بعثات استكشافية
بعثات استكشافية
تفحُّص الإعصار دنيس عن كثب(*)
<T. بيردسلي>
قاعدة مكديل لسلاح الجو بفلوريدا في 29/8/1999، الساعة الواحدة والدقيقة الثانية والخمسون بعد الظهر: انتهت المحاضرات الخاصة بإجراءات السلامة وربَط الجميع أحزمة الأمان في مقاعدهم على متن طائرتنا من الطراز WP3Dالمزودة بأربعة محركات تربينية (عنفية) والمعروفة باسمٍ مُحبَّب هو مس پيگيMiss Piggy. وأخيرا بدأت هذه الطائرة، المكتظة بالحواسيب وبأربعة أنواع مختلفة من الرادارات فضلا على تشكيلة من الأجهزة الأخرى، بالاندفاع فوق مدرج المطار. وكانت الساعات القليلة التي سبقت ذلك بمثابة زوبعة، بالمعنى المجازي لهذه الكلمة، إذ جرى في أثنائها الإسراع بوضع الترتيبات لقيام الرحلة من بالتيمور في الساعة السادسة صباحا، ثم عُقدت جلسات لإعطاء تعليمات أساسية بحضور طاقم الرحلة، تخللتها إيضاحات سريعة، قدمها <D .F. ماركس> وهو رئيس فريق العلماء في هذه المهمة.
أما هدفنا فكان زوبعة حقيقية وهي الإعصار دِنيس الذي كان يدوّم حينذاك على بُعد 290 كيلومترا إلى الشرق من جاكسونڤيل بولاية فلوريدا، مطلقا رياحا تبلغ سرعتها 145 كيلومترا في الساعة ومهددا ولايتي كارولينا (الشمالية والجنوبية) بالكوارث. وكان الخوف قد سيطر على السكان والمصطافين في الجزر القريبة من ساحل كارولينا الشمالية، فعمدوا إلى إغلاق نوافذ منازلهم بألواح خشبية، ووضع أكياس من الرمل في سياراتهم لتثبيتها إلى الأرض، والفرار من العاصفة الوشيكة إلى مناطق آمنة. أما ماركس وزملاؤه العلماء في الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) فكانت نظرتهم إلى الإعصار دنيس نظرة مختلفة ملؤها الأمل وليس الرهبة؛ إذ إنه لو سارت رحلتهم بين ساعدي الإعصار المقوستين وفقا للخطة الموضوعة، فذلك من شأنه أن يسلط الضوء على لغز رئيسي من ألغاز الأعاصير القمعية والأعاصير المدارية (التايفونات). وهذا اللغز المحير يتعلق بالعامل الذي يحدد ما إذا كانت العاصفة ستكتسب عنفا أعظم، أو أنها ستهمد وتتلاشى بلا أضرار في منطقة ضغط جوي منخفض: وهل هذا العامل هو المحيط تحتها أو الرياح فوقها؟
إن ماركس من العلماء الذين يدعمون الفكرة القائلة بأن المحيط هو الذي يتحكم في تطور الإعصار: إما بأن يضيف إليه، وإما بأن ينقص منه طاقة على شكل حرارة. أما نماذج التنبؤات الحالية فهي، على العكس من ذلك، تعتبر المحيط بمثابة عامل هامد غير فعال في تطور الإعصار.
وقد أخفقت هذه النماذج إخفاقا واضحا في التنبؤ بالوقت الذي ستشتد فيه العواصف؛ إذ إن الإعصار أندرو Andrew كان قد روَّع المتنبئين في العام 1992 عندما اشتد فجأة وهو يَعْبُر فوق المياه الدافئة لتيار الخليج، فقتل في وقت لاحق 15 شخصا ودمر ممتلكات تبلغ قيمتها 25 بليون دولار في جنوب فلوريدا. كما أن الإعصار أوپال Opal تحول بين عشية وضحاها، وهو فوق خليج المكسيك في العام 1995، من الفئة (2) إلى الفئة (4) الأكثر عنفا والتي تُسبِّب دمارا هائلا، وذلك بعد أن طمأنت نشرة أخبار الساعة الحادية عشرة التلفزيونية السكان في المناطق الساحلية بأنه ليس هناك ما يخشونه. وكان ذلك الإعصار قد مر توّا فوق دوامة من المياه العميقة الدافئة. ومع أن الإعصار ضعف إلى حدٍّ ما قبل وصوله إلى الشاطئ، فقد تسبب في مقتل أكثر من 28 شخصا. وفي العام الماضي (1999) اتّبع الإعصار برِت Bret ما يبدو الآن وكأنه نمط بازغ emergingpattern؛ إذ صعد من الفئة (2) إلى الفئة (4) بعد أن مر فوق مياه دافئة. ولحسن الحظ فإنه حط فوق منطقة زراعية غير مأهولة في تكساس.
