الانصهار فيما دون درجة الصفر
الانصهار فيما دون درجة الصفر(*)
تُظهر أبحاث جديدة كيف يمكن لطبقة من الماء تكسو سطح الجليد ـ
حتى في درجات حرارة أخفض من درجة تجمّده ـ أن تؤثر في أمور
كثيرة بدءا من زلوقية حلبات التزلج وحتى كهربة السحب الرعدية.
<S .J. ڤتْلاوْفر> ـ <G .J. داش>
عند سماع أول تقرير عن الأحوال الجوية يحذر من قدوم موجة باردة مفاجئة، فإن الناس يهرعون إلى عزل أنابيب الماء المعرضة للضرر في منازلهم، لعلمهم بأن تدارك تجمد الماء في داخل هذه الأنابيب سيجنبهم أخطارا قد تحدث عند تجمده وتمدده. إلا أن ما لا يعرفه معظم هؤلاء هو أنهم بهذا الإجراء يحمون أنفسهم من خطر ضغط يتولد بسبب بقاء سطح الجليد سائلا.
تعد ظاهرة تجمد الماء وانصهار الجليد من بين أكثر الأمثلة المثيرة شيوعا التي تدل على تبدل أطوار المادة. وقد حيَّرت المظاهر الأساسية لكيفية حدوث هذه التبدلات الفيزيائيين والكيميائيين زمنا طويلا. وفي السنوات الخمس عشرة الماضية اكتشف الباحثون بعض الإجابات عن تساؤلاتهم، في طبقة رقيقة من الماء لا تتعدى سماكتها بضع جزيئات.
يملك هذا الغشاء (الفيلم) شبه السائل ـ وهي حالة طبيعية للجليد الصلب تتشكل بطريقة تعرف بالانصهار السطحي ـ بعض الخصائص البنيوية للجليد الصلب الذي تحته، ولكنه يتمتع بحركية المائع. ومع أن أبعاده تكون مجهرية إلا أنه يؤدي دورا مركزيا في المبادئ الأساسية لظاهرتي الانصهار والتجمد، وفي عواقبهما البيئية العديدة؛ إذ إن هذه الطبقة الزَّلِقة الصقيلة التي تعمل كسبيل يجري الماء فيه، وكحامل لشحنة كهربائية في آن واحد، تملك قوة تدفع الجلاميدboulders من الأرض، كما تفجر صواعق البرق في السماء.
كرات الثلج ومزاليج الجليد
توحي عبارة الانصهار السطحي أول ما توحي به إلى تصور جسم صلب، وقد أخذ ينصهر بدءا من سطحه الخارجي ونحو داخله وذلك عند تسخينه، فقالب الزبد الموضوع بجانب الموقد، وقطعة اللحام المعدني الموضوعة تحت مكواة اللحام تبدأ بالانصهار بدءا من سطحها الخارجي؛ لأن هذا السطح، وبكل بساطة، يكون أسخن من باطنها. غير أن الانصهار السطحي يشير بشكل خاص إلى تأثير أقل وضوحا من ذلك، إذ تتشكل على سطح الجسم الصلب ـ حتى ولو كانت درجة حرارته واحدة في جميع أجزائه، من سطحه وحتى داخله ـ طبقة رقيقة (من طوره السائل) وذلك في درجة حرارة أدنى من درجة انصهاره ببضع عشرات من الدرجات السيلزية.
ولفهم الدلالة الفيزيائية لظاهرة الانصهار السطحي، تخيّل نفسك في عمق بلورة جليدية هي شبكة صلبة تشكل جزيئات الماء فيها هيكلا محددا متكررا. فعندما تتحرك من مركز البلورة نحو سطحها الخارجي، ستصادف، على نحو دوري، جزيئات ماء يرتبط كل واحد منها ارتباطا محكما بالجزيئات المجاورة الأربعة الأقرب إليه. وعند الاقتراب من سطح البلورة تتشوه الشبكة لأن جزيئات الماء القريبة من الوسط الخارجي تقود إلى الوسط غير البنيوي الذي يميز الهواء المحيط بها. وتملك هذه الجزيئات السطحية العدد الأدنى من الروابط الكيميائية الذي يبقيها في مواقعها، لذا فإنها تهتز حول هذه المواقع مع ارتفاع درجة حرارتها بشدة أكبر مما تفعله الجزيئات التي في داخل البلورة؛ ومع استمرار ارتفاع درجة الحرارة، ولكن مع بقائها دون درجة انصهار المادة الصلبة، تبدأ الجزيئات بالجريان في طبقة شبه سائلة [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].
