مَلِكات تمارس الاستعباد
مَلِكات تمارس الاستعباد(*)
إن الحياة في بعض نواحي عالم النمل محفوفة
بالغزو والقتل وأخذ الرهائن. وتعد المعارك
الرهيبة شكلا من أشكال التطفل الاجتماعي.
<H.توپوف>
قد تكون غارة الاسترقاق التي يقوم بها النمل پوليرگوس على مستعمرة للنمل فورميكا مهمة معقدة، إذ تقتحم شغالات پوليرگوسية أحد الأعشاش الفورميكية (1) وتسرق الخادرات pupae التي ستأخذها معها لدى عودتها إلى عشها وتستعبدها. وفي الوقت نفسه تتزاوج ملكات پوليرگوسية صغيرة وسط هذا الهياج المستعر، وبعد ذلك تنطلق كل واحدة بمفردها لتؤسس مستعمرتها الخاصة (2). وتقاتل الملكة الحديثة التزاوج الشغالات الفورميكية الموجودة عند مدخل جحرها (أي الشغالات) الكائن على مسافة قصيرة من العش الذي وُلدت فيه الملكة (3)، وتشق طريقها إلى الملكة الفورميكية في الحجرة السفلى وتقتلها (4). وبلعقها الملكة الميتة، تكتسب الملكة الپوليرگوسية الكيماويات التي تستميل الشغالات الفورميكية، وبالتالي ترعى هذه الأخيرة بيوض الملكة (الپوليرگوسية) إلى جانب بيوض الملكة الفورميكية الفقيدة (5). |
في عالم الحيوان، تحيا المفترسات والطفيليات على حساب أنواع أخرى غيرها. ومع ذلك فإنهما لا تحظيان بنفس الشهرة الإعلامية. فأنا محاصر برسائل بريدية تنادي بالتبرع بالمال لصالح الذئاب والحيتان القاتلة، في حين أني لم أر بعد قميصا يحمل عبارة «تعيش الدودة الشِّصِّية(1) hookworm. فالمشكلة بالطبع تكمن في أن البشر يربطون بين الحياة الطفيلية والمرض. ويتلخص مفهومنا عن الدودة الشّصّية بأنها كائن ماكر يدس نفسه في داخلنا (بعكس المفترس «الطيب») ويحاول تدميرنا على نحو بطيء.
ولكنْ هناك شكل من أشكال التطفل أقل ترويعا بكثير. فالتطفل الاجتماعي، كما يطلق عليه، قد تطور بشكل مستقل في مخلوقات متباينة مثل النمل والطيور. وعلى سبيل المثال، تضع أنثى طائر الوقواق cuckoo بيضتها في عش طائر من نوع آخر مثل أحد الطيور الصوادح warblers، وتتركها ليقوم العائل (الثوي) برعايتها وتربيتها. ويفعل الشيء نفسه عصفور البقر cowbird ذو الرأس البني. فقد تطور كل طائر بحيث ينتج بيوضا تماثل بيوض الطائر المُرَبِّي المنتقى.
ويعد النمل الممارس للرق أكثر تنوعا من هذه الطيور المتطفلة. فالسلوك غير العادي للنملة المتطفلة پوليرگوس بريڤيسپس Polyergus breviceps ـ التي أقوم على دراستها منذ 155عاما في محطة أبحاث ساوث وسترن التابعة لمتحف التاريخ الطبيعي الأمريكي ـ إنما يعطي مثالا دقيقا على ذلك؛ إذ إن هذه النملة ـ شأنها شأن الأنواع الأربعة الأخرى من الجنس پوليرگوس Polyergus المنتشرة في أنحاء العالم ـ فقدت تماما قدرتها على رعاية نفسها. فالشغالات (العاملات) لا تخرج لجَمْع الغذاء ولا تقوم بتغذية الصغار أو الملكة أو حتى تنظيف عشها الخاص. ولكي يبقى على قيد الحياة لا بد للنمل پوليرگوس من جلب شغالات من الجنس فورميكا Formica ذي القرابة معه لتأدية خدماته اليومية. وهكذا تشن شغالات پوليرگوسية غارات استعباد دورية، يتم خلالها انتقال نحو 1500 شغّالة مسافة 150 مترا (492 قدما) لتدخل في عشٍّ للنمل فورميكا، وتطرد ملكته وشغالاته وتأسر خادراته pupae.
