صوتيات معكوسة زمنيا
صوتيات معكوسة زمنيا(*)
تستطيع مجموعة من المحاويل(1) transducers إعادة تكوين
الأصوات وإرجاعها ثانية إلى مصدرها، كما لو أنه جرى عكسُ الزمن.
ويمكن استخدام هذه السيرورة لتفتيت حصى الكلى
وكشف عيوب المواد والاتصال بالغواصات.
<M. فينك>
في غرفة داخل مختبر الموجات والصوتيات بباريس، ثمة صفيف array من الميكروفونات والمجاهير الصوتيةloudspeakers. فإذا وقفت قُبالة ذلك الصفيف وتحدثت فيه، يرتد إليك كل ما تقوله، لكنه يكون معكوسا. فعبارة “hello” مثلا ترتد إليك، آنيا تقريبا، على شكل “olleh”. قد يبدو هذا لأول وهلة وكأنه أمر طبيعي لا يختلف عن تشغيل شريط تسجيل باتجاه معكوس، إلا أن في الأمر مفارقة: فالصوت الآتي من المجاهير الصوتية يرتد تماما باتجاه مصدره. فبدلا من الانتشار في الغرفة في جميع الاتجاهات، كما هي العادة، يتقارب الصوت الخاص ب”olleh” نحو فمك، وكأن الزمن ذاته يجري باتجاه معكوس. تُعرف هذه الظاهرة بالصوتيات المعكوسة زمنيا time-reversed acoustics، حيث يعمل صفيف المحاويل الذي يواجهك مثل «مرآة عاكسة للزمن» time-reversalmirror TRM.
إن هذه المرايا أكثر من مجرد بدعة للتسلية، بل إنها تصلح للعديد من التطبيقات، ومنها استئصال الأورام وتفتيت حصى الكلى وكشف العيوب في المعادن، وتسهيل الاتصالات البعيدة المدى تحت الماء، وكشف الألغام في البحار. كما يمكن استخدامها في تجارب دقيقة في الفيزياء البحتة.
إن سر الصوتيات المعكوسة زمنيا يكمن في أن الصوت يتكون من موجات. فعندما تتحدث، تُحدِثُ اهتزازات في الهواء تنتشر من فمك كما تنتشر التموجات على سطح بركة ماء انطلاقا من النقطة التي ترمى فيها حصاة. وإحدى الخصائص الجوهرية للموجات هي أنه عندما تمر اثنتان منها عبر الموقع نفسه، فإن إحداهما تقوي الأخرى إذا تصادفت ذراهما وقيعانهما معا في الموقع نفسه، وتفني كل منهما الأخرى إذا تصادفت ذرا إحداهما مع قيعان الأخرى. وتحصل هذه الظاهرة باستمرار في كل مكان ينتشر الصوت فيه. فالصدى ينعكس عن الجدران والحواجز الأخرى ويسبب تمازجا بين أجزاء مختلفة من الموجة نفسها. لذا يجب على مصممي صالات الموسيقى أن يتنبهوا تماما إلى مثل هذه العوامل حتى تؤمن تصاميمهم وصول صوت ذي نوعية عالية إلى حيث يجلس المستمعون.
تعمل المرايا الصوتية العاكسة للزمن على مرحلتين. في المرحلة الأولى (القسم الأيسر من الشكل)، يُصدر منبع موجات صوتية (اللون البرتقالي) تنتشر نحو الخارج، وقد تتعرض إلى تشويه بسبب عدم تجانس وسط الانتشار. ويكشف كل محوال في صفيف المرآة الصوت الواصل إلى موقعه ويغذي الإشارة إلى حاسوب. وفي المرحلة الثانية (القسم الأيمن من الشكل)، يُصدر كل محوال إشارته الصوتية معكوسة زمنيا وبالتزامن مع المحاويل الأخرى. وبذلك تتولد الموجة الأصلية من جديد، لكنها تنتشر متبعة مسارها بالمقلوب عبر الوسط فتتخلص من التشويه وتكوِّن بؤرة في نقطة المنبع الأصلي. |
أما الخاصية الجوهرية الأخرى التي تجعل الصوتيات المعكوسة زمنيا ممكنة فهي أن السيرورات الفيزيائية الأساسية المتعلقة بالموجات لا تتغير إذا انعكس الزمن: أي إنه إذا جعلت فيلما يصور موجات يتحرك إلى الوراء، فإن الموجات تبقى خاضعة إلى المعادلات نفسها. وهذا صحيح أيضا في ميكانيك الجسيمات العادية الذي يَحكُم أجساما مثل كرات البلياردو. لكن، وباستثناء الحالات البسيطة، لا يمكن للمرء عمليا تحقيق ميكانيك جسيمات «معكوس زمنيا». فالمشكلة هنا هي ظاهرة الشواش chaos، حيث يؤدي تغير ضئيل في الموضع الأولي للجسيم إلى تغير كبير في موقعه النهائي بعد مرور فترة من الزمن.
