نشوء الحشود المجرِّيَّة وتطورها
نشوء الحشود المجرِّيَّة وتطورها(*)
أثقل الأشياء في الكون هي حشود هائلة من المجرات
والغاز تكتلت ببطء على مدى بلايين السنين.
وربما كانت عملية التكتل هذه الآن في طريقها إلى الانتهاء.
<P .J. هنري> ـ <G .U. بريل> ـ <H. بوهرينگر>
مجرتان ساطعتان في حشد الذوّابة، إحداهما إهليلجية (أعلى اليسار) والأخرى حلزونية (أعلى اليمين)، تظهران في هذه الصورة المركَّبة التي التقطها مقراب هابل الفضائي عام 1994. لقد كان حشد الذوّابة، الذي يبعد عنا نحو 300 مليون سنة ضوئية، واحدا من الحشود المجرّيّة الأولى التي اكتشفها الفلكيون. ومعظم البقع الأخرى التي تظهر في هذه الصورة هي مجرّات تقع على مسافات أبعد. |
كان صياد المذنبات Ferret of Comets الملكي مشغولا بتعقب فريسته. ففي ليلة منتصف الشهر 4/1779، شاهد <Ch. ميسييه> من مرصده الباريسي المذنب 1799 Comet وهو يجتاز طريقه ببطء بين حشدي العذراء وذُوَّابة برنيكي(1) ComaBerenices خلال رحلته الطويلة عبر النظام الشمسي. ولقد كانت شهرةُ ميسييه في اكتشاف المذنبات هي السبب في أن يمنحه الملك لويس الخامس عشر لقب صياد المذنبات، لكن اسمه دخل في تلك الليلة كتب تاريخ علم الفلك لسبب آخر. فقد لاحظ ثلاث رقع غير واضحة في السماء تشبه المذنبات، لكنها لم تكن تتحرك من ليلة إلى أخرى؛ ومن ثَمَّ فقد أضافها إلى قائمة الظواهر المجهولة حتى لا تضلله خلال عمله الرئيسي، ألا وهو البحث عن المذنبات. وقد ذكر في وقت لاحق أنه توجد على حدود حشدي العذراء والذوّابة منطقة صغيرة تحتوي على 13 لطخة من اللطخات المستقرة التي عددها 109، والتي حددها بمساعدة <P. ميشان>، وهي أجسام ميسييه المعروفة جيدا في هذه الأيام للهواة والمحترفين من الفلكيين.
وكما يحدث غالبا في علم الفلك، وجد ميسييه شيئا مختلفا تماما عمّا كان يبحث عنه. فقد اكتشف أول مثال على أثقل الأشياء الموجودة في الكون، وهي الحشود المجرّيّة التي يتماسك بعضها ببعض بفعل ثقالتها الذاتية. وكما أن المجرات هي تجمعات للنجوم، فإن هذه الحشود هي أيضا تجمعات من المجرّات. وتشغل هذه الحشود في المخطط التنظيمي الكوني المرتبة الثانية في الثقل بعد الكون نفسه. وفي الحقيقة، فإن النسبة بين ثقلها وثقل الإنسان تتجاوز نسبة وزن الإنسان إلى وزن جسيم دون ذري.
إن الحشود المجرية هي أقرب ما يمكن للفلكيين أن يلجؤوا إليه لدراسة الكون من خارجه. ولمّا كان الحشد يحتوي على نجوم ومجرات من جميع الأعمار والأشكال، فإنه يمثل عينة متوسطة للمادة الكونية تشمل المادة الخفية التي تنظم حركات الأجرام السماوية من دون أن نتمكن من رؤيتها بالعين المجرّدة. وبسبب كون الحشد ينشأ نتيجة لوجود قوى تثاقلية هائلة، فإن بنيته وتطوره يرتبطان ببنية وتطور الكون ذاته. وهكذا فإن دراسة الحشود تقدم حلولا لثلاثٍ من أهم المسائل في علم الكونيات (الكوسمولوجيا) وهي: تركيب الكون وتنظيمه ومصيره النهائي.
