(اتجاهات في الإيكولوجيا (علم البيئة
اتجاهات في الإيكولوجيا (علم البيئة)
بحث إمكانات العلم(*)
يعود مضيق برينس وِلْيَم إلى حالته الطبيعية بعد سبع سنوات من
كارثة إكسون ڤالديز، غير أن النتاج العلمي للحادث مازال غير واضح.
<M. هولواي>
يظهر <J.A. ميرنز> (من الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي) واقفا أمام صخرته المفضلة، وهو يرفع مجموعة من الصور مقارنا صورة السنة الأخيرة بصور السنوات الست التي سبقتها. ولا شك أن الصخرة جميلة ـ فهي على شكل ثمرة البطاطس ومغطاة بزغب بني فاتح اللون من الطحلب البني فيوكَس Fucus الذي يطلق عليه اسم العشب الصخري rockweed. غير أن ذلك وحده لا يمكن أن يفسر الاهتمام الشديد بتصويرها؛ فميرنس يلتقط صورة أخرى للصخرة يظهر فيها زميله <G. شيگيناكا> وهو يصور بالفيديو الصخرة نفسها و<D. ليز> وهو يدرس الشاطئ المجاور للصخرة. وفي الوقت نفسه، وبينما يسخر عالم رابع من مبدأ عدم التيقن لهايزنبرگ ويثير ضجة من أجل التقاط صورة لميرنز وهو يصور شيگيناكا الذي يلتقط بدوره صورة لليز والصخرة، يقوم مصور صحفي بتسجيل المشهد بكامله.
يقوم الباحث <D. ليز> بفحص الكائنات الحية بالمنطقة المدجزرية وعدها على جزيرة صخرية صغيرة في الخليج الشمالي الغربي. |
وفكرة وجود صورة داخل صورة داخل صورة وهكذا إلى ما لا نهاية توفر أحد العناصر المهمة لفهم ما حدث في مضيق برينس وليم Prince William Soundبولاية ألاسكا عام 1989 عندما تحطمت السفينة إكسون ڤالديز Exxon Valdezعلى شِعب بلاي Bligh Reef. والأهم من ذلك أنها تلقي الضوء على كيفية تفسير تعبير التعافي (الإبلال) recovery، وهو تعبير يختلف معناه من شخص إلى آخر في المضيق. لقد أدى تحطم ناقلة النفط العملاقة إلى تسرب نحو 000 37 طن متري من نفط نورث سلوپ، غطت منطقة من الساحل بلغ طولها 1750 كيلومترا وأدت إلى هلاك الآلاف من الطيور والحيوانات. وعقب الحادث تدفقت على تلك المنطقة النائية أموال طائلة وتوافد عليها المحامون وأجريت بها دراسات علمية عديدة. ولكن ذلك كله لم يساعد على توضيح الأمر.
ولسنوات عديدة ظل المحامون يراقبون العلماء الذين يراقبون بدورهم علماء آخرين يراقبون منظومة بيئية لا يُعرف عنها إلا القليل وتخضع لتغيرات لا نهاية لها؛ ويستخدم كل منهم إطارا مختلف الأبعاد ينظر من خلاله. فولاية ألاسكا وسكان منطقة المضيق وصيادو الأسماك في الإقليم يسعون جميعا إلى توثيق حجم الدمار وتحديد فترة بقاء التأثير الضار للنفط المراق. أما شركة إكسون فإن اهتمامها منصب على إظهار فعالية عملية التنظيف المكثفة وسرعة زوال النفط باعتباره مادة طبيعية أساسا.
لقد خسرت شركة إكسون داخل المحكمة وخارجها. فقد أنفقت 2.5 بليون دولار في عملية التنظيف وفي دفع قيمة المطالبات وتسديد المصاريف التي تكبدتها الهيئات المختلفة التي هبت لنجدة المنطقة، إضافة إلى 900 مليون دولار دفعتها لهيئة الأمناء ـ وهي فريق مشكَّل من ممثلين عن الهيئات التابعة للولاية والهيئات الاتحادية ـ لغرض «الإصلاح» restoration، وهو تعبير آخر غير واضح المعالم بات يشمل شراء أراض لحمايتها. وتضمنت هذه التسوية التي تمت خارج المحكمة عام 1991 بندا احتياطيا ينص على أن تدفع الشركة 100 مليون دولار أخرى لهيئة الأمناء إذا ظهرت فيما بين عامي 2002 و2006 آثار أخرى للنفط المراق. وتعتزم الشركة، التي ستقوم أيضا بدفع مبلغ 39.6 مليون دولار لصيادي الأسماك في الإقليم وسكان منطقة المضيق، أن تستأنف حكما صدر يلزمها بدفع مبلغ 5 بلايين دولار عقابا لها.
وقد ظلت الدراسات التي أجرتها شركة أكسون وولاية ألاسكا ـ بما في ذلك إدارة الأسماك والطرائد وإدارة حفظ البيئة ـ لكي تعزز كل منهما وجهة نظرها ـ محوطة بدرجة كبيرة من السرية إلى أن تم التوصل إلى تسويات قانونية؛ وأدى هذا التكتم إلى تقويض معظم الدعامات العلمية. فأُنهى الحوار العلمي وتبادُل البيانات والمناقشات التي تجرى عادة بين الأقران وأُنفقت الملايين من الدولارات على دراسات معادة ـ أسفرت عن استنتاجات متناقضة. وفي استعراض ناقد للبحوث التي أجريت عقب حادث التلوث بالنفط، نُشر في المجلة العلمية «الاستعراض السنوي لعلم البيئة وعلم التصنيف»(1) لعام 1996، استشهد عالم الأحياء البحرية <R. پين> وزملاؤه (من جامعة واشنطن) بما جاء على لسان أحد المحلفين في قضية رُفعت ضد شركة إكسون عندما أعرب عن عدم ارتياحه لهذه التناقضات الواضحة. وكانت مجلة المحامين الأمريكية أول من استشهد بعبارة وردت على لسان ذلك المحلف في القضية التي حُكِم فيها على الشركة بدفع غرامة مالية قدرها 5 بلايين دولار، والتي لخص فيها مشاعر الكثير من المراقبين فيما يتعلق بالعلم عندما قال: «تجد شخصا يحمل 4 شهادات دكتوراه يقول لك إن الأسماك لم تصب بأي ضرر، ثم تجد شخصا آخر يحمل 4 شهادات دكتوراه يقول لك لقد تعرضت الكثير من الأسماك للضرر…»، إن كلا منهما ينقض رأي الآخر.