تأمل، على سبيل المثال، في شكل من أشكال آلة الكرة والدبابيس pinball machine (وهي أداة تسلية ومقامرة) حيث تُطلق كرة عبر صفيف مؤلف من 100 حاجز متوضع عشوائيا. فحتى في المحاكاة الحاسوبية لهذه الحركة، لا يمكن للكرة أن ترجع إلى الخلف سالكة مسارها الذي وردت عبره: فبعد عدد (دستة مثلا) من التصادمات، لا تصدم الكرة الحاجز الذي كان عليها أن تصدمه (أو العكس، أي تصدم حاجزا كان عليها أن لا تصدمه)، ويكون مسار العودة التالي مختلفا تمامًا عن مسار القدوم الأصلي. وفي المحاكاة الحاسوبية، فإن الأخطاء الناجمة عن الاختصارات والتقريبات الطفيفة للأرقام (وهذا يحصل عندما يخزن الحاسوب الأرقام ويُجري العمليات الحسابية) تكفي للقضاء على العكوسية الزمنية. وفي التجارب العملية، تجد أن من المستحيل إرجاع الكرة على مسارها تماما في الاتجاه المعاكس، وهذا أيضا يغير النتيجة النهائية كليا.
وعلى النقيض من هذا، فإن انتشار الموجات عملية خطية linear، أي إن تغيرًا ضئيلا في الموجة البدئية يحدث تغيرا ضئيلا في الموجة النهائية. وبالمثل، فإن إعادة توليد الموجة «النهائية» المعكوسة، والتي لا تخلو من تفاوتات حتمية طفيفة، سيحدث موجة تنتشر في الاتجاه العكسي (تحتوي على تفاوتات طفيفة نسبيا أيضا)، لكي تعيد تكوين الموجة «البدئية».
مرايا عاكسة للزمن
إليك الآن الكيفية التي تنجح بها المرآة الصوتية العاكسة للزمن في جعل “olleh” ترتد نحو فم زائر المختبر في باريس. إن الموجة النهائية هي صوت “hello” الذي يصل إلى صفيف الميكروفونات بعد انطلاقه من فم الزائر منتشرا بعيدا عنه. ويكشف كل ميكروفون الموجة الصوتية التي تصل إليه ويُمرر الإشارة الكهربائية الناتجة منها إلى حاسوب يخزنها على شكل معلومات. وعندما يتلاشى آخر أثر ل”hello”، يَعكِس الحاسوب إشارة كل ميكروفون ويعيد إصدارها من خلال المجهار الموافق له بتزامن تام مع الإشارات المعكوسة الأخرى. وما يصدر عن صفيف المجاهير هو تقريب دقيق للموجة النهائية التي تنتشر الآن في الاتجاه العكسي عبر الغرفة، سالكة المسار الذي وردت “hello” الأصلية عبره عائدة إلى فم المتحدث.
يمكن جمع كل زوج من الميكروفونات والمجاهير في أداة واحدة من قبيل المحاويل الكهرضغطية (الكهرإجهادية) piezoelectric transducers التي تحوِّل الصوت إلى جهد كهربائي (ڤلطية) عندما تعبرها الموجة، وتهتز كالمجهار لتصدر الصوت عندما تسري فيها إشارة جهد كهربائي [انظر الشكل في الصفحة 255].
ولكي تكون الصوتيات المعكوسة زمنيا ناجحة عمليا، ينبغي على موجة الصوت أن تنتشر من دون أن تفقد الكثير من طاقتها على شكل حرارة، حيث تتجلى تلك الحرارة في الحركة العشوائية لجزيئات الهواء، بدلا من الحركة الجمعية collective في الموجة الصوتية. ويشابه هذا المطلب الحاجة إلى توفير احتكاك ضئيل جدا في تجارب ميكانيك الجسيمات. فعلى سبيل المثال، فإن عكس مسارات الكرات على طاولة البلياردو غير عملي؛ إذ لا توجد طريقة لتسريع الكرات بشكل صحيح أثناء الزمن المعكوس نتيجة تباطئها الناجم عن الاحتكاك ومقاومة الهواء.