وبعد بضع سنوات من قيام ميسييه بإجراء أرصاده في باريس، بدأ <W. هيرشل> وشقيقته <كارولاين> برصد أجسام ميسييه من حديقتهما في إنكلترا، وقد دفعهما فضولهما إلى البحث عن أشياء أخرى مماثلة. وقد أدى استعمالهما مقاريب أفضل كثيرا من تلك التي استعان بها سلفهما الفرنسي إلى العثور على أكثر من 2000 بقعة غير واضحة المعالم ـ كانت 300 منها واقعة في حشد العذراء المجرِّيِّ وحده. وقد لاحظ وليام وابنه جون التنظيم التكتلي الذي تتسم به هذه البقع في السماء. تُرى، ما الذي نظّم هذه البقع (التي نَعرف اليوم أنها مجرات) بهذه الأنماط التي شاهداها؟
وفي منتصف الثلاثينات برز سؤال ثان حين قاس الفلكيان <F. زُوِيِكي> و <S. سميث> سرعات المجرات في حشد العذراء وفي حشد آخر في الذوّابة أبعد قليلا. ومثلما تسبح الكواكب في أفلاكها حول مركز كتلة النظام الشمسي، فإن المجرّات تدور حول مركز كتلة حشدها. بيد أن المجرّات كانت تسير في أفلاكها بسرعات كبيرة لم تمكِّن كتلتَها الإجمالية من توفير قوى الجذب التثاقلي الكافية لجمعها معا. ويتعين على الحشود أن تكون أثقل 100 مرة تقريبا من أثقال إجمالي المجرّات المرئية، وإلا لكانت المجرّات غادرت الحشود منذ أمد بعيد. وكانت النتيجة الحتمية هي أن الحشود كانت مكوّنة في معظمها من مادة «خفية» غير مرئية. ولكنْ ما هي هذه المادة؟
وهذان السرّان ـ التوزّع غير المنظم للمجرات في الفضاء والطبيعة المجهولة للمادة الخفية ـ ما انفكّا يؤرّقان مضاجع الفلكيين حتى أيامنا هذه. وقد غدا أولهما أكثر إرباكا بعد اكتشاف إشعاع الخلفية الكوني المكروي الموجة في منتصف الستينات. وهذا الإشعاع، الذي تولد بسرعة فائقة بعد الانفجار الأعظم وقبل تكوّن المجرات والنجوم، سلس تماما تقريبا. وبطريقة ما تتنامى حالات عدم الانتظام الضئيلة التي تشوبه لتكوِّن البنى الموجودة حاليا، لكن هذه العملية مازالت غير واضحة. وفيما يتعلق بالمادة الخفية، فقد حصل الفلكيون على معلومات أكثر قليلا عمّا كان متوافرا في أيام زويكي. بيد أنهم مازالوا في وضع غير مريح بسبب جهلهم مكوّنات معظم الكون [انظر: «المادة الخفية في الكون»، مجلة العلوم، العدد 4 (1990)، ص 50].
ضوء من المادة الخفية
لقد نجم عن المحاولات الدؤوبة لحل الألغاز التي تكتنف هذين السرين أن تسارعت الاكتشافات المتعلقة بالحشود خلال السنوات الأربعين السابقة. ويعرف الفلكيون الآن نحو 10000 منها. وجدير بالذكر أن الفلكي الأمريكي <G. أبيل> قدّم أول قائمة موسعة في أوائل الخمسينات مستندا إلى الصور الفوتوغرافية للسماء الشمالية الكلية التي حُصِلَ عليها من مرصد پالومار في كاليفورنيا. وبحلول السبعينات شعر الفلكيون بأنهم فهموا على الأقل الخواص الأساسية للحشود، فهي تتكون من مجرات منطلقة بسرعة مفرطة، وتربطها معا مقادير ضخمة من المادة الخفية، كما أنها تشكيلات مستقرة وغير قابلة للتغير.
وفي عام 1970 أُطلق ساتل جديد سمِّي أوهورو Uhuru (تعني «أوهورو» باللغة السواحلية «الحرية») للدلالة على أنه أُطلق من كينيا. وقد بدأ هذا الساتل يرصد شكلا من الأشعة تعذَّر على الفلكيين تقريبا الحصول عليها حتى هذا الوقت، ألا وهي الأشعة السينية. وقد قام <M .E. كيلوگ> و<H. كيرسكي> وزملاؤهما (من شركة صغيرة في ولاية ماساتشوستس، اسمها American Scienceand Engineering) بتوجيه أوهورو شطر حشدي العذراء والذوّابة. وكان أن وجدوا أنّ هذين الحشدين غيرُ مؤلّفين من مجرّات فحسب، بل أيضا من مقادير هائلة من غاز يغشى الفضاء المحصور بين المجرّات. وكثافة هذا الغاز منخفضة جدا إلى درجة تجعله لا يُرى في الضوء المرئي، لكنه حار جدا ـ إذ إن حرارته أعلى من 25 مليون درجة سيلزية ـ وهذه الحرارة تجعله يصدر أشعة سينية.
