كيف تعتني الحشرات بصغارها
كيف تعتني الحشرات بصغارها(*)
لماذا تخاطر بعض الحشرات بحياتها في سبيل العناية بصغارها؟
<W.D.تالاّمي>
لقطة من أحد المشاتل الزراعية في الغابة المطيرة بالبرازيل تصور جماعة من النمل وهي تتولى حماية صغار جنادب الشجر (إيتاليُوم رتكيولاتم Aetalium reticulatum)، في حين تقف أمهاتها في حراسة مجموعات البيض الحديثة الوضع. فحشرات النمل تغتذي بما تفرزه حوريات تلك الحشرة من سائل حلو يسمى الندوة العسلية (المنّ)، ومن أجل هذا تقوم بالدفاع عنها ضد المفترسات. ونتيجة لذلك تكرس الأمهات كل عنايتها لما تضعه من بيض حتى يفقس، فإذا ما خرجت منه الصغار، تخلّت الأمهات عن الرعاية للنمل القادر على ذلك. |
على امتداد جنوب شرقي الولايات المتحدة تعيش حشرات البق الشبكي lacebugs من الجنس گارگافيا Gargaphia على نباتات القُراص horse nettle. وفي العادة تتولى الأنثى حراسة بيضها وحراسة الحوريات(1) بمجرد خروجها منه. وللبقة الشَّبَكية عدو مخيف يُدعى البقّة الباكورة damsel bug، وهي ذات منقار صلب حاد تلوح به في وجه فريستها وإذا ما سنحت لها فرصة التهمت الحوريات عن آخرها. وليس للبقّة الشّبَكية مثل هذا السلاح، ولذلك فهي لا تملك إلا أن تلهي البقّة المفترسة بأن تظل ترفرف أمامها بأجنحتها وأن تعتلي ظهرها.
وفي تلك الأثناء تتدافع الحوريات صوب العِرْق الأوسط للورقة، وتتخذه طريقا سريعا يُمكِّنها من التعجيل بالهرب إلى الساق، فتتسلقها حتى تصل إلى ورقة مجعدة صغيرة فتختبئ بين ثناياها. وإذا ما استطاعت الأم الفرار فإنها تتبع صغارها وتحرس عنق الورقة. وهناك تستطيع اعتراض سبيل البقّة المفترسة التي يحتمل أن تلاحق صغارها. وفي بعض الأحيان تستطيع الأم درء العدو المهاجم ولو للحظة. وفي تلك الحالة فإنها تبادر بإرشاد صغارها إلى ورقة مثالية، وذلك بأن تسد بجسمها أيّ طريق قد تسلكه الصغار خطأ فيؤدي بها إلى مكان غير آمن. وغالبا ما تفقد الأم حياتها في هذه المعركة، ولكن هذه التضحية تهيئ لصغارها فرصة للنجاة.
أم هائلة، إنها أنثى حشرة فرس النبي (أكسيوفثالميلس صوماليكس Oxyophthalmellus somalicus) (جهة اليسار) وقد اتخذت من قاعدة غصن صغير في إحدى صحاري كينيا مربضا تستطيع منه اعتراض سبيل أي مفترس يستهدف حورياتها. (في الأسفل) أنثى فرس النبي (گاليپسس Galepsus) ـ وهي أيضا من كينيا ـ وقد أخفت كيس بيضها بحيث لا يكاد يظهر من بين سطوح قلف النبات. ومع ذلك فهي تقف للحراسة تحسبا لاحتمال عدم نجاح هذه الخدعة. |
في عام 1764 كان عالم الطبيعة السويدي<A.مودير>أول من وصف كيفية رعاية الحشرات لصغارها، وكان من ملاحظاته حينذاك أن أنثى البقّة المدرّعة الأوروبية European shield bug (إيلازموتشيا گريزيا Elasmuchea grisea) ـ إذا اقترب منها أحد مفترسات الحشرات وهي راقدة فوق بيضها ـ لم تكن تتزحزح من مكانها طلبا للنجاة، وإنما كانت تميل بجسمها نحو المفترس لتصرفه عن ذُرّيتها. ولكن في وقت لاحق من عام 1971 عارض كثير من العلماء بشدة فكرة أن تُولي بعض الحشرات صغارها كل هذا القدر من العناية. وحتى ذاك العدد من العلماء الذين سلّموا بصحة تلك المشاهدات افترضوا أن الرعاية الأبوية أمر مُحدَث لم ينجح في اكتسابه سوى أنواع البقّ الأكثر تعقيدا.