إن الفكرة القائلة بتشكل غشاء رقيق من الماء على سطح الجليد ليست جديدة؛ إلا أن أصل تشكله فُهم على نحو خاطئ لسنوات عديدة. ويعرف كل من لعب على الثلج وتقاذف كراته مع زملائه أنه لكي تصنع قذائف فعالة، فإن الثلج لا بد أن يكون مبتلا؛ لأن الثلج الجاف لا يتماسك بعضه ببعض. ولكن ماذا عن المحاولات الفاشلة لتشكيل كرات من الرمل على الشاطئ؟ كان العالم والفيلسوف الفرنسي <R. ديكارت> أول من سجل ملاحظاته عن تماسك الثلج، منذ الثلاثينات من القرن السابع عشر. وجذب هذا الأمر انتباه الفيزيائي الإنكليزي <R. فاراداي> واسترعى اهتمامه بعد ذلك بنحو 200 سنة، فأمضى نحو عشرين عاما في القيام بدراسات متأنية عن الثلج والجليد، وفي خريف عام 1842 كتب ما يلي: «عند كبس الثلج المبتل، يتجمد مشكلا كتلة متماسكة (في داخلها ماء)، لا تتفتت إربا كما تفعل حبات الرمل المبتل أو الكثير من المواد الأخرى.» وهكذا تشير بعض المقتطفات المأخوذة من يوميات فاراداي إلى ما يمكن اعتباره تحرّيات أولى عما نعرفه اليوم عن «الانصهار السطحي». فقد بدا لهذا العالم أن الغشاء طبقة رقيقة من الماء تكسو الرقاقات الثلجية، وأن على هذا الغشاء أن يتجمد حتى تلتصق الرقاقات بعضها ببعض، واستنتج بأن وجود طبقة الماء على سطح الجليد، في درجات حرارة أدنى من درجة انصهاره هو ظاهرة طبيعية فيه.
تجعل أغشية الماء الرقيقة سطح الجليد زلقا أمام المتزلجين في درجة حرارة دون درجة تجمده؛ لأن جزيئات الماء في بلورات الجليد تفقد قساوتها عندما تتمدد نحو الجو المفتوح (في اليمين). |
قام فاراداي وزميله الفيزيائي البريطاني <J. تندال>، كل على حدة، بإجراء تجارب أثبتت ـ لهما على الأقل ـ أن غشاء سائلا يكسو سطح الجليد عند الاتزان. ولكن هذه النتيجة لم تقنع بعض أصحاب السطوة من معاصريه من أمثال <J. تومسون> وأخيه <W. تومسون> [لورد كلڤن فيما بعد] اللذين عارضاها عام 1849 بقولهما إن طبقة الماء الرقيقة هذه تتشكل فقط نتيجة انخفاض مؤقت لدرجة انصهاره، يسببه وجود جسم آخر على تماس مع الجليد بحيث يزيد من قيمة الضغط الواقع عليه. فجزيئات الماء أكثر تراصا من جزيئات الجليد، لذا فإن كبس الجليد، الذي تحدثه شفرة المزلاج (حذاء التزلج) الحادة على سبيل المثال يقرّبه أكثر من حالته السائلة.
وهكذا فإن هذه الظاهرة التي عُرفت باسم الصهر بالضغط، اعتبرت التفسيرَ المقبول لزلوقية الجليد، ولايزال هذا التفسير مُعْتَمدا في العديد من المراجع حاليا. إلا أن حسابا بسيطا يظهر أن الصهر بالضغط لا يمكن أن يفسر هذه الزلوقية إلا في درجات حرارة قريبة من درجة انصهار الجليد النظامية، إن التزلج على مزلاج تقليدي فوق سطح بحيرة متجمد لن يخفض درجة انصهار الجليد بأكثر من درجتين سيلزيتين. فإذا كان الصهر بالضغط هو العامل الوحيد المؤثر في زلوقية الجليد، فإن المزلاج لن ينزلق إلا عندما تكون درجة حرارة الجليد قريبة من درجة تجمده، وهي حالة لا توفر الأمان الكافي للخروج والتزلج على سطح البحيرة المغطى بالجليد. ولإزالة هذا التناقض افترض كل من <P .F. بودن> و<P .T. هيوز> [من جامعة كامبردج] عام 1939، وجودَ عامل آخر يتجلى دوره في درجات الحرارة الأخفض، حيث يُولِّد الاحتكاك القائم بين الجليد وبين شفرة المزلاج، حرارة تكفي لتشكيل طبقة رقيقة من الماء (فوق سطح الجليد).