ولدى العودة إلى العش الپوليرگوسي يقوم العبيد بتربية حضنة البيوض المستولى عليها إلى أن تبزغ(2) الصغار. ثم تتولى الشغالات الفورميكية الحديثة البزوغ جميع مسؤوليات رعاية عش النوعين المختلطين. فهي تخرج لجمع الرحيق وجمع الكائنات الميتة من مفصليات الأرجل، وتُخرج الطعام المهضوم جزئيا من جوفها لتغذية أفراد المستعمرة، وتُزيل الفضلات وتحفر حجرات جديدة. وعندما يزيد تعداد النمل على سعة العش الحالية، يقوم 3000 أو نحو ذلك من عبيد الفورميكا بإيجاد موقع آخر وتأمين حمل نحو 2000 شغالة پوليركوسية مع البيض واليرقات والخادرات وحتى الملكة إلى العش الجديد.
لا يعد نظام السادة والعبيد هذا بالأمر الفريد. فمن أصل نحو 8800 نوع من النمل، طوَّر نحو 200 نوع على الأقل شكلا لعلاقة تعايشية symbiotic بين نوع وآخر. ففي أحد طرفي المتصل السلوكي behavioral continuum، توجد طفيليات طوعية facultative من أمثال النمل فورميكا هويليري Formica wheeleri. إن هذا النمل قادر على العناية بنفسه، ولكنه يشن غارات استعباد دورية على أنواع أخرى من النمل كي يدعم قوته العاملة. وعلى العكس من ذلك، يعد النمل پوليركوس وأنواع أخرى من نمل الاستخدام(3) dulotic ants طفيليات اجتماعية قسرية obligatory، حيث لا تستطيع الشغالات والملكة البقيا من دون مساعدة العبيد.
لقد وجَّه أبحاثي الميدانية على النمل پوليركوس هدف واحد لا يتزحزح تمثل في تحديد أكثر التكيفات أهمية في تطور التطفل الاجتماعي القسري. وعلى ذلك فقد ركزت على السلوك المميز الحقيقي الوحيد للنمل پوليركوس والمتمثل في قدرة الملكة بمفردها على الاستيلاء على عش للنمل فورميكا. فمع أن النمل پوليرگوس يقوم بغارات كبيرة لأسر العبيد ـ شأنه في ذلك شأن أنواع أخرى من النمل ـ إلا أنه يتميز بتطويره طريقة غيرعادية تستطيع بوساطتها ملكة جديدة أن تؤسس مستعمرتها الخاصة.
ففي معظم أنواع النمل، تكون سيرورة تأسيس عش جديد واضحة المعالم. فبعد هروب الملكة من المستعمرة التي وُلدت فيها، وتزاوجُها، تَنْزَع أجنحتها وتحفر لنفسها حجرة تضع فيها قليلا من البيض ثم تغذي يرقاتها بما اختزنته من الغذاء. وعندما تنضج الصغار سرعان ما تتولى الشغالات البالغة مهمة العناية بالمستعمرة. أما الملكة الطفيلية من أمثال الپوليرگوس فلا تكون قادرة على تربية حَضْنة صغارها الأولى من دون عبيد. وهكذا فإنها تواجه ما يبدو أنه مهمة مستحيلة تتمثل في غزو مستعمرة فورميكية، وقتل الملكة المقيمة والحصول على قبول من الشغالات. فضلا عن ذلك، يكون عليها أن تنجز كل ذلك من دون مساعدة جندي واحد من النمل.
لقد فقد هذا النمل تماما القدرة على رعاية نفسه. فالشغالات لا تخرج للبحث
عن الغذاء ، ولا تقوم بتغذية الصغار أو الملكة أو حتى بتنظيف عشها الخاص.