إن مثل هذا السلوك بين الحشرات مُناظِر بالفعل لما يحدث في أشكال الحياة «المتطورة»مثل الطيور والثدييات. ولكن من الصعب اعتبار رعاية النسل بِدْعة مستحدثة. فهي ظاهرة شائعة بين اللافقاريات ـ بما فيها الرخَويّات mollusksوالديدان والدوارات (الدولابيات، العَجَلِيّات) rotifers؛ بل وحتى هُلاميات البحرjellyfish. أما في مفصليات الأرجل arthropods، فرعاية النسل هي القاعدة بين عديدات الأرجل (ذوات المئة رجل centipedes) والعناكب البرية والبحرية والعقارب والقشريات (التي يمكن اعتبارها ألصق الأقارب بالحشرات). وفي الحقيقة يبدو أن الندرة النسبية ل«أبوة» الحشرات تعكس فقدانها الواسع الانتشار من الأصول القديمة (الأنساب المبَكّرة)؛ إذ إن الحشرات التي تمارس رعاية صغارها مبعثرة عشوائيا فيما يبدو بين ثلاث عشرة رتبة حشرية.
في رباطة جأش للدفاع عن نسلها تقوم البقة الغائلة الأوغندية (پيسيلاس تپيوليفورميس Pisilus tipuliformis) بحراسة حورياتها البازغة (جهة اليمين). وفي الوسط وإلى أقصى اليمين اثنتان من حشرات البق المدرّع (كوكوتيريس Cocoteris) من غينيا الجديدة وأنتيتويكوس Antiteuchus من البرازيل، وقد قصرت دروعهما عن حماية جميع صغارهما، فأصبحت بعض الصغار عرضة للمفترسات. |
إن المغارم البيئية لظاهرة العناية بالصغار مازالت باهظة بالنسبة إلى الحشرات لدرجة أن بعض علماء الحشرات يستغربون من مجرد استمرار هذه الظاهرة أصلا بين الحشرات. والاستراتيجية الأكثر سهولة التي تمارسها معظم الحشرات هي ـ ببساطة ـ إنتاج وفرة من البيض. ولقد وصف<O.E.ويلسون>، في مصنفه الشهير علم الحياة الاجتماعي Sociobiology الرعاية الأبوية بأنها تجاوب مع بيئات مناسبة أو مع بيئات قاسية إلى درجة غير عادية. وفسَّر ذلك بأن هذه الظاهرة تبلغ أوجها عندما تتوفر الموارد الغَنِية وبالتالي تشتد حدة التنافس، أو عندما يكون الطعام عزيز المنال أو صعب الإعداد، وذلك هو ما يحدث في ظل ظروف طبيعية بالغة القسوة أو عندما تشتد وطأة الافتراس.
عالم الخشونة والوفرة
لقد واجهت الخنافس اللَّحادة burying beetles وخنافس الرَّوَث dung beetlesمشكلة التنافس على موارد ذات قيمة غذائية غير عادية ولكنها سريعة الزوال كالجِيَف والرَّوَث وذلك بابتداع صورة خاصة من رعاية الصغار؛ إذ تبادر الأم ـ وحدها أو بمشاركة الأب ـ بتأمين المادة الغذائية في غرفة تحت الأرض لحمايتها من الجفاف ومن المنافسين. وعلى سبيل المثال قد يقوم الزوجان من خنفساء الجِيَف (نيكروفورس Nicrophorus) بدفن جثة فأر ميت صغير ثم تشكيله على هيئة كأس يصلح لإيواء الصغار وإطعامها. وعندما تفقس اليرقات تتولى الأنثى ـ والذكر في بعض الأحيان ـ تعزيز وجبتها بما تتقيأه عليها من سوائل أمعائها. وقد أوضح<P.M.سكوت>[من جامعة نيوهمشير] و<G.هافتر>[من معهد علم البيئة في ڤيراكروز بالمكسيك] أن ذكور هذا النوع من الخنافس تمنع الذكور الأخرى من محاولة السّطو على طعامها ومِن قتل صغارها.