محددات أطر البحث
وبعد مُضي سبع سنوات على الكارثة يمكننا أن نشاهد ظاهرة الصور المتداخلة، أو أن نشاهد صورة عملية لمبدأ عدم التيقن بالنسبة إلى المضيق. فمازال العلماء مختلفين ومازال المحامون يتربص بعضهم ببعض، ويزعم كلا الفريقين أنهما يبحثان عن الحقيقة. ومع ذلك، وباستثناءات قليلة، يتضح أن معظم الأطر التي ينظر الأشخاص من خلالها وهم يدرسون منطقة المضيق أصغر من أن تتيح استخلاص نتائج واضحة عن آثار حادث التلوث بالنفط ـ مما يشير إلى أن أي حادث نفطي كبير يقع مستقبلا قد يصادف فشلا علميا مماثلا. وإضافة إلى ذلك، يبدو أن النفط ليس هو العامل الوحيد: فقد تكون هناك عوامل أكبر بكثير تؤثر في المضيق.
وقد توضحت بعض عناصر الصورة العامة بعد أن نشرت حديثا شركة إكسون مجلدا ضخما ذا غلاف أزرق يضم البحوث التي أجرتها، وبعد نشر تقرير هيئة الأمناء صيف عام 1996. وليس مستغربا أن موجزات البحوث التي وردت في كتاب شركة إكسون تضمنت كلها تقريبا عبارة متكررة تقول: إنه بحلول عام 1991 أصبحت منطقة الخليج بحالة جيدة. فعودة المضيق لحالته الطبيعية بالنسبة إلى شركة النفط تعني أن يعود المجتمع الأحيائي المميز للمنطقة وأن يكون «بصحة» جيدة. ووفقا لهذا المعيار فإن وجود مجتمع أحيائي، حتى وإن اختلف كثيرا عن المجتمع الأحيائي الذي كان موجودا قبل الحادث، يلبي بطبيعة الحال شرط توفُّر الصحة الجيدة.
وبإنعام النظر في بحوث شركة إكسون يمكن للمرء أن يستنتج الكيفية التي توصلت بها الشركة إلى ما توصلت إليه من استنتاجات. فالمنطقة المدجزريةintertidal zone مثلا ـ وسوف يرتبط هذا بالصخرة المفضلة لدى ميرنز والتي لاتزال قابعة في مكانها من بداية المقالة ولكنها لم تغب عن البال ـ يمكن أن تبدو في حالة «صحية» جيدة تماما، بعد انقضاء سنتين على الحادث. وتعد هذه المنطقة من أكثر المناطق الأحيائية نشاطا وأهمية في المنظومات البيئية البحرية. فالطحلب البني فيوكس وغيره من الطحالب تغطي الصخور التي يغمرها تيار المد؛ والقشريات الهدابية (الذؤابية) الأرجل barnacles ورخويات الدَّريل drills والبرانق البحرية periwinkles وبلح البحر mussels وشقائق النعمان البحرية sea anemones ونجم البحر starfish وقنافذ البحر sea urchins وصغار سمك الرنجة baby herring وسرء (بيض) سمك السلمون الوردي pink salmon eggsوسمك الأسقوب الصغير tiny scuplins والسلطعون(2) الناسك hermit crab، وغيرها من المخلوقات التي تشكل جزءا من شبكة غذائية هائلة تزدهر في هذا المكان الخصب الزاخر بالحياة. وتجوب المنطقة المدجزرية الحيوانات الجائعة من كلاب البحر sea otters وآكلات المحار oyster-catchers والبط المبرقش Harlequinducks بحثا عن بلح البحر واللافقاريات الأخرى.
تكشف صور داخل صور عن حالة الهوس بالأطر والمناظر في مضيق پرينس وليم. |
وعندما نظر <E. گيلفيلان> (وهو مقاول من كلية باودوين يعمل لحساب شركة إكسون) والفريق العامل معه من خلال أطر صغيرة تسمى مربعات(3)quadrats رأوا شيئا مختلفا تماما عما رآه الباحثون العاملون في المنطقة المدجزرية. فالبيولوجيون يضعون المربع فوق المساحة التي يرغبون في دراستها، ثم يقومون بِعدّ جميع الكائنات الحية الموجودة داخل حدوده، ويكررون هذه العملية عدة مرات مقارنين التركيب النوعي للكائنات والتنوع البيولوجي (الأحيائي) فيما بين الشواطئ ـ الشواطئ الملوثة بالنفط والشواطئ غير الملوثة في حالتنا هذه. ويمكن أيضا وضع هذه الأطر على ارتفاعات مختلفة في المنطقة المدجزرية المنخفضة أو المتوسطة أو العالية، أو على طول مقاطع عرضية(4) عمودية على الماء. وفي أماكن مثل مضيق پرينس وليم تكون المنطقة المدجزرية عادة غير متجانسة، بحيث يمكن رؤية جلمود صخري صلد عار على بعد قدم واحدة من الصخرة المغطاة بالطحلب البني فيوكس؛ وعلى بعد 6 بوصات إلى اليمين يمكن أن توجد كمية أخرى من الطحلب البني فيوكس أو مجموعة من القشريات الهدابية الأرجل.