خادرة(4) فورميكية تحملها شغالة پوليرگوسية إلى العش الپوليركوسي (في الأعلى)، حيث ستصير جزءا من حَضْنة ترعاها العبدات الفورميكية التي تم أسرها سابقا. ويخوض نحو1500 شغالة پوليرگوسية غمار الغارة الواحدة لسرقة الخادرات (في اليسار). وعلى مدى فصل واحد، قد يفقد العش الفورميكي الواحد نحو000 14خادرة لصالح الجحافل الپوليرگوسية. |
شغالة فورميكية تخرج من حالتها الخادرية وتعتبر نفسها نملة پوليرگوسية، لأن تلك هي الحياة الوحيدة التي تعرفها. إنها تعتني بالشغالات الپوليرگوسية وملكتها، كما تقوم بتغذية الشغالات الپوليركوسية وتنظف العش، وقد تنقل العش عندما يصير مكتظا. وقد تضم مستعمرة من 2000 نملة پوليرگوسية نحو 3000 من النمل الفورميكي العبيد الذي لولاه لهلكت المستعمرة. |
فعلى مدى عدة أسابيع من كل سنة، يتحول بضع مئات من البيض ـ الذي تضعه إحدى الملكات الپوليرگوسية المقيمة ـ إلى ذكور وإلى ملكات تهجر المستعمرة الأم وتحاول أن تكوّن مستعمرة جديدة. في أريزونا، تخلت الملكات الصغيرة للنملة پوليرگوس بريڤيسپس P. breviceps حتى عن أهم الطقوس التناسلية التقليدية بين النمل والمتمثل في طيران الزفاف (التزاوج). فبدلا من التحليق عاليا، تباشر الملكات الپوليرگوسية المجنحة مع الشغالات شن غارة استعباد في الوقت المناسب. وفي وسط جلبة السرب المندفع تتوقف ملكة شابة عن الجري وتجتذب أحد الذكور بفيرومون تُفرزه من غدّتها الفكية، وتتزاوج به ثم تنزع أجنحتها. (إنه زواج سري، أليس كذلك؟).
ويتيسر الآن لهذه الملكة التي تم إخصابها للتو استراتيجيتان لتأسيس مستعمرتها الخاصة: أولا، قد تستمر الملكة في شن غارة الاستعباد دخولا في مستعمرة مجتاحة للنمل فورميكا، فتُشتِّت شغالاتها وملكتها هنا وهناك. صحيح إن مثل هذه الفوضى الناتجة يمكن أن تسهل مهمة الملكة، ولكن النجاح عادة ما يكون قصير الأمد، إذ تكمن المشكلة في أن مستعمرات النمل پوليرگوس تتميز بالإقليمية(5) المتطرفة extreme territoriality ولا تتحمل وجود مستعمرات أخرى لنفس النوع في منطقة استيلائها. فإذا ما شنت المستعمرةُ الپوليرگوسية الأم في مرة لاحقة غارة على هذا العش (المغتصب حاليا)، فإن الملكة الپوليرگوسية الجديدة هذه مع الشغالات التي تكون قد أنتجتها سيكون مصيرها الإبادة.
أما التكتيك البديل لملكة نشيطة فيتمثل في فرارها من الحشد المُغير والتفتيش بنفسها عن مستعمرة فورميكية أكثر بعدا. وعلى الرغم من عدم وجود ضمانات، فإن هذا السلوك يزيد على الأقل من احتمال العثور على عش عائل مناسب خارج منطقة اجتياح العشيرة الپوليرگوسية المستوطنة.
إن الأعشاش الفورميكية (اللون الأحمر) التي غالبا ما تتعرض للهجوم تقع في نطاق 150 مترا (492 قدما) من عش پوليرگوسي (في الوسط). وقد قامت هذه المستعمرة الپوليرگوسية بالذات بشن 14 غارة على 12 مستعمرة فورميكية على مدى نحو ستة أسابيع؛ بين منتصف الشهر السابع و24 من الشهر الثامن. |
آلات فتاكة
بعد العثور على عش فورميكي مناسب، تبدأ المهمة الجادة لاغتصاب المستعمرة. ولما كان ذلك يحدث تحت سطح الأرض، حيث لا تكون المشاهدات المباشرة ممكنة، فقد أجريتُ وطلاب الدراسات العليا العاملون معي تجاربنا مستخدمين أعشاشا مختبرية شفافة. وقبل كل اختبار كنا نضع 15 شغّالة من النوع فورميكا گناڤا Formica gnava في أحد الأعشاش مع 155 خادرة وملكة واحدة. (ونذكر في المقابل أن المستعمرة الطبيعية من فورميكا گناڤا تضم نحو 5000 شغالة). ومن ثم كنا نضع ملكة پوليرگوسية ملقحة حديثا خارج العش مباشرة.