حوريات البقّ الشبكي من الجنس گارگافيا Gargaphia (جهة اليمين) تلتمس الملجأ من المفترسات بالاختباء في ثنايا ورقة نبات صغيرة. إن هذا النوع من الحشرات شائع الوجود في جنوب شرقي الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مشهد آخر (في الأسفل) البقّة الأم وقد دخلت في مواجهة مع يرقة حشرة «أسد المنّ» lacewing المميتة، والتي تأكل الحوريات على الرغم من جهود الأم في الدفاع عنها. |
وفي مقدور الأبوين أيضا تجهيز الطعام للصغار. فمثلا يجلب البقّ الحفَّارburrowing bugs (سيهيرس Sehirus) بذور النباتات لحورياته الرهيفة المختبئة في منخفض في التربة؛ في حين تصنع جنادب (نطاطات) الأشجار tree thoppers(أمبونيا Umbonia) في قلف الشجرة سلسلة من الشقوق الطولية الحلزونية فتكشف عما تحتها من الأنابيب اللحائية الحاملة للمواد الغذائية بحيث تصبح في متناول حورياتها الدقيقة الحجم. أما الحشرات الآكلة للخشب فتواجه مشكلة تحويل مصدر غذائي صعب المضغ وعسر الهضم ـ إضافة إلى كونه فقيرا بدرجة غير عادية في عنصر النتروجين (الأزوت) ـ إلى صورة تسهل فيها على صغارها الاستفادة من عناصره. وقد استطاعت صراصير الخشب من الجنس كريپتوسركس Cryptocercus وبعض أنواع خنافس الأخشاب حل هذه المشكلة، إذ تطعم صغارها مباشرة من فتحة الشرج بما في أمعائها من ألياف خشبية تمت تطريتها، أو بما في هذه الأمعاء من حيوانات أولية (أوالي) قادرة على تحليل مادة السليولوز، مضافا إلى ذلك بعض براز الحشرة وما في أمعائها من سوائل قد تكون غنية بالنتروجين. أما خنافس القَلْف فإنها بفكوكها تحفر في الشجرة أنفاقا تضع فيها بيضها، وتعمد إلى ما تساقط في النفق من فُتات الخشب فتطعِّمه بفطريات تكافلية تحول السليولوز إلى مكونات بسيطة قابلة للهضم وبالتالي لتغذية الصغار (اليرقات).
يرقات الخنفساء السلحفائية البرازيلية (أكروميس سبرسا Acromis sparsa) وقد انتظمت في حلقة حول أمها ودست رؤوسها تحت جسمها طلبا للأمان (جهة اليسار). وتحمل اليرقات في مؤخرة أجسادها خطاطيف شرجية تضع عليها برازها، ثم تلوح بها فتطرد المفترسات غير الحذرة. وتقوم الأم بحراسة ذراريها منذ أن كانت في البيض (في الأعلى). وبعد الفقس ترعى الصغار وترشدها إلى مصادر الطعام، ولا تغفل عن لمّ شمل الجماعة بإعادة كل شاردة إليها. |
إن الرعاية التي تمنحها الحشرات لصغارها تكون في العادة مقصورة على حماية البيض، ولكن في بعض الأنواع يتولى أحد الأبوين ـ أو كلاهما ـ الدفاع عن الصغار أيضا. وفي تلك الحالة يتحتم توفر التواصل بين الوالد والصغار مع التنسيق التام بين تحركات الطرفين. ويقوم البق الشبكي من الجنس گارگافياGargaphia والزنابير المنشارية sawflies والخنافس السلحفائية tortoise beetlesوخنافس الفطر fungus beetles بحراسة يرقاتها أثناء بحثها عن الطعام. وليس في مقدور الأم أداء هذه المهمة إلا إذا كانت الصغار تسعى في جماعة واحدة، لذلك فهي تحافظ على لَمِّ شمل قطيع الصغار بأن تقوم بسد السبل أمام الأفراد الشاردة.
