وراثيات القدرات المعرفية
وراثيات القدرات المعرفية
بوسع البحوث الخاصة بمهارات
معرفية نوعية أن توضح كيف تطور
الجينات مكونات القدرات العقلية.
<R. پلومين> ـ <C.J. دو فريز>
يتباين الناس تباينا كبيرا فيما اتُّفق على تسميته «الذكاء». والاختلافات لا تكون ظاهرة في المدرسة فحسب (من رياض الأطفال وحتى الجامعة)، وإنما في أشد الظروف اعتيادية: في الكلمات التي يستعملها الناس ويفهمونها، في تباين قدراتهم على قراءة خريطة ما أو في اتباع التوجيهات المعطاة لهم أو في تذكر أرقام الهواتف أو ملاحظة تغير ما. وتكون هذه الاختلافات في المهارات النوعية على درجة من الشيوع، بحيث غالبا ما تُعتبر أمرا مسلَّما به. ولكن ما الذي يجعل الناس مختلفين إلى مثل هذه الدرجة؟
قد يكون من المعقول أن نعتقد أن البيئة هي مصدر التباين في المهارات المعرفية (الاستعرافية) cognitive؛ أي إننا ما تعلمناه. فمن الواضح مثلا أن البشر لم يولدوا ولديهم مجموعة كاملة من مفردات اللغة vocabulary؛ إن عليهم تعلُّم الكلمات. إذًا يجب أن يشكل التعلم الآليةَ التي تنشأ بموجبها الفروق في المفردات اللغوية بين الأفراد. كما أن على الفروق في الخبرة (ممثَّلة في مدى صياغة الآباء لمفردات أبنائهم ودرجة تنمية مهارة حفظهم لهذه المفردات، أو ممثلة في نوعية التدريب اللغوي الذي تقدمه المدرسة) أن تكون مسؤولة عن الفروق الفردية في التعلم.
وفي الحقيقة، إن التفسيرات البيئية للتفاوت في القدرات المعرفية كانت هي السائدة في علم النفس (في بداية هذا القرن). ولكن معظم علماء النفس بدؤوا حديثا يتقبلون رأيا أكثر توازنا، تتآثر بموجبه الطبيعة والتنشئة nature andnurture في تنامي المعرفة. وفي العقود القليلة الفائتة، أبرزت دراسات الوراثيات دورا أساسيا للجينات في تشكيل مكونات الذكاء، حتى إن الباحثين بدؤوا يتعقبون الجينات المختصة بالوظيفة المعرفية. وبديهي أن هذه البيانات (المعطيات) لا تدحض المفهوم القائل بأن العوامل البيئية تشكل السيرورة processالتعليمية، بل تقترح أن الفروق في جينات البشر تؤثر في مدى سهولة تعلمهم.
ولكن ما مدى أهمية كل من الجينات والبيئة في القدرات المعرفية النوعية، كالمفردات اللغوية مثلا؟ هذا هو السؤال الذي شرعنا في الإجابة عنه. إن وسيلة تقصِّينا هي الوراثيات الكمية: مقاربة إحصائية تستكشف أسباب الاختلافات في سمات (خِلال) traits الأفراد. وبوسع الدراسات المقارنة لأداء التوائم وأطفال التبني في اختبارات معينة تتناول المهارات المعرفية، على سبيل المثال، أن تحدد الإسهام النسبي لكل من الطبيعة والتنشئة.
وبمراجعتنا للدراسات التي تمت طوال عقود عديدة وبإجرائنا دراسات خاصة بنا، فقد بدأنا بتوضيح العلاقات بين الجوانب المتخصصة للقدرات العقلية، كالاستدلال اللفظي verbal والاستدلال المكاني spacial، وكذلك العلاقات بين الوظيفة المعرفية السوية وبعض أنواع العجز كعسرة القراءة dyslexia. وباستعمال تقنيات الوراثة الجزيئية، بدأنا أيضا (وباحثون آخرون) بتعرف الجينات التي تؤثر في هذه القدرات وأنواع العجز النوعية. ونعتقد أن معرفة هذه الجينات ستساعد ـ في نهاية الأمر ـ على الكشف عن الآليات الكيميائية الحيوية (البيوكيميائية) التي تتدخل في الذكاء البشري. وسيغدو بوسع الباحثين يوما ما ـ اعتمادا على المعارف التي زودتهم بها الدراسات الجينية (الوراثية) ـ أن يطوِّروا تدخلات بيئية تقلل، أو تقي، من تأثير الاضطرابات المعرفية.
ويرى البعض في فكرة دور الوراثة في الذكاء أمرا مزعجا، أو على الأقل مشوَّشا. ولكن علينا أن ندرك منذ البداية ما الذي يعنيه علماء الوراثة بالضبط عندما يتحدثون عن تأثير الوراثة. إن التعبير المستعمل نمطيا هو «قابلية التوريث» (الإيراثية) heritablity: مقياس إحصائي للإسهام الجيني في الفروق بين الأفراد.
تُعَد التوائم موضوعات بحثٍ عامة في دراسة القدرات المعرفية النوعية (الخاصة). إن أزواج التوائم المتطابقة (في الأسفل) والتوائم الأخوية (في الصفحة المقابلة) تتشارك في بحث كاتبي المقالة. إنهم ينجزون اختبارا خاصا بالقدرة المكانية، حيث يحاولون إعادة بناء نموذج المكعب باستخدام قطع لعبهم. وفي مثل هذه الاختبارات التي يقوم بها كل طفل بمفرده، تكون درجات التوائم المتطابقة (التي تمتلك الجينات نفسها) أكثر تشابها من درجات التوائم الأخوية (التي تتشارك نصف الجينات تقريبا)، وهذه ظاهرة تشير إلى أن للتوريث الجيني أثرا في القدرة المكانية. |
القدرتان اللفظية والمكانية
إن قابلية التوريث تنبئنا أنّ تناسب الفروق الفردية في جماعة (جمهرة) سكانية population (ويعرف بالتباين variance) يمكن أن يُعزى إلى الجينات. فإذا قلنا، مثلا، إن سمةً ما قابلة للتوريث 50 في المئة، فإننا نعني فعلا أن نصف التباين (التغاير) في تلك السمة مرتبط بالوراثة. فقابلية التوريث إذًا طريقة نفسر بوساطتها ما يجعل الناس مختلفين بعضهم عن بعض، وليس ما يكوِّن ذكاء فرد ما. وعموما، إذا كانت قابلية توريث سمة ما كبيرة، فإن تأثير الجينات لدى الأفراد في تلك السمة سيكون أيضا قويا.