وفي معظم الحالات، سرعان ما تكتشف ملكة الپوليرگوس مدخل العش وتثور في نوبة من نشاط محموم. فتنطلق مباشرة نحو الملكة الفورميكية دافعة جانبا، بكل إصرار، أي شغالات فورميكية تحاول الإمساك بها وعضّها. وقد أوضحت دراساتنا السابقة أن التكيفيْن الدفاعيين الأساسيين للملكة الپوليرگوسية يتمثلان في فكين قويين لعض مهاجميها وفي فيرومون منفر تفرزه غدة دوفور Dufour’s gland الموجودة في بطنها. وبعد التخلص من مقاومة الشغالات، تقبض الملكة الپوليرگوسية على الملكة الفورميكية وتعض رأسها وصدرها وبطنها مدة 25 دقيقة من دون هوادة. وما بين نوبات العض هذه تستخدم لسانها الممتد لتلعق الأجزاء المجروحة لضحيتها المحتضرة. وبعد ثوان من موت الملكة العائلة (الثوية) ينتاب العش أكبر تحول لافت للنظر، حيث تتصرف الشغالات الفورميكية كما لو كانت واقعة تحت تأثير عقار مسكنsedated، فتقترب بهدوء من الملكة الپوليرگوسية وتبدأ بالاعتناء بها على نحو يماثل بالضبط ما كانت تفعله لملكتها الأصلية. أما الملكة الپوليرگوسية فتجمع بدورها الخادرات الفورميكية المبعثرة وترصها في كومة أنيقة وتقف فوقها مزهوة بالنصر. وعند هذه النقطة تصبح السيادة على المستعمرة مهمة منتهية.
الوليمة الملكية
كان هدفُنا التالي أن نجد مفتاح هذا الغسل الدماغي اللافت للنظر للشغالات الفورميكية. فكان أحد الافتراضات أنه «اكتساب (إحراز) كيميائي» chemicalacquisition تمتلك فيه الملكة الپوليرگوسية كيماويات الملكة الفورميكية أثناء عملية قتلها ولعقها. ولاختبار هذه الفكرة، أضفتُ مع طالبتي <E.زيمرلي>تحويرا في دراستنا الأصلية تمثل في قتلنا ملكة فورميكية عن طريق تجميدها ثم إزالة الصقيع عنها وذلك قبل إدخال الأنثى الپوليرگوسية مباشرة. وقد توقّعنا أن الملكة الپوليرگوسية ستهاجم الملكة العائلة وتثقب هيكلها الخارجي وتمتص سوائل جسمها.
لقد كانت النتائج بالضبط كما توقعنا مسبقا. فعند دخول العش، انقضَّت الملكة الپوليرگوسية على الملكة الفورميكية الساكنة وأخذت تقضمها وتلعقها نحوا من 25 دقيقة، بالضبط كما لو كانت على قيد الحياة. وبمجرد أن انتهت من «قتل» الملكة الفورميكية الميتة، شرعت الشغالات الفورميكية بالاعتناء بالملكة الپوليرگوسية وتقبلتها حاكمةً جديدة مستديمة.
وهناك تكهن ثان لفرضية«الاكتساب الكيميائي»، يتمثل في أنه سيصعب ترحيب الشغالات الفورميكية بالملكة الپوليرگوسية في حال عدم وجود ملكة فورميكية في العش. وهنا اكتفينا في سلسلتنا التالية من الدراسات المختبرية بإقصاء الملكة الفورميكية قبل إدخال الأنثى الپوليرگوسية. وبالفعل، أدى هذا العمل إلى إثارة المعركة الكبرى الشهيرة؛ فكان القتال بين الشغالات الفورميكية والملكة الپوليرگوسية شرسا. ومع أن أيا من النوعين لا يمتلك أداة لاسعة، فإن فكوك الشغالات كانت هائلة بما يكفي لتثبيت الملكة من أرجلها وعضها حتى تموت.
مطلوب: ملكة وحيدة مع شغالات
لمّا كانت الأعشاش الفورميكية الناضجة غالبا ما تحوي ملكات عدة ـ بعكس مستعمرات پوليرگوس ـ فقد استبد بنا الفضول لرؤية ما سوف يحدث عندما تغزو ملكة پوليرگوسية حديثة التزاوج عشا يضم عدة ملكات. لقد أقمنا سلسلة من مستعمرات فورميكية تضم ما بين ملكتين و 25 ملكة. ومن المدهش أن عدد الملكات الفورميكية لم يكن ذا تأثير في الملكة الپوليرگوسية. فبسبب الاعتراف بها بوصفها الطرف الملكي بمجرد أن تقتل أول ملكة فورميكية فإنها تغدو على غير عجلة من أمرها. فساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، تقوم على نحو منهجي بالعثور على جميع الملكات الفورميكية وقتلها، مستغرقة أحيانا عدة أسابيع حتى تفرغ من جميع بقايا المقاومة والمعارضة.
ملكة پوليرگوسية خارج العش تبحث عن دم أو سوائل جسمية أخرى.