وكما توحي به هذه الأمثلة، فإن رعاية الصغار هي مهمة الأمهات في المقام الأول. ومع ذلك ففي حالات نادرة تضطلع الآباء بهذا الدور، وبذلك يتيحون للنوع أن يعمر بيئات ما كان له أن يعمرها لقسوتها. فحشرات البق المائي، على سبيل المثال، ذات بيض كبير الحجم ولكنه عرضة للتلف: سواء بالجفاف إذا وُضع فوق الماء أو بالغرق إذا وضع في الماء، ومن ثَمَّ لا بد من وسيلة لضمان استمرار ترطيبه وتهويته.
البقة النتنة المزركشة (تكتوكورس ديوفثالمس Tectocoris diophthalmus) من أستراليا، تدافع عن بيضها بشراسة. ولأنها تضع فقط حضْنة واحدة فإن ما تضمه هذه الحضْنة من بيض يكون فرصتها الوحيدة للنجاح في التكاثر. |
ففي مجموعة بدائية من البق المائي العملاق المسمى ليثوسيرس Lethocerusتضع الأنثى بيضها على عُود فوق سطح الماء، ثم يُمارس الذكر عمله في ترطيب البيض بأن يكرر الغطس في الماء ثم الصعود خارجه لكي يقطر الماء فوق البيض، وهو بهذا العمل يطرد المفترسات أيضا. ولكن ذكور البق المائي العملاق (بيلوستوما Belostoma)ـ والتي تُشاهَد كثيرا في حمامات السباحة ـ تحمل البيض الذي تلصقه الإناث فوق ظهور الذكور. ويتعين على الذكر أن يبقى طافيا فوق سطح الماء حتى يظل البيض معرضا للهواء الجوي. ويضرب الذكر برجليه الخلفيتين في الماء إلى الخلف وإلى الأمام، أو يتعلق بفرع نبات ويظل يعلو ويهبط عدة ساعات في الماء، ليدفع زخات من الماء المحمّل بالهواء فوق البيض الذي يحمله على ظهره. وبالمثل فإن الخنافس الروَّاغة (الجوّالة) rovebeetles (بليديس Bledius) والخنافس الأرضية ground beetles (بمبيديونBembidion) وخنافس المستنقع marsh-loving beetles (هتيروسيرس Heterocerus) كلها لها وسيلتها الخاصة لحماية بيضها من الغرق في المسطحات الطينية المدّية، وذلك بأن تسد غرف الحضْنة ذات المداخل الضيقة عند ارتفاع المياه (المد) ثم تزيل هذه السدادات عندما تنحسر المياه (الجزْر).
تكلفة الرعاية
لقد حدد الباحث<ويلسون> بما لا يحتمل الشك الظروف الدافعة للسلوك الأبوي في الحشرات. وإن المرء ليعجب، لماذا تواجه بعض الحشرات هذه التحديات في سبيل بذل الرعاية لصغارها، في حين أن أنواعا أخرى ـ وثيقة صلة القربى بتلك الأنواع ـ تتكاثر في الظروف نفسها، ولكنها تتبع استراتيجيات مختلفة. إن إحدى المقاربات لحل هذه المشكلة تتبنى إجراء تحليل بسيط للنفقة والمنفعة.
ومن الممكن أن يكون الغُرْم فادحا على ذكور الحشرات وإناثها نتيجة اختيارها طريق التصدي للمفترسات مفضلة ذلك على الفرار منها؛ ومن الصعب تقدير حجم تلك الأخطار كميّا، كما أن البيانات المتاحة نادرة. ولكن عندما قمت بحساب فرص نجاة إناث البق الشبكي (گارگافيا Gargaphia)من الافتراس بالعناكب القافزة وجدت أن نسبة فرص البُقْيا أمام الأمهات التي تحرس صغارها كانت ثلث ما هو متاح للإناث التي لا تواجه مثل هذه المسؤوليات.
وتعتبر العناية بالصغار باهظة الثمن أيضا؛ لأنها تضطر الأبوين إلى ملازمة موقع العش ـ إلا فيما ندر. وإنتاج البيض عملية مكلفة للغاية. والأم التي تلازم حضنة بيضها الأولى كي تقوم بحراسته تفوتها فرصة السعي على الطعام اللازم لإنتاج حضنة (مجموعة) جديدة من البيض؛ وهذه الخسارة في إنتاج البيض قد تكون فادحة. فإناث البقة گارگافيا التي حيل بينها وبين حراسة البيض تجريبيا قد وضعت من البيض أكثر من ضعف ما وضعت الإناث التي اضطلعت بحراسة الصغار.