استرعت ظاهرتا الصهر بالضغط والتسخين بالاحتكاك اهتمام العلماء طوال أكثر من مئة عام، إلا أن أحدا منهم لم يفسر الحقيقة التي يعرفها كل متزلج، وهي الصعوبة البالغة التي يكابدها المتزلج للوقوف ساكنا فوق المزلاج. كما أن هاتين النظريتين لا تفسران الديناميكية الأساسية لظاهرة «التقبب الجمدي»frost heave أو كهربة السحابات الرعدية، وهما من تأثيرات الجليد البيئية المهمة [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 28 و 299]. وللوصول إلى إجابات مقنعة عن ذلك كان علينا أن نعود إلى ملاحظات فاراداي عن ظاهرة الانصهار السطحي، وهي ظاهرة قائمة نراها في الواقع في جميع الأجسام الصلبة.
السطوح المبتلة
كان فيزيائيون آخرون، إضافة إلى فاراداي، قد تنبأوا بوجود ظاهرة الانصهار السطحي، وذلك منذ الخمسينات من القرن العشرين. إلا أن أحدا لم يلاحظ فعلا طبقة السائل المجهرية على سطح ينصهر وذلك حتى منتصف الثمانينات. ففي عام 1985 أطلق كل من <W .M .J. فرنكن> و<F .J. فان درفين> [من معهد الفيزياء الذرية والجزيئية في أمستردام] حزما من الأيونات على بلورة من الرصاص مسخنة إلى ما يقرب من درجة انصهارها البالغة 328 درجة سيلزية. واستنتج هذان الباحثان من تحديد كيفية ارتداد هذه الأيونات إلى الوراء، أن الشبكة الصلبة من الذرات على سطح البلورة تزداد اضطرابا وعدم انتظام وتصبح شبيهة بذرات المائع عند درجة 318 سيلزية. ومع تزايد ارتفاع درجة الحرارة تزداد سماكة الغشاء المتشكل وتغلظ تدريجيا حتى تنصهر البلورة أخيرا بدءا من سطحها ونحو داخلها. وفي عام 1986 وجد كل من <دا-مينگ تسو> [حين كان طالبا يحضر الدكتوراه في جامعة واشنطن] وواحد منا <داش>، أن أغشية رقيقة من الآرگون والنيون تعاني تبدلا تدريجيا في طورها الصلب فيما دون درجة انصهارها النظامية. وأثبت باحثون آخرون منذئذ أن جميع الأجسام الصلبة تبدي في الواقع ظاهرة الانصهار السطحي.
التأثيرات البيئية للانصهار السطحي
يبدأ التقبب الجَمَدي الذي يشكل مثل هذه الدوائر الحَجَرية في جزيرة سپيتسبرگن في المحيط القطبي الشمالي عند تجمد الرطوبة في التربة، إذ يصعد الماء الأدفأ نحو الأعلى على طول طبقة الأغشية السائلة التي تكسو سطح الجليد (a)، وتتشقق التربة عندما يتغلب ضغط الماء بين الجليد وحباتها على ضغط الماء القادم (b)، فيندفع الماء في هذه التشققات ويتجمد وتتقبّب التربة نتيجة ذلك (c).