وضع گيلفيلان في كل موقع من المواقع التي اختارها مستطيلا صغيرا (12.5سم × 25سم) في أربعة مواقع على طول ثلاثة مقاطع عرضية، فإذا وجد مثلا أن الموقع الأول مغطى بالطحلب ووجد الثاني خاليا والثالث مغطى جزئيا، استنتج أن الشاطئ متغير بدرجة كبيرة. ويعني استنتاجه في جوهره أن كثرة الاختلافات في أي شاطئ تجعل من المستحيل تقريبا التفريق بين المواقع الملوثة والمواقع غير الملوثة، وأن كل شاطئ يشبه الآخر. إذًا فقد عادت البيئة إلى حالتها الطبيعية.
أهمية أخذ العينات عشوائيا
وعلاوة على ذلك، يمكن استخدام النتائج التي حصل عليها گيلفيلان لاستقراء حالة المنطقة بكاملها، لأن اختياره للمواقع التي درسها كان عشوائيا، وهو مبدأ أساسي لضمان سلامة أي دراسة بيولوجية حقلية. ويشير گيلفيلان إلى أنه «بحلول عام 1990 كانت مساحة تتراوح بين 73 و 90 في المئة من المنطقة قد عادت إلى حالتها الطبيعية»، ثم يستطرد قائلا: «إن الناس يصفون المنظومة البيئية في منطقة المضيق بأنها منظومة حساسة (هشة).» غير أن أي شخص أمضى فترة شتاء في ألاسكا يعرف أن ذلك غير صحيح؛ فالحيوانات والنباتات هناك يمكن أن تعوض بسرعة أي خسائر تلحق بها.
وغَنِي عن البيان أن الاستنتاجات التي توصل إليها گيلفيلان أدهشت بعض المراقبين ـ ومن بينهم عالم البحار <Ch. پيترسون> من جامعة نورث كارولينا. يقول پيترسون ـ الذي شهد كخبير في عدد من القضايا المتعلقة بتلوث مضيق پرينس وليم ـ إن الأسلوب الذي انتهجته شركة إكسون لا يستغل عدم التجانس الموجود في المضيق لخدمة مصالح الشركة فحسب ولكنه يخلط أيضا بين الأنواع مقوضا بذلك مبدأ التنوع البيولوجي. فمثلا، يضم گيلفيلان جميع أنواع القشريات الهدابية الأرجل معا في قياسه للمساحة الإجمالية التي تغطيها هذه القشريات. وبالنسبة إليه، لا تختلف هذه المساحة في عام 1990 في الشواطئ الملوثة عنها في الشواطئ غير الملوثة. ويقول پيترسون: إن عملية الضم في الحقيقة هي عملية مضللة: فالمواقع الملوثة تحتوي على نوع واحد من هذه القشريات الرمادية الانتهازية الصغيرة الحجم (Chthamalus dalli)، في حين تحتوي الشواطئ غير الملوثة على أنواع أكثر تنوعا من القشريات الأكبر حجما.
وفي دراسة أخرى أجرت شركة إكسون إحصاء لأعداد الديدان في المنطقة المدجزرية المنخفضة وقامت بجمع هذه الأعداد للحصول على العدد الإجمالي لأفراد الكائنات الحية. غير أن پيترسون ينبه إلى أن هذه الديدان تتجمع في المواقع الملوثة بالنفط. ومن الخطأ القول، مثلا، بأنه إذا كانت هناك مئة من المخلوقات تعيش في المكان “A” ومئة في المكان “B” فإن المكان “A” يكافئ المكان “B”. والواقع أن 99 في المئة من الحيوانات في المكان “A” قد تكون ديدانا تتغذى بالكائنات المكروية (المجهرية) التي تتغذى بالنفط. ويعرب پيترسون عن دهشته قائلا «لم أر في حياتي مجموعة من البيانات تجمع بين هذه المجتمعات الأحيائية. ويقول البعض إن شركة إكسون تعمدت إجراء دراسة لا تسفر عن نتيجة قطعية».
وأيا كان الهدف من الدراسة، فإن نتائجها أعطت شركة إكسون دليلا على أن كل شيء أصبح على ما يرام في عام 1991، ومن ثم توقفت الشركة عن الرصد الكمي للمنطقة المدجزرية (مازال الباحثون العاملون لحساب الشركة يتابعون حصر أعداد كلاب البحر والطيور البحرية). أما هيئة الأمناء فمازالت مستمرة في عمليات المراقبة بتمويل من شركة إكسون مترقبة بثقة ظهور آثار سلبية على الأمد الطويل.
تردد <E. پايپر> (من إدارة حفظ البيئة في ألاسكا) فترة طويلة ـ على الرغم من طلاقته ـ قبل الإجابة عن سؤال وُجِّه إليه عن التعافي (الإبلال)، ثم قال بهدوء: من الناحية الإيكولوجية، يبدو لي أن هناك جوانب عديدة تشير إلى أن البيئة أكثر مرونة مما نظن. وفي الوقت نفسه، هناك الكثير من الآثار الناتجة من عمليتي التلوث والتنظيف يبدو أنها لن تزول.
ويقول <B .R. سپيز> (من مؤسسة علوم البحار التطبيقية في ولاية كاليفورنيا، رئيس العلماء في هيئة الأمناء): «أعتقد أن الحالة أفضل الآن، ولكن الأمر يتوقف على المورد الذي نتحدث عنه. فقد تحسنت الحالة بالنسبة إلى سمك السلمون الوردي ولكننا مازلنا قلقين على سمك الرنجة. ومازالت هيئة الأمناء قلقة إزاء تردي أعداد كلاب البحر وحالة المنطقة المدجزرية.»