ذكر البق المائي العملاق (أبيدوس هربرتي Abedus herberti) ـ من أخدود السيكامور في أريزونا، ومن الحشرات القليلة جدا التي تشارك ذكورها في رعاية الصغار ـ يحمل البيض الذي ألصقته أنثاه على ظهره بعد أن قام بإخصابه ـ متجولا به في مكان معيشته، وهو لا يدخِّر جهدا في المحافظة على ترطيب البيض وتهويته. |
وفي بعض الأحيان أدت مثل هذه التكاليف الباهظة إلى ممارسة سلوكيات بديلة حتى بين أفراد النوع الواحد. من ذلك أن بعض إناث البق الشبكي (گارگافيا) وجنادب الشجر (پوليگليپتا Polyglypta) قد تحاشت مخاطر حراسة بيضها وما تجلبه عليها من خسائر بمحاولة وضع بيضها وسط كتل بيض إناث أخرى ـ من نفس نوعها ـ كلما أمكن ذلك. ولو نجحت فإن «مُلْقيات البيض»egg dumpers تتفرغ من فورها لوضع الحضْنة الثانية من البيض، في حين لا تستطيع المتلقيات وضع حضنة جديدة من البيض إلا بعد فقس الحضنة الأولى (في حالة جندب الشجر «پوليگليپتا») أو بعد اكتمال نمو صغارها إلى مرحلة البلوغ (في حالة البقة گارگافيا). أما إذا لم تسنح الفرصة لأنثى البقة گارگافيا أن تلقي حمولة بيضها في عش غيرها، فإنها تخفف عن نفسها بعض المخاطر بأن تدافع عن صغارها باستماتة فقط عندما تصير عجوزا ولم يعد لديها إلا القليل مما تخشى فقدانه، أو عندما تقترب حورياتها من مراحل نموها النهائية وتصبح لديها فرصة أكبر للوصول إلى الطور البالغ.
لقد اكتشفت الباحثة<M.C.برستو>[من جامعة ولاية ميتشگان]أن جنادب الشجر من الجنس پيوبليا Pubilia تحد من تبعات الأمومة بطريقة مختلفة، إذ تبقى الأم إلى جوار صغارها (الحوريات) إلى أن ينتبه النمل إلى وجودها ويبدأ الاغتذاء بما تنتجه الحوريات من إفراز سكري يسمى الندوة العسلية (المن). وعندئذ تهمل الأم صغارها وبذلك ينتقل عبء رعايتها إلى النمل ذي القدرة الفائقة على الدفاع عن الحوريات ضد المفترسات.
وبقدر ما تكون الرعاية الأبوية مكلفة للإناث، فإنها باهظة الكلفة بالنسبة إلى الذكور. فالمنيّ رخيص الكلفة من الناحية الفيزيولوجية. وعلى هذا، فمع أن ملازمة الذكر لصغاره تعني اختصار الوقت المخصص للبحث عن الطعام، فإن نقص المغذيات ينبغي ألا يمنع الذّكر من إنتاج المِنيّ. وتنحصر الخسارة هنا في وضع قيود على «انطلاق»الذكر، فإن التزامه بحراسة حضْنَة واحدة من ذريته سوف يحد من حريته في السعي بحثا عن المزيد من الإناث وبالتالي قيامه بأبوة المزيد من الذرية.
ومما يفاقم هذه الخسارة عجز ذكور معظم الحشرات عن ضمان صحة أبوتهم للذرية. فالإناث يمكنها عادة اختزان المِنيّ داخل أجسامها، بل وفي مقدورها أن تختار مَنِيّ ذكر بعينه مما في أجسامها. ومن ثم فإن عدم التثبت من تحديد الأب الحقيقي تجعل مهمة رعاية الصغار استثمارا مشكوكا في جدواه بالنسبة إلى معظم الذكور.