تحصل ظاهرة الكرة والدبابيس الصوتية الشواشية عندما تتصادم نبضة موجات فوق صوتية صادرة عن محوال تحت الماء (في يسار الصورة) مع 2000 من القضبان الفولاذية المتوضعة عشوائيا قبل وصولها إلى المرآة العاكسة للزمن ذات ال96 عنصرا (في يمين الصورة). يستقبل كل عنصر من صفيف المحاويل إشارة صوتية تبدو شواشية (جزء منها مبين في a) وتدوم طويلا مقارنة بالنبضة الأصلية التي تدوم 1 مكروثانية. وعندما تعيد المرآة إخراج الإشارات الشواشية معكوسة زمنيا ومتزامنة، تتصادم وهي تنتشر في الاتجاه المعاكس مع غابة القضبان وتتراكب معا لتعيد تشكيل نبضة واضحة المعالم (b) في موقع المحوال. |
لكن عندما تكون الطاقة المفقودة ضئيلة لدرجة كافية، فإن المعادلات التي تحكم الموجات تضمن أنه من أجل كل رشقة burst صوت تصدر متباعدة عن المنبع، توجد نظريا مجموعة من الموجات يمكنها اتباع مسار الصوت تماما في الاتجاه المعكوس نحو المنبع. ويبقى هذا صحيحا حتى لو كان وسط الانتشار معقدا بسبب احتوائه على أجسام مختلفة وتباينات في كثافته تجعل الصوت يرتد ويتبعثر وينحرف. وتتبع الموجات المعكوسة جميع تلك المسارات المعقدة لتتقارب متزامنة عند المنبع الأصلي، كما لو أن الزمن يجري باتجاه الماضي. وفي عام 1988 بنت مجموعة البحث التي أقودها مرآة صوتية عاكسة للزمن واختبرتها مستخدمة الموجات فوق الصوتية في أوساط غير متجانسة تقريبا تشبه النسج البيولوجية.
قد تحسب أنه ينبغي على صفيف المحاويل أن لا يحتوي على فجوات فيما بينه من أجل أن يُعاد تكوين موجة معكوسة خالية من الفجوات. إلا أن الطريقة التي تنحرف بها الموجات تجعل الفجوات بين المحاويل التي لا يزيد اتساعها على نصف طول الموجة تمتلئ أثناء انتشار الموجة. لذا يمكن وضع المحاويل على نحو تكُون المسافات الفاصلة بينها مساوية لنصف طول أقصر موجة من دون حصول تدن في جودة الموجات المعاد تكوينها. وللسبب نفسه أيضا تتقارب (تتجمع) الموجات المعاد تكوينها في بؤرة focus لا تقل عن نصف أقصر موجة، لذا تضيع تفاصيل المنبع الصوتي الأصغر من ذلك.
وينبغي على صفيف المحاويل في الحالة المثالية أن يغطي جدران الغرفة جميعا مع سقفها وأرضها من أجل إعادة تكوين الموجة النهائية بتمامها [انظر الشكل في الصفحة 25]. إلا أنه غالبا ما تكون إحاطة المنبع كليا بالمحاويل مستحيلة عمليا، لذا يجري تنفيذ العكس الزمني عادة باستخدام مساحة محدودة توضع فيها المحاويل، ندعوها المرآة العاكسة للزمن (TRM). إن ذلك سيؤدي إلى ضياع بعض المعلومات بلا ريب، إذ كلما كانت فتحة المرآة أصغر، غدت مساحة البؤرة أكبر. وتشبه هذه الخاصية ما يحدث في البصريات، حيث يستطيع المقراب telescope ذو المرآة الكبيرة توفير ميز أكثر دقة من ذلك الذي يوفره المقراب ذو المرآة الصغيرة. وفي الواقع، تجري دراسات في حقل البصريات على ما هو مشابه للمرايا العاكسة للزمن منذ أكثر من عشرين عاما، ونقصد بذلك مرايا الأطوار المترافقة phase-conjugated mirrors. تتميز هذه المرايا بخاصية العكوسية المرتدةretroreflectance، أي إن الضوء يرتد عنها نحو منبعه حيثما يوجد بالنسبة إلى المرآة. لكن مرايا الأطوار المترافقة لا تُنتج المعكوس الزمني لإشارة ضوئية متغيرة.
كرة طاولة الدبابيس الشواشية
في عام 1994 استعرضت مع طالبيَّ <A. ديرود> و <P. رو> العكس الزمني للموجات فوق الصوتية في وسط مشابه لآلة الكرة والدبابيس الشواشية التي ذكرناها آنفا؛ وكانت النتائج مدهشة. كانت الحواجز مكونة من مجموعة عشوائية مؤلفة من 2000 من القضبان الفولاذية المتوازية المغمورة في حوض [انظر الشكل في الصفحة المقابلة]. وأُطلقت الموجات، من محوال صغير، على شكل نبضة دامت 1 مكروثانية، وانتشرت خلال تلك «الغابة» من القضبان باتجاه صف احتوى على 96 محوالا كهرضغطيا. وكشفت المحاويل جبهة موجية بدئية كانت ذلك الجزء من الصوت الذي شق طريقه مباشرة عبر الغابة، تبعتها موجة شواشية طويلة دامت نحو 200 مكروثانية. وقابلت الموجة الشواشية تلك الأجزاء من النبضة البدئية التي تبعثرت على طول جميع المسارات الممكنة بين القضبان، نتيجة اصطدامها بأكثر من قضيب قبل الوصول إلى المحاويل.