يمكن أن يتراوح التباين في المنطقة المدجزرية بين مربع مليء بالطحلب البني فيوكس (الصورة العلوية) وصخر صلد عارٍ تماما (الصورة السفلية) على بعد أقدام قليلة. |
والدراسة الرئيسية التي أجرتها الولاية للمنطقة المدجزرية، والتي أشرف عليها <R. هايسميث> (من جامعة ألاسكا) تشبه الدراسة التي أجرتها شركة إكسون من حيث استعمالها لمواقع عشوائية، ولكنها تختلف عنها في أنها شملت عددا أكبر من المقاطع العرضية في كل موقع واستخدمت فيها مستطيلات أكبر مساحة (40سم × 50سم). وقد توصل هايسميث وزملاؤه، ومن بينهم <M. ستيكول> (من جامعة ألاسكا) إلى نتيجة تؤيد وجهة نظر گيلفيلان، وهي أنه بحلول عام 1991 حدث تعافٍ ولكنه غير تام.
بعد ذلك توقفت الدراسة؛ فعلى الرغم من جميع الأموال المتاحة رأت هيئة الأمناء أن التكلفة الأساسية للعمل باهظة: 10 ملايين دولار لثلاث سنوات أخرى. وحتى عندما اقترح البيولوجيون دراسة نصف المواقع في السنة الأولى ونصفها الآخر في السنة التالية لم تنخفض التكاليف بدرجة كافية. ويقول ستيكول إن الموضوع مرتبط بعوامل سياسية كثيرة، وإن هيئة الأمناء واقعة تحت ضغط شديد من أجل استعمال مبلغ اﻟ900 مليون دولار لشراء أراض لحساب الولاية للمحافظة على ما بها من غابات. وقد أنفق من هذا المبلغ حتى الآن 200 مليون دولار لهذا الغرض، وهناك خطط لإنفاق نحو 180 مليون دولار أخرى.
ولأن الدراسة لم تستكمل بعد، فإن ذلك يسمح لهيئة الأمناء بأن ترجئ إعلان استنتاجاتها بشأن التعافي. ويقول سپيز «إنني أريد أن أنهي موضوع المنطقة المدجزرية، إنها مسألة أولويات».
العود للسِّيرة الأولى
بالنسبة إلى هيئة الأمناء، سوف يحدث التعافي عندما يبدو المضيق وكأن التلوث بالنفط لم يحدث قط؛ المشكلة الكبرى في هذا المعيار هي أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة الحالة التي كان عليها المضيق قبل أن يلوثه النفط ويتوافد عليه العلماء، أو الكيفية التي كان سيتطور عليها. ووجد العلماء أن عليهم أن يحلوا مشكلة عدم وجود بيانات مرجعية baseline data إلا فيما يتعلق ببضعة أنواع معينة تشمل طيور المِر البحرية murres بجزر بارن والحيتان القاتلة killer whalesوأسود البحر sea lions، كما تشمل أيضا سمك السلمون ذا القيمة التجارية الكبيرة.
وسيرى الشخص العادي الذي يزور مضيق پرنس وليم أول مرة هذا الصيف (1996) بعد سبع سنوات من وقوع الحادث أن المضيق يبدو جميلا و«بصحة» جيدة. ومع أن النفط لايزال موجودا تحت الأحجار الكبيرة والصغيرة في بعض الشواطئ فإن العثور عليه يحتاج إلى وقت طويل، كما أن معظم النفط قد تحلل بفعل العوامل الجوية ـ وصار غير سام. ويمكن مشاهدة الحيتان الحدب hump-back whales في أعلى المضيق وهي تغطس فتلطم وجه الماء بذيولها المغطاة بالطحلب البني أو القشريات الهدابية الأرجل. كما يمكن مشاهدة الگراميسorcas والدلافين porpoises والفقمات seals وأسود البحر وطيور الپَفن puffins وطيور النورس kittiwakes وحمام الگلموت pigeon guillemots والقضاعات النهرية (ثعالب الماء) river ottersوهي تجوب الأخوار والمجاري المائية. وفي أحد الأخوار الشرقية التي لم يلوثها النفط كانت القضاعات البحرية تظهر فجأة عند سطح الماء وبعضها تحمل صغارها في الوقت الذي تحلق أعداد هائلة من النسر الأقرعbald eagle مصدرة صيحاتها العالية المتميزة. وتبدو المنطقة المدجزرية، حتى في الأماكن التي تعرضت لتلوث شديد، بما فيها من نجوم البحر الزرقاء والبرتقالية وأعشاب البحر المتشعبة بألوانها الخضراء والبنية والحمراء، وكأنها أكثر تناميا منها قبل خمس سنوات.
غير أن الانطباع الخطأ الذي يتولد من هذه الصورة الكبيرة لا يختلف عن ذلك الذي يتولد من الأطر الصغيرة المربعة أو المستطيلة. وهذا هو السبب في الأهمية الكبيرة لصخرة ميرنز. وينتمي ميرنز إلى مجموعة أخرى تدرس المنطقة المدجزرية بتمويل من الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي. لقد صُممت هذه الدراسة بشكل مغاير للدراسات التي أجرتها شركة أكسون أو الولاية؛ لأنها لم تكن جزءا من عملية تقييم الأضرار الناجمة عن التلوث، ومن ثم فإنها لم تتأثر بالمنازعات القضائية. وقد تضمنت خطتها وصف الفروق في عملية التعافي بين الشواطئ الملوثة التي تركت من دون تنظيف وتلك التي نظفت بماء شديد السخونة مندفع بتأثير ضغط عالٍ.
وبما أنهم أمضوا معظم وقتهم على الشاطئ يحدقون في أطر مربعة كبيرة نسبيا (50سم × 50سم) فليس غريبا أن ميرنز وسائر أعضاء الفريق التابع للإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي يكثرون من المزاح حول المناظر والأطر. فهذه المناظر والأطر هي النوافذ التي راقب منها هذا الفريق ـ بقيادة <J. هوتون> (من مؤسسة پِنْتِك للدراسات البيئية في ولاية واشنطن) وليز من مؤسسة أُگْدن لخدمات البيئة والطاقة في سان دييگو ـ عملية التعافي في مواقع كثيرة على مدى سبع سنوات. وبشكل عام، يقول الباحثون إن المنطقة المدجزرية تبدو بحالة جيدة، وإن كانت تشهد حتى الآن تقلبات كبيرة من حيث التنوع البيولوجي وكثافة كل نوع.