يظهر حشد الذوابة مختلفا في الضوء المرئي (في اليسار) عنه في الأشعة السينية (في اليمين). ففي الضوء المرئي يبدو مجرد تجمّع من المجرات، أمّا في الأشعة السينية، فهو كرة ضخمة من الغاز الساخن قطرها نحو خمسة ملايين سنة ضوئية. |
وباختصار، فقد وجد الفلكيون بعض المادة الخفية ـ 20 في المئة منها. ومع أن الغاز وحده لا يكفي لكشف سر المادة الخفية كلها، فإن كتلته ليست أكبر من كتلة جميع المجرّات مجتمعة. وإلى حدٍّ ما، فإن مصطلح «حشود المجرات» ليس دقيقا، إذ إن هذه الحشود ليست سوى كرات من الغاز تنطمر فيها المجرات وكأنها بذور في بطيخة [انظر:
“Rich Clusters of Galaxies,” by P. Gorenstein – W. Tucker; Scientific American, November 1978].
ومنذ أوائل السبعينات، وحتى الآن، رُصِد بثُّ الأشعة السينية عن طريق سواتل أخرى مثل مرصد آينشتاين للأشعة السينية Einstein X-Ray Observatory، وساتل رونتجن (روسات) Roentgen Satellite ROSAT ، والساتل المتقدم للكوسمولوجيا والفيزياء الفلكية (أسكا) Advanced Satellite for Cosmology andAstrophysics ASCA . وقد استخدمنا في بحثنا الخاص أرصاد ساتل رونتجن في المقام الأول. ومقراب هذا الساتل، الذي كان أول مقراب للأشعة السينية يسجل صورا لكامل السماء، مناسب جدا لإجراء أرصاد للأجسام المنتشرة الضخمة كالحشود، وهو يقوم الآن بأخذ صور مفصلة لها. وقد مَكَّنَتْ هذه التقانة الجديدة الفلكيين من توسيع مكتشفات ميسييه وزويكي وغيرهما من الرواد.
ويُرى حشد الذوابة في الأشعة السينية شكلا منتظما في معظمه، لكنه يحوي قدرا قليلا من التكتلات [انظر الشكل الأيسر في الصفحة 20]. ويبدو أن هذه التكتلات مجموعات من المجرات ـ أي حشود مصغرة. ويسير أحد هذه التكتلات ـ الموجودُ في الجنوب الغربي من حشد الذوّابة ـ باتجاه القسم المركزي من الحشد، حيث توجد تكتلات أخرى. وبغية المقارنة، فإن لحشد العذراء شكلا غير منتظم. وعلى الرغم من أن فيه مناطق تتسم بإصدار إضافي للأشعة السينية، فإن هذه البقع الساطعة انبثقت من مجرّات ميسييه وليس من تكتلات من الغاز [انظر الشكل الأيمن في الصفحة 20]. والمنطقة المركزية في الجزء الشمالي من برج العذراء هي الوحيدة التي تتمتع ببنية تناظرية تقريبا.
