هواة العلم
هواة العلم
نمذجة العالَم الذري(*)
<S.كارلسون>
إذا سلمنا أن العالم مليء بكرات بلياردو ذرية الحجم فإن الفيزيائيين سيستطيعون عندئذ، باستخدام عدة تعريفات متبصرة وبعض المهارات الرياضياتية أن يقدموا لنا تفسيرا شبه كامل لعالمنا اليومي. تدعى هذه النظرية الميكانيك الإحصائي statistical mechanics. ويعرف الكثيرون أنها تحد من الشغل(حجم العمل)الذي يمكن أن تقوم به آلة ما. ولكنها في الحقيقة تستطيع أكثر من ذلك بكثير. فالميكانيك الإحصائي يصف الآليات التي تسيِّر طقس الأرض، كما يسيطر على درجات الحرارة والضغوط داخل النجوم ويقيد تطور الكون. بل إنه يلقي الضوء على سهم الزمن ـ لماذا نتذكر الماضي لا المستقبل. وبالفعل فقد اعتبر أينشتاين وفاينمان هذه النظرية أعظم إنجازات الفيزياء الكلاسيكية classical physics.
ومما يحز في النفس أن الكثير من الهواة تجنب هذا الموضوع المهم؛ لأن أعلى المرتفعات هو أيضا أكثرها صعوبة ارتقاء، كما هو الأمر في حالتنا هذه. إن سنتيمترا مكعبا واحدا من الهواء تحت ظروف الضغط الجوي يحوي أكثر من 10 بلايين بليون(1) ذرة ذات أحجام مختلفة يتلاطم بعضها بالبعض الآخر بسرعات مختلفة. وليس بمقدور أي حاسوب أن يعطي فكرة صحيحة عن المسارات المضبوطة لكل من هذه الجسيمات. ولكن حتى إن استطاع ذلك فليس بمقدور أي عقل بشري أن يفهمها. لذلك ابتكر الفيزيائيون طرقا رياضياتية ذكية، وإن كانت صعبة جدا، لاستخلاص القدرة على الفهم من الشواش chaos.
لكن الموضوع ليس عويصا إلى هذه الدرجة التي يبدو فيها. ويكمن الحل في إيجاد النماذج التي تتيح لنا أن نتصور الكيفية التي تلغي بها بعض هذه التصادمات أثر بعضها الآخر لكي تنتج منها الخواص المألوفة للمادة مثل درجة الحرارة والضغط والأنتروبية entropy. إن بمقدور الصور الذهنية الصحيحة أن توضح سلوك المواد وأن تساعد بدورها على الرقي بمشاريع الهواة بما فيها من كيمياء وصوت وانتقال حرارة وبلورات وتقنيات خلاء. لذا يسرني أن أطلعكم على برنامج الديناميك الجزيئي Molecular Dynamics، الذي هو نموذج مبتكر من البرمجيات التعليمية. إنه لا يغطي جميع مواضيع الميكانيك الإحصائي الكلاسيكي، كما أنه لا يتعرض مطلقا للآثار الكمومية. لكنه يبقى أكثر برمجيات النمذجة التي وجدتها سهلة المنال. إضافة إلى ذلك فقد جعل مؤلفو البرنامج، في ستارك ديزاين بمدينة موريستاون في ولاية نيوجرسي، هذا البرنامج متاحا لقراء ساينتفيك أمريكان مجانا حتى الشهر10/2000.
تتجمع ذرات الهيليوم (اللون الذهبي) وذرات الكريپتون (اللون الأحمر) حين تكون درجة الحرارة منخفضة… |
إن هذا النوع من المحاكاة لا جديد فيه. ويتذكر العديدون من هواة العلم بإعزاز أنهم كتبوا فيما مضى مثل هذه البرامج في أيام هواية الحوسبة. [انظر: «التسلية بالحاسوب»،مجلة العلوم، العدد5(1988)، ص97]. وهناك عدد محدود من هذه البرامج المختلفة متاح على الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب) [مثل لعبة عفريت ماكسويل Maxwellصs demon على الموقع:
cougar.slvhs.slv.k12.ca.us/~pboomer/physicslectures/maxwell.html].
