هواة العلم
هواة العلم
فَرْز الجزيئات باستخدام الكهرباء
<Sh. كارلسون>
إن أروع حديقة خاصة رأيتها في حياتي تمتد خلف منزل متواضع في «لاجولا» بكاليفورنيا، ليس بعيدا عن مكان إقامتي. والبستاني هو أستاذ في علم النفس بريطاني المولد وصديق عزيز، وفي كل مرة أزوره أعود من عنده إلى المنزل محملا بالفواكه والأزهار. وقد لاحظت حديثا أن اثنتين من نَبْتاته تنتجان أزهارا أرجوانية بالقتامة نفسها تماما، على الرغم من الاختلاف الكبير في شكل النبتتين. وجعلتني هذه المشاهدة أستعجب مما قد تكون عليه العلاقة بين النوعين.
ويتتبع الإنسان عادة الارتباطات التطورية بين الأنواع، من خلال تعرف تشابهات فيزيائية بينها؛ لذا قررت أن أستخلص المواد الخضابية pigmentsالموجودة في الزهرتين وأن أعزلها حتى أستطيع المقارنة فيما بينها بالتفصيل. وهذه العملية هي في الواقع أسهل بكثير مما قد تبدو عليه، إذ يمكنني بالفعل إجراء التجربة باستخدام تقنية بسيطة تدعى الرَّحَلان الكهربائي electrophoresis فتستغرق مني ساعة واحدة وتكلفني القليل من المال.
إن أكثرية الجزيئات تكون متعادلة كهربائيا، إلا أن بعض الجزيئات الحيوية المهمة مثل البروتينات وبعض قطع جزيئات حمض الدنا والعديد من الأصبغة الطبيعية تحمل شحنة كهربائية سالبة حين تكون على شكل محلول. ويستخدم الرَّحَلان الكهربائي بمهارة مجالا كهربائيا ضعيفا، ليقسر مثل هذه الجزيئات المشحونة على الانسياق عبر وسط يفصلها عن بعضها بما يبديه من مقاومة متفاوتة لحركتها.
ويمكنك بسهولة مشاهدة هذه الظاهرة أثناء حدوثها، بأن تضع قُطَيْرة من صباغ على شريطةٍ من ورق الترشيح (النشّاف) سبق تبليلها بسائل موصل (ناقل) مثل الماء المالح. وعندما نصل طرفي الورقة بقطبي بطارية، تنشأ ڤلطية في الورقة، تسوق جزيئات الصباغ المشحونة عبر الورقة. فتتحرك الجسيمات الموجبة الشحنة نحو الطرف السالب، في حين تتحرك الجزيئات السالبة الشحنة نحو الطرف الموجب. وتحتاج الجزيئات الكبيرة عادة إلى وقت أطول من الوقت الذي تحتاج إليه الجزيئات الصغيرة لتعبر من خلال ألياف الورق، لذا تنساق الجزيئات الصغيرة بسرعة أكبر. وهكذا تسعى الجزيئات المختلفة الموجودة في الخليط إلى فَرْز ذاتها بمرور الوقت حسب أحجامها.
إن صحن الصابون المحتوي على طبقة من هلام الأگاروز يتيح فصل الخلائط الجزيئية المعقدة عن طريق الرَّحَلان الكهربائي. |
ولا يستغرق منا تركيب الجهاز المستخدم إلا بضع دقائق، فنأخذ ورقة كبيرة من أوراق ترشيح القهوة، ونقصّ منها شريطة مستطيلة الشكل عرضها نحو سنتيمتر واحد (نحو نصف بوصة) وطولها نحو 15 سنتيمترا (نحو ست بوصات). ونضع هذه الشريطة الورقية داخل وعاء زجاجي منبسط أو في صحن طبخ. ونلفُّ كل طرف من شريطة الورق حول مسمار، ونستعمل ملقطين تمساحيين لتثبيت الطرفين. ونوصّل الملقطين، بوساطة أسلاك، بخمس بطاريات موصولة على التسلسل (التوالي) قوة كل منها 9 ڤلط.
ولكي نحضّر المحلول الناقل، نمزج نحو 100 مليلتر (أربع أونسات) من الماء المقطّر أو المغلي بغرام ونصف الغرام من ملح الطعام (نحو ربع ملعقة شاي). ثم نبلل الورقة والمسمارين بالمحلول الملحي جيدا، ومن دون أن نسكب كمًّا كبيرا منه في الإناء؛ حتى لا تنغمر الورقة في المحلول.