يمكن أن تستغرق المعركة الكبرى بين الملكتين الفورميكية (أعلى جهة اليسار) والپوليرگوسية (أعلى جهة اليمين) 30 دقيقة أو أكثر. وتمارس الملكتان المتمتعتان بنفس الحجم، وغالبا بنفس الشكل، عض كل منهما الأخرى عضا متكررا بوساطة فكوكهما القوية. فإذا تغلبت الملكة الپوليرگوسية، فإنها تلعق جروح الملكة الفورميكية، وبذلك تجمع الكيماويات التي تجعل الشغالات الفورميكية تعتبرها قائدة لها. |
ومع أن اختباراتنا أماطت اللثام عن هذه المجموعة من التكيفات السلوكية للملكات الپوليرگوسية، فقد اكتشفنا أيضا أن النجاح لم يكن أمرا روتينيا. ففي بعض الأحيان كانت كتيبة الشغالات الفورميكية في طريق الملكة قوية جدا إلى حد أنها مزقتها إربا. وظننت أنه ربما يكون للملكات استراتيجية أخرى. فلمّا كانت فصول التزاوج لملكات پوليرگوسية وملكات فورميكية تتداخل، فقد بدا من المعقول أن نفترض أنه لا بد ـ في بعض الأحيان على الأقل ـ من أن تقابل إحداهما الأخرى على الأرض بعد التزاوج بوقت قصير. لنفترض أن ملكة پوليرگوسية قتلت ملكة فورميكية في الميدان فاكتسبت بالتالي الكيماويات المعنية، فإن الملكة الپوليركوسية المنتصرة ستكون على الفور قادرة على دخول أي مستعمرة فورميكية من دون خشية أية عواقب. وبانعدام اعتراض هجمات شغالات تقاتلها، فإنها ستستطيع أن تمارس ـ على مهل ـ انهماكها في القتل، متخلصة من أي ملكات فورميكية متبقية.
وبالعكس، عندما جمعنا ملكة پوليرگوسية حديثة التزاوج مع ملكة من النوع فورميكا گناڤا حديثة التزاوج، كانت النتيجة عدم حدوث أي شيء بينهما، إذ قضت الاثنتان ثواني معدودات تتفحص إحداهما الأخرى بقرني استشعارهما، من دون أن نلحظ قط أي تآثر interaction عدواني فيما بين أي من الملكتين المتقابلتين اللتين اختبرناهما.
لقد أوحت هذه النتائج بأن الملكات الفورميكية الصغيرة لا تمتلك نفس البصمة الكيميائية الموجودة لدى الملكات الأكثر نضجا. ولكي نحدد متى تكتسب الملكة الفورميكية العبير أو العطر المميز للملكة الرسمية established فقد عمدنا إلى إجراء تجربة أخرى، فقمت مع<A.C.جونسون>بإبقاء ملكات فورميكية حديثة التزاوج في أعشاش بالمختبر حتى وضعت بيضها. ثم كررنا الاختبار السابق، واستمر عدم الاهتمام من جانب النمل پوليرگوس. وبعد عدة أسابيع فقس البيض إلى يرقات، فأجرينا مجموعة أخرى من الاختبارات، واستمرت الملكات الپوليرگوسية تتجاهل نظيراتها الفورميكية.
ولكي نكشف السر، أصبح واضحا أنه يجب علينا أن نبدأ نفكر كالنملة. فلو افترضنا جدلا دخول ملكة پوليرگوسية حديثة التزاوج إلى عش جديد وقتلها ملكة فورميكية كانت تربي حضنتها الأولى من البيض أو اليرقات، فإن الملكة المغيرة لن تستطيع تغذية نفسها أو تغذية الحضنة، وستموت جوعا في الحال. إن أول وقت يكون فيه قتل ملكة فورميكية مجديا ذلك الذي يلي تطور صغارها إلى شغالات متلهفة للمساعدة على البحث عن الغذاء ورعاية العش.
بعد ثوان من موت الملكة العائلة، تجمع الملكة الپوليرگوسية الخادرات
الفورميكية في كومة منسقة وتقف مزهوة بالنصر فوق قمتها.
ملكة پوليرگوسية تقف فوق غنيمتها. إن صلاح أمر المستعمرة مستقبلا يعتمد على العبدات الفورميكية التي سوف تبزغ. ومع أن نحو 200 نوع من النمل تمارس الاستعباد، فإن الوضع بالنسبة إلى النمل پوليرگوس يعتبر غير عادي، لأن الملكة يمكنها أن تعمل بمفردها. |
لقد اكتشفت جونسون أن الفترة ما بين تلقيح الملكة الفورميكية والطور الذي تستكمل فيه الحضنة الأولى نموها قد استغرقت شهرين تقريبا. وبمجرد أن صارت الشغالات الثماني الأولى فعالة من الناحية الوظيفية أدخلت جونسون ملكة پوليرگوسية كانت تهيمن على عش يخصها من شغالات فورميكية.