وتشير النتائج التي حصلت عليها الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي إلى أن الغسيل بالماء الساخن يعقِّم الشواطئ وأن الكائنات التي نجت من كارثة التلوث بالنفط لم تنج من العلاج. ويقول العلماء إنه بعد سنوات قليلة من الحادث كانت الشواطئ التي لم تنظف بحالة «صحية» أفضل من الشواطئ المقفرة التي تم تنظيفها. وتثير النتيجة ـ التي حذر منها مسبقا خبراء التلوث النفطي من دون طائل ـ عدم ارتياح عام. فمازالت الولاية وشركة إكسون تتعرضان لضغط من الرأي العام لتخليص المضيق من آخر بوصة متبقية من تلك الطبقة السوداء.
ويعلق پايپر (من إدارة حفظ البيئة) قائلا: «نعم، إن التنظيف ضار، وإذا استخدم في أي ساحل فإن شكل ذلك الساحل سيتغير تغيرا كبيرا. ولكنه ينبه ـ مثلما ينبه بعض أعضاء الفريق البحثي التابع للإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي ـ إلى ضرورة التزام المزيد من الحذر عند غسل الصخور بالماء الساخن. واقترح ميرنز في هذا الصدد أن تتم العملية بغسل مناطق على هيئة شرائط يترك بينها مناطق من دون غسيل بحيث تظل هناك مناطق ملوثة ولكنها حيَّة ويمكن للكائنات الموجودة بها أن تستعمر المناطق المقفرة.
في بعض أجزاء المضيق يمكن العثور على بقايا التلوث النفطي في الوحل وتحت الجلاميد الصخرية. |
وقد تعرضت الدراسة التي أجرتها الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي للنقد من الناحية الإحصائية. يقول گيلفيلان (من شركة إكسون) إنه لم يتم اختيار المواقع عشوائيا، ومن ثم فإن قيمتها الإحصائية ضئيلة ولا يمكن تعميم نتائجها. (وفقا لبحث نشره گيلفيلان مؤخرا وقام فيه بالاشتراك مع ثلاثة من زملائه بعقد مقارنة بين الدراسات الثلاث التي أجريت في المنطقة المدجزرية، تعد الدراسة التي أجرتها شركة إكسون أقوى هذه الدراسات من الناحية الإحصائية). ويؤيد ستيكُل هذا الرأي قائلا: من الناحية الإحصائية، يمكن أن نقول إن الدراسة لم تصمم من أجل استخدام نتائجها لخدمة أغراض الشركة في المضيق.
ويرد هوتون و ليز على ذلك قائلين: إنهما نجحا في تعرّف بيولوجية التعافي recovery biology، حتى وإن كانت المواقع المدروسة قد اختيرت وفقا لمعايير مختلفة مثل إمكانية الوصول إلى البيانات المرجعية ومدى توافر تلك البيانات (كانت البيانات تجمع أحيانا على عَجَلٍ قبل وصول النفط إلى الشواطئ مباشرة). ومن ثم فإن هذا يتيح لهما وصف ما يحدث في جميع أنحاء المنطقة. وإذا نحينا الإحصاءات جانبا، فإن قيام الفريق التابع للإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي بدراسة المنطقة لسبع سنوات متصلة قد أتاح له متابعة بعض التحولات المهمة في المنظومة البيئية. وهنا تعود الصخرة الشعثاء (المغطاة بالطحلب البني) إلى الصورة مرة أخرى.
تقبع الصخرة التي يدرسها ميرنز في مرفأ هادئ منعزل يسمى مرفأ صنَگSnug Harbor، وهو أحد أجمل الأمكنة في المضيق! تظهر الجبال العالية بالقرب من الساحل مباشرة وتتدفق المياه من أحد الشلالات إلى الشاطئ مباشرة. وقد تعرض مرفأ صنگ لتلوث شديد وتُرك جزء كبير منه من دون تنظيف، «كمكان متروك» set-aside. وتستخدم الأماكن المتروكة كأماكن مرجعية مهمة تتيح للعلماء فرصة تعيين الوقت اللازم للتحلل الطبيعي التام للنفط في الأنواع المختلفة من الشواطئ. غير أن فكرة الأماكن المتروكة مثيرة للجدل؛ لأن معظم سكان ألاسكا طالبوا بإزالة النفط من جميع الأماكن. وكان على المسؤولين في الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي أن يكافحوا من أجل ترك الأماكن التي أمكنهم الإبقاء عليها من دون تنظيف.
ويتمتع مرفأ صنگ بأهمية خاصة كمنطقة مرجعية محمية طبيعيا لا تتأثر بأمواج الشتاء. ويبدو المرفأ هذه الأيام نظيفا خاليا من النفط فيما عدا بقعة صغيرة من الأسفلت، كما تبدو المنطقة المدجزرية غاصَّة بالحياة. غير أن الصور الفوتوگرافية التي التقطها ميرنز تبين أن صخرة صنگ تشهد دورة مثيرة. ففي عام 1990 كانت قمة الصخرة مغطاة بنمو حديث من الطحلب فيوكس؛ وفي عام 1991 أصبحت سائر أجزاء الصخرة مغطاة بالطحلب، مما يعني أن العشب الصخري ـ وهو أحد العناصر الأساسية في المنظومة البيئية للمنطقة المدجزرية ـ يعود إلى حالته الطبيعية.