وإذا ما كان ماركس وزملاؤه على صواب، فلا بد من أنهم سيتمكنون من تمحيص شبكة العوامل التي تقف وراء ولادة الأعاصير ونموها وموتها، وذلك عن طريق إجراء تحليل مفصل وعن كثب لقلب الإعصار. وهم يحتاجون لهذه الغاية إلى معرفة درجات حرارة مياه المحيط عند أعماق مختلفة في أثناء مرور الإعصار، كما أنهم سيحتاجون إلى معرفة أكبر قدرٍ ممكن عن رياح المحيط وأمواجه.
مع بدء المهمة كان الإعصار دنيس مصنفا في الفئة (2) القوية، ولديه إمكانية اكتساب مزيد من القوة بسرعة كما كانت الحال بالنسبة إلى الإعصارين أندرو وأوپال. وسبق أن أصيب ماركس بحالة من الإحباط لافتقاره إلى الأجهزة الضرورية للدراسة عندما عبر الإعصار بوني Bonnnie تيار الخليج(1) في العام 19988 من دون أن يشتد. ولكنه عندما أخذ يراقب مسار الإعصار دنيس في أواخر الشهر 8، أدرك أن الفرصة مواتية لدراسته. فمن حسن الطالع أن الأجهزة كانت متوافرة لديه هذه المرة، كما أن <E. داسارو> [من جامعة واشنطن] كان قد ألقى توًا بثلاث عوامات عالية التقانة في خط يمتد من المشرق إلى المغرب عبر مسار الإعصار فوق مياه المحيط. وهذه العوامات تتحرك إلى الأعلى وإلى الأسفل لتسجل درجات الحرارة والملوحة في ما يسمى بالطبقة المختلطة، وهي الطبقة التي تمتد من سطح المحيط إلى عمق 200 متر. إن هذه القراءات بوسعها أن تكمل الأرصاد التي أجريت من الطائرة مس پيگي. وقد استعجل ماركس فريقه الجوي للقيام بهذه المهمة لفحص الإعصار دنيس فحصا مفصلا، وهو الأمر الذي جاء بنا إلى مدرج المطار.
قَسّمت الخطة المقررة لمهمة أبحاث داخل الإعصار دنيس في29/8/1999 العاصفة إلى مسارات متقاطعة لقياس كيفية التآثر بين الرياح والأمواج. وقد أرسلت الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) طائرة الأبحاث من الطراز WP3D المسماة مس پيگي Miss Piggy في مهمة تتطلب عناية فائقة، نظرا لأن دنيس كان ينذر بالتحول إلى قوة تدميرية مهددة. ولكن خط سير المهمة تغير إلى حد ما عما كان مقررا له في البدء، وتُظهر المربعات الحمراء (▪) النقاط التي ألقي فيها الطاقم المسابير GPS لقياس سرعة الرياح واتجاهها. أما الدوائر الزرقاء (•) فتظهر نقاط إطلاق المسابير AXBT التي تقيس درجات حرارة مياه المحيط. |
وسيقوم فريقنا بفحص دقيق للإعصار من داخله إلى خارجه فنتوغل فيه مُسقطين مسابير تسجِّل درجة حرارته وسرعة رياحه. وكانت الطائرة النفاثة (گلف ستريم IV)، التابعة للإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي (NAOO)، قد قامت في الأيام القليلة التي سبقت مهمتنا بوضع خريطة للأحوال الجوية السائدة على ارتفاعات مختلفة في المنطقة. وهكذا سيكون تحليقنا النقطة الأساسية الحاسمة في التقييم الذي نسعى إليه ونقوم أثناءه بأربعة مسارات مستقيمة تخترق قلب الإعصار.