إن محاولات تقدير قابلية توريث قدرات معرفية نوعية، بدأت بدراسات تناولت العائلات. وقد بيَّنت تحليلات التشابهات بين الآباء وأبنائهم، وكذلك بين الأشقاء، أن القدرات المعرفية تتواتر في العائلة. وقد ساعدت نتائج أكبر دراسة عائلية ـ أجريت في السبعينات في هاواي وتتعلق بقدرات معرفية نوعية ـ على التقدير الكمي لهذا التشابه.
اختبارات القدرة اللفظية
1. المفردات اللغوية: في كل صف من الصفين التاليين، ارسم دائرة حول الكلمة التي تعني الشيء نفسه، أو نحو ذلك، الكلمة التي وُضِعَ تحتها خط. يوجد خيار صحيح واحد فقط في كل صف: a. جافة خشنة ذكية متواضعة جافة b. حادة فاكهية حادة (مستدقة الرأس) مؤذية عمودية (منتصبة) 2. الطلاقة اللفظية: في الدقائق الثلاث التالية، اكتب بقدر ما تستطيع كلمات تبدأ بالحرف F وتنتهي بالحرف M. 3. الفئات: في الدقائق الثلاث التالية، اكتب جميع الأشياء التي يتبادر إلى ذهنك أنها مسطحة. |
لقد كانت دراسة المعرفة في العائلة الهاوائية (نسبة إلى أهل هاواي) مشروع تعاون، تشارك فيه باحثون من جامعة كولورادو في بولدر ومن جامعة هاواي وتناول أكثر من ألف عائلة وأزواجا من الأشقاء. وعينت الدراسة علاقات (مقياسًا إحصائيًا للتشابه) بين الأقرباء فيما يتعلق باختبارات القدرتين اللفظية والمكانية. إن ترابطًا correlation قدره 1، يعني أن درجات scores أفراد العائلة متطابقة تطابقا كاملا؛ وترابطا قدره صفر سيشير إلى أن الدرجات لم تعد متشابهة أكثر مما هي عليه لدى فردين تم اختيارهما عشوائيا. وعلى اعتبار أن الأطفال يتقاسمون عموما نصف جيناتهم مع كل من الوالدين ومع الأشقاء، فإن أعلى ترابط في درجات الاختبار ـ والذي يمكن توقُّعه على أسس جينية (وراثية) فقط ـ سيبلغ 0.5.
كيف تترابط القدرات المعرفية بالذكاء العام؟
منذ بزوغ فجر علم النفس، اختلف الخبراء فيما يتعلق بالطبيعة الأساسية للذكاء. فلقد زعم بعضهم أن ملكة الذكاء تفرضها الوراثة، في حين شدد آخرون على تأثيرات التنشئة والتربية. وصور بعضهم الآخر الذكاء كنوعية عامة تنفذ إلى كل أوجه المعرفة، واعتقد آخرون أن الذكاء يتألف من قدرات نوعية متميزة (كالموهبة الفنية أو الميل إلى الرياضيات) لا يوحدها مبدأ عام.
إن الدراسات الجينية التي أجريت في العقود القليلة الفائتة، أقنعت معظم علماء النفس أن للوراثة تأثيرا مهما في الذكاء. وفي الحقيقة، إن البحوث توحي بأن أكثر من نصف اختلافات الذكاء بين الأفراد تعزى إلى عوامل جينية. لقد انتهى معظم علماء النفس إلى قبول مفهوم عام للذكاء. إن هذه النوعية الشاملة التي سُمِّيَت القدرة المعرفية العامة، أو “g” تجد صداها في التراكب الظاهر بين المهارات المعرفية الخاصة. وكما أوضح <R.پلومين> و <C.J. دو فريز>، فإن الأفراد الذين يتفوقون في اختبار أحد أنماط المهارة المعرفية، ينزعون إلى التفوق في القدرات المعرفية الأخرى. وبالفعل، فإن هذا الترابط البيني قدم الأساس المنطقي لاختبارات IQ (معامل الذكاء intelligencequotient)، التي تفضي إلى نتيجة متفردة مكونة من تقويم متضام(1) لمهارات معرفية نوعية. ولأن القدرات المعرفية الخاصة والعامة ـ وفقا لهذا المفهوم ـ متصل بعضها ببعض، فليس من المفاجئ إذًا أن تعكس كثرة من البيانات ذات الصلة بالقدرات الخاصة (النوعية) ما عرف فعلا عن القدرة العامة. إن قابلية التوريث التي تمخضت عنها دراسات القدرات المعرفية الخاصة، متشابهة مع قابلية التوريث التي تم تعيين g وفقا لها. إن اتجاه التنامي الذي عرض له كاتبا المقالة (المتمثل في أن التأثير الجيني فيما يتعلق بقدرات معرفية خاصة، يتزايد عبر مرحلة الطفولة ليصل مستوى البالغ في أواسط مرحلة المراهقة)، مألوف أيضا لدى باحثي القدرة المعرفية العامة. وعلى اعتبار أن قياس أنواع g يشتق من الترابطات البينية للقدرتين اللفظية والمكانية، فإن الجينة ـ التي تترابط بكلتا السمتين ـ سيوكل لها أيضا دور ما في القدرة المعرفية العامة، والعكس بالعكس. وفي الشهر 4/1998، أعلن پلومين (وعدد من معاونيه في مجلة علم الطب النفسي Psychological Science) عن اكتشاف أول جينة ذات علاقة بالقدرة المعرفية العامة. ومع أن هذا الاكتشاف سيعمق معلوماتنا عن طبيعة المعرفة، فمن المرجح أن يلهب المناقشة من جديد. وفي الحقيقة، إن بحوث الذكاء قد ترجع إلى ذلك الحقل من العلوم، إذ لا تستطيع المعرفة فعل الكثير من أجل تخفيف حدة التضارب في الآراء. <K.رايت>، كاتب مستقل من نيوهمبشير |
لقد أوضحت الدراسة الهاوائية أن أفراد العائلة هم، في الحقيقة، أكثر تشابها من الأفراد غير الأقرباء، وذلك بمقاييس المهارات المعرفية النوعية. وكان متوسط الترابطات الفعلية لكل من اختباري اللفظ والمكان نحو 0.25 . بيد أن هذه الترابطات وحدها لا تكشف عما إذا كانت القدرات
المعرفية تتواتر في العائلة بسبب الوراثيات أو بسبب التأثيرات البيئية. ومن أجل استكشاف هذا الفارق، فإن علماء الوراثة يلجؤون إلى الاضطلاع بنوعين من «التجارب»: تجارب التوائم (تجارب الطبيعة)، وتجارب التبني (تجارب اجتماعية).