إذًا، ليس من دواعي الدهشة، أن يكون اضطلاع الآباء برعاية الصغار ظاهرة شديدة الندرة في عالم الحشرات، إذ يقتصر وجودها على ثلاث فصائل من البق الحقيقي؛ وبالتحديد في أنواع قليلة من البق المغتال assassin bugs، وفي أنواع أقل من البقّ ذي الأقدام الورقية leaf-footed bugs، وفي جميع أنواع البق المائي العملاق giant water bugs، إذ تنجح الذكور في تجنب الخسارة الناجمة عن رعاية الصغار.
فالبق المغتال (رينوكورس Rhinocoris)، على سبيل المثال، يجعل من عملية عنايته بالبيض مشهدا استعراضيا. ويبدو أن الإناث في الجوار تعتبر أن الذكر القائم فعلا برعاية البيض لديه التزام بمثل هذا السلوك، ولذلك تبحث عنه للتزاوج به. ولأن الإناث ترفض التزاوج بالذكور التي لا تضطلع بمهمة حراسة البيض (إلا في بداية الموسم حين يكون وضع البيض قليلا)، فإن الذكور تتقاتل على كتل البيض كي تقوم بحمايتها. ومثل هذا السلوك له مردوده؛ لأن الإناث تضع البيض بعد التزاوج مباشرة (بل وحتى في أثنائه) وبالتالي فإن الذكر يقبل رعاية صغار لا شك في أبوته لها.
وعلاوة على ذلك فإن كثافة الإناث الباحثة عن الذكور تكون عالية في البقّ المائي والبقّ الغائل الذي تتولى ذكوره رعاية الصغار. ولقد وجدت الباحثة<L.توماس> [عندما كانت تعمل في جامعة كمبردج] أن البق الغائل (رينوكورس ترستس Rhinocoris tristis) ـ من كينيا ـ الذي تتولى ذكوره رعاية الصغار تعيش فقط على النبات ستيلوزانثس Stylosanthes، تمتص رحيق أزهاره وتقتنص ما حوله من فرائس حشرية. ولأن حشرات هذا النوع من البق تركز على عائل نباتي بعينه، ولأن إناثها لا تلقى أي صعوبة في العثور على الذكور للقيام بواجب الحراسة، لذلك فإن الذكور لا تعاني الحرمان الجنسي. ويقدم<L.R.سميث>[من جامعة أريزونا] معلومات مماثلة عن الجماعات الكثيفة نسبيا من البق المائي العملاق الذي يقتصر وجوده على البرك، إذ لا يكون الذكر بحاجة إلى البحث عن الإناث؛ لأنها هي التي تسعى إليه.
الملاذ الأخير
وعلى الرغم من جميع هذه الأمثلة، فإن الغالبية العظمى من الحشرات تتحاشى مغارم رعاية الصغار باللجوء إلى عدد من الآليات للحفاظ على بيضها. ومن ذلك استخدام كثير من الحشرات أدوات وضع البيض الثاقبة (زوائد شبيهة بالسّيف تستخدم لوضع البيض)، أو تغليف البيض بأغلفة صلبة تستعصي على الاختراق، مما يسمح للحشرات بإخفاء البيض في أنسجة النبات أو دسه بإحكام في الشقوق والشروخ الطبيعية بعيدا عن مكامن الخطر. وجوهر هذه الابتكارات جميعا تطوير ظاهرة التوالد المتكرر (تجزئة الإنجابiteroparity)، أي تجزئة وضع البيض. فلقد اكتسبت معظم الحشرات المَقْدرة على وضع بيضها على دفعات صغيرة كثيرة بحيث يصبح نتاجها موزّعا على امتداد الزمان والمكان، واستعاضت بذلك عن تكريس وقتها لحراسة كل نتاجها في حال وضع بيضها دفعة واحدة (وَحْدة الإنجاب semelparity).
إن هذه الاستراتيجية وحدها طريقة فعالة جدا لوقف الخسائر: فلو أن مفترسا اكتشف حضْنة بيض واحدة فهذا يعني أنه تمكن فقط من جزء صغير من مجموع ما أنتجته الأم. فالبقّ الشبكي (گارگافيا) على سبيل المثال يضع بيضه في حضْنات كبيرة تتجاوز عدد ما تحويه المئة بيضة، فلو أنه ـ مثلا ـ مُنع من حراسته فإن المفترسات ستُهلك نحو 56% من جميع نتاجها قبل الفقس. وعلى النقيض من ذلك، فإن بقة الجميز الشبكية sycamore lace bug (كوريثوكا سيلياتا Corythucha ciliata) تضع بيضها في 33 حضْنة صغيرة بدلا من حضنة واحدة كبيرة وتوزعها على عدد كبير من الأوراق المختلفة والمتباعدة للنبات العائل، وبذلك لا تفقد عن طريق المفترسات إلا نحو 16% من نتاجها.