التقني <J. بار> وهو يضع أسفل جسم الطائرة مسابير الراسم الحراري AXBT داخل أنابيب الإطلاق. وستقوم متفجرات بإطلاق هذه المسابير من الطائرة أثناء تحليقها. |
كان ماركس قد نجا من الخطر في عشرات التحليقات الجوية الروتينية التي قام بها عبر الأعاصير. وهو يحب أن يمزح ساخرا بقوله إن الجزء الأكثر خطورة في أي مهمة هو قيادته سيارته من المنزل إلى المطار. ومع ذلك فهو يدرك أيضا أن الطيارين يواجهون تحديات حقيقية في أثناء قيادة الطائرة، ولا سيما قرب الحواف العميقة لسُحُب المزن الركامي التي تعتبر الصفة المميزة لجدار قلب (عين) العاصفة. فالرياح هناك تغير سرعتها واتجاهها بصورة لا يمكن التنبؤ بها. كما أن بالإمكان ظهور دوامات عنيفة تشبه الإعصار القمعي من دون سابق إنذار. وقبل عشر سنوات كان ماركس يقوم بمهمة بالطائرة كيرميت Kermitالمماثلة لطائرتنا الحالية عبر الإعصار هوگو Hugo فيما تطورت العاصفة إلى الفئة 5، فتوقف أحد محركاتها بينما كانت تحلق على ارتفاع منخفض داخل قلب الإعصار، وكادت دوامة تسقطها في المحيط. ويتذكر ماركس تلك الحادثة قائلا: «إنني محظوظ لكوني خرجت من تلك التجربة سالما».
سحب ماطرة وهي تتجمع قرب جدار قلب (عين) الإعصار دنيس، ويعتبر العبور إلى قلب الإعصار أخطر مرحلة في مهمة الطيران داخل الإعصار؛ لأن بإمكان الرياح أن تغير من سرعتها واتجاهها بصورة لا يمكن التنبؤ بها. أما داخل قلب الإعصار فكل شيء يكون هادئًا |
وتظاهر أفراد الطاقم بالشجاعة هذا الصباح عند حضورهم موجز تعليمات ما قبل الطيران، حتى إن بعضهم من ذوي الخبرة لبسوا شارات فوق ثيابهم الزرقاء تبين عدد المرات التي نجحوا فيها باختراق قلب الإعصار. ولكن عندما طرنا فوق الساحل الشرقي لفلوريدا بدا أن مهندس الطيران كان يستمتع بأن يذكِّرني بأن الأعاصير يمكن أن تغير من خصائصها في غضون ساعات؛ أي ضمن مدة طيراننا التي تصل إلى تسع ساعات أو أكثر. عندها بدا لي أن من المهم أن أحصي عدد الأشخاص على متن الطائرة: إنهم 19، بينهم 6 علماء، إضافة إلى مراقبين وفنيي أجهزة وطاقم الطيران.
الطائرة مس بيكي Miss Piggy بعد أن جرى تزويدها بالوقود وتحميلها بالعديد من الأجهزة، وهي تقف على طريق مسفلتة في قاعدة مكديل الجوية. ويفضل الباحثون الطائرات ذات المحركات المروحية التربينية؛ لأنها ترتفع في تيارات الهواء الهابطة بشكل يعتمد عليه أكثر مما هي الحال في الطائرات النفاثة. والبنيان البيضاوي أسفل بطن الطائرة يحمل واحدًا من عدة رادرات وتمثل الرسوم المنقوشة على جسم الطائرة (في الأعلى) تسجيلاً للأعاصير التي حلقت الطائرة خلالها، بدءًا من إعصار أنيتا عام 1977 إلى إعصار ميتش عام 1998م. |
وتأكد لنا فجأة مدى هشاشة الأجهزة التي نحملها عندما أعلن الفني <J. بار> أن رادار الدوپلر في ذيل الطائرة لا يعطي معلومات واضحة. إن هذا الجهاز مع جهاز رادار ثان مركب في بطن الطائرة يزوداننا بمعلومات عن سرعة الرياح أثناء هطول الأمطار، وأشار ماركس إلى ضرورة إصلاحه عندما قال: إننا بحاجة إلى هذه المعلومات بالتأكيد. ولإعطاء الفرصة لإصلاح الجهاز وافق مدير الرحلة على التمهل، فطرنا في دائرة عكف أثناءها بار وفني الإلكترونيات <T. لينش> على محاولة إصلاحه فقاما بنزع حوامله وبدّلا المُرْسِلة.