قالب يساعد على قصّ «المشط» من صينية اللحمة المصنوعة من الستيروفوم. |
وفي البداية لك أن تستعمل خِلالا (عود أسنان) toothpick لوضع قطيرات من عدة تلوينات مختلفة من ملونات الأطعمة على خط واحد ثم توصل المسريين (القطبين) electrodes، لتلاحظ انتشار الألوان بسرعة على شكل عصابات ضيقة مع هجرة جزيئات الخضاب نحو المسرى الموجب. وبعدها امزج نوعين من الألوان، وليكونا مثلا الأحمر مع الأخضر، وأجر التجربة على نقطة صغيرة من المزيج، لتلاحظ أن اللونين يبدآن بالانفصال بعد نحو 20 دقيقة. ويمكن استخدام التقنية ذاتها لفصل خلائط جزيئية أخرى.
وعليه، إليك كيف نكتشف ما إذا كان نوعان من النبات يستعملان الجزيئات نفسها كخضاب. نَسْحق الأزهار أولا، ثم نغمر كل نوع منها في الكحول الأيزوبروبيلي الصافي، ونتركه حتى تترسب الأجزاء الصلبة. ثم نسكب الرشاحتين الملونتين الناتجتين في وعاءين منفصلين ونتركهما تتكثفان من جراء استبخار الكحول. وعندما يقترب الكحول من النفاد تقريبا، نحلّ كلا من الخضابين في بضع قطرات من المحلول الملحي السابق تحضيره.
وبعدها ضع ثلاث نقاط صغيرة من خضاب كل من النبتتين على أحد طرفي شريطة من ورق الترشيح المنقوع، وضع خلطة متساوية منهما في الوسط بين العينتين النقيتين، ثم صل البطاريات. فإذا انفصلت النقطتان الخارجيتان إلى مجموعتين مختلفتين من البقع الملوّنة، وبدت العصابة الداخلية مؤلفة من خليط من البقع الخارجية نستنتج أننا أمام خضابين مختلفين، أما إذا شكلت النقاط الثلاث كلها التشكيلة ذاتها فالأرجح عندئذ أن تكون النبتتان تعتمدان على الجزيئات ذاتها لاكتساب لونها.
ونذكِّر أن أيونات الملح ستنساق هي الأخرى نحو المسريين، حيث تكوِّن بسرعة طبقة كامدة عليهما تعيق تدفق الكهرباء. لذا يجب عليك أن تدلك المسريين وتفركهما بعد كل مرة. وإذا جلبت عملية التنظيف لك الملل فلك أن تسعى إلى الاستعاضة عن المسامير الفولاذية بمادة موصلة أخرى ولكنها لا تكمد بهذه السرعة ـ كالأسلاك الفولاذية التي لا تصدأ أو أوراق الألمنيوم. ويمكن للقطع الصغيرة من أسلاك الذهب أو البلاتين أو سلاسلهما أن تعمل بصورة جيدة جدا.
وعلى الرغم من أن العديد من الاكتشافات الكبيرة تمت باستخدام الرَّحَلان الكهربائي المعتمد على الورق، فإن لهذه الطريقة البسيطة عيبا كبيرا يتمثل في أن الجزيئات تميل إلى أن تُعلَّق في ألياف الورق. وتفسر هذه الصعوبة لماذا تتشكل العصابات حتى في حالة الأصبغة الصافية بدلا من أن تبقى نقاطا واضحة المعالم أثناء التحرك. لذا يستعيض علماء البيولوجيا في هذه الأيام عن الورق غالبا بمادة أكثر انتظاما تدعى أگاروز agarose ـ وهي مادة شفافة لها قوام الهلام المتيبس. إن نماذج «بصمات» حمض الدنا التي يحتمل أن تكون قد شاهدت بعضا منها يتم الحصول عليها بالرَّحَلان الكهربائي على مثل هذا الهلام. فكل واحد من الخطوط الخاصة في البصمة يدل على طيقان strands من حمض الدنا ذات طول معين، وتكون درجة الفصل الممكنة في الرحلان الكهربائي الهلامي مذهلة، إذا قورنت بالنتائج الحاصلة في الرَّحلان الكهربائي الورقي.
