام الأول تتمتع المزارع الصحراوية الساحلية المقامة على الترب الرملية عموما بصرف مرتد نحو البحر بلا عوائق. فلقد قمنا خلال مدة تزيد على عشر سنوات وعلى نحو مستمر بريّ الحقول ذاتها بمياه البحر، من دون حدوث تراكم للماء والأملاح في منطقة الجذور. ومن ناحية أخرى، فإن الطبقات المائية في المناطق الصحراوية المالحة (الداخلية والساحلية) غالبا ما تكون قد ارتفعت فيها تراكيز الملح بالفعل وبذلك فهي لن تُضارّ بمياه البحر. يضاف إلى ذلك من ناحية ثالثة، أن الترب المتأثرة بالأملاح، والتي نقترح البدء بزراعتها بمياه البحر، غالبا ما تكون جرداء أو شبه جرداء؛ وعليه فإن إنشاء مزرعة تروى بمياه البحر يمكن أن يكون تأثيرها في النظم البيئية الحساسة أقل بكثير من تأثير الزراعة المألوفة التقليدية.
ومع ذلك لا يوجد أي نشاط استزراعي كامل السلامة خال من الأخطار. فعلى سبيل المثال أدّت مزارع الرُّبيان (القريدس) الساحلية الواسعة النطاق إلى انتشار نباتات طحلبية algal، وسبّبت مشكلات مَرَضيّة في الأنهار والخلجان التي تتلقى فضلات تلك المزارع من مياه غنيّة بالغُذَيّات (المغذيات). وثمة مشكلة مشابهة يمكن أن نتوقعها من مزارع النباتات الملحية الواسعة النطاق، تنجم عن الكميات الكبيرة من ماء الصرف العالي الملوحة والمحتوي على الأسمدة غير المستعملة والذي تجري إعادته إلى البحر مرة أخرى في نهاية المطاف. إلا أنه يمكن لمزارع مياه البحر أن تكون من جهة أخرى جزءا من حل لهذه المشكلة إذا ما تم تحويل المياه القادمة من مزارع الربيان إلى مزارع النباتات الملحية بدلا من إلقائها مباشرة في البحر: ذلك أن محصول النبات الملحي سيستعيد العديد من الغُذَيّات في هذه المياه مقللا من كمياتها. ولقد أنشأنا أولى مزارع النباتات الملحية الاختبارية هذه في المكسيك بقصد تكرير (إعادة تدوير) recycle المياه المطروحة من مزارع الرُّبيان؛ وهناك بحث آخر قيد الإنجاز يدور حول ربط الزراعة المائية البحرية بمزارع النباتات الملحية.
لقد جرى بالمثل اقتراح المزارع الملحية كأسلوب لتكرير مياه الصرف الزراعي الغنية بالسيلينيوم والمتجمعة في وادي سان جواكوين بكاليفورنيا. ويعد السيلينيوم بمستويات منخفضة أحد الغُذَيّات الأساسية، ولكنه يصبح ساما في مستوياته المرتفعة. وتأخذ النباتات الملحية النامية على مياه الصرف في هذا الوادي حاجتها من السيلينيوم بالقدر الذي يجعلها صالحة لتغذية الحيوان من دون أن يصل إلى مرحلة السمية.
أيمكن للزراعة بمياه البحر ذات يوم أن تُطبَّق على نطاق واسع؟ لقد كان هدفنا في أواخر السبعينات إثبات جدوى ذلك النوع من الزراعة؛ وتوقعنا أن نشهد له تطبيقا تجاريا في خلال عشر سنوات، إلا أنه بعد انقضاء عشرين عاما لاتزال الزراعة بمياه البحر في مراحلها الأولية من التنامي التجاري. ولقد أنشأت عدة شركات مزارعَ اختبارية للنباتات الملحية مثل الساليكورنيا أو الأتريپلكس في كاليفورنيا والمكسيك والمملكة العربية السعودية ومصر وباكستان والهند؛ ولكن ـ على حد علمنا ـ لم يدخل أي منها حيِّز الإنتاج على نطاق واسع. أما تجربتنا البحثية فإنها تقنعنا بجدوى الزراعة بمياه البحر. ويتوقف ما إذا كان العالَم سيلتفت إلى هذا البديل في نهاية المطاف على احتياجات المستقبل الغذائية والاقتصادية وعلى المدى الذي ستبقى فيه النظم البيئية المائية العذبة بمنأى عن التطوير الزراعي.