ومرت عشر دقائق، ولكن شيئا ما لم يكن على ما يرام، إذ كان لينش يدمدم بصوت خفيض ويبدو مهموما. ومرت بضع دقائق أخرى عانينا فيها القلق إلى أن أعلن لينش نجاحه، فعدنا جميعا إلى العمل.
وفي نقطة بدء مهمتنا التي تبعد عن خط الساحل بضعة كيلومترات إلى الشمال من الحدود بين فلوريدا وجورجيا، انتزع المهندس الكهربائي <R. مكنمارا> الغلاف البلاستيكي المُمَعْدَن عن مسبار الرياح الهابط GlobalPositioning System (GPS) dropwindsonde. وهذا الجهاز، الذي سيتم إسقاطه في العاصفة، ينشر مظلة أثناء سقوطه الحر ويرسل إلى الطائرة معلومات بالراديو عن موقعه مع قراءات لاتجاه الرياح وسرعتها. وكان مكنمارا قد برمج الجهاز بوصله بالقابس الكهربائي لبضع ثوان، ثم فصله ووضعه في أنبوب إطلاق شفاف مركب في أرضية الطائرة. وبعد أن تولى مدير الرحلة العد التنازلي «3، 2، 1» ضغط مكنمارا على مقداح (زناد)، فعمل ضغط الهواء في القمرة على إطلاق الأنبوب ـ الذي يبلغ طوله مترا واحدا ـ خارج هيكل الطائرة محدثا صوت صفير عاليا. وقام مكنمارا عندئذ بتثبيت الوقت.
وفي غضون بضع ثوان تم تسلم إشارة تفيد بأن مظلة مسبار الرياح قد انفتحت، فتولى مكنمارا تتبع موقع المسبار فيما كان الإعصار دنيس يبعده عن الطائرة. وأثناء سقوطه الحر نحو المحيط كان المسبار يرسل لنا معلومات عن اتجاه الرياح وسرعتها. وقد تكرر هذا العمل الروتيني (أي إطلاق مسابير الرياحGPS) عدة مرات خلال المهمة، مما أتاح لنا أن نشكل بالتدريج صورة ثلاثية الأبعاد للعاصفة.
وأثناء طيراننا نحو الشرق على ارتفاع 4300 متر بعد أن أوشك الجزء الأول المبهج من الرحلة على الانتهاء، شعرتُ بإثارة متعاظمة؛ إذ كان خط الساحل يتراجع خلفنا بينما تلوح في الأفق أمامنا سحب رمادية داكنة. وأخذ أفراد الفريق يضغطون على مفاتيح اللوحات التي تتحكم في مجموعة من الأجهزة ستجعل من الإعصار دنيس العاصفة الأكثر خضوعا حتى الآن لتحليل مباشر دقيق.
كبير العلماء في المهمة <D.F. ماركس> القريب وهو يتباحث مع الملاح <D. راثبن> في وقت مبكر من بدء الرحلة وماركس هو واحد من مجموعة من العلماء يعتقدون بأن معظم المتنبئين الجويين أهملوا الدور الذي تؤديه المحيطات في تطور الأعاصير |
وفي الساعة الثالثة والربع بعد الظهر جاء صوت ربان الطائرة الهادئ <R. فيليپسبورن> ليحذر عبر المذياع الداخلي من «أحوال جوية سيئة» أمامنا. وبدأت الأمطار الكثيفة تنساب على زجاج نوافذ الطائرة، ولم نعد نرى السماء الزرقاء، بل مجرد بياض شامل في كل مكان حولنا. وجلس الجميع في مقاعدهم وربطوا أحزمة الأمان بعد أن كانوا يتمشون جيئة وذهابا بين مقاعد الطائرة منذ أن وصلت إلى الارتفاع المحدد لها بعد إقلاعها من المطار.
ومع ذلك استمرت الطائرة تحلق برفق وعلى نحو ملائم فاستؤنف المشي بين مقاعدها. ومع أن مظهر الرياح التي تهب على نحو لولبي مظهر مألوف على شاشات الرادار في النشرات الجوية التلفزيونية، فقد كان أكثر إثارة للرهبة في تلك اللحظة. وعكف المختصون على جمع الخرائط وإرسالها كل 30 دقيقة، عبر وصلة ربط ساتِلِيَّة satellite link بطيئة، إلى المركز القومي للأعاصير بجامعة فلوريدا الدولية في ميامي. وقدَّر الباحث <W .C. لاندسي>، وهو يسجل بنشاط محموم المعلومات المستلمة في واحد من نُضُد الحواسيب consoles، قدّر قطر قلب الإعصار بثمانين كيلومترا، وهو أكبر من أقطار معظم الأعاصير. واتجه الإعصار ببطء نحو الشمال وهو يكاد يلامس خط الساحل، وأخذت رياحه الهوجاء تقتلع الألواح الخشبية التي تغطي سقوف المنازل فيما كانت الأمواج التي يثيرها تضرب بعنف وتكرار حواجز المياه والفُرَض(2).