وكانت المفاجأة أن الملكة الپوليرگوسية بقيت سلبية. ولقد مضت في الواقع خمسة أشهر إضافية صاحبها وجود 19 شغالة فورميكية صغيرة قبل أن تنقض الملكة الپوليرگوسية على الملكة الفورميكية. فعلى الرغم من عدم اهتمامها السابق، بدا واضحا أن الملكة الپوليرگوسية احتفظت بنزعتها وأهليتها لقتل الملكة الفورميكية. لقد تمّ قتل الملكة الفورميكية، وتقبلت حفنة الشغالات البازغة حديثا الملكة الپوليرگوسية ملكة جديدة لها. وهنا استنتجنا أن كيمياء الملكة الفورميكية لا بد أنها تتغير جذريا بين لحظة الإخصاب والزمن الذي تهيمن فيه على عش راسخ مستقر. ولكن يظهر أن هذا التغير هو تغير نضجي تسببه سيرورات داخلية، وليس مجرد امتلاكها حضنة فحسب. ولسوف يحقق إيضاح طبيعة هذا التحول الكيميائي مجالا خصبا لدراسات مستقبلية.
حياة محفوفة بالأخطار
بعد أن توصلنا إلى أن غزو عش فورميكي مستقر هو مفتاح الاستيلاء الناجح على المستعمرة، واجهتنا مشكلة شائكة أخيرة. فقد اكتشفت<L.گودلو>[وهي طالبة دراسات عليا تعمل معي وتهتم بالنوع الشرقي پوليرگوس لوسيدس Polyergus lucidus] أن الملكات الجديدة لا تطارد إلا أنواعا فورميكية نشأت معها؛ وبمعنى آخر، تلك التي سبق أن استعبدتها مستعمرة الملكة الأم. ولكن التطفل الاجتماعي يتطلب تآثرات (تفاعلات) سلوكية معقدة بين نوعين هما الطفيلي والعائل. ومن الواضح أن التحول التطوري من أسلوب المعيشة الحرة إلى أسلوب حياة طفيلية يتطلب أن تقوم ملكة حديثة التزاوج من وقت لآخر بغزو عش نوع غير مألوف. ومع أنها مهمة لا تخلو من المجازفة في أحسن الأحوال، فإن التبني الناجح من قِبل الشغالات الغريبة سوف يمكن الملكة الغازية من وضع أعداد من البيض يفوق بكثير ما كان يمكن أن تربيه بمفردها. وبالتالي فإن تنامي المستعمرة السريع سوف يُهيئ بدوره المسرح للقيام بغارات استعباد وللدمغ (البصم) imprinting الكيميائي اللازم لكي يقوم النمل المُسْتَعْبَد بالاعتناء بآسريه.
وهكذا قررنا أن نهيئ وضعًا يمكن أن يتيح فرصة ظهور هذا الحدث. ولتنفيذ هذا، سافرنا إلى موطن أكثر ارتفاعا، موطن يمارس فيه الپوليرگوس شن غارات استعباد على فورميكا أُوكَلْتا Formica occulta بدلا من فورميكا گناڤا. لقد أسرنا مستعمرات من فورميكا أوكلتا ووضعناها في أعشاشنا المختبرية، ثم أدخلنا ملكة پوليرگوسية حديثة التزاوج كنا قد أتينا بها من مستعمرة موجودة على ارتفاع أقل وكانت لذلك تضم عبيدا من النوع فورميكا گناڤا.
وكما كان متوقعا، لم تكن محاولات الملكات الپوليرگوسية للاستيلاء على المستعمرات الفورميكية التي تضم شغالات وملكات غير مألوفة لها ناجحة إلا بشكل جزئي، إذ لم تُبْدِ خمس من الملكات الپوليرگوسية أي اهتمام بمهاجمة ملكات فورميكا أوكلتا. ومن بين هذه الملكات اللاعدوانية جرى قتل ثلاث من قبل الشغالات الفورميكية الأوكلتية، في حين تفادت الاثنتان الباقيتان الهجوم عليهما بتركهما العش. ولكن النتيجة الأكثر أهمية تمثلت في أن اثنتين من الملكات الپوليرگوسية السبع أمسكتا الملكة الفورميكية الغريبة وقتلتاها. وحينما انتهتا من لعق الملكة الميتة تبنتهما على الفور الشغالات الفورميكية الأوكلتية.