المؤلفون
Edward P. Glenn – J. Jed Brown – James W. O’Leary
لهم خبرة تبلغ في مجموعها المشترك 45 سنة في دراسة جدوى الزراعة بمياه البحر في البيئات الصحراوية. بدأ جلين سيرته البحثية «مهندسا في الزراعة البحرية» marine agronomist (حسب تسميته هو عام 1978) وذلك بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة هاواي؛ وهو حاليا أستاذ في قسم التربة والمياه وعلوم البيئة بجامعة أريزونا. ومن جهته حصل براون في الشهر5/1998 على الدكتوراه من برنامج الحياة البرية والمصايد السمكية التابع لجامعة أريزونا. أما أوليري فهو أستاذ في قسم علوم النبات بجامعة أريزونا، وقد حصل على الدكتوراه من جامعة ديوك عام 1963، وكمؤلف لأكثر من 60 نشرة بحثية في علوم النبات عمل أوليري في عام 1990 مستشارا في المجلس الوطني للبحوث الذي درس آفاق الزراعة بوساطة مياه البحر في البلدان النامية.
مراجع للاستزادة
SALINE CULTURE OF CROPS: A GENETIC APPROACH. Emanuel Epstein et al. in Science, Vol. 210, pages 399-404; October 24, 1980.
SALINE AGRICULTURE: SALT TOLERANT PLANTS FOR DEVELOPING COUNTRIES. National Academy Press, 1990.
SALICORNIA BIGELOVII TORR.: AN OILSEED HALOPHYIE FOR SEAWATER IRRIGATION. E. P Glenn, J. W O’Leary, M. C. Watson, T L. Thompson and R. O. Kuehl in Science, Vol. 251, pages 1065-1067; March 1, 1991.
TOWARDS THE RATIONAL USE OF HIGH SALINITY TOLERANT PLANTS. H. Lleth and A. A. AI Masoom. Series: Tasks for Vegetation Science, Vol. 28. Kluwer Academic Publishers, 1993.
HALOPI-IrrES. E. P Glenn in Encyclopedia of Environmental Biology. Academic Press, 1995.
Scientific American, August 1998
(1) drylands: الأراضي الواقعة في المناطق الجافة التي يزيد فيها التبخر والنتح على معدل هطول الامطار.
(2) breeding: تهجين بين النباتات لإنتاج سلالة أفضل من الناحية الجينية (الوراثية). (التحرير)
(3) halophytes: النباتات التي تنمو في الترب الملحية.
(4) forage crops: المحاصيل النباتية المروية المستعملة كأعلاف للماشية والتي يتم جمعها وهي خضراء.
(5) habitats: المَواطن أو البيئات المؤطرة التي تعيش فيها النباتات أو الحيوانات.
(6) dry biomass: الوزن الكلي الجاف للكائنات الحية في وحدة المساحة. (التحرير)
(7) succulent: نبات كثير العصارة وذو أنسجة لحمية غضَّة. (التحرير)
(8) field capacity: نسبة الرطوبة المتبقية في التربة بعد طرح الماء الزائد بفعل الثقالة (الجاذبية الأرضية).
(9) drainage water: مياه الري الزائدة على حاجة النبات.
(10) salt bladders: حويصلات موجودة في بعض الأوراق النباتية تحتوي على محلول ملحي عالي التركيز. (التحرير)