إن امتصاص حشدٍ زمرةً من المجرات يجعله يتنامى إلى حجوم هائلة. وعند سَحْبِ الزمرة نحو داخل الحشد بفعل الثقالة، فإنها تنطلق بسرعة دافعة الغاز إلى جانبيها. وتندفع المجرّات نفسُها عبر الحشد، من دون أن يعيق تقدمَها الغازُ غيرُ الكثيف. وفي نهاية المطاف تختلط المجرّاتُ والغاز مكوِّنة حشدا موحَّدا يستمر في سحب زمر أخرى إلى أن لا يجد مزيدا منها. |
لقد دَفَعَتْ صور الأشعة السينية هذه الفلكيين إلى الاستنتاج بأن الحشود تتكوَّن من اندماج زمر من المجرات. ومن الممكن الافتراض بأن التكتلات الموجودة في الجزء المركزي من حشد الذوابة تمثِّل زمرا من المجرات سُحبت نحو المركز من دون أن تهضم تماما هنالك. أما حشد العذراء فيبدو أنه تكوَّن في مرحلة أبكر. ومازال هذا الحشد يَسحب إلى داخله مادة محيطة به، ويمكن القول بأنه، بالمعدل الحالي لتطور حشد العذراء، سيصبح هذا الحشد بعد بضعة بلايين من السنين شبيها بحشد الذوابة. ووجهة النظر التحريكية (الديناميكية) التي تقول بأن هذه الحشود تبتلع المادة المجاورة لها، تناقض تماما النظرية السكونية (الستاتيكية) التي تبناها الفلكيون منذ بضع سنوات فقط.
ثلاثة حشود مجرية في مراحل مختلفة من تطورها، كما تبدو في صور الأشعة السينية (العمود الأيسر) وخرائط درجات الحرارة (العمود الأيمن). يقوم الحشد الأول، وهو أبيل 2256، بابتلاع زمرة صغيرة من المجرات تتميز بحرارتها المنخفضة نسبيا. ويشير اللون الأحمر على الخريطة إلى حرارة منخفضة نسبيا، والبرتقالي إلى حرارة متوسطة، والأصفر إلى حرارة عالية. |
قياس درجات حرارة الحشود
منذ أن حصل الفلكيون على أول صور أشعة سينية جيدة في أوائل الثمانينات، فإنهم كانوا يريدون قياس تغيرات درجة حرارة الغاز الذي يتخلل الحشود. لكن إجراء هذه القياسات أمر أصعب كثيرا من التقاط الصور؛ لأنه يتطلب تحليلا لِطَيْف الأشعة السينية لكل نقطة من الحشد. ومن ثَمّ لم تظهر أول خرائط لدرجات الحرارة إلا في عام 1994.
الحشد الثاني، أبيل 754، الذي يبعد مئات ملايين السنين، خلال هضمه زمرة مجرية. وربما دَخَلَتِ الزمرة السيئة الحظ الحشدَ من الجهة الجنوبية الشرقية؛ لأن الحشد متطاول في هذا الاتجاه. وقد انفصلت مجرات الزمرة عن غازاتها وشقت طريقَها عبر الحشد. |
لقد بيّنت هذه الخرائطُ أن عملية تكوّن الحشود هي عملية عنيفة. وعلى سبيل المثال، تُظْهِرُ صورُ حشدِ أبيل 2256 Abell أنه لا يوجد لإصدار الأشعة السينية ذروة واحدة فقط بل اثنتان. هذا وإن الذروة الغربية أكثر انبساطا بقليل، وهذا يوحي بأن زمرة من المجرات مندفعة في الحشد الرئيسي قد جرفت في طريقها مادة، تماما كما تفعل المركَبة التي تُزيل الثلوجَ من الطرقات. ومن شأن خريطة لدرجات الحرارة أن تدعم هذا التفسير [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وقد تَبيّن أن الذروة الغربية باردة نسبيا، إذ إن درجة حرارتها هي سمة مميِّزة للغاز الموجود في زمرة من المجرات. ولمّا كانت زمر المجرات أصغر من الحشود المجرية، فإن القوى التثاقلية تكون أضعف فيها، ومن ثَمّ فإن سرعة جزيئات الغاز داخلها ـ أي درجات حرارتها ـ تكون أخفض. إن الزمرة النموذجية تكون أثقل 50 تريليون مرة من ثقل الشمس، ولها حرارة تقدر بعشرة ملايين درجة سيلزية. وبغية المقارنة، فإن ثقل حشد نموذجي يكبر ثقل الشمس 1000 تريليون مرة ويسجل درجة حرارة قدرها 75 مليون درجة سيلزية؛ وأثقل حشد معروف يعادل خمسة أمثال ثقل هذا الحشد النموذجي، ودرجة حرارته أعلى ثلاث مرات.