وتُعَدُّ دراسات التوائم نتاج جهد workhorse لوراثيات السلوك. فهي تقارن التشابه بين التوائم المتطابقة (المثلية)(1) التي يمتلك أفرادها التركيب الجيني نفسه، وبين التوائم الأخوية(2) التي يتشارك أفرادها نحو نصف الجينات فقط. فإذا كانت الجينات تؤثر في القدرات المعرفية، فإن التوائم المتطابقة تكون أكثر تشابها من التوائم الأخوية، وذلك فيما يتعلق باختبارات المهارات المعرفية. وبناء على الترابطات التي توجد في هذه الأنماط من الدراسات، يمكن للباحثين تقدير مدى أثر الجينات في التباينات ضمن عموم الناس. وبالفعل يمكن إجراء تقدير تقريبي لقابلية التوريث بمضاعفة الفرق في الترابطات بين التوأم المتطابق والتوأم الأخوي.
ويعتبر التبني أقرب الطرق المناسبة للفصل بين عمل الطبيعة والتنشئة (التربية) فيما يتعلق بالتشابه العائلي، ذلك أنه يتمثل بأزواج من الأفراد ذوي القربى الجينية (الوراثية)، الذين لا يتقاسمون بيئة عائلية واحدة. لقد مكَّنت الترابطات بين هؤلاء الأزواج من تقدير إسهام الوراثيات في التشابه العائلي، كما أن التبني يوجد أزواجًا لأفراد غير متقاربين جينيا ويتقاسمون بيئة عائلية واحدة. وتتيح الترابطات المتأتية عن هذا النمط من الدراسات تقدير إسهام البيئة الواحدة في التشابه.
إن اختبارات القدرة النوعية (الخاصة) التي تُعطى لليافعين وللبالغين، تشتمل على مهمات تماثل ما هو مبين في هذا الشكل. إنَّ الاختبارات تعاير كل قدرة معرفية بطرق عديدة، وتُضَم الاختبارات العديدة لتزود الباحث بقياس موثوق لكل مهارة من المهارات [توجد الأجوبة في الصفحة 24]. |
لقد توصلت دراسات التوائم للقدرات المعرفية النوعية (الخاصة) طوال ثلاثة عقود وفي أربعة أقطار، إلى نتائج ذات تناغم ملحوظ [انظر الشكل في الصفحة 20]. إن ترابطات التوائم المتطابقة تفوق كثيرا ترابطات التوائم الأخوية، وذلك فيما يتعلق بالاختبارات الخاصة بالقدرتين اللفظية والمكانية لدى الأطفال واليافعين والبالغين. وفي نتائج أول دراسة توأمية للكهول ـ نشرها في العام 1997 كل من <E.G. مكلرن> وزملائه (من جامعة پنسلڤانيا) و<S. بيرگ> ومساعديه (من معهد طب المسنين في جونكوبينك، السويد) ـ يتضح أن التشابهات بين التوائم المتطابقة والتوائم الأخوية تبقى حتى في العمر المتقدم. ومع أنَّ باحثي طب المُسِنّين gerontologists افترضوا أن الفروق الجينية تغدو أقل أهمية مع تراكم الخبرات طوال العمر، فإن بحوث القدرات المعرفية برهنت على عكس ذلك. وتشير الحسابات، التي قامت على البيانات المنبثقة من هذه الدراسات، إلى أن الوراثة مسؤولة في عموم الناس عن نحو 60 في المئة من التباين في القدرة اللفظية وعن نحو 50 في المئة من التباين في القدرة المكانية.
ولقد تمخَّضت دراسات أطفال التبني عن نتائج مماثلة. وأشارت دراستان حديثتان لتوائم تربّى أفرادها بعيدا بعضهم عن بعض (أجرى إحداهما <J.T. بوشارد، جونير> و<M. مك كو>، وزملاؤهما من جامعة مينيسوتا، وأجرى الأخرى فريق دولي ترأسه <L.N. بيدرسن> من معهد كارولينسكا في استوكهولم) إلى قابلية توريث تناهز 50 في المئة لكل من القدرة اللفظية والقدرة المكانية.
وفي مشروع كولورادو للتبني الذي بدأناه عام 1975، استعملنا فاعلية دراسات التبني لنقطع شوطا أبعد في توصيف أدوار كل من الجينات والبيئة ولنقوّم الاتجاهات النمائية للقدرات المعرفية، ولنستكشف مدى تقارب بعض المهارات المعرفية النوعية ببعضها الآخر. ويقارن هذا المشروع المتنامي الترابطات بين أكثر من 200 طفل بالتبني مع آبائهم البيولوجيين (الحقيقيين) وآبائهم بالتبني وبين ترابطات مجموعة ضابطة (شاهدة) تتألف من أطفال نشؤوا في كنف آبائهم البيولوجيين [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].
ماذا تعني قابلية التوريث
غالبا ما يُساء ما تعنيه بيانات قابلية التوريث (الإيراثية). وكما تشير المقالة الرئيسية، فإن قابلية التوريث قياس إحصائي (يعبر عنه بنسبة مئوية) يوصف فيه مدى إسهام العوامل الجينية في الاختلافات الخاصة بسمة من السمات بين أفراد عينة من الناس.