ومادام الأمر كذلك فلماذا لم تتخلّ جميع الحشرات عن رعاية صغارها؟ دعونا نراجع حسابات الجدوى وتحليل عناصرها. فمغارم هذه الرعاية لا تكون ذات بال إلا إذا كانت تتضمن نقصا في الخصوبة. وعلى هذا فلو كان توقف البيض المرتقب راجعا إلى حلول الشتاء أو نضوب الموارد الغذائية فإن الخسائر الناتجة لا تدخل في المعادلة، وبالتالي فمن الممكن أن تكون رعاية الصغار أمرا مجزيا.
ونضرب مثالا لذلك البقّة الحفّارة اليابانية (پاراستراكيا جاپوننسيسParastrachia japonensis) التي لا تُربِّي صغارها إلا على الثمار التي تسقط من أشجار النبات شُوپفيا Shoepfia، وبالتالي يتحتم عليها أن تحصر تكاثرها في الفترة القصيرة التي تكثر فيها هذه الثمار. وتحصل الأنثى من الغذاء على ما يكفي فقط لإنتاج حضنة واحدة كبيرة من البيض تقوم بملاحظتها وحراستها بضعة أسابيع من دون حاجة إلى التضحية بأي فرص قادمة للتكاثر.
إن التغيرات الموسمية وندرة الموارد الغذائية أو قصر مدة توفرها وغير ذلك من القيود البيئية، قد حصرت إنتاجية معظم أنواع الحشرات الراعية لصغارها في حضْنة واحدة لا أكثر. ولو أننا نظرنا إلى عملية رعاية الصغار في الحشرات في ضوء ظاهرتي تجزئة الإنجاب وَوَحدته فإن المشكلة التي طالما حيرت العلماء تصبح سهلة الحل؛ لأن إمكانية توزيع النتاج على الزمان والمكان قد جعلت رعاية الصغار بالنسبة إلى معظم الحشرات عملية باهظة الثمن ولا لزوم لها في آن معا. ولكن بالنسبة إلى تلك الأنواع التي تقل أمامها فرص التكاثر فإن رعاية الصغار قد تكون الطريقة الوحيدة لضمان استمرار حياة الذرية بعد رحيل الآباء والأمهات.
المؤلف
Douglas W.Tallamy
يقوم بدراسة تطور ظاهرة رعاية الآباء والأمهات لصغارها بين مفصليات الأرجل، إضافة إلى عمليات التآثر الكيميائي بين الحشرات والنباتات. في عام 1980 حصل على الدكتوراه في علم الحشرات من جامعة ماريلاند، وعمل مشاركا علميا بعد الدكتوراه في جامعة أيوا؛ وهو الآن أستاذ بجامعة ديلاوير. والكثير من دراسات تالاّمي تصور حياة البقّة الشبكية (گارگافيا Gargaphia) التي بمقدوره أن يراقب سلوكها في الساحة الخلفية لمسكنه الخاص.
مراجع للاستزادة
INSECT PARENTAL CARE. Douglas W. Tallamy in BioScience, Vol. 34, No. 1, pages 20-24; January 1984.
COSTS AND BENEFITS OF THE EGG-DUMPING ALTERNATIVE IN GARGAPHIA LACE BUGS (HEMIPTERA: TINGIDAE). D. W. Tallamy and L. A. Horton in Animal Behavior Vol. 39, pages 352-360; February 1990.
THE EVOLUTION OF PARENTAL CARE. T. H. Clutton-Brock. Princeton University Press, 1991.
THE EVOLUTION OF SOCIAL BEHAVIOR IN INSECTS AND ARACHNIDS. Edited by Jae C. Choe and Bernard J. Crespi. Cambridge University Press, 1997.
Scientific American, January 1999
(*)Chlid Care among the Insects
(1)nymphs