يستطيع محوال وحيد عكس موجة زمنيا ضمن تجويف مغلق. يصدر منبعٌ نبضةً في الموقع A على شريحة (رقاقة) سيليكونية صغيرة (في الأعلى)، ويسجل محوال في النقطة B الاهتزازات الشواشية الناجمة عن النبضة بعد ارتدادها عن حواف الشريحة مئات المرات. ويعيد المحوال في النقطة B إخراج مقطع قصير من تلك الإشارة بالمقلوب (في الأسفل). وبعد الكثير من الانعكاسات، تتراكب الأصداء معا لتعيد توليد النبضة القصيرة التي تتركز ثانية في الموقع A، وقد تبين ذلك من خلال تصوير الموجات على سطح الشريحة بالقرب من A (في أسفل اليسار). |
وفي الجزء الثاني من التجربة، عكسنا الإشارات زمنيا، وقسنا الموجة العائدة إلى موقع المنبع بوساطة هايدروفون (أداة تشبه الميكروفون تُستخدم تحت الماء). لقد تشكلت في موقع المنبع نبضة دامت نحو 1 مكروثانية، على الرغم من أن صفيف المحاويل أطلق إشارة دامت 200 مكروثانية عبر الغابة التي أحدثت تبعثرا شواشيا. وقمنا أيضا بإجراء خطوتي التجربة نفسها، لكن من دون القضبان الفولاذية. وكانت نتائج التجربتين لافتة للانتباه، فقد تجمعت (تمحرقت) الحزمة المعكوسة زمنيا في حالة وجود القضبان المبعثِرَة في بؤرة تقل مساحتها ست مرات عن مساحة البؤرة في حالة عدم وجودها. ويمكن تفسير هذه النتيجة المحيرة بأن الانعكاسات المتكررة عن القضبان في الغابة تعيد توجيه أجزاء من الموجة البدئية نحو المرآة كان من الممكن أن تضيع ولا تصل إلى المحاويل لو لم تكن القضبان موجودة. فبعد تنفيذ عملية العكس الزمني، يعمل الوسط ذو الانعكاسات المتعددة برمته عمل عدسة مقربة، جاعلا بذلك المرآة تبدو وكأن فتحتها أكبر بست مرات ومحسنا الميز بالتالي بمقدار ستة أضعاف.
بيَّنت التجربة أيضا أن سيرورة العكس الزمني ذات استقرار مدهش. فقد جرى أخذ عينات الإشارات المسجلة باستخدام مبدِّلات تمثيلية رقمية analog-to-digital converters أدخلت فيها أخطاء التكميم quantizationerrors. إضافة إلى ذلك، وجدنا أنه إذا جرى تحريك صفيف المحاويل والقضبان بمقدار جزء طفيف من طول الموجة (0.5 مليمتر) بعد إنجاز المرحلة الأولى، أي مرحلة إطلاق النبضة وتسجيل الإشارات، يبقى العكس الزمني محقَّقا، وذلك على نقيض تام مما يحصل في تجربة الجسيمات. فكل جسيم يتبع مسارا محددا تماما، أما الموجات فتسلك جميع المسارات الممكنة، واصلة بذلك إلى جميع الحواجز المبعثِرَة وفقا لكل التوافقيات الممكنة. إن حصول خطأ بسيط في سرعة الجسيم أو موقعه البدئيين يمنع صدمه حاجزا كان عليه أن يصدمه، الأمر الذي يغير مساره كليا بعدئذ. أما سعة (مطال) الموجة amplitude فهي أكثر استقرارا لأنها تنجم عن تداخل جميع المسارات الممكنة. وفي البيئات الشواشية تكون فيزياء الموجات أكثر مناعة من فيزياء الجسيمات، لذا تتحسن الخصائص البؤرية للمرايا العاكسة للزمن في تلك البيئات.