فحقيقة أن الجينات تؤثر في السمات لا تعني بحال من الأحوال أن «البيولوجيا هي قضاء وقدر». وفي الحقيقة، إن بحوث الوراثيات قد ساعدت على تأكيد أهمية عوامل البيئة، التي لا تقل مسؤوليتها ـ فيما يتعلق باختلافات سلوك الإنسان ـ عن مسؤولية الجينات. فإذا كان الذكاء قابلا للتوريث بنسبة خمسين في المئة، فإن العوامل البيئية ستكون مهمة بقدر أهمية الجينات في توليد الفروق بين الناس. وفضلا عن ذلك، وحتى عندما تكون للعوامل الجينية سيادة خاصة واضحة (كما هي الحال في بعض أنواع التخلف العقلي)، فإن التدخلات البيئية غالبا ما تسيطر كليا، أو جزئيا، على «المحددات» الجينية. فمثلا، غالبا ما يمكن إبطال التأثيرات المؤذية لبيلة الفنيل كيتون بتدخل غذائي. وأخيرا، إن درجة توريث سمة من السمات ليست ثابتة. فالتأثير النسبي للجينات وللبيئة قد يتغير. فمثلا، إذا ما تم إيجاد عوامل بيئية واحدة تقريبا لجميع أفراد عينة بشرية افتراضية، فإن أي فروق في القدرة المعرفية لتلك العينة يجب أن تعزى إلى عوامل جينية، وستكون قابلية التوريث عندئذ أقرب إلى مئة في المئة منها إلى خمسين في المئة. فقابلية التوريث تصف ما هو كائن أكثر من مجرد ما يمكن (أو ما يجب) أن يكون. <R. پلومين> ـ <C.J. دوفريز> |
وتقدم بيانات هذه الدراسة استنتاجات مدهشة. ففي أواسط مرحلة الطفولة مثلا، تتماثل الأمهات ـ وكذلك أطفالهن الذين تم تبنيهم من قبل آخرين ـ بالدرجة نفسها التي تتماثل فيها أمهات المجموعة الضابطة وأطفالهن، وذلك فيما يتعلق بالقدرة اللفظية والقدرة المكانية. وعلى العكس، فإن درجات scores أطفال التبني لا تشابه أبدا درجات آبائهم بالتبني. وتتلاقى هذه النتائج مع مجموعة متزايدة من الأدلة التي تشير إلى أن البيئة العائلية لا تسهم عموما في التشابهات بين أفراد العائلة. وعلى الأصح، فإن التشابه العائلي (فيما يتعلق بالقدرتين اللفظية والمكانية) تحكمه الوراثيات كليا تقريبا، وغالبا ما تنتهي العوامل البيئية بجعل أفراد العائلة متغايرين فيما بينهم؛ وليس متطابقين.
وتكشف بيانات كولورادو أيضا عن اتجاه نمائي مهم. ويبدو أن التأثير الجيني (الوراثي) يزداد في أثناء الطفولة على نحو تبلغ فيه قابلية التوريث (في أواسط المراهقة) مستوى يمكن مقارنته بما يشاهد لدى البالغين. ففي الترابطات الخاصة بالقدرة اللفظية مثلا، يزداد التشابه بين الآباء البيولوجيين وأطفالهم الذين تم تبنيهم من قبل آباء آخرين، من نحو 0.1 في سن الثالثة إلى نحو 0.3 في سن السادسة عشرة. ولوحظ نمط مماثل فيما يتعلق باختبارات القدرة المكانية. وعلى ما يبدو، فإن بعض التحولات الجينية المقصودة في الوظيفة المعرفية تحدث في السنوات المدرسية الأولى، أي في سن السابعة تقريبا. وتشير النتائج إلى أن العوامل الجينية تكون مسؤولة عن 50% من التباين في القدرة اللفظية وعن 40% في القدرة المكانية، وذلك ببلوغ الأطفال عامهم السادس عشر. إن هذه الأرقام لا تشبه الأرقام المشتقة من دراسات التوائم الخاصة بقدرات معرفية نوعية.
لقد تفحَّصت دراسات التوائم ترابطات المهارات اللفظية (في الأعلى) والمكانية (في الأسفل) للتوائم المتطابقة والتوائم الأخوية. وعندما يتم وضع نتائج الدراسات المنفصلة جنبا إلى جنب، يتضح عندئذ التأثير الجيني (الوراثي) في القدرات المعرفية النوعية (الخاصة)، بدءا من مرحلة الطفولة حتى العمر المتأخر. وتكون درجات التوائم المتطابقة (فيما يتعلق بمجموعات الأعمار كلها) أكثر تماثلا فيما بينها من درجات التوائم الأخوية. إن هذه البيانات تتعارض مع المفهوم الراسخ منذ زمن طويل والمتمثل في أن تأثير الجينات يضعف مع الزمن. |
ولقد ساعد أيضا مشروع كولورادو للتبني، وبحوث أخرى، على إيضاح التغايرات والتماثلات بين القدرات المعرفية. ويفترض علم الأعصاب المعرفي الحالي نموذجا تضمينيا modular model للذكاء، تكون فيه كل سيرورة من السيرورات المعرفية متميزة تشريحيا في متضمنات (موديولات) modules محددة منفصلة في الدماغ. إن النموذج التضميني هذا يعني أن القدرات المعرفية النوعية متميزة هي الأخرى جينيا، بمعنى أن التأثيرات الجينية في القدرة اللفظية مثلا يجب ألا تتراكب تراكبا أساسيا مع التأثيرات الجينية للقدرة المكانية.
بيد أن علماء النفس أقروا منذ زمن طويل أن معظم المهارات المعرفية النوعية (بما في ذلك القدرتان اللفظية والمكانية) ذات ترابط بيني intercorrelation متوسط. وبمعنى آخر، إن الأفراد الذين يكون أداؤهم جيدا في نمط اختباري ما، ينزعون لأن يؤدوا أداء جيدا أيضا في الأنماط الأخرى من الاختبارات. فالترابطات بين القدرتين اللفظية والمكانية، مثلا، تبلغ عادة 0.5. إن هذه الترابطات البينية تعني ترابطا جينيا كامنا.