الأرض الباردة القاسية يمكن لمزارعين في بعض المناطق التي تكثر فيها الصخور، كما في ولاية نيوهمشاير، أن يستيقظوا ذات يوم في أعقاب صقيع الخريف، ليفاجؤوا بَجَيشان (ثوران) حقولهم الخالية من الغطاء النباتي، وقد ارتفعت أجزاء من قشرتها الأرضية في بعض المواقع، فوقفت حجارة على قواعد من إبر جليدية، وتقببت التربة حول القطع الحجرية الكبيرة. تعرف هذه الظاهرة «بالتقبب الجَمَدي» ويتراوح تأثيرها بين إحداث قلق زراعي وكابوس صناعي. وعلى الرغم من التأثيرات المثيرة لهذه الظاهرة، فإنها تكتسب قوتها من تشكل أغشية سائلة مجهرية من الماء على سطح الجليد. يبدأ التقبب الجمدي عندما يلفح الهواء البارد التربة، فيبردها ويجمد بعضا من مائها قرب سطحها؛ إلا أن الضرر الحقيقي يحصل بعد مرحلة التجمد الأولى، ذلك أن القوى الجزيئية والشوائب التي على سطح الجليد يمكن أن تعيق تجمد الماء فوقه حتى تنخفض درجة حرارته بضع عشرات من الدرجات تحت الصفر السيلزي، وإلى أن يحدث ذلك فإن غشاء مجهريا من الماء السائل يغطي البلورات الجليدية التي تنمو بين الطين وقطع الحجارة الصغيرة التي تشكل التربة. يغذّي الماء القادم من عمق التربة نمو بلورات الجليد. وفي الماء الحار طاقة حرة أكثر مما في الماء البارد، وهو كغيره من المركبات الأخرى يسعى إلى أن تكون طاقته الحرة في حدها الأدنى. يُعبّر عن هذا السعي في التربة المتجمدة بما يسميه العلماء الضغط الجزيئي الحراري thermomolecular؛ فالماء الحار يجري نحو المناطق التي يفقد فيها بعضا من طاقته من خلال تحوله إلى جليد، وهو لذلك يسلك مجرى ممهدا أمامه تشكله الأغشية السائلة على سطح الجليد. يواصل الماء اجتياحه الفراغات الكائنة بين حبيبات التربة الجليدية، إلى أن يتكون هناك ضغط مائي قادر على مقاومة ضغط الماء القادم. وقد يكبر هذا الضغط بين الجليد وحبيبات التربة حتى يصل إلى نحو 160 پاوند/ بوصة مربعة، لكل درجة حرارة دون درجة الصفر السيلزي وذلك حتى يتجمد الجليد كلية. (للمقارنة نشير إلى أن مصعدا هيدروليكيا في محطة خدمة يحتاج فقط إلى ضغط مقداره 21 پاوند/ بوصة مربعة لرفع سيارة تزن 3000 پاوند) وغالبا ما تتشقق التربة تحت سطح الأرض قبل الوصول إلى ذلك الضغط بمدة، فيجري الماء نحو الفراغات المتشكلة حيث يتحول إلى طبقة جليدية صلبة تكبر وتنمو مع جريان مزيد من الماء وتجمده، دافعة التربة فوقها للتقبب. في دراسة حديثة أجريت في جامعة واشنطن صمّم <A .L. ويلن> [الذي يعمل حاليا في جامعة أوهايو] جهازا بسيطا سمح له بإجراء أول قياس مباشر لمكافئ مجهري للتقبب الجمدي، إذ صنع حجرة على شكل الدايم (وهو قطعة نقد أمريكي تساوي عشرة سنتات) فيها بلورة جليدية محاطة بالماء، يتكون أحد وجهي الحجرة من صفيحة زجاجية، ويتكون وجهها الآخر من رقاقة من البلاستيك، ويتشكل فيما بين الدرجتين صفر و- 1 درجة سيلزية غشاء رقيق من الماء في منطقة تلامس الجليد مع البلاستيك. برّد ويلن سطح القرص بحيث غدا مركزُه المنطقةَ الأكثر برودة فيه، فانساب الماء بتأثير الضغط الجزيئي الحراري من حواف القرص الأعلى حرارة نحو مركز بلورة الجليد على طول الغشاء السائل. تجمد بعض هذا الماء في أثناء ذلك ودفع غطاء البلاستيك نحو الأعلى، مثلما تدفع طبقات الجليد المتشكلة تحت سطح الأرض التربة بعيدا. وقد وضعنا منذئذ، بالتعاون مع <G. وُرْستر> [من جامعة كامبردج] نظرية تفسر الحركة المجهرية للغشاء السائل التي تدفع نحو التقبب الجمدي. الاصطدامات المُكَهرِبة قد يحلم المرء في يوم صيفي قائظ بجو بارد وربما بكأس من شراب مثلج؛ وقد يرى عندئذ الثلجَ وقد أخذ ينهمر بَرَدًا مع لمع