تبين الصورة أحد أفراد فريق الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي وهو يقوم بكبس الطحالب من أجل تعرّف أنواعها حتى بعد سبع سنوات من الدراسة وذلك لصعوبة التمييز بين الأنواع المختلفة من الأعشاب البحرية المدجزرية. |
فهل هذا صحيح فعلا؟ لو أن الدارسين التابعين للإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي توقفوا حينها عن الرصد لكان موقفهم كموقف گيلفيلان: وهو أن المضيق قد استعاد عافيته. غير أنهم عادوا إلى الرصد في عام 1992 فوجدوا أن الصخرة قد فقدت الكثير من الطحلب الذي يغطيها. وفي العام التالي عادت بعض البادرات germlings المتفرقة إلى الظهور عند قمة الصخرة مرة أخرى؛ وفي عام 1994 كانت قمة الصخرة عارية ثم بدأت الدورة من جديد في عام 1995. وفي صيف عام 1996 وجد ميرنز أن الصخرة مكسوة بغطاء كثيف، كما وجد في شقوقها بعض أفراد صغيرة من بلح البحر mussels.
لغز اختفاء الطحلب فيوكس
شاهد علماء الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي هذا النمط من النمو في الأماكن التي نظفت أيضا. والتفسير الذي يقدمونه لذلك هو أن معظم المناطق المدجزرية تحتوي على الطحلب فيوكس من أعمار مختلفة، أما في المناطق الملوثة بالنفط والمناطق التي نظفت فقد مات معظمه أو كله في عام 1989. وبعد اختفاء كل شيء فإن النباتات التي ظهرت بعد ذلك في الموقع واستعمرته كانت كلها من فئة عمرية واحدة ولها فترة حياة واحدة. ومن ثم، فعندما يموت الطحلب، وتموت معه معظم الكائنات التي تعيش في كنفه، تعود المنظومة إلى نقطة البداية. ويؤيد هذا التفسير البحوث الحديثة التي أجريت على الساحل البريطاني حيث تدفق 000 119 طن من النفط عندما تحطمت ناقلة النفط توري كانيون Torrey Canyon في عام 19677. ويبدو أن الطحلب في تلك المنطقة مازال يمر بدورات حياة مماثلة. ويقول ليز «لقد أخبرونا بعد عشر سنوات من وقوع حادث توري كانيون بأن الحالة جيدة. وها هم الآن يعودون ليروا أن أنواع الكائنات مازالت تتدفق على المنطقة. وبصفة خاصة يبدو أن هناك سباقا بين الطحلب وبعض الرخويات على استعمار المواقع.
غير أن هناك تقارير غير مؤكدة عن وجود حالات موت مماثلة في بيئات أخرى لم تتعرض للتلوث. وعلى الرغم من المشاهدات التي سُجِّلت في مضيق پرينس وليم فإن البيولوجيين يعترفون بأنهم في الواقع لا يعرفون الكثير عن هذه الطحالب الموجودة في كل مكان. وتقول <L .J. روسينك> (من جامعة واشنطن) إن العلماء غير متأكدين من أنهم يعرفون كيفية قياس عمر الطحلب فيوكس. وتتساءل روسينك هل يكون الطحلب أكبر عمرا كلما كان أكثر دُكْنَة؟ وهل لعدد تفرعات جسم الطحلب صلة بعمره كما هي الحال بالنسبة إلى حلقات النمو الشجري؟ وكيف يؤثر وجود النباتات البالغة إيجابا أو سلبا في نمو النباتات الجديدة؟
حاولت روسينك الحصول على إجابات لبعض هذه الأسئلة أثناء مرافقتها لفريق الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي صيف عام 1996. وقد جلست روسينك، كما جلس كثيرون غيرها، فوق صخرة مرفأ صنگ وبدأت تحصي بدقة عدد أفرع (شرائط) الطحلب فيوكس بفصل بعضها عن بعض فرعا فرعا. وكانت الاستنتاجات الأولية التي توصلت إليها غير قاطعة؛ إذ يبدو أن الطحلب قد انحسر حتى في المواقع التي لم يمسسها النفط. وعلى ذلك، مازال اللغز من دون حل.
ويوفر الطحلب فيوكس إطارا آخر يمكن من خلاله رؤية كارثة إكسون ڤالديز. وتلخص الأسئلة الأساسية المطروحة القصة الحقيقية برمَّتها: لا أحد في الواقع يعرف الكثير عن أي شيء في مضيق پرينس وليم أو في أي منظومة بيئية أخرى. فمعظم الدراسات التي أجريت في السنوات الأولى التي أعقبت الحادث تركزت على مكان واحد أو على نوع واحد من الكائنات.
ولكنك، كما يقول <D. دافي> (من جامعة ألاسكا في أنكوريج)، تواجه مشكلة إذا بدأ النوع الذي تدرسه، كلب البحر مثلا، بالتهام النوع الذي يدرسه زميلك وهو بلح البحر. وبدلا من ذلك فالأنسب من البداية دراسة كيفية تداخل الأطر بعضها في بعض أو بعبارة أخرى فهم العلاقات القائمة بين الأنواع المختلفة. فالعوالق الحيوانية zooplankton مثلا تدخل ضمن إطار سمك الرنجة الذي يدخل ضمن إطار سمك السلمون الذي يدخل بدوره ضمن إطار الدببة؛ بل إنه يتضح بصورة متزايدة أن العلاقة بين حلقات السلسلة الغذائية هي أهم مصدر للمعلومات التي يمكن استخلاصها من نتائج الدراسات العلمية التي أجريت في مضيق پرينس وليم.