من القدرات إلى الإنجاز
إن الدراسات الجينية للقدرات المعرفية النوعية أخفقت أيضا في دعم النموذج التضميني. وبدلا من ذلك، فإن الجينات مسؤولة ـ فيما يبدو ـ عن معظم التراكب بين المهارات المعرفية. فتحليل بيانات مشروع كولورادو، مثلا، يشير إلى أن الوراثة تتحكم في 70 في المئة من الترابط بين القدرة اللفظية والقدرة المكانية. وتم التوصل إلى نتائج مماثلة في دراسات توائم مرحلة الطفولة واليفوع(3) المبكر وأواسط العمر. فإذا ما تم تعرف جينات مترابطة (متلازمة) بقدرة معرفية معينة، فإنَّ المصادفة ستغدو كبيرة في أن تكون الجينات نفسها مرتبطة بقدرات معرفية أخرى.
لقد وُجِد في مشروع كولورادو للتبني (الذي تتم فيه متابعة الأفراد مع العمر)، أن كلتا القدرتين اللفظية (في الأعلى) والمكانية (في الأسفل) لدى أطفال التبني، تتشابه مع قدرتي آبائهم البيولوجيين (المستطيلات البيض) بقدر ما يتشابه الأطفال الذين نشؤوا مع آبائهم البيولوجيين (المستطيلات الرمادية). وعلى العكس من ذلك فإن أطفال التبني لا يتزايد تشابهم مع تقدم العمر مع آباء التبني (المستطيلات السود). إن هذه النتائج تعني أن معظم التشابه العائلي، فيما يتعلق بالمهارات المعرفية، ينجم عن عوامل جينية (وراثية) وليس بيئية. |
ولقد ألمحت بحوث التحصيل المدرسي إلى أنَّ الجينات المرتبطة بالقدرات المعرفية قد تكون ذات صلة بالأداء الأكاديمي. فلقد أُجريت في السبعينات دراسات تناولت أكثر من ألفي زوج من توائم المدارس الثانوية، قام بها كل من <C.J. لوهلين> من جامعة تكساس في أوستن و<C.R. نيكولس>، الذي كان في الهيئة الوطنية لأهلية المنح الدراسية(4) بإيلينوي. كانت درجات التوائم المتطابقة في هذه الدراسات متوافقة وأكثر تماثلا من مثيلاتها للتوائم الأخوية، وذلك فيما يتعلق بالمجالات الأربعة لاختبار تأهيل الهيئة الوطنية لأهلية المنح الدراسية، التي هي استعمال اللغة الإنكليزية والرياضيات والدراسات الاجتماعية والعلوم الطبيعية. وتوحي هذه النتائج بأن العوامل الجينية مسؤولة عن نحو 40 في المئة من الاختلافات الخاصة باختبارات التحصيل (الأداء) المشار إليها.
إن تأثير الوراثة في التحصيل المدرسي وجد أيضا في دراسات توائم أطفال المدارس الابتدائية، وكذلك في دراستنا من خلال مشروع كولورادو للتبني. وعلى ما يبدو، فإن للجينات تأثيرا في التحصيل المدرسي يكافئ تأثيرها في القدرات المعرفية. وتعد هذه النتائج مفاجئة من حيث المضمون والمغزى؛ ذلك أن المربين اعتقدوا زمنا طويلا بأن التحصيل هو نتاج جهد أكثر منه نتاج قدرة. وتتمثل الناحية الأكثر إثارة في تلك النتائج المستخلصة من دراسات التوائم وما توصَّلنا إليه أيضا من مشروع كولورادو للتبني، والتي تشير إلى أن التأثيرات الجينية تتراكب بين الفئات المختلفة للتحصيل وأن هذه الجينات المتراكبة يحتمل أن تكون هي العوامل الجينية نفسها التي تؤثر في القدرات المعرفية.
ولا شك، فإن هذا الدليل يدعم نموذجا غير تضميني للذكاء بوصفه نوعية منتشرة (شاملة) للعقل، ويؤكد الصلة الوثيقة للقدرات المعرفية بالأداء الفعلي. كما أنه يعني أن جينات القدرات المعرفية يرجح أن تتدخل في التحصيل المدرسي، والعكس بالعكس.
وبتوافر الدليل على التأثير الجيني في القدرات المعرفية والتحصيل، يمكن الافتراض بأن العجز المعرفي والتحصيل الأكاديمي الضعيف يبديان أيضا تأثيرا جينيا. ولكن حتى لو تورَّطت الجينات في الاضطرابات المعرفية، فقد لا تكون هي نفسها التي تؤثر في الوظيفة المعرفية السوية. إن مثال هذا التخلف العقلي يوضح هذه الناحية. إن التخلف العقلي الخفيف متواتر في العائلات، بيد أن الشديد (الوخيم) منه ليس كذلك. وبدلا من ذلك، فإن التخلف العقلي الشديد ينجم عن عوامل جينية وبيئية ـ كالطفرات الجديدة ومضاعفات complications الولادة وإصابات الرأس وغيرها كثير ـ ليس لها أي علاقة بالمدى العادي للذكاء.
وللباحثين حاجة في تقويم ـ وليس في افتراض ـ الترابطات الجينية (الوراثية) بين السوي والشاذ؛ بين السمات التي هي جزء من متصل(5) وبين الاضطرابات الحقيقية للمعرفة البشرية. ومع ذلك، فإن الدراسات الجينية لكل من العجز اللفظي والعجز المكاني مازالت حتى الآن شحيحة متباعدة.