البرق، فالثلج مقيم في السحب القزعية thunderhead (وهي سحب تُرى قبل العواصف الرعدية) ويؤدي دورا فعالا في حدوث البرق الذي يعد من الظواهر الأكثر إثارة للدهشة والعجب في حياتنا اليومية، وقد فُسر تشكله ذات يوم بأنه صواعق تعبِّر بها الآلهة عن غضبها. ثم دفع البرق لاحقا إلى إجراء بحوث عن الطبيعة الأساسية للكهرباء؛ فقد تبين أن فيزياء الجليد المكروية، تحمل في ثناياها مفتاح الإجابة عن كيفية تشكل الشحنات الكهربائية في الغيوم. إذ يشارك في عملية الكهربة غشاء رقيق من الماء السائل، لا تتعدى سماكته بضعة جزيئات فقط، يكسو سطح بلورات الجليد التي تنتشر عبر الغيوم. ينشأ البرق عادة من قاعدة الغيمة؛ إذ تكون البرودة كافية لتجميد قطيرات من الماء مشكلة بلورات صغيرة من الجليد تحملها معها في صعودها نحو الأعلى تيارات الهواء الصاعدة. تصطدم هذه البلورات أثناء صعودها بكتل كبيرة من حبات البَرَد المتساقطة نحو الأرض، فترتد البلورات الصغيرة نحو الأعلى حاملة شحنة كهربائية موجبة ومخلفة شحنة سالبة مكافئة لها على حبات البرد المتساقطة، وبذلك تُشحن الغيمة بشحنة كهربائية موجبة قرب ذروتها، وبأخرى سالبة قرب قاعدتها. توصل الباحثون إلى هذه المعلومة من ملاحظاتهم، ومن المحاكاة المختبرية؛ إلا أنهم لاقوا صعوبات في تفسير مقدار أو إشارة الشحنة الكهربائية التي تحملها الغيمة. وقد خلص <J .G. تيرنر> و<D .C. ستو> [من جامعة أوكلاند في نيوزيلندا] في سنة 1984، إلى أنه يمكن أن يكون لغشاء الماء الرقيق الذي يكسو سطح بلورات الجليد، ولحبات البَرَد دور في عملية الشحن الكهربائي للغيوم. وبعد ذلك بخمس سنوات، قام أحدنا <داش> وزميلة لنا [من جامعة واشنطن] هي <M. بيكر> بتفسير كيفية حدوث ذلك: فالشحنة الكهربائية تُحمل بصحبة الماء الذي ينتقل من حبات البَرَد إلى بلورات الجليد عند اصطدام بعضها ببعض. تحرى <B. مِيسن> هذه النظرية في مختبراتنا كجزء من بحثه لتحضير الدكتوراه الذي أتمه في سنة 1998، فوزن حبات من الجليد، قبل الاصطدام وبعده، مستخدما ميزانين مكرويين يعملان ببلورات الكوارتز ويمكنهما كشف تغيرات في الكتلة من مرتبة بضع عشرات الأجزاء من بليون جزء من الغرام، وهي حساسية تكفي لوزن الكتلة البالغة الصغر لبضع طبقات من جزيئات الماء، كما قاس التيارات الكهربائية المارة أثناء الاصطدام ليحدد إن كانت الشحنة تنتقل مع الكتلة.
وكما توقعت نظرية بيكر وداش فإن انتقال كتلة مائية يرافقه دائما انتقال شحنة كهربائية. فبلورة الجليد النامية التي كانت تكتسب طبقة من الماء لا تتعدى سماكتها بضع مئات من جزيئاته فوق سطح لا تتعدى مساحته جزءا واحدا من مئة جزء من المليمتر المربع، تأخذ شحنة موجبة بعد الاصطدام. وحملت نتائج مِيسن معها مفاجأة ذات دلالة ومغزى، إذ وجد أن مقدار الكتلة المنتقلة كان أكبر بكثير جدا مما تستطيع تفسيره النظرية الأساسية للانصهار السطحي التي تعتمد على درجة الحرارة وحجم البلورة. وكان هذا التناقض أحد المفاتيح الأساسية التي وجَّهتنا نحو وضع نموذج أكثر دقة عن الاصطدامات التي تولّد الكهرباء في الغيوم. ويعتمد جوهر هذا النموذج على آلية تزيد في ميل الجليد للتسيُّل حتى فيما دون درجة حرارة انصهاره: إن الاصطدام الفعّال الذي يتعرض له الجليد يمكن أن يلحق بشبكته الجزيئية الصلبة ضررا يكفي لصهر كمية إضافية من الماء حتى فيما دون درجة انصهار الجليد بعشر درجات مئوية أو أكثر. ومع وجود الشوائب التي تكسو سطح الجليد عادة، مثل ثنائي أكسيد الكربون، فإن الاصطدامات التي يتعرض لها تقود إلى تشكل غشاء رقيق من الماء ذي سماكة متزايدة؛ ولهذه السماكة دور مهم