لكن برنامج الديناميك الجزيئي يرقى بهذا كله إلى مستوى جديد. فهو يسمح بإجراء مجموعة مبهرة من التجارب الافتراضية لتروا كيف تتآثر الذرات المختلفة تحت مختلف الظروف. يتألف البرنامج من عدد كبير من الوحدات التي توضح الانتشار والضغط التناضحي (الأزموزي) osmotic pressure والعلاقة بين درجة الحرارة والضغط، وتوزع سرعات الجزيئات في غاز ما وكثيرا من المواضيع الأخرى. وبإمكانكم استخدام البرنامج لاكتشاف أشياء سيجد أكثر الفيزيائيين مهارة في الرياضيات صعوبة في استخلاصها من النظرية الأساسية.
تجري المحاكاة بسرعة كبيرة لدرجة أنني حين رأيتها لأول مرة في أحد المؤتمرات كنت متأكدا من أنها مجرد خدعة، فقد وَضع مقدمُ المحاكاة في حيز ثلاثي الأبعاد أربعة أنواع مختلفة من الذرات المتعادلة كهربائيا، بلغ عددها نحو 50 ذرة من كل نوع، فما لبثت أن تغيرت مواضع الجسيمات بسرعة، لدرجة أنني اعتقدت أن الأمر لا بد أن يكون شريطا سينمائيا حاسوبيا وليس محاكاة في الزمن الحقيقي. لذا قررت أن أتحدى الرجل.
|
|
|
في الطبيعة تستطيع حتى الذرات المتعادلة أن يرتبط بعضها بالبعض الآخر. ذلك أن التنافر المتبادل بين الإلكترونات المدارية يقطِّب الذرات فتصبح هذه الذرات المستقطبة متجاذبة في مدى معين من المسافة فيما بينها. لذا طلبت إلى مقدم المحاكاة أن يضيف هذه التآثرات الكهرسكونية electrostatic ثم يخفض درجة الحرارة ببطء. ففعل ما طلبته إليه. فما لبثت الذرات الثقيلة أن بدأ بعضها يتجمع مع البعض الآخر في حين بقيت الذرات الخفيفة تتحرك بسرعة، تماما كما ينبغي لها أن تفعل. ثم خفَّض درجة الحرارة بسرعة إلى الصفر فتجمعت الذرات الحرة في تجمعات معزولة صغيرة، ومرة أخرى تماما كما ينبغي لها أن تفعل. فجعلني هذا أتخلى عن شكوكي.
يشاهد الجيولوجيون أثر التجمع هذا؛ لأن الصخر البركاني الذي يتبرد ببطء يمتلك حبيبات معدنية أكبر من تلك التي يمتلكها الصخر الذي يتبرد بسرعة. ويتيح برنامج الديناميك الجزيئي إمكانية دراسة المبادئ التي تكمن في أساس هذه السيرورة (التي تعرف بالتلدين annealing) وذلك بوساطة تغيير عدد ونوع الذرات ومعدل التبريد. فإذا ثبَّت المرء المحاكاة عند درجة حرارة معينة وأدار الحاوية الوهمية تمكَّن من عد تجمعات الذرات وإحصاء عدد الذرات في كل منها ومعرفة نوعها. وهذا يوحي بإجراء دراسة ممتعة. حاولوا تكرار التجربة عددا قليلا من المرات وارسموا متوسط حجم التجمعات بدلالة معدل التبريد، فقد تكتشفون بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بالتلدين والتي يصعب كثيرا استنتاجها رياضياتيا.