توحي درجات قراءة التوائم باحتمال وجود ترابط جيني (وراثي) بين مهارتي القراءة السوية والشاذة. ففي مجموعة من أزواج التوائم تم اختيارها عشوائيا (في الأعلى)، كان هنالك عدد ضئيل من الأطفال العاجزين عن القراءة (الأزرق). لقد أحرز الأطفال العاجزون عن القراءة من توائم متطابقة (في الوسط) ومن توائم أخوية (في الأسفل) درجات أقل من المجموعة المختارة عشوائيا، علما بأن درجات التوائم المتطابقة كانت أسوأ من درجات التوائم الأخوية. إن العوامل الجينية تتدخل إذًا في عجز القراءة. وقد تكون الجينات التي تؤثر في عجز القراءة هي نفسها المسؤولة عن الفروق في قدرة القراءة السوية. |
الوراثة والعجز
لقد تركَّزت معظم بحوث وراثيات العجز على عجز القراءة الذي يبتلى به 80 في المئة من الأطفال المصابين باضطراب التعلم. إن الأطفال المصابين بعجز القراءة reading disability ـ ويعرف أيضا بعسرة القراءة dyslexia ـ يقرؤون ببطء وفهمهم ضعيف ويتحرجون من القراءة بصوت عال [انظر: «عسرة القراءة»، مجلة العلوم، العدد 6(1987) ، الصفحة 18]. ولقد بينت دراسات أحدنا (دو فريز) أن عجز القراءة متواتر في العائلات، وأن العوامل الجينية تسهم فعلا في التشابه بين أفراد العائلة. فمثلا، إذا شُخص لفرد التوأم المتطابق عجز في القراءة فإن احتمال إصابة قرينه بالعجز نفسه يبلغ نحو 68 في المئة، في حين أنه في التوائم الأخوية لا يتجاوز 38 في المئة.
فهل لهذا التأثير الوراثي علاقة ما بالجينات المرتبطة بالاختلاف السوي في القدرة على القراءة؟ إن هذا السؤال يشتمل على تحديات منهجية. إن مفهوم الاضطراب المعرفي ذو إشكالية موروثة، ذلك أنه يعالج موضوع العجز معالجة كيفية ـ موجود لدى الفرد أو غير موجود ـ بدلا من وصفه درجة العجز بطريقة كمية. إن هذا التركيز الكيفي يخلق فجوة تحليلية بين الاضطرابات والسمات ذات الأبعاد (التي تتفاوت في متصل واحد)، والتي هي بالتعريف كمية لا كيفية.
لقد تم في العقد الماضي تطوير تقنية جينية جديدة تتخطى الفجوة ما بين الأبعاد والاضطرابات، بتجميع معلومات كمية عن أقرباء أفراد شخِّصوا كميا على أن لديهم عجزا ما. وتعرف هذه الطريقة بتحليل DF للطرفيات DF extremesanalysis، نسبة إلى دفريز (D) و<W.D. فولكر > (F) اللذين وضعا هذه الطريقة. وفولكر زميل في معهد جامعة كولورادو لوراثيات السلوك.
ويقوم التحليل من أجل عجز القراءة على اختبار أفراد عاجزين عن القراءة من توائم متطابقة وتوائم أخوية، بمقاييس كمية للقراءة بدلا من البحث عن تشخيص مشترك لعسرة القراءة [انظر الشكل في الصفحة المقابلة]. فإذا كان عجز القراءة يتأثر بالجينات، فإن ذلك سيؤثر أيضا في الاختلاف ضمن المدى السوي لأداء القراءة، الأمر الذي يستوجب أن تكون درجات القراءة للتوائم المتطابقة من الأطفال المضطربي القراءة أقرب إلى درجات المجموعة العاجزة عن القراءة منها إلى درجات التوائم الأخوية. (إن جينة واحدة بوسعها أن تبدي تأثيرات متباينة إذا كان لها أكثر من شكل واحد في جماعة سكانية معينة، أي أن يمتلك شخصان نسختين من الجينة مختلفتين بعض الشيء. إن الجينات المسؤولة عن لون العين وعن الطول أمثلة معروفة عن هذه الجينات المتغيرة).
ولقد تبين أن أداء التوائم المتطابقة للأفراد العاجزين عن القراءة، كمجموعة، يبلغ من الضعف ما يعادل تقريبا مستوى الأفراد الذين لديهم عسرة قراءة، وذلك فيما يتعلق بهذه الاختبارات الكمية؛ في حين أن التوائم الأخوية يؤدون الاختبارات على نحو أفضل بكثير من المجموعة العاجزة عن القراءة (مع أن هذا المستوى أسوأ بكثير من مستوى بقية الجماعة). ويستنتج من ذلك أن الجينات التي تسهم في عجز القراءة قد تكون في واقع الأمر هي نفسها التي تسهم في البعد الكمي لقدرة القراءة المقاسة في هذه الدراسة. وفيما يتعلق بهذه البيانات، يوحي تحليل DF للطرفيات بأنه يمكن للوراثيات أن تفسر نصف الفرق في درجات القراءة بين الأفراد الذين لديهم عسرة قراءة وبين عموم الناس.
إذًا، فيما يتعلق بعجز القراءة، يمكن الاستنتاج بوجود ترابط جيني بين السوي والشاذ، وذلك على الرغم من أن هذا الترابط ليس شموليا فيما يتعلق بأنواع العجز الأخرى. ويحتمل أن يمثل عجز القراءة النهاية الطرفية لمتصل قدرة القراءة أكثر من مجرد اضطراب متميز، بمعنى أن عسرة القراءة قد تختلف كميا (وليس كيفيا) عن المدى السوي لقدرة القراءة. وهذا يوحي بأنه إذا ما عُثِر على جينة لعجز القراءة، فمن المرجح أن تترابط الجينة نفسها بالمدى السوي لاختلاف قدرة القراءة. ولذا فإن الاختبار النهائي سيصير متاحا عندما يتم تعرُّف جينة نوعية تترابط إما بقدرة القراءة أو بعجزها. وفي الحقيقة، فإننا (وباحثين آخرين) نقترب اقترابا شديدا من العثور على هذه الجينة.