لأنها تحرر المزيد من الكتلة السائلة والشحنة التي يمكنها أن تنتقل من سطح جليدي إلى آخر. إن تكون السائل الناجم عن هذا التأثير يولد أيونات سالبة الشحنة أيضا، سبق أن تجمعت قرب سطح بلورة الجليد أثناء نموها. وخلال التصادم، تتقاسم بلورات الجليد وحبات البرد طبقة منصهرة، وتفقد البلورات النامية بعضا من أيوناتها السالبة. وهذا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن حبات البرد الساقطة عبر قاعدة السحابة تجمع الشحنة السالبة التي ينشأ عنها البرق. سوف تختبر تجاربُ وحسابات لاحقة صحة هذه الأفكار الجديدة، ولكن يبدو أنه ليس هناك مجال للشك في أن آلية الشحن الكهربائي التي تقود إلى حدوث ظاهرة البرق المثيرة للدهشة، وأن القوى التي تقود إلى ظاهرة التقبب الجَمَدي، تكمن في طبقة رقيقة من الماء لا تزيد سماكتها على بضعة جزيئات. |
والجليد، كجسم صلب، يبدي ذلك أيضا. وقد رصد عدة باحثين الانصهار السطحي للجليد في المختبر، إلا أن ما توصلوا إليه عن سماكة الغشاء المتشكل، وعن ارتباط هذه السماكة بدرجة الحرارة، لم يكن دائما ثابتا أو متوافقا. ويرجع السبب في ذلك، على نحو جزئي، إلى صعوبة تفسير نتائج تعطيها تقانات متعددة، فقد استخدمت تقانات ضوئية تسجل فرق الكثافة ما بين الغشاء السائل والجليد الصلب من طريقة عكس كل منهما للضوء، كما استخدمت وسيلة أخرى تتفحص بنية سطح البلورة من قياس طريقة تبديدها للأشعة السينية.
وهناك عامل إضافي آخر قد يعمق الفجوة القائمة بين نتائج التجارب المختلفة التي تُجرى باستعمال الآلة نفسها، وهي حساسية الغشاء السائل الشديدة تجاه الشوائب المنحلة (الذائبة) في الماء. فالشوائب المحمولة جوا، وهي في معظمها أملاح وثنائي أكسيد الكربون، يمكنها أن تجد طريقها إلى الجهاز المستخدم فتتجمع على سطح الجليد في أثناء عملية التجمد. وقد بدأنا حديثا بدراسة تأثير هذه الشوائب في الانصهار السطحي، وبيّن أحدنا <ڤتلاوفر> في بحث نظري أجراه حديثا أن الشوائب تعزز ظاهرة الانصهار السطحي؛ لأن الجليد الصلب كما يبدو يلفظ بشدة الشوائب التي تتجمع في الأغشية السائلة (على سطحه) والتي لا مكان لها في بنية شبكته البلورية. وعلى سبيل المثال فإن الأملاح المنحلة تعمل على زيادة ثخانة الغشاء بخفضها كلا من درجة انصهار الجليد والطاقة الحرة للسائل.
وبدأنا الآن فقط، وبعد مضي ما يزيد على 150 سنة على الملاحظات الأولى التي أبداها فاراداي عن تشكل طبقات السائل الرقيقة على سطح الجليد، نمحص الآليات الفيزيائية الكامنة وراء انزلاقية الجليد وخصائص تلاصقه وقوته المدمرة. ولايزال أمامنا العديد من التساؤلات التي تتطلب الإجابة عنها. إننا ندرك الآن أن فهمًا أفضل لفيزياء الجليد المجهرية سيجعلنا أكثر قربا من فهم تأثيراته البيئية. ويعتبر تحري الأصول الجزيئية للتقبب الجمدي ولكهربة الغيوم مجالين محتملين لإجراء المزيد من الأبحاث.
المؤلفان
John S. Wettlaufer – J. Greg Dash
فيزيائيان في جامعة واشنطن، كثيرا ما يعملان معا. وقد تركز بحثهما المشترك عن الكيفية التي تعمل فيها الخصائص المجهرية لسطوح الجليد والتحولات الطورية على إحداث ظواهر بيئية واسعة النطاق.
مراجع للاستزادة
ICE PHYSICS AND THE NATURAL ENVIRONMENT. Edited by J. S. Wettlaufer, J. G. Dash and N. Untersteiner. NATO ASI Series I: Global Environmental Change, Vol. 56. Springer- Verlag, 1999.
For additional references, visit Furio Ercolessi’s Surface Physics Web site at http://www.sissa.it/cm/sp/course/refs.html
Scientific American, February 2000
(*) Melting Below Zero