وعندما وصلنا إلى المرحلة التي ينبغي فيها أن نُطلق مسبارا يسمى راسم درجة حرارة العمق المحمول جوا Airborn Expendable Bathythermograph AXBT ، ضغط مكنمارا على أحد مفاتيح جهاز التحكم الذي يستخدمه، فأَطلقت شحنةٌ متفجرة أول هذه المسابير من بطن الطائرة إلى العاصفة التي كانت تحيط بنا حينذاك من كل جانب. وهذه المسابير لا تؤدي أي عمل في أثناء سقوطها، ولكنها عندما ترتطم بمياه المحيط ترسل محرارًا (ترمومترا) معلقا بسلك إلى عمق 300 متر. وخلال غوص هذا المحرار كان يبث إلى الطائرة لاسلكيا درجات الحرارة التي يقيسها.
ووصلنا إلى جدار قلب eye wall العاصفة بسرعة 500 كيلومتر في الساعة، مطلقين المزيد من مسابير الرياح GPS ومسابير الراسم الحراري AXBT. وكنت أرى بين الفينة والأخرى عبر فتحات بين السحب الكثيفة مياه المحيط الثائرة المرقطة بالعديد من الرقع البيضاء.
وهذه الرقع البيضاء ـ التي هي فقاعات من الهواء سببها عصف الرياح بقمم الأمواج ـ تبدو كمًا مهملا مقارنة بالكيلومترات المكعبة من الهواء والماء المنهمرة على طائرتنا من كل جانب. ومع ذلك قال العلماء إن هناك شعورا يخامرهم بأن هذه الفقاعات تعد عاملا حاسما في تقرير الكيفية التي سيتغير بها الإعصار، لأنها تؤدي دورا فعالا في نقل الطاقة فيما بين المحيط والهواء. وكان من بين الأجهزة التي نحملها معنا جهاز راديومتر، وهو جهاز بإمكانه أن يقيس الرغوية foaminess عن طريق قياس الطاقة الموجية الصغرى المنعكسة من سطح المحيط في ستة ترددات مختلفة. هذا من حيث المبدأ، أما في التطبيق العملي فقد كانت المشكلات الفنية في برامج الحواسيب تغلق الجهاز في جميع المهمات التي استُخدم فيها حتى الآن. وعلى كل فإن ماركس كان يحدوه الأمل في أن يكون <P. بلاك> [أحد علماء الإدارة NOAA]، الذي أقعده الزكام في فلوريدا، قد نجح في آخر محاولة قام بها لإزالة تلك المشكلات الفنية من هذه البرامج.
وارتجف جسم الطائرة وتأرجح مرة أخرى، وكادت القهوة تندلق من فنجاني. وعلى الفور أصدر فيليپسبورن أمرا للجميع بأن يعودوا إلى مقاعدهم، إلا أن أرضية الطائرة ومساند المقاعد كانت قد تحولت إلى أهداف متحركة. وعانينا ترنحا خض مَعِدَنا بعنف، وبدأت أتساءل إلى متى سيتحمل جناحا الطائرة تلك الرفرفة قبل أن ينفصلا عن جسمها. وكان مكنمارا الجالس قبالتي في الجانب الآخر من الممر غير قلق، إذ استمر يُطلق المسابير GPS بالتعاقب مع المسابيرAXBT، وبدا مشغولا بعمله إلى حد لم يكن يفكر معه بأية احتمالات لا فائدة منها.
وتوقف تأرجح الطائرة المثير للغثيان؛ إذًا فقد نفذنا إلى قلب الإعصار دنيس. وبدت السماء فوقنا زرقاء كما كانت سابقا، أما سرعة الرياح خارج الطائرة فكانت تقارب ثلاث عقد، أي ما يكفي بالكاد لرفرفة علم. عندئذ بدأنا نفتش عن نقطة تكون عندها سرعة الرياح ومقدار الضغط الجوي في أدنى مستوى لكي نحدد بها مركز قلب الإعصار. وعلى بعد عدة كيلومترات منا، بدت أكوام هائلة من السحب الماطرة منتشرة على شكل قوس ضخم. واندفعنا عبر الجدار الشرقي لقلب الإعصار، مسقطين المزيد من المسابير، فيما كان المحرك الحراري الجبار يدير طائرتنا حول نفسها.