نتائج تجربة تحت الماء: تبين الكنتورات (منحنيات التسوية) الملونة شدة الصوت؛ تبدو نبضة الإشارة المرسلة (الدائرة الحمراء) شديدة التشوه عند المرآة العاكسة للزمن، لكن عندما يُعاد إخراجها معكوسة زمنيا (في اليسار)، فإنها تُنتج نبضة مبأرة عند صفيف المستقبلات (في اليسار). |
العكس الزمني على شريحة (رقاقة) سيليكونية(2)
إن تلك الأفكار حول العدسة الصوتية ومناعتها تجاه الأخطاء الصغيرة جعلتنا نتساءل عما إذا كان بالإمكان إنقاص عدد محاويل العكس الزمني إلى محوِّل واحد فقط. فكيف يمكن إعادة توجيه المعلومات الخاصة بالمنبع نحو محوال عكس زمني وحيد؟ لقد قررنا وضع المنبع والمحوال معا ضمن جدران عاكسة مثالية مكونين بذلك حجرة تتميز بخاصية فريدة تدعى الإرگودية ergodicity. إن طاولة بلياردو عديمة الاحتكاك وذات جوانب محدبة كتحدب ملعب كرة القدم يمكن أن تمتلك خاصية الإرگودية، بمعنى أن الكرة المقذوفة عليها في أي اتجاه تقريبا ستمر من كل موقع على سطح الطاولة. وعلى غرار تلك الطاولة، فإنه في الحجرة الإرگودية ستمر جميع الأشعة الصوتية الصادرة عن منبع ما بموقع المحوال إذا انتظرنا مدة كافية.
يمكن تحسين الاتصالات تحت الماء إذا استخدمت الأصوات المعكوسة زمنيا في تركيز الإشارة في بؤرة عند المستقبِل. وقد تم استعراض هذه التقانة تحت الماء على عمق 120 مترا بالقرب من جزيرة إلبا Elba قبالة الساحل الإيطالي. فقد أرسلت نبضة صوت من موقع الهدف وسجلت على بعد وصل حتى 30 كيلومترا بوساطة صفيف من المُرسلات المُجيبات transponders، بعد أن تعرضت للتشويه بسبب الانعكاسات المتعددة والانحرافات (الأحمر) بين سطح الماء وقاع البحر. وتركزت الإشارة المعكوسة زمنيا التي أخرجتها المحاويل بشكل جيد في بؤرة بموقع الهدف. |
في عام 1996 برهنت مع طالبي <C. دريجر> خاصية العكس الزمني بمحوال واحد، وذلك باستخدام موجات مرنة تنتشر على سطح شريحة سيليكونية [انظر الشكل في الصفحة 27]. أصدر المنبع في النقطة Aموجة سطحية دائرية استمرت 1 مكروثانية. وفي النقطة B، سجل محوال العكس الزمني إشارة شواشية استغرقت مدة تزيد على 50 ملي ثانية (أي ما يساوي 000 50 ضعف مدة النبضة البدئية)، وهذا يوافق نحو 100 انعكاس للنبضة البدئية عن حواف الشريحة. ثم عُكس زمنيا جزء مدته 2 ملي ثانية من الإشارة وأعيد إصداره من قبل المحوال في النقطة B. وكانت النتيجة أن الموجات المرنة حرضت انزياحات شاقولية (رأسية) صغيرة في سطح الشريحة قمنا برصدها بمسح السطح حول النقطة A بوساطة مقياس تداخل بصري.
يمكن كشف حصى الكلى وتفتيتها بالموجات فوق الصوتية اعتمادا على خاصية تكوُّن البؤرة ذاتيا في المرآة العاكسة للزمن. تُولِّد نبضة فوق صوتية صادرة عن جزء من الصفيف (a) صدى مشوها ينعكس عن الحصاة (b). ويمر المعكوس الزمني العالي الطاقة لذلك الصدى عبر النسج والأعضاء المحيطة ويعود ويتركز في بؤرة على الحصاة (c) ويفتتها. يؤدي تكرار العملية إلى تحسين البؤرة ويسمح بملاحقة الحصاة في الزمن الفعلي أثناء حركتها الناجمة عن تنفس المريض. |
لقد كانت إعادة تكوين النبضة الأصلية في النقطة A مثيرة حقا، فقد شكلت بؤرة ضمن دائرة نصف قطرها يساوي نصف طول الموجة تقريبا واستمرت فترة نحو 1 مكروثانية. فبسبب الانعكاسات التي حصلت على حواف الشريحة، تقاربت الموجة المعكوسة زمنيا نحو المنبع من جميع الاتجاهات، مكوِّنة بقعة دائرية. إن الموجة المعكوسة زمنيا التي دامت 2 ملي ثانية (أي ما يوافق نحو 2000 اهتزازة معقدة) هي الكود code اللازم لتكوين بؤرة تامة في النقطة A عندما تُعاد من النقطة B. توحي هذه النتيجة بإمكانية التعمية cryptographyاعتمادا على هذا المبدأ، وذلك باستخدام إشارات تنطلق من النقطة B لتوليد نبضات في نقاط مختلفة من الحجرة (التجويف الصوتي).