لقد قطع الحشد الثالث (أبيل 1795) عدة بلايين من السنين منذ آخر وجبة التهمها. إنّ كلا من سطوع أشعته السينية ودرجة حرارة غازه متناظران. ويوجد في قلب الحشد بقعة باردة، هي منطقة من غاز كثيف أشع قدرا كبيرا من حرارته. |
من تطور المجرات إلى تطور الكون
ما انفكّ الكونُ يتمدد منذ حدوث الانفجار الأعظم. وجميع الأجسام غير المترابطة معا بفعل الثقالة أو قوى أخرى تتباعد عن بعضها. لكن هل يمكن أن يستمر التمدد الكوني إلى الأبد، أم أنّ ثقالة كل المادة الموجودة في الكون كافية لإيقافه؟ لقد أخفقت المحاولات التقليدية للإجابة عن هذا السؤال؛ لأنها تتطلب إحصاء دقيقا لمجموع ما في الكون من مادة. وهذه مهمة شاقة لأن معظمها مادة خفية غير مرئية.
وقد نشأ الآن اتجاه جديد للبحث نتيجة لدراسة تطور الحشود المجرّيّة. بمرور الزمن، تنمو الحشود بضمها للمادة إلى أن تستنفد المادة الموجودة في مجالها التثاقلي. وكلما زاد مقدار المادة هناك، تضخمت الحشود أكثر وازدادت سرعتها (في اليمين). ولو وُجِدَ في الكون مادة تكفي لجعله يتوقف عن التمدد، لكان أقلُّ من 10 في المئة من الحشود الضخمة الموجودة اليوم موجودًا في مواقعه الملائمة منذ أربعة بلايين سنة ـ وَلوَجَبَ أن تكون ثمة حشود جديدة مازالت تتكوَّن وتنمو في هذه الأيام. من ناحية أخرى، لو لم يحتو الكون إلا على ربع المادة اللازمة لإيقاف تمدده، لكانت جميعُ الحشود الضخمة المرصودة الآن موجودة في مواقعها الملائمة منذ أربعة بلايين سنة، ولما حَدَثَ مزيد من النمو منذ ذلك الحين. ويدعم معدلُ التطوّرِ المجري المرصود السيناريو الأخير ـ ذلك أنه لمّا كانت الحشود المجرّيّة قد توقفت أساسا عن النمو، فلا بد من أن يكون قدْر المادة الموجودة في الكون قليلا نسبيا. ومِن ثَمّ فإن الكون سيتمدد إلى ما شاء الله (ما لم توجد مادة لها خواص فيزيائية غريبة، مثل الدفع (الطرد) التثاقلي الذي يتغير مع الزمن). ويعزز هذا السيناريو قياسات حديثة أخرى للتمدد الكوني أُجريت لمستعرات عظمى بعيدة ولمعالم كونية أخرى. ومع أن ملفّ هذه القضية لم يغلق بعد، فثمة شواهد عديدة مستقلة أخرى تزيد من احتمال كون الفلكيين يعرفون فعلا المصير النهائي للكون. |
وتَظهر منطقتان حارتان في حشد أبيل 2256 على طول خط عمودي على اتجاه الحركة المفترضة للزمرة. ويبدو أن الحرارة تتولّد عندما تندفع المادةُ التي تجرفها الحركة خارجا على طرفي اتجاه الحركة، وتضرب بعنف غاز الحشد الرئيسي. والواقع إن هذه الأرصاد تتفق مع المحاكيات الحاسوبية للزمر التي تندمج معا. ويتحتم على الزمرة أن تشق طريقَها نحو مركزِ الحشدِ إلى أن تدركه بعد عدة مئات من ملايين السنين. وهكذا فإن حشد أبيل 2256 مازال في المراحل المبكرة من الاندماج.
إن المراحل المتأخرة من الاندماج تتضح في حشدٍ آخر هو أبيل Abell 754. فلهذا الحشد سمتان مميِّزتان، إحداهما هي أن الصور الفوتوغرافية الضوئية تُبيّن أن مجراتِ الحشد تتجمّع في تكتلين. أما السمة الأخرى فهي أن أرصاد الأشعة السينية تُظْهِر مَعْلَما بشكل قضيب تنطلق منه غازات الحشد الحارة. إن أحد تكتلي المجرة واقع في منطقة القضيب، أما الآخر فيوجد في حافة المنطقة ذات الحرارة المرتفعة غربا.