مدلول التسمية
في كتاب«أصل الأنواع»، يتضح من وصف<Ch.داروين> للپوليرگوس أنه كان يدرك تماما الأُحجيات العديدة التي يثيرها موضوع تطور التطفل الاجتماعي social parasitism، والتي تتمثل إحداها في ما يقدمه ذلك التطفل في طيّاته للعبيد. ففي المحصلة، يمكن للمستعمرة الفورميكية أن تفقد ما ينوف على000 14خادرة أثناء موسم واحد من الغارات. ويبدو أن دفاعها التطوريevolutionary defense الوحيد يكمن في تعويض الحضنة بفضل المقدرة التكاثرية الهائلة للملكة الفورميكية. ومع أن الخادرات الفورميكية القاصرة عن حماية نفسها لا تستطيع أن تحول دون وقوعها في الأسر، فليس واضحا لماذا لا تهجر العبدات البالغات المستعمرة الپوليرگوسية وتلحق برفيقات عشها الطليقة.
تكمن الإجابة عن ذلك في ظاهرة الدمغ (البصم)؛ فالعبدات الحديثة الفقس ترى في الشغالات والصغار والملكة الپوليرگوسية أسرة لها. وعلى الرغم من كونها لا تشارك في الغارات على أعشاش فورميكية أخرى فإنها تستجيب بعدوانية لأي فورميكا تصادفها أثناء جمع الغذاء. إن عملية البصم هذه تشبه تلك التي تحدث بين فراخ البط وأمها ـ فيما عدا أن المنبهات (المؤثرات) لدى النمل كيميائية بدلا من أن تكون بصرية وسمعية. وتوحي حقيقة كون التطفل ينشأ عن روابط شمية بين الفورميكا والپوليرگوس بأن«الاستعباد»مصطلح غير ملائم لهذه الحشرات؛ وربما كان«التبني»مصطلحا أكثر دقة، قياسا على ما يحدث عند البشر؛ لأن العش الپوليرگوسي هو «البيت»الوحيد الذي عرفته الشغالات الفورميكية طوال حياتها.
يمكن للخبرة المبكرة أن تنشئ روابط اجتماعية بين أنواع مختلفة من النمل، ولكن العملية ليست مطلقة (أي من دون تقييد). فالقدرة على تكوين مثل هذه الصلات البينوعية (بين الأنواع) interspecific تقل كلما نقصت القرابة التطورية للكائنات الحية. وتفسر هذه الحقيقة لماذا تطابق علاقات الطفيلي بالعائل بلا استثناء القاعدة التي وضعها عالم الحشرات الإيطالي<C.إمري>وتنص على أن الطفيليات الاجتماعية تكون قريبة من عوائلها تصنيفيا. ولا غرابة في كون هذه القرابة الوراثية (الجينية) ترتبط بالتشابه الإيكولوجي، وهذا هو جوهر العلاقة الناجحة بين الطفيلي والعائل. ويعود نجاح الترابط association بين الپوليرگوس والفورميكا بالضبط إلى كون الشغالات الفورميكية في العش الپوليرگوسي إنما تمارس نفس أنشطة البحث عن الغذاء ورعاية العش التي تمارسها في مستعمراتها الخاصة. وأما كونها تربت في عش پوليرگوسي فلا يغير السلوكيات النوعية الخاصة بالنمل الفورميكي في البحث عن الغذاء أو الاغتذاء أو العراك. (ولحسن الحظ فإن الشغالات لا تتزاوج).
ومنذ تمّ نشر كتاب«أصل الأنواع»، عرف العلماء التطفل الاجتماعي في الحشرات والطيور كمثال تقليدي (كلاسيكي) للتطور التقاربي convergentevolution. وتكشف أبحاثي الحقلية والمختبرية حول أبرز التكيفات adaptationsللتطفل عند الپوليرگوس عن عمق هذا التقارب. وفي إنكلترا، تتطفل طيور الوقواق على أربعة أنواع من العوائل، ولكن كل أنثى وقواق معينة إنما تتخصص بعائل من نوع واحد بعينه. وإذا تساءلنا كيف تختار أنثى الوقواق هذه العائل المناسب، فيكون الجواب ببساطة إنها تستخدم«المبدأ الپوليرگوسي»لخاصية البَصْم. فعلى نحو ما تنتقي ملكة پوليرگوسية نفس النوع الفورميكي الذي كان موجودا في عشها حينما بزغت للحياة، تختار أنثى الوقواق بالضبط نوع العائل الذي فقست في عشه.