تستطيع المرايا العاكسة للزمن أيضا التعويض عن الانتشار المتعدد المسارات الشائع في النظم الصوتية البحرية، والذي يحد من قدرة أجهزة الاتصالات العاملة تحت الماء على نقل المعلومات. تحصل المشكلة في المياه الضحلة حيث ينتشر الصوت كما لو كان ينتشر ضمن دليل موجي منعكسا انعكاسات متتالية بين أرض البحر وسطح الماء، الأمر الذي يجعل النبضة المرسلة الواحدة تولد نسخا متعددة عن نفسها في المستقبِل (جهاز الاستقبال)، على نحو مشابه لما يحصل في الحجرة الإرگودية. لكن حدود القناة البحرية غير إرگودية، لذا ينبغي على المرآة العاكسة للزمن أن تحوي عددا كبيرا من المحاويل. ومؤخرا قام باحثون من معهد سكريپس لدراسة المحيطات في كاليفورنيا، ومن مركز ساكلانت SACLANT للبحوث تحت المائية في إيطاليا ببناء مرآة عاكسة للزمن ذات 20 عنصرا واختبروها في البحر المتوسط قبالة الساحل الإيطالي [انظر الشكل أعلى الصفحة 28]. كان فريق الباحثين بقيادة <T. آكال> و<W. هودجكس> و<A .W. كوپرمان>، وقد بيَّن الفريق أن مرآته استطاعت تبئير focusing موجات صوتية تبعد نحو 30 كيلومترا، وذلك في مياه بلغ عمقها نحو 120 مترا. وكانت النتيجة مشابهة لنتيجة تجربة القضبان المبعثِرة التي أدت إلى تحسين قدره ستة أضعاف؛ فقد تركزت الحزمة المعكوسة زمنيا في بؤرة تقل مساحتها كثيرا عن تلك التي تتكون باستخدام مشكِّلات الحزمة السونارية (الصوتية تحت المائية) المعتادة. وقمت مع رو بإجراء دراسات مشابهة باستخدام دلائل الموجات فوق الصوتية التي تحدث فيها الانعكاسات المتعددة. لقد مكننا التبئير (تشكُّل البؤر) وإعادة الانضغاط الشديد المرافق للموجة المعكوسة زمنيا من تكوين نبضة صوتية عالية القدرة يمكن استخدامها في توليد موجات الصدمة shockwaves.
يشكل العظم المسامي في الجمجمة بامتصاصه الطاقة تحديا في وجه تركيز الموجات فوق الصوتية في بؤرة على الأورام الدماغية بغية تسخينها وتدميرها. إلا أن المرآة العاكسة زمنيا، مع خوارزمية معدلة لإعادة إخراج الإشارة، تستطيع تبئير الموجات فوق الصوتية على هدف صغير عبر عظم الجمجمة. |
إن تطبيقات المرايا العاكسة للزمن توفر حقلا غنيا على نحو خاص في مجال كشف صدى النبضات pulse-echo detection، وفيه يجري إرسال نبضة قصيرة وكشف أصدائها المرتدة عن هدف واحد أو أكثر. والتطبيقات الممكنة هنا عديدة، فهي تتضمن التصوير الطبي والاختبارات اللاتخريبية (لفحص المواد في المكونات الصناعية لكشف التصدعات والعيوب فيها) والصوتيات تحت المائية (لكشف الألغام والغواصات والأجسام الغارقة). إن العنصر المشترك اللازم للكشف العالي الجودة هو في استعمال حزمة صوتية ضيقة، وفي كل تطبيق يعيق الوسط المحيط تحقيق ذلك عند موقع الهدف. ولعل التصوير الطبي هو الحالة التي تكون فيها هذه المشكلة أكثر جلاء، حيث يرغب المرء في إرسال الموجات فوق الصوتية عبر الدهون والعظام والعضلات نحو أهداف مثل الأورام وحصى الكلى. إن كشف أصداء النبضات باستخدام المرايا العاكسة للزمن يمكن أن يتغلب على هذه المشكلة.
كشف صدى النبضات
يرسِل أولا جزءٌ من الصفيف نبضةً قصيرة عبر الوسط المشوِّه، وذلك لإضاءة المنطقة موضوع الاهتمام، ثم تُسجَّل الموجة المرتدة عن الهدف نحو الصفيف وتُعكَس زمنيا ثم تبث ثانية. تضمن عملية العكس الزمني هنا تبئير الموجة المعكوسة زمنيا على الهدف، على الرغم من جميع التشوهات الناجمة عن وسط الانتشار.