تُظهرُ صورُ الأشعة السينية لحشدي الذوّابة (في اليسار) والعذراء (في اليمين) الغاز الحارَّ بين المجري الذي يهيمن على الجزء المضيء من هذين الحشدين. وللغاز الموجود في حشد الذوابة شكل أكثر انتظاما من الغاز في حشد العذراء، وهذا يوحي بأن حشد الذوابة بلغ مرحلةَ تكوُّنٍ متقدمة. وكلا الحشدين محاط بمادة تتساقط نحو الداخل. |
ويمكن للعلماء النظريين شرحُ هذه البنية بتقديم تشبيه لها. لنتصور أننا نقذف في بركة للسباحة بالونا مليئا بماء يحوي بعضَ الحصيّات. إن البالون يمثل الزمرة المندمجة: فالماء هو الغاز والحصيّات هي المجرّات؛ أما بركة السباحة فهي الحشد الرئيسي. وعندما يصطدم البالون بماء البركة فإنه يتمزق، ويبقى ماؤه في السطح ويمتزج بماء البركة ببطء شديد، أما الحصيّات فيمكنها أن تتجه نحو الجانب الآخر من البركة. ويبدو أن عملية مشابهة جَرَتْ في أبيل 754، إذ إن غاز الزمرة المندمجة توقف فجأة بوساطة غاز الحشد، في حين شقت مجرات الزمرة طريقها عبر الحشد إلى حافته البعيدة.
وثمة حشد ثالث، هو أبيل Abell 1795، يبيِّنُ الشكل الذي يتّخذه حشدٌ بعد الاندماج ببلايين السنين. إنّ حدود هذا الحشد ملساء تماما، ودرجة حرارته منتظمة تقريبا، وهذا يدل على أن الحشد المذكور هَضَمَ جميع زمره واستقر في وضع توازني. والاستثناء هنا هو المنطقة الباردة في المركز تماما. وتحدث درجات الحرارة المنخفضة بسبب كثافة الغاز في المركز، والغاز الكثيف يصدر أشعة سينية بفعالية أكبر من الغاز المخلخل. وإذا تُرِكَ الغازُ الكثيفُ من دون أن يتعرض لأيّ اضطراب طوال بليونين أو ثلاثة بلايين سنة، فعندئذ يمكنه التخلي عن قدر كبير من طاقته الأصلية، ومن ثَمّ تنخفض درجة حرارته.
وخلال تبرّد الغاز، تتراكم كميات كبيرة من المادة الفاترة الحرارة ـ وهذه الكميات تكفي لتوليد مجرة جديدة كاملة. تُرى، أين ذهبت هذه المادة كلها؟ على الرغم من البحوث المضنية، فمازال يتعين على الفلكيين أن يحددوا على نحو حاسم مواقع أي جيوب للغاز الفاتر. إن كوْن غاز الحشد يفقد حرارةً الآن أمرٌ واضح من خرائط درجات الحرارة. وربما لم يبدأ ضياع الحرارة إلا منذ عهد قريب إلى حدٍّ ما، أو ربما كان تصادم زمر المجرات يَحُولُ دون تجمّع الغاز البارد في بقعة واحدة. ويبقى ما يسمى بالجريانات المبرِّدة سرا آخر لم يُكشف بعد.
يمتد النظام الهرمي للبنى الكونية من النجوم والكواكب إلى الكون ذاته. وأكبر الأشياء التي تترابط أجزاؤها معا بالثقالة هي الحشود المجرّيّة التي تصل كتلة بعضها إلى 1015 كتلة شمسية. وعلى الرغم من وجود مستوى عال من التنظيم مؤلف من حشود فائقة وجدران ضخمة، فإن هذه الحشود والجدران غير مترابطة معا تثاقليا. وبالارتقاء إلى مقاييس أكبر، نجد أن الكون ليس له سمة محددة. ويظن الفلكيون أن معظم هذه البنى تتكوّن نتيجة للتكتل المتتالي لوحدات أصغر. |
من الأصغر إلى الأكبر
من المحتمل أن تكون السلسةُ الممثَّلة بحشود أبيل الثلاثة هذه حدثت في كل حشد خلال تطوره. وتلتحق زمرٌ من المجرات بالحشد من وقت لآخر؛ وحين تلتحق زمرة بحشد تمنحه غازا حارا ومجرات ساطعة ومادة خفية. وتولِّد هذه المادة الإضافيةُ قوى تثاقلية أشد تسخِّن الغاز وتسرِّع المجرّات. ويعتقد معظم الفلكيين بأن معظم البنى الكونية تكتلت بهذه الطريقة من الأصغر إلى الأكبر. فقد اندمجت الحشود النجمية لتكوِّن مجرّات، وهذه المجرّات اندمجت بدورها لتكوِّن زمرا من المجرّات تقوم الآن بالاندماج لتكوِّن حشودا من المجرات. وفي المستقبل، سيأتي دور الحشود لتندمج وتكوِّن بنى أكبر. بيد أن ثمة حدا لتمدد الكوْن؛ ففي نهاية المطاف ستكون الحشود المجرية بعيدة جدا بعضها عن بعض، الأمر الذي يَحُولُ دون اندماجها. وفي الواقع فقد يكون الكون مقتربا فعلا من هذه الحالة.