عندما سمعت أول مرة مصطلح«التطفل الاجتماعي»وأنا طالب جامعي، بدا لي وكأنه جمعُ لفظين متناقضين. فالمصطلح «اجتماعي»يعني التواصل والتعاون وحتى الإيثار (الغيرية)، وهذه جميعها تعارض جذريا سلوك الأنانية الواضحة للطفيليات. ولكن، بناء على ما تعلمته، فإن هذا المصطلح ملائم، لأن تسرب طفيلي اجتماعي إلى داخل حياة عائلٍ ما يُبنى على نفس السيرورات التواصلية والنمائية التي يستعملها كل من الطفيلي والعائل في التآثر مع أفراد نوعه الخاص. ومع ذلك، فإن 15 سنة من الأبحاث عززت تعاطفي مع داروين في نضاله لدمج التطفل الاجتماعي ضمن نظريته حول الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي. وكالعادة، فقد عبر داروين عن ذلك أفضل تعبير بقوله:«حاولت أن أقارب الموضوع بعقل متشكك، مثلما قد يُعذر أي امرئ لشكّه في وجود غريزة غير عادية كتلك الخاصة بممارسة الرق.»
المؤلف
Howard Topoff
بدأ اهتمامه بالحشرات الاجتماعية يوم كان طالبا في المرحلة الجامعية الأولى، وذلك حينما درس النمل الحاشد army ant في قسم سلوك الحيوان بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في مدينة نيويورك. وبعد حصوله على الدكتوراه (سنة 1968) عبر برنامج مشترك بين المتحف وجامعة مدينة نيويورك، عمل أمينا للمتحف وأكمل بحثه الميداني على السلوك الاجتماعي للنمل الحاشد. ومع أنه أستاذ في قسم علم النفس بكلية هانتر في جامعة مدينة نيويورك، فإن أبحاثه ذات توجه حقلي وتُجرى أساسا في محطة أبحاث ساوث وسترن التابعة للمتحف والواقعة في جبال شيريكاهوا بأريزونا. واهتمامه بتطور السلوك في النمل الاجتماعي قاده إلى دراساته الأحدث عن النمل الممارس للاسترقاق. وعندما لا يقوم بالتدريس أو لا يتابع الاسترقاق في الحقل، فإنه يُنتج وسائل علمية متعددة الوسائط لأطفال المدارس وطلبة الكليات وجمهور البالغين. وهو يرحب بالأسئلة ويمكن الاتصال به بسهولة عن طريق البريد الإلكتروني: HTopoff@aol.com.
مراجع للاستزادة
COLONY TAKEOVER BY A SOCIALLY PARASITIC ANT, POLYERGUS BREVICEPS: THE ROLE OF CHEMICALS OBTAINED DURING HOST-QUEEN KILLING. Howard Topoff and Ellen Zimmerli in Animal Behaviour, Vol. 46, Part 3, pages 479-486; September 1993.
QUEENS OF THE SOCIALLY PARASITIC ANT POLYERGUS DO NOT KILL QUEENS OF FORMICA THAT HAVE NOT FORMED COLONIES. Howard Topoff and Ellen Zimmerli in Journal o f Insect Behavior, Vol. 7, No. l, pages 119-121; January 1994.
ADAPTATIONS FOR SOCIAL PARASITISM IN THE SLAVE-MAKING ANT GENUS POLYERGUS. Howard Topoff in Comparative Psychology of Invertebrates. Edited by Gary Greenberg and Ethel Tobach. Garland Publishing, 1997.
Scientific American, November 1999
(*) Slave-Making Queens
(1) ويقال الصنارية أو الخطافية، وهي تتطفل على أمعاء الإنسان أو الفقاريات الأخرى، [انظر: «خمج الدودة الشِّصِّيَّة»،مجلة العلوم، العدد2(1996)، ص29]. (التحرير)
(2) emerge
(3) كلمة dulotic مأخوذة من اللغة اليونانية وتعني «خادم». (التحرير)
(4) pupa خادرة أي في طور الركود بين اليرقة والحشرة الكاملة النمو.
(5) نمط من السلوك يحتل بموجبه حيوان (أو أكثر) مساحة محدودة معينة أو إقليما ويدافع عنه. (التحرير)