إن الدراسات التي تُجرى على نطاق المضيق والتي تستهدف النظر إلى الموضوع من خلال صورة أكبر ـ وإن كانت حتى الآن غير واضحة ـ بدأت تتلقى دعما ماليا. |
نظرة شاملة
إن فرصة تكوين رؤية واضحة ربما تكون قد ضاعت. ويوضح دافي ذلك قائلا «المأساة هي أن الناس يحاولون فهم علاقات التلوث بالنفط بعد حدوث التلوث بسبع سنوات». ويعرب سپيز (من هيئة الأمناء) عن تأييده لهذا الرأي قائلا: «كان يتعين حينها التفكير بعمق في دراسة المشكلة من منظور المنظومة البيئية». إننا ندرك الآن تماما أن أسلوب دراسة كل نوع على حدة له حدوده. وكنا نعتقد وقت حدوث التلوث أنه أسلوب مناسب تماما لدراسة الأنواع التي هلكت. ويستدرك سپيز قائلا: «ومع ذلك فإن لدينا الآن مشاريع طموحة لا تقتصر على مجرد السعي للإجابة عن أسئلة مثل: متى يعود هذا المورد أو ذاك إلى حالته الطبيعية؟ بل تتخطاه إلى محاولة فهم العمليات الأساسية التي تحكم المنظومة البيئية.» وتمول هيئة الأمناء حاليا عددا من الدراسات التي تأخذ بهذه النظرة الأشمل للظواهر الأوقيانوگرافية في خليج ألاسكا وفي الشبكة الغذائية. إنها نظرة أكثر شمولية تتم من خلال إطار يبلغ طول ضلعه مئات الكيلومترات.
ويجري دافي من جانبه دراسة عن الطيور لتقييم النقص في أعداد طيور النورس والگلموت. ويقول دافي: «إننا لا نعلم ما إذا كان السبب في هذا النقص هو التلوث النفطي بمفرده أو التلوث النفطي والتغيرات البيئية معا أو التغيرات البيئية بمفردها». ويضيف قائلا: «لدينا ضحايا ولدينا السلاح ولدينا الطيور في موقع الجريمة، ولكننا لا نعلم ما إذا كان قد حدث شيء من قبل أثَّر في أعداد الطيور وأن التلوث بالنفط كان مجرد عامل أدى إلى ظهور ذلك الشيء. ولن نعلم ذلك أبدا».
والشيء الذي يحاول دافي وغيره إثباته هو أن خليج ألاسكا ومضيق پرينس وليم يمران، فيما يبدو، بمرحلة تحوّل بدأت قبل حادث التلوث. وقد واجه الباحثون صعوبات في محاولة عزل التأثيرات التي نجمت عن الشتاء القارس الذي تعرضت له المنطقة قبل وقوع الكارثة في عام 1989 مباشرة والتأثيرات التي أحدثها الزلزال العنيف الذي ضرب مضيق پرينس وليم في عام 1964 وبلغت قوته 9.2 على مقياس رختر، وهو الزلزال الذي ألحق أضرارا جسيمة بالمنظومة البيئية وقضى على مجتمعات سكانية في ذلك المضيق، وكذلك التأثيرات التي نجمت عن شدة تيار النينيو(5) خلال الفترة 1982-19833.
ووفقا للدراسة الوحيدة الطويلة الأجل حول صيد أسماك الطعم bait fish في المنطقة، شهد عام 19800 انخفاضا شديدا في أعداد الأسماك الدهنية التي تتغذى بها أسود البحر والفقمات والكثير من الطيور البحرية. وتمثل أعداد أسود البحر الآن 17 في المئة من الأعداد التي كانت موجودة قبل 20 عاما. أما صيد القريدس(6) الذي بلغ ذروته في عام 1976 عندما تجاوزت كميته 1199 مليون رطل فقد انخفض إلى 10 ملايين رطل في عام 1982. ويعلق <R. أوتو> (من الإدارة الوطنية لمصايد الأسماك البحرية) على هذا قائلا: «في ذلك الوقت كانت أصابع الاتهام تشير إلى الصيد الجائر؛ ولكن أعداد القريدس كانت تتراجع في الواقع في مناطق صيده وفي المناطق الأخرى».
لقد كان القريدس يحظى باهتمام بالغ لوجود صناعة كبيرة قائمة عليه. غير أن المشكلة لم تتوقف عند ذلك الحد. فقد بدأ <P. أندرسون> (وهو أيضا من الإدارة الوطنية لمصايد الأسماك البحرية) باستعمال شبكة ذات فتحات ضيقة للحصول على عينات من أسماك الطعم مثل سمك الكپلن capelin وسمك الشمعةcandle fish، وعادة ما تُصاد هذه الأنواع عَرَضًا عندما تَعْلق في شباك صيد القريدس. غير أنه لا يُجرى إحصاء لأعدادها عادة؛ لأنها ليست بذات قيمة تجارية في أسواق الأسماك. ولكنها توفر الطعام للأسماك التجارية وبذلك لا تقل عنها أهمية وجديرة بأن تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام.
بعد ذلك تغير الوضع لتصبح الأنواع التي تصاد عرضا هي الصيد الرئيسي؛ فقد اكتشف أندرسون أن أعداد سمك الگپلن تنخفض بانخفاض أعداد القريدس، في حين تزداد أعداد سمك القُد cod fish وسمك الپلّوق pollack fish. وفي الوقت نفسه، تراجع صيد السلطعون وازدادت أعداد سمك السلمون (في الوقت الذي انخفضت أسعاره)، ويعلق أوتو على ذلك قائلا لقد حدث شيء ما في المنطقة الشمالية من المحيط الهادي غيَّر التركيبة الإيكولوجية بكاملها.
ويقول دافي: «يمكن أن نكون في منتصف مرحلة تغيير في الاتجاه الآخر؛ لا أحد يعرف». وهو يعتقد أن السبب في وفرة السلمون يرجع إلى أن هذه الفترة هي فترة ازدهاره. فعندما كانت مصايد الأسماك خاضعة لإشراف الهيئات الفيدرالية، كان السلمون يتراجع وكان الموظفون الحكوميون يتهمون بالغباء وسوء الإدارة. ربما لم يكن الأمر مجرد حالة جيدة أو حالة سيئة، وإنما هذا هو الوضع الطبيعي للسلمون.