وبالمقاييس الكونية، فإن جميع الحشود المذكورة آنفا (الذوّابة والعذراء وأبيل 2256 و 754 و 1795) قريب بعضها من بعض. والجهود التي يبذلها الفلكيون لفهم نموها شبيهة بمحاولة فهم تكاثر البشر انطلاقا من صورة فوتوغرافية تضم مجموعة من الناس. وبقليل من الاهتمام، يمكنك فرز الناس في الصورة بتحديد متتالية أعمارهم. بعد ذلك يمكنك الاستنتاج أنه فيما تتزايد أعمار الناس، فإنهم يصبحون أطول، وهذا أحد التغيرات المرئيّة من بين تغيرات أخرى.
يمكنك أيضا دراسة التكاثر البشري بفحص مجموعة من الصور الفوتوغرافية يضمّ كل منها أناسا من عمر معين فقط ـ كأن تكون صورا لصفوف من المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. وعلى نحو مشابه، يمكن للفلكيين رصد حشود على مسافات آخذة في التزايد، وهذا يوافق أعمارا آخذة في التناقص. ووسطيا، تَكُونُ الحشود في عينة أبعد أصغر سنا من الحشود في عينة أقرب. ومن ثَمّ فبمقدور الباحثين أن يجمعوا معا «صور صفوف» الحشود ذات الأعمار المختلفة. وتتجلى ميزة هذه الطريقة في أنها تتيح للفلكيين التعامل مع عينة كاملة من الحشود بدلا من قلة من الحشود المفردة. أما العلة فهي أن الأجسام الأصغر هي بعيدة لدرجة يتعذر معها دراستها بالتفصيل، إذ يمكن فقط تمييز متوسط خصائصها.
وقد قام أحدنا (هنري) بتطبيق هذا الأسلوب على الأرصاد التي وفرها ساتل الأشعة السينية (أسكا)، فوجد أن الحشود الأبعد والأصغر سنا أبرد من الحشود الأقرب والأكبر سنا. ويُظهِر هذا التغير في درجة الحرارة أن الحشود تصبح أسخن، ومن ثم أثقل، بمرور الزمن ـ وهذا إثبات آخر للنموذج الذي أسميناه «من الأصغر إلى الأكبر». وانطلاقا من هذه الأرصاد، قدّر الباحثون المعدل الوسطي لتطور الحشود في الكون. وهذا المعدل، الذي يرتبط بالتطور الإجمالي للكون وبطبيعة المادة الخفية، يقتضي أن يكون الكون آخذا في التمدد إلى الأبد [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 20].
وقد تلقي أرصاد الأشعة السينية الجديدة بعض الضوء على ما تبقّى من المادة الخفية في الحشود. وبحلول عام 2000 ستعتلي ثلاثة مراصد متطورة للأشعة السينية مداراتها وهي: مرفق الفيزياء الفلكية المتقدم للأشعة السينيةAdvanced X-Ray Astrophysics Facility من الولايات المتحدة، والبعثة المتعددة المرايا للأشعة السينية X-ray Multi-mirror Mission من أوروبا، وأستروE- Astro من اليابان.