عندما تحوي المنطقة هدفا واحدا فقط، فإن هذه التقانة لتكوُّن البؤرة ذاتيا فعَّالةٌ تماما. أما إذا كانت هناك عدة أهداف، فإن المسألة تصبح أكثر تعقيدا، إلا أنه يمكن انتقاء هدف واحد منها فقط بتكرار العملية. تأمل في الحالة الأبسط، وهي حالة وجود هدفين فقط، أحدهما أشد عكسا للموجة من الآخر. عندئذ تجد أن أصداء النبضة البدئية ستحتوي على مكوِّن (عنصر) أقوى نسبيا ناجمٍ عن الهدف الأشد عكسا مقارنة بالمكوِّن الناجم عن الهدف الآخر (الأضعف عكسا). لذا ستُركز الإشارة الأولى المعكوسة زمنيا موجة على كل هدف، وستكون إحداهما أقوى من الأخرى، وهي التي تتركز على الهدف الأشد عكسا. وعندئذ ستكون الأصداء الناجمة عن هاتين الموجتين أكثر انحيازا نحو الهدف الأشد عكسا؛ وبعد تكرار هذه العملية بضع مرات، نحصل على إشارة تتركز بشكل رئيسي في بؤرة على ذلك الهدف. أما انتقاء الهدف الأضعف عكسا، فيتطلب تقانات أكثر تعقيدا.
من بين التطبيقات الطبية الأقرب للنجاح للمرايا العاكسة زمنيا هي تفتيت حصى الكلى والمرارة [انظر الشكل في الصفحة 29]. تستطيع تقانات التصوير بالموجات فوق الصوتية أو بالأشعة السينية التقليدية تحديد مواقع تلك الحصى بدقة، إلا أنه من الصعب تبئير الموجات فوق الصوتية عبر الأنسجة المحيطة من أجل تفتيت الحصى. كذلك فإن حركة الحصى أثناء تنفس المريض تجعل ملاحقتها أمرا صعبا. فنحو 30 في المئة فقط من رشقات الموجات فوق الصوتية تصل إلى الحصاة، ويلزم عدة آلاف من الرشقات لتفتيت واحدة منها. إن تقانات الزمن المعكوس تستطيع حل هذه المشكلات.
بعد تكرار سيرورة العكس الزمني لصدى النبضة عدة مرات، تتركز حزمة الموجات فوق الصوتية بإحكام في بؤرة على جزء الحصاة الأشد عكسا. بعدئذ يمكن إطلاق نبضات متتالية مضخمة من أجل تفتيت الحصاة. ويمكن تكرار هذه السيرورة من أجل ملاحقة الحصاة في الزمن الفعلي real time أثناء حركتها. لقد طورتُ مع <L .J. توما> و<F. وو> مرآة عاكسة للزمن قطرها 20 سنتيمترا من أجل هذا التطبيق، وتم إجراء عملية الملاحقة وتحطيم حصاة في أنبوب اختبار في مشفيين فرنسيين.
إن التطبيق الواعد الآخر في مجال الطب هو التسخين المفرط hyperthermia للنسج بوساطة الموجات فوق الصوتية العالية الكثافة. فدرجات الحرارة التي تزيد على 60 درجة مئوية تستطيع تدمير النسج خلال ثوان فقط. هناك اليوم أجهزة متوفرة في الأسواق تستخدم التقانات التقليدية لتبئير الموجات فوق الصوتية، إلا أنها تصلح للنسج الثابتة static فقط مثل غدة البروستاته المتسرطنة. أما التطبيقات التي تتناول البطن والقلب فتحدها حركات التنفس وخفقان القلب. ومن أجل حل هذه المشكلة، يقوم <E. إبيني> ومجموعته في جامعة ميتشيگان بتطوير صفيفات ذاتية التبئير. أما مجموعتي البحثية، فتعمل في مجال التسخين الدماغي المفرط، والتحدي الذي يواجهنا هو تكوين البؤر عبر الجمجمة التي تحرف الحزمة فوق الصوتية وتبعثرها على نحو شديد. يضاف إلى ذلك أن مسامية الجمجمة تسبب فقدا حراريا كبيرا بامتصاصها جزءا من طاقة الموجة، وبذلك تكسر تناظر العكس الزمني في معادلة الموجة. وقد قمنا بتطوير تقانة جديدة للتبئير تعوِّض عن آثار هذا الضياع، الأمر الذي مكّننا من إرسال الحزمة فوق الصوتية عبر الجمجمة وتبئيرها في بقعة قدرها 1.5 مليمتر [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].