ومضت ساعات ونحن نقتفي أثر قرص البوصلة المتمركز على قلب العاصفة. وكان اضطرابي قد أبعد عني الشعور بالجوع، غير أنني بحلول العصر تحركت بحذر شديد باتجاه مطبخ الطائرة لأحصل على شطيرة، وهناك رأيت أحد أفراد الطاقم يقرأ صحيفته بمنتهى الهدوء.
يجهز المهندس الكهربائي <R. مكنمارا> مسبار الرياح GPS للإطلاق. ويعمل ضغط الهواء في القمرة على إطلاق المسابير من الأنبوب المثبت على أرضية الطائرة. وبعد أن ينطلق المسبار مبتعدا عن الطائرة ينشر مظلة، ويرسل معلومات عن اتجاه الرياح وسرعتها في المواقع التي تأخذه الرياح إليها أثناء سقوطه الحر من الطائرة إلى المحيط. |
وصارت عملية إسقاط المسابير المجهولة النتائج أمرا عاديا ومألوفا، ولكنها ساءت بوجود رياح صاعدة بطيئة. وكان رادار الدوپلر، الذي جرى إصلاحه، لا يؤدي عمله كما ينبغي. فمردوده كان أقل مما كان ماركس يرغب فيه. وأعلن لاندسي أن الجهاز يظهر أن سرعة الرياح السطحية وصلت إلى نحو 160 كيلومترا في الساعة مما يشير إلى أن الإعصار دنيس يزداد قوة. ومع ذلك فإن الإعصار عندما يزداد قوة يُحرك مياه الأعماق الأبرد نحو السطح مما يؤدي إلى التخفيف من عنفه. وقد علمت فيما بعد أن الإعصار دنيس برّد المياه قرب ساحل جورجيا وكارولينا الجنوبية وخفض درجة حرارتها بنحو ثلاث درجات سيلزية، كما عمل على زيادة عمق طبقة المياه المختلطة الواقعة تحت لُبه core إلى الضعفين تقريبا. وهذا الوضع أدى بدوره إلى التخفيف من عنف الإعصار فلويدFloyd عندما سلك المسار نفسه بعد ذلك بعدة أيام.
وكنا نرسل القراءات التي نحصل عليها من الراديومتر إلى المركز القومي للأعاصير. ولكن ماركس ظل غير مرتاح لهذا الجهاز. وتفاجأ أثناء الرحلة عندما تلقّى عامل اللاسلكي في الطائرة مكالمة هاتفية من بلاك، لأن الاتصال اللاسلكي يشوش على الرادارات. ولذلك، تصور ماركس أن الرسالة لا بد أن تكون مستعجلة ومهمة وتتعلق بمشكلة جديدة في الراديومتر. وفي واقع الأمر ما لبث بلاك أن أعلن أن هذا الجهاز، الذي يعطي معلومات مفصلة عن الرياح السطحية، يعمل بكفاءة متناهية. عندها فقط شعر ماركس بما يكفي من الارتياح ليعلن هذه الأنباء السارة في المذياع الداخلي، مما أشاع جوا من الارتياح في الطائرة.
ومضى الوقت في هذه الرحلة ببطء، وطرنا فوق عوامات داسارو ونحن نُسقط المسابير AXBT و GPS، فيما كان ضوء النهار خارج الطائرة يتراجع أمام زحف الليل. وفي اجتيازنا الرابع لقلب الإعصار فتشنا مرة أخرى عن مركزه لنرى إلى أي مدى قد تحرك عن موقعه السابق، ذلك لأن تحديد تحركات المركز من الأهمية بمكان من أجل مساعدة المتنبئين الجويين على تقرير المنطقة التي تتوجه إليها العاصفة. وكان يفترض أن يكتسب الإعصار طاقة جديدة عندما مر جانبه الغربي فوق تيار الخليج، ولكن ذلك لم يحصل لأن قلب الإعصار بقي في منطقة أبعد فوق المحيط الأطلسي. وتوقع ماركس أن يبلغ الإعصار اليابسة في كارولينا الشمالية في اليوم التالي.