في عدد الشهر 9/1998 تناول باب «هواة العلم» كيف يُسْتخرج حمض الدنا من الأنسجة الحية، ولكن المادة المستخرجة يجب أن تخضع، لسوء الحظ، إلى عمليات مختبرية بالغة التعقيد، تستعمل فيها كواشف غالية الثمن قبل الحصول على بصمة معينة. ومن قبيل ذلك أيضا الحصول على نماذج تشخيصية باستخدام المواد الخضابية النباتية. وهذه المواد الخضابية تنفصل في الواقع بدرجة عالية من النقاوة حتى إن النتائج تكاد تكون مدهشة تماما، وغالبا ما تستطيع من الناحية الافتراضية أن تعزل بعد 20 دقيقة كل جزيء مشترك في مثل هذا المزيج.
وفي حين لا يعمل الهلام العادي بشكل جيد، فقد علمت أن هناك مادة تستطيع فعل ذلك تدعى أگار-أگار agar-agar، وهي من المواد التي تضاف إلى الأغذية، ويمكن الحصول عليها من أسواق الأغذية الصينية. غير أنني أقترح أن نصرف 25 دولارا لشراء ما يكفي من الأگاروز لنحو 40 تجربة من شركة «إدفوتك»، وهي شركة للتقانة الحيوية التعليمية موجودة في غرب بيثيسدا بميديلاند (301-251-5990; www.edvotek.com)
شريطة ورقية مقصوصة من ورق ترشيح القهوة |
ويمكنك صنع وحدة رحلان كهربائي بسرعة باستخدام أي وعاء صغير مستطيل الشكل على أن يكون كتيما (لا ينفذ الماء). وأنا شخصيا استخدمتُ قعر صحن الصابون اللدائني، وطويت بعض ورق الألمنيوم على جانبيه القصيرين ليعملا كمسريين ثم سكبت ما يكفي من الأگاروز السائل الساخن في الصحن ليغطيه بطبقة سمكها نصف سنتيمتر.
ولما كان على الهلام أن يحوي فجوات لكي تضع فيها عيناتك التي تريد فصلها، فعليك أن تقصّ شكل مشط [انظر الشكل العلوي في الصفحة 32] في صينية من الستيروفوم (رغوة الستايرين) ـ من النوع المستعمل في تغليف اللحوم بمخازن البقالات ـ وتعلّقه بحيث تنغرس أسنان المشط في الأگاروز السائل من دون أن تمسّ القعر، ثم تترك الهلام يتيبس قبل أن تسحب المشط بكل عناية. وينبغي أن تنتج من هذه العملية سلسلة من الفجوات المتباعدة جيدا حتى توضع فيها العينات. أضف الآن ما يكفي من المحلول الملحي حتى تغطي الهلام وتمنعه من الجفاف.
استعمل قطّارة عيون لكي تضع مواد الاختبار في الفجوات على أن تغسل القطّارة جيدا ما بين عمليات الاعتيان (أخذ العينات). ولكي تبدأ التجربة، يكفي أن تصل ورقة الألمنيوم بالبطاريات بوساطة الملاقط التمساحية، على أن يوصل المربط الموجب بالجانب المقابل للفجوات بحيث يتسنّى للجزيئات السالبة الشحنة متسع تتحرك فيه. وينبغي ألا تخشى شيئا إذا لاحظت بعض الجَيَشان على طول الورقة؛ لأن جزيئات الماء تتحلل إلى عناصرها الغازية بالتحليل الكهربائي، وألا تهتم إذا لاحظت تغيرًا في ألوان المواد الخضابية (فهي ظاهرة عادية تنتج من تغير «دليل الحموضة» pH). ولما كان ورق الألمنيوم يميل إلى أن يكمد بريقه، عليك أن تستعيض عنه بغيره، كلما جددت الأگاروز بعد كل تجربة.
إن الرَّحلان الكهربائي هو حجر الزاوية في البيولوجيا الجزيئية. وإذا تسلَّحت بهذه التقنية تتمكن من عزل المواد البيولوجية الأساسية لاستكشافها لاحقا. ولايزال العديد جدا من أنظمة الحياة في انتظار دراسة المحترفين، كما لايزال العديد من الاكتشافات ينتظر الهاوي الطموح المسلّح بهذه التقنية ومعه كتاب مدرسي وعنده نيّة المثابرة، فلماذا لا تنطلق إذًا إلى العمل.
ضمت جمعية هواة العلم (SAS) جهودها إلى شركة إدفوتك لتصنيع وحدة رحلان كهربائي هلامي كاملة لاستعمالها في المطابخ والمختبرات المدرسية. ولمزيد من المعلومات يمكن الاتصال بالجمعية 4735 clairemont square, suite 179,San Diego, CA 92117، هاتف 619-239-8807 بزيارة موقع الجمعية على الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب): Web2.thesphere.com/SAS/WebX.cgi.