ومن التطبيقات المهمة الأخرى للمرايا العاكسة للزمن كشف العيوب في الأجسام الصلبة في ما يسمى بالاختبارات اللاتخريبية. ثمة صعوبة في كشف العيوب الصغيرة في جسم له شكل هندسي معقد أو مصنوع من مادة غير متجانسة heterogeneous أو لامتناحية anisotropic، حيث يُغمر الجسم عادة مع المحوال فوق الصوتي في الماء، لكن ظاهرة الانحراف refraction يمكن أن تغير الحزمة فوق الصوتية في نقاط تلاقي الماء مع سطح الجسم الصلب جاعلة كشف العيوب الصغيرة أشد صعوبة. فضلا عن ذلك، يمكن للموجات فوق الصوتية أن تُنتج أشكالا واستقطابات مختلفة للموجة في الجسم الصلب. وقد بينا بالتجربة أن تقانات التبئير الذاتي باستخدام المرايا العاكسة للزمن تستطيع التعويض عن ذلك تلقائيا. وفي برنامج مشترك مع الجمعية الوطنية الفرنسية لدراسة محركات الطائرات وبنائها، قمنا بتطوير مرآة عاكسة للزمن ذات 128 عنصرا من أجل كشف العيوب المنخفضة التباين في سبائك (خلائط) التيتانيوم المستخدمة في المحركات النفاثة. يتميز التيتانيوم ببنية مكروية شديدة اللاتجانس ينجم عنها الكثير من الضجيج المتبعثر الذي يمكن أن يخفي الأصداء التي تولدها العيوب. وقد بيَّنا أن طريقة صدى النبضة المتعددة الدورات تستطيع كشف عيوب تصل في صغرها حتى 0.4 مليمتر في قطع تيتانيوم ذات قطر يساوي 250 مليمترا، وتوفر نسبة إشارة إلى ضجيج أفضل مما توفرها التقانات البديلة الأخرى.
لقد صار إنجاز سيرورة العكس الزمني الآن في متناول اليد في المختبر، والتحدي هو صقل تطبيقاتها في المجالات الطبية والصناعية. إن عكس ال”hello” الصادرة عن شخص ما هو شيء من قبيل الطرفة التي تقدم في الحفلات، إلا أن المبادئ نفسها التي تركز ال”olleh” نحو فم المتحدث يمكن أن تُستخدم أيضا، مع شيء من المعالجة الحاسوبية الإضافية، في تكوين الهولوگرامات الصوتية في الغرفة. فعلى سبيل المثال، يمكن برمجة المحاويل لتركز صوت “hello” بالقرب من شخص ما وصوت “bonjour” بالقرب من شخص آخر في اللحظة ذاتها.
ويمكن توسيع دائرة تطبيقات تقانة العكس الزمني بحيث تشمل أنواعا أخرى من الموجات غير الموجات الصوتية. فبعض الباحثين في مجال الرادار يستقصون إمكانيات تطبيقها في الرادار النبضي باستخدام الموجات الكهرمغنطيسية في المدى المكروي. وهناك أنواع أخرى من الموجات التي تحصل في الميكانيك الكمومي، وهي دوال الموجة الكمومية التي تصف المادة كلها. ففي الواقع، يمكن أن يحدث نوع من الانعكاسات الارتدادية عندما تصدم دالة موجة الإلكترون الحد الفاصل بين موصل كهربائي عادي وآخر فائق الموصلية. وهنا لا يسع المرء سوى التخمين حول ما يمكن أن يحدث إذا جرى تطبيق العكس الزمني على موجات الميكانيك الكمومي.
المؤلف
Mathias Fink
طوَّر المرايا الصوتية العاكسة للزمن في المدرسة العليا للفيزياء والكيمياء الصناعية بباريس، وهو مدير مختبر الموجات والصوتيات وأستاذ الفيزياء في جامعة دنيس ديديرو (جامعة باريس السابعة). حصل على الدكتوراه في فيزياء الحالة الصلبة والدكتوراه في التصوير الطبي بالموجات فوق الصوتية من جامعة باريس. وهو أيضا عضو في هيئة الجامعات الفرنسية.
مراجع للاستزادة
ULTRASONIC FOCUSING WITH TIME-REVERSAL MIRRORS. M. Fink and C. Prada. Advances in Acoustic Microscopy Series. Edited by A. Briggs and W. Arnold. Plenum Press, 1996.
TIME-REVERSED ACOUSTICS. M. Fink in Physics Today, Vol. 50, No. 3, pages 34-40; March 1997.
PHASE CONJUGATION IN THE OCEAN: EXPERIMENTAL DEMONSTRA’1′!UN OF AN ACOUSTIC TIME-REVERSAL MIRROR. W A. Kuperman, W Hodgkiss, H. C. Song, T. Akal, C. Ferla and D. R. Jackson in Journal o f the Acoustical Society of America, Vol. 102, No. 6, pages 1-16; December 1997.
ULTRASOUND PUTS MATERIALS TO THE TEST. M. Fink in Physics World, Vol. 11, No. 2, pages 41-4.5; February 1998.
Scientific American, November 1999
(*) Time-Reversed Acoustics
(1) المحوال transducer: جهاز فيزيائي لتحويل الطاقة من نوع إلى آخر ـ من طاقة صوتية إلى طاقة كهربائية، على سبيل المثال. (التحرير)
(2) Silicon Wafer