وفي طريق عودتنا إلى قاعدتنا، حرصنا على إطلاق المزيد من المسابيرAXBT و GPS في أقرب نقطة ممكنة إلى المحطات الأرضية والعوامات التي تتولى أخذ القياسات الخاصة بالإعصار، لكي يتسنى للعلماء التحقق من أداء الأجهزة. وعندما هبطت طائرتنا في قاعدة مكديل، كانت الساعة تشير إلى العاشرة والدقيقة الرابعة والعشرين مساء. وبدا أن ماركس كان مسرورا بنتائج عمله في ذلك اليوم أكثر منه متعبا من تلك الرحلة التي استغرقت نحو تسع ساعات.
وفي اليوم التالي علمنا أن الإعصار دنيس انحرف قليلا نحو الشرق، متحركا على نحو مواز لتيار الخليج. ويعني عدم عبور دنيس لتيار الخليج، إضافة إلى حركة الموج الشديدة التي برّدت سطح المحيط، أن الإعصار لن يتحول إلى كابوس كما كان متوقعًا. ومع ذلك قدم لنا دنيس كنزا من المعلومات الثمينة.
وأهم هذه المعلومات تلك التي حصلنا عليها من الراديومتر. إلا أن التزامن السعيد الذي حدث بين رحلة طائرتنا مس پيگي ووجود عوامات داسارو، جعل من يومنا ذاك يومَ بحثٍ علمي ميداني في نواح أخرى أيضا. فقد أطلقنا 30 مسبار GPS، أصاب العديد منها بإحكام جدار قلب الإعصار؛ كما أطلقنا 15 مسبار AXBT فعالا ارتطم ثلاثة منها بسطح المحيط في الخط الممتد من الشرق إلى الغرب جنوب قلب الإعصار، حيث كانت عوامات داسارو تعمل. إضافة إلى ذلك فإن المعلومات التي حصلنا عليها من رادار دوپلر هي معلومات مفيدة في عدة مجالات ولأغراض متعددة، كما أن <E. وولش> [من الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء ـ ناسا] نجح في استخدام مقياس ارتفاعات (ألتيمتر) يعمل بالرادار الماسح للحصول على قياسات جديدة لاتجاه وارتفاع أمواج المحيط التي سببها الإعصار، وهي اتجاهات وارتفاعات غير متماثلة إلى حد بعيد، وتشبه نموذجا كان وولش قد رآه في وقت سابق متمثلا في الإعصار بوني.
وجميع هذه المعلومات سوف تكون مادة قيمة تُستخدم في نماذج المحاكاة الحاسوبية الخاصة بالأعاصير في السنوات القادمة. ومع أنه لا يمكن لأي إعصار بحد ذاته أن يعطينا الإجابات عن جميع الأسئلة المتعلقة بنشوء الأعاصير وتطورها، فقد أظهر ماركس وفريقه من الفنيين والباحثين أن بإمكانهم أن ينشروا منظومة شاملة من الأجهزة العالية التقانة في إعصار خطر، وأن يخرجوا من مهمتهم بنتائج قيمة. ومادام لديهم ولدى غيرهم ممن يركبون العواصف الاستعداد لمواصلة المجازفة بأرواحهم من أجل العلم، فسوف يقل الغموض الذي يكتنف العوامل التي تجعل إعصارا ما يزداد شدة، وسيقل أيضا الاحتمال بأن ينقلب إعصار ما في المستقبل إلى مزهق للأرواح من دون إنذار.
مراجع للاستزادة
THERMODYNAMIC CONTROL OF HURRICANE INTENSITY. Kerry A. Emanuel in Nature, Vol. 401, pages 665-669; October 14,1999.
NOAA’s Hurricane page is available at hurri-canes.noaa.gov/
Hurricane Dennis mission summary can be found at wwwaoml.noaa.gov/hrd/Storm pages/dennis99/990829Lhtm1
Storm Atlas of NOAA’s Hurricane Research Division is available at www aoml.noaa.gov/ hrd/Storm-pages/frame.html
Scientific American, March 2000
(*) Dissecting a Hurricam
(1) Gulf Stream: وهو الاسم المعروف لتيار حار يأتي من خليج المكسيك ويتجه شمالا. (التحرير)
(2) جمع فرضة وهي محط السفن في البحر (التحرير)