ويمكن أن تكون التغيرات في أعداد أسماك الطُّعم ناتجة من زيادة أعداد مفارخ الأسماك hatcheries؛ إذ تقوم هذه المفارخ كل ربيع بإطلاق أفراخ الأسماك لتتغذى في مضيق پرينس وليم وخليج ألاسكا قبل أن تعود لتضع بيضها في المناطق التي تعيش فيها. غير أن هذه الأسماك تمثل إضافة إلى المنظومة البيئية ـ أي مدخلات «زائدة». ويحتمل أنها تستهلك أسماك الطُّعم التي كانت ستتغذى بها الأسماك والحيوانات البرية. ويمكن أيضا أن يكون التغير في أعداد أسماك الطعم ناجما عن تغيرات عامة أوسع نطاقا، كتلك التي سجلها <Th. روير> (وهو عالم أوقيانوگرافيا من جامعة ألاسكا) من خلال دراسته للمنطقة. فقد بدأ روير في عام 1970 بأخذ عينات من المياه استنتج منها أن درجة حرارة المياه تتغير زيادة ونقصا في نطاق درجتين مئويتين كل 15-25 عاما، وهي تغيرات يمكن أن تؤثر تأثيرا كبيرا في توزيع الأسماك في المنطقة.
وإضافة إلى ذلك؛ تجمعت لدى روير دلائل على حدوث تغيرات دورية في درجة الملوحة كل 10-11 سنة، ويمكن أن تؤثر هذه التغيرات في طريقة تدفق المياه في المضيق، مما يؤدي إلى تغير تركيز العناصر الغذائية المتوافرة في الطبقات العليا من عمود الماء وإلى اختلال السلسلة الغذائية. ويقول روير «إنني مازلت أدعو إلى إجراء دراسات طويلة الأجل». فالكثير من الدورات الطبيعية تستغرق فترات زمنية طويلة تفقد خلالها جهات التمويل اهتمامها. ويضيف روير قائلا: «إن التمويل المتاح للدراسات العلمية يتناقص تناقصا شديدا، مما يصيب كثيرا من العلماء بالإحباط».
وعندما يتدفق الكثير من المال فجأة لدراسة منظومة بيئية لا تتوافر عنها إلا معلومات محدودة وتتاح الفرصة لإجراء دراسة متعمقة بعد طول انتظار، فلا بد أن يكون هناك إحباط مماثل. فالأموال التي تدفقت على مضيق پرينس وليم بعد حادث إكسون ڤالديز تفوق أي أموال توفرت بعد أي حادث آخر، غير أنه عندما يتقاطع مسار العلم مع مسار النزاعات القضائية يقل الأمل في العمل ضمن إطار ذي مجال واسع. وقد عدلت مؤخرا القوانين الفيدرالية التي يُقَيَّم على أساسها الضرر بهدف تفادي أي إخفاق علمي آخر يحدث بعد أي كارثة. وتستهدف الأحكام الجديدة كفالة تبادل المعلومات المتاحة وتفادي الازدواجية في الجهود المبذولة. وعلى الرغم من ذلك، يشك كثير من المراقبين في فعالية هذه التعديلات عندما يتعلق الأمر ببلايين الدولارات. ويعلق <D. كنيدي> (من الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي) على ذلك قائلا: «إنني مقتنع أنه إذا وقع حادث كبير آخر فإن كل واحد سيدافع عن وجهة نظره قائلا لديَّ علمي ولديك علمك».
توازن حساس
بعد نوعية العلم يأتي تفسير الرأي العام للعلم. فعلى الرغم من أن الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي أوضحت أن عملية التنظيف يمكن أن تضر أكثر مما تفيد، فمازال الطلب على عملية التنظيف مستمرا. لقد اهتمت قرية تشينيگا في ألاسكا اهتماما شديدا بالبحوث المتعلقة بالتلوث النفطي. فالكثير من سكان هذه القرية الواقعة في جزيرة إيڤانز بمضيق پرينس وليم قلقون إزاء استمرار التلوث النفطي.
يقول پايپر: لقد اعتقد سكان تشينيگا أن للنفط تأثيرا بيولوجيا. «غير أنه لا يوجد ما يؤيد ذلك، ويتساءل هل سننفق أموالا طائلة في عملية التنظيف في حين أنه لا توجد مشكلة؟». ويشرح پايپر ذلك قائلا ولكن القضية ليست هي ما يقوله العلم، إن القضية هي تخليص الشواطئ من النفط الذي يشوه منظرها. إنها مسألة تحويل المنطقة إلى مقلب للقمامة. ويعلق پايپر على ذلك قائلا: «لقد كانت أسباب الشكوى وجيهة تماما». لهذا قررت هيئة الأمناء، التي تجري عملية استطلاع للرأي العام قبل تخصيص أي أموال، إنفاق مبلغ 1.9 مليون دولار في صيف عام 1997 من أجل استخدام مركبات كيميائية لإزالة النفط، ومن بينها مركب واحد على الأقل معروف عنه أنه يؤدي إلى تسمم الكائنات المدجزرية intertidal organisms.
إن تشينيگا ليست وحدها. فالصورة التي يقدمها التلفزيون ووجهة النظر التي تتبناها وسائل الإعلام هي التي تحدد ردود أفعال الجماهير إزاء صور الحيوانات الملوثة بكاملها بالنفط. فالجمهور يريد إنقاذ الحيوانات وإن بلغت التكلفة 000 80 دولار لكلب البحر الواحد و000 10 دولار للنسر الواحد ـ حتى لو أدت الصدمة التي تلحق بهذه الحيوانات إلى قتلها. ويعلق دافي على ذلك قائلا: «يضيّع العلماء الكثير من الوقت قائلين لا تفعلوا شيئا. وعليك أن تُوازن هذا كله مع العلم.»
(*) Sounding Out Science
(1) Annual Review of Ecology and Systematics
(2) السرطان، القبقب، الكابوريا.
(3) أو المستطيلات أو شبه المربعات.
(4) transects.
(5) وهو مصطلح يعبر عن فترة اضطراب تحدث في المحيط الهادي بصفة دورية وتؤثر في المناخ والتيارات البحرية.
(6) (الروبيان، الجمبري) shrimp.