ثمة عرض توضيحي مبهج يبدأ ببلُّورة مكعبة مؤلفة من 63 ذرة كريپتون يضاف إليها عدد قليل من ذرات الهيليوم التي سرعان ما ترتبط بالسطح. يؤدي رفع درجة الحرارة إلى تحرك ذرات الهيليوم بصورة عشوائية على سطح البلورة. فإذا رفعت درجة الحرارة أكثر من ذلك بقليل انفصلت ذرات الهيليوم عن البلورة، وإذا تابعت رفع درجة الحرارة أكثر من ذلك فإن البلورة تتطاير fly apart. ومثل هذه الأمور تشاهد في البلورات الحقيقية. إن بإمكانكم إجراء تجارب أخرى كذلك. حاولوا خفض درجة الحرارة ورؤية ما إذا كان بالإمكان الحصول على البلورة وهي تتشكل من جديد. ثم ارسموا الزمن اللازم لتشكل بلورة الكريپتون بدلالة عدد ذرات الهيدروجين التي تقفز حولها. فهل يتداخل الهيدروجين في تشكل البلورة؟ وإن كان الأمر كذلك، فلماذا يا ترى؟
بإمكانكم أيضا أن تكتشفوا سلوك الغازات، مثلا كيف يتغير الغاز حين تتغير درجة الحرارة أو الضغط أو حين يتغير عدد الذرات ونوعها. يمكن للمحاكاة أن تولِّد تقريبا ما يحويه قانون الغازات المثالية المعروف جيدا من تناسبات بين العوامل المختلفة، إنما بصورة تقريبية فقط. فهذا القانون لا يصح إلا إذا كانت ذرات الغاز لا تشغل سوى جزء ضئيل من حجم الحاوية وكانت الطاقة الحركية للذرات أكبر بكثير من الطاقة الكامنة فيما بين الذرات التي تعمل على جعل الذرات يتجمع بعضها مع البعض الآخر. ونتيجة لذلك فإن أي غاز حقيقي يبتعد سلوكه عما يفرضه قانون الغازات المثالية حين تكون كثافة هذا الغاز عالية أو تكون درجة حرارته منخفضة. إن برنامج الديناميك الجزيئي يتضمن هذه الآثار بصورة آلية.
إن الجزء المفضل لدي من البرنامج، وهو المسمى «توزيع السرعات لماكسويل-بولتزمان» Maxwell-Boltzmann Speed Distribution، يتيح لكم أن تكتشفوا كم هو قليل عدد الذرات اللازمة قبل أن تؤتي حيل الفيزيائيين الرياضياتية ثمارها. لقد كان أحد أول انتصارات الميكانيك الإحصائي في القرن التاسع عشر قدرته على حساب ذلك الجزء من الذرات التي تتحرك في مدى معين من السرعة في غاز ما عند درجة حرارة معينة. إن للمنحني الذي يمثل هذا الجزء بدلالة السرعة نهوضا حادا ـ مما يعني وجود عدد قليل من الذرات سرعاتها منخفضة ـ وذيلا طويلا، مما يشير إلى وجود ذرات سرعاتها أعلى بكثير من السرعة المتوسطة. لقد وضعْتُ 100 ذرة من الهيليوم والأرگون في الصندوق وراقبت توزع السرعات في الزمن الحقيقي. فبعد عدد قليل من التصادمات أخذ المنحنيان شكليهما المتوقعين. لقد بلغت الذرات الثقيلة الذروة عند سرعة أخفض كما تتنبأ النظرية. وربما وجدتم من الممتع أن تراقبوا كيف يتدهور التوزعان لدى استبعاد ذرات.
لسوء الحظ فإن في البرنامج نواقص بارزة. فهو مثلا لا يتيح معالجة سريان (جريان) الحرارة أو معالجة الشغل أو الأنتروبية. فلا تستطيع مثلا محاكاة مكبس. كما أن المواد المساعدة أعدت من قبل مربين ذوي آراء مختلفة فيمن يتوجه إليهم البرنامج، فبعض الأقسام تستهدف المبتدئين في حين تناسب أقسام أخرى طلبة الدراسات العليا. لقد أعد مصمم البرنامج صفحة خاصة على الويب لقراء ساينتفيك أمريكان لكي يدلوا باقتراحاتهم لمراجعة مستقبلية. ولكن برنامج الديناميك الجزيئي، على الرغم من نواقصه، يظل أداة رائعة لفهم كيف تبني الذرات عالمنا. ومادام مجانيا فماذا يضيرك من استعماله؟
لتحميل نسختك المجانية من برنامج الديناميك الجزيئي على حاسوبك اتصل بموقع Stark Design على الشبكة العنكبوتية www.starkdesign.com/sciam. وللحصول على مزيد من المعلومات حول هذا المشروع وغيره يمكنكم الاتصال بموقع جمعية هواة العلم على الويب earth.thesphere.com/SAS. أو الكتابة إلى الجمعية على العنوان التالي: 4735 Clairemont Square, PMB 179, San Diego, CA92117.
(*) Modeling the Atomic Universe
(1) أي1019.