نموذجان يشرحان كيف أنَّ الوراثة تؤثر في عجز القراءة. فوفقا للرأي التقليدي (في الأعلى)، فإن بوسع تباين مفرد، أو ما يسمى الأليل، لجينة ما أن يحدث الاضطراب. إن كل شخص يمتلك هذا الأليل يصير عاجزا عن القراءة (الخط البياني). بيد أن الأدلة تشير إلى نموذج مختلف (في الأسفل)، إذ إن أليلا واحدا غير قادر على إحداث العجز بمفرده. وبدلا من ذلك، فإن مجموعة اختلافات لجينات متعددة (كل منها يؤثر على نحو دقيق جدا) بوسعها أن تتوالف لتخفض الدرجات scores وتزيد أخطار العجز. |
البحث عن الجينات
لقد قصرنا مناقشتنا حتى الآن على الوراثيات الكمية التي تقيس قابلية توريث السمات، بغض النظر عن نوع الجينات المتضمنة وعددها. ولاستحصال بيانات تخص الجينات نفسها، فإن على الباحثين أن يستعينوا بالوراثة الجزيئية التي يتزايد اعتمادهم عليها أكثر فأكثر. فإذا ما تمكن العلماء من تعرُّف الجينات التي تتدخل في السلوك وعيَّنوا خصائص الپروتينات التي تكوِّدها هذه الجينات، فسيصير بالإمكان التعامل مع مختلف أنواع العجز المعرفي.
إن البحوث التي أجريت على الفئران وذباب الفاكهة نجحت في تعرف جينات مفردة ذات علاقة بالتعلم وبإدراك المكان، كما أن التحريات عن الاختلافات الطبيعية الحدوث في الجماعات البشرية، مكَّنت من العثور على طفرات في جينات مفردة ينجم عنها تخلُّف عقلي عام. ويشمل ذلك بيلة الفنيل كيتون(6)ومتلازمة X الهش fragile X syndrome، وتسبب كلتاهما تخلفا عقليا. كما أن عيوب الجينات المفردة المرتبطة بحثل دشين العضلي Duchenne’s muscular dystrophyومتلازمة ليش-نيهان Lesch-Nyhan syndrome والورم الليفي العصبي (النمط I neurofibromatosis type (I ومتلازمة ويليامز Williams syndrome، قد يكون لها علاقة بأنواع العجز المعرفي النوعي التي تشاهد في هذه الاضطرابات [انظر: «متلازمة ويليامز والدماغ»، مجلة العلوم، العدد 4(1998) ، الصفحة 32].
وفي الحقيقة، هناك أكثر من مئة طفرة في جينات مفردة عرف بأنها تُفْسِد التنامي المعرفي. ومن جهة أخرى، فإن الأداء المعرفي السوي تُنظِّمه كثرة من الجينات التي تعمل معا على نحو دقيق جدا، أكثر من مجرد جينات مفردة يعمل كل منها على نحو مستقل. ويعتقد بأن هذه الجينات المتآزرة تؤثر في المعرفة بطريقة احتمالية وليست حتمية، ويعرف هذا التأثير بمواضع السمة الكميةquantitative trait loci، أو اختصارا QTLs. إن هذا الاسم، الذي يخصص جينات تتدخل في نواح معقدة كالمعرفة، يؤكد الطبيعة الكمية لسمات جسدية وسلوكية معينة. ولقد تم فعلا تعرّف المواضع QTLs الخاصة ببعض الأمراض، كالداء السكري والسمنة وفرط (ارتفاع) ضغط الدم، وأيضا فيما يتعلق بمشكلات سلوكية تشمل الحساسية للعقاقير drug sensitivity والاعتماد dependence.
إن إيجاد المواضع QTLs أكثر صعوبة من تعرف طفرات جينية مفردة مسؤولة عن بعض الاضطرابات المعرفية. لقد تناول فلكر هذه المعضلة بتطوير طريقة مماثلة لتحليل DF للطرفيات، إذ يتم إيجاد ترابط بين اختلافات معينة في الدناDNA وبين فروق الأشقاء فيما يتعلق بالسمات الكمية. ولأن التأثيرات الجينية أسهل كشفا عندما تكون في الطرف الأقصى لِبُعْد من الأبعاد، فإن هذه الطريقة تكون أكثر جدوى عندما يكون فرد واحد على الأقل من كل زوج شقيق متطرفا في سمته. إن باحثين ينتسبون إلى مركز بحوث كولورادو لعجز التعلم (في جامعة كولورادو) كانوا أول من استعمل هذه التقنية (التي تعرف بترابط QTL) في محاولة لتعيين الموضع QTL لعجز القراءة، وأفلحوا في ذلك. لقد قام بنشر هذا الاكتشاف عام 19944 باحثون ينتمون إلى جامعة كولورادو في بولدر وجامعة دنڤر ومستشفى بويز تاون للبحوث الوطنية في أوماها.
ومثل كثير من تقنيات الوراثة الجزيئية، فإن الأساس في ترابط الموضع QTLهو تعيين الفروق في واسمات الدنا: شُدف (مقاطع) الدنا التي تشغل أماكن خاصة على الصبغيات، وتتفاوت بعض الشيء من فرد إلى آخر. وتعرف النسخ المختلفة من الواسمة ـ كالنسخ المختلفة من الجينات ـ بالأليلات alleles. ولأن كل فرد منا يحمل نسختين من كل صبغي ما عدا الصبغيين X و Y المعيِّنيْن للجنس في الذكور، فإن لدينا أليلين من كل واسمة من واسمات الدنا. ونتيجة لذلك، فإن الأشقاء يتشاركون أليلا واحدا من ألائل الواسمة أو أليلين أو لا يتشاركون أيا منها. وبمعنى آخر، فإن الأشقاء ـ فيما يتعلق بواسمة من الواسمات ـ إما أن يماثلوا التوائم المتطابقة (أي يتشاركون الأليلين معا) أو يماثلوا التوائم الأخوية (أي يتشاركون نصف الألائل) أو يماثلوا أشقاء التبني (أي لا يتشاركون أي أليل من الألائل).