وفي الوقت نفسه، ثمة أرصاد لنمط آخر من الإشعاع، يسمى الضوء فوق البنفسجي المتطرف(2) extreme ultraviolet light، وهذه الأرصاد تطرح أحجيات جديدة. وللإشعاع فوق البنفسجي المتطرف طاقة لا تصغُر طاقة الإشعاع السيني إلا قليلا. وهو يُمتص بقوة بوساطة المواد الموجودة في مجرّتنا، ومن ثَمّ افترض الفلكيون أن معظم الحشود لا تُرى في هذا النطاق من الأطوال الموجية. بيد أنّ <R. ليو> (من جامعة آلاباما في هنتسڤيل) و <S .C. بُويَرْ> (من جامعة كاليفورنيا في بركلي) وزملاءهما اكتشفوا خمسة حشود باستعمال المعلومات التي حُصِل عليها من الساتل الحساس مستكشف الإشعاع فوق البنفسجي المتطرف Extreme Ultraviolet Explorer.
إن هذه الحشود التي اكتشفوها تتألق بقوة في الإشعاع فوق البنفسجي المتطرف. وقد كان هذا الاكتشاف غير متوقَّع إلى حد ما، وهذا يذكِّرنا بأول اكتشاف للأشعة السينية الصادرة عن الحشود، والذي حدث في أوائل السبعينات. ومع أن بعض الإشعاعات تنطلق من الغاز نفسه الذي يولِّد الأشعة السينية، لكنه يبدو أن ثمة منبعا إضافيا في بعض الحشود على الأقل. وهذا الكشف حديث جدا ولم يفسَّر بعد، وقد يكون الفلكيون يرون للمرة الأولى مركِّبةcomponent أخرى للمادة الخفية في الحشود المجرية. وربما حددت الأجهزة المقبلة للأشعة السينية هذه المركِّبة الجديدة.
ويشعر من اشتغل منا بهذا العمل بأن ثمة رابطة متميزة تربطهم بشارل ميسييه الذي كان يجهد لإلقاء نظرة خاطفة على تلك البقع الباهتة من الضوء الصادر عن حشد العذراء، من دون أن يعرف دلالته الحقيقية. وعلى الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزته تقانتنا، فمازلنا نبذل جهودا جبارة في سعينا إلى فهم هذه الحشود. كذلك فإننا نشعر أيضا بوجود رابطة تجمعنا بالراصدين الذين سيأتون بعدنا؛ لأن العلم يتقدم وفق نهج يتجلّى في إضافات معرفيَّة صغيرة مستمرة. وفي حين تلقينا العون من أولئك الذين سبقونا، فإننا نشاطر ما حصلنا عليه من معارف جديدة أولاءِ الذين سيأتون من بعدنا.
المؤلفون
J. Patrick Henry – Ulrich G. Briel – Hans B?hringer
فلكيون متخصصون بالأشعة السينية ويقومون بدراسة حشود المجرات. في أواخر السبعينات تقابل كل من هنري وبريل خلال عملهما في مرصد الفيزياء الفلكية السميثسوني على أحد أجهزة ساتل مرصد آينشتاين للأشعة السينية. هنري حاليا أستاذ علم الفلك في جامعة هاواي.. بريل وبوهرينگر عضوان في معهد ماكس پلانك لفيزياء خارج الأرض بگارشينگ. وقد اختبر بريل وعايَرَ جهاز الساتل (روسات) الذي خطط خرائط درجات الحرارة التي أوردناها في هذه المقالة. أما بوهرينگر فهو منظِّر يدرس الحشود المجرّيّة وعلم الكونيّات (الكوسمولوجيا) والوسط بين النجميّ.
مراجع للاستزادة
X-RAY EMISSION FROM CLUSTERS OF GALAXIES. Craig L. Sarazin. Cambridge University Press, 1988.
CLUSTERS AND SUPERCLUSTERS OF GALAXIES. Edited by A. C. Fabian. Kluwer Academic Publishers, 1992.
STORMY WEATHER IN GALAXY CLUSTERS. Jack O. Burns in Science, Vol. 280, pages 400-404; April 1998.
AN X-RATED VIEW OF THE SKY. Joshua N. Winn in Mercury, Vol. 27, No. 1, pages 12-16; January/February 1998.
Scientific American, December 1998
(*) The Evolution of Galaxy Clusters
(1) وهي كوكبة مطلعها المستقيم 13 ساعة وميلها 30ْ شمالا. (التحرير)
(2) يسمى أحيانا الإشعاع فوق البنفسجي في الخلاء vacuum ultraviolet radiation، وهو إشعاع فوق بنفسجي طول موجته أقل من 200 نانومتر. (التحرير)