إن الباحثين الذين وجدوا الموضع QTL الخاص بعجز القراءة، عينوا فردا من التوأمين العاجزين عن القراءة، وحصلوا بعدئذ على درجات القراءة لفرد التوأم الآخر، أي «تميم التوأم» co-twin. فإذا كانت درجات القراءة لتمائم التوائم أسوأ عندما يتشاركون ألائل واسم خاص مع توائمهم العاجزين عن القراءة، فمن المرجح عندئذ أن تتوضع الواسمة قرب الموضع QTL الخاص بعجز القراءة من المنطقة الصبغية نفسها. لقد وجد الباحثون مثل هذه الواسمة على الذراع القصيرة للصبغي 6 في عينتين مستقلتين، تعود إحداهما إلى توأمين أخوين والأخرى إلى شقيقين غير توأمين. ومنذ ذلك الحين، أخذ باحثون آخرون يؤكدون هذه النتائج.
ومع أن هذه الدراسة ساعدت على تحديد موقع الجينة (أو الجينات) التي تتدخل في عجز القراءة، فإن هذه الجينة (أو هذه الجينات) لم يتم توصيفها بعد. إن هذا التمييز يعرِّفنا النقطة التي وصلت إليها وراثيات المعرفة: إنها تقف متوازنة على عتبة سوية جديدة من الاكتشافات. إن تعرُّفَ الجينات التي تؤثر في قدرات معرفية نوعية، سيُحدث ثورة في فهم الباحثين للعقل. وبالفعل، فإنه سيكون للوراثة الجزيئية أثر بعيد المدى في دراسة أنواع السلوك البشري كلها. وسيغدو قريبا بمقدور الباحثين أن يتحروا الاتصالات بين السمات المختلفة وبين الآليات السلوكية والبيولوجية. وسيصير بوسعهم أن يقتفوا، على نحو أفضل، سيرورة تنامي التأثيرات الجينية وأن يُعرِّفوا بدقة أكبر التآثرات بين الجينات والبيئة.
إن اكتشاف جينات أنواع الاضطراب والعجز، سيساعد أيضا السريريين على تصميم معالجات أشد نجاعة وعلى تعرُّف الأشخاص الذين هم عرضة للخطر زمنا قبل ظهور الأعراض. وحقيقة الأمر أنه يُسبر حاليا غور هذا السيناريو بدراسة الأليل المعروف بالرمز Apo-E4، ذي العلاقة بالخَرَف (الخبل) dementiaوتراجع المعرفة (الإدراك) لدى الكهول. وبطبيعة الحال، فإن تعرُّفَ جينات نوعية سيأتي بمشكلات جديدة، من بينها وصف أصحابها بصفات مجحفة والتحيز ضدهم. ويتخوف الوراثيون دائما من أن واسمات الدنا ستُسْتَعمل من قبل الآباء كي ينتقوا قبل الولادة «تصميم الطفل» المطلوب.
وليس بوسعنا التأكيد أكثر من اللازم على أن التأثيرات الجينية لا تعني الحتمية الوراثية أو أنها تقييد للتدخلات البيئية. وعلى الرغم من أن بعض القرّاء قد يجد أن رؤيتنا مثيرة للجدل، فإننا نعتقد أن الفوائد ـ التي ستجنى من تعرف جينات الأبعاد والاضطرابات المعرفية ـ ستفوق كثيرا سوء الاستعمال المحتمل.
المؤلفان
Robert Plomin – John C. De Fries
لقد تعاونا معا مدة تزيد على عشرين عاما. پلومين ـ الذي عمل مع دفريز ما بين عامي 1974 و 1986 في جامعة كولورادو ببولدر ـ يشغل منصبي أستاذ باحث في وراثيات السلوك ونائب مدير مركز بحوث الطب النفساني الاجتماعي والوراثي والنمائي في معهد الطب النفساني بلندن. أما دفريز فيدير معهد كولورادو لوراثيات السلوك ومركز بحوث كولورادو لعجز التعلم التابع لجامعة كولورادو. إن مشروع كولورادو للتبني الذي أطلقه مؤلفا المقالة عام 1975، أنتج حتى الآن ثلاثة كتب وأكثر من مئة ورقة بحث. كما يُعَدّ پلومين ودفريز المؤلفين الرئيسيين في الكتاب المدرسي «الوراثيات السلوكية» الذي طبع الآن للمرة الثالثة.
مراجع للاستزادة
NATURE, NURTURE AND PSYCHOLOGY. Edited by Robert Plomin and Gerald E. McClearn. American Psychological Association, Washington, D.C., 1993.
GENETICS OF SPECIFIC READING DISABILITY. J. C. DeFries and Mari¬cela Alarcon in Mental Retardation and Developmental Disabilities Research Reviews, Vol. 2, pages 39-47; 1996.
BEHAVIORAL GENETICS. Third edition. Robert Plomin, John C. De¬Fries, Gerald E. McClearn and Michael Ruttec W H. Freeman, 1997. SUSCEPTIBILIT]’ LOCI FOR DISTINCT COMPONENTS OF DEVELOPMENTAL DosLExIA ON CHROMOSOMES 6 AND 15. E. L. Grigorenko, E B. Wood, Iv1. S. Meyer, L. A. Hart, W. C. Speed, A. Schuster and D. L. Pauls in American Journal of Human Genetics, Vol. 60, pages 27-39; 1997.
Scientific American, May 1998
(1)combined: موالفة عدد من العوامل في محصلة مشتركة واحدة. (التحرير)
(2) identical twins: توائم من بيضة واحدة.
fraternal twin (3) توائم من تلقيح (إخصاب) بويضتين اثنتين. (التحرير)
(4) مشارفة الاحتلام، مناهزة البلوغ.
(5) National Merit Scholarship Corporation.
(6) continuum: تعبير تستعيره البيولوجيا أحيانا من النسبية العامة (متصل الزمكان space-time continuum، حيث ألغت هذه النسبية فكرة الزمن المطلق، كما كان نيوتن قد ألغى فكرة الموقع المطلق في المكان. وتعالج النسبية العامة متصل المكان-الزمن كأي معلم فيزيائي آخر). إنَّ لكل ملكة من ملكات العقل (الذكاء، المعرفة،..) متصلا تشريحيا في الدماغ، أو متضمنة modular منتشرة (أو نموذجا تضمينيا)، يتألف من متضمنات جزئية متميزة، إنما يشكل متصلا واحدا. (التحرير)
(7) phenylketonuria: مرض وراثي غالبا ما يتسبب بتخلف عقلي. (التحرير)