ذكاء أسراب الحَشرات
ذكاء أسراب الحَشرات (*)
<E. بونابو> ـ <G. ثيرولاز>
لطالما فَتَنت الحشرات التي تعيش في مستعمرات ـ كالنحل والنمل والزنابير والأَرَضة ـ جميع الناس من علماء الطبيعة حتى الفنانين. وذات مرة، كتب الشاعر البلجيكي <موريس ميترلنك> يقول: “من ذا الذي يحكم هنا؟ ومن ذا الذي يصدر الأوامر ويستشف المستقبل ويرسم الخطط ويحافظ على التوازن؟”… إنها حقا ـ أسئلة محيّرة.
يبدو أن لكل حشرة في أية مستعمرة جدول أعمال خاصا بها، ومع ذلك فإن المستعمرة في مجموعها تبدو على درجة عالية من التنظيم. ومن الواضح أن التكامل التام بين جميع الأنشطة الفردية يتم من دون حاجة إلى أي إشراف. وفي الواقع، إن العلماء المشتغلين بدراسة سلوك الحشرات الاجتماعية قد وجدوا أن التعاون على مستوى المستعمرة هو بالدرجة الأولى مسألة تنظيم ذاتي. ففي حالات عديدة ينشأ التنسيق عن تآثرات interactions الأفراد فيما بينها. وعلى الرغم من أن هذه التآثرات قد تكون بسيطة (كأن تقتصر إحدى النملات على اقتفاء الأثر الذي تركته أخرى)، فهي في مجموعها يمكن أن تحلّ مشكلات صعبة (مثل اكتشاف أقصر طريق إلى مصدر الغذاء من بين مساراتٍ لا حصر لها). وهذا السلوك الجماعي الذي يتجلى لدى مجموعة ما من الحشرات الاجتماعية قد أُطلق عليه اسم ذكاء السّرب swarm intelligence.
لقد تزايد مؤخرا عدد الباحثين المهتمين بابتكار أساليب جديدة لتطبيق “ذكاء السّرب” هذا في مهمات متنوعة، ومن أمثلة ذلك أن أسلوب النمل في الامتيار(1) قد أفضى إلى طريقة مستحدثة لإعادة تخطيط مسارات المرور في الشبكات المزدحمة لأنظمة الاتصال عن بُعْد. وقد يفضي التآثر التعاوني بين نمل يعمل على نقل كِسْرة غذائية كبيرة إلى التوصل إلى خوارزميات algorithms أكثر فعالية للإنسالات(2) (الروبوتات)؛ كما أن الطريقة التي تتبعها الحشرات في تصنيف يرقاتها وإخلاء العش من جثث موتاها، يمكن أن تساعد على تحليل البيانات المصرفية، وكذلك فإن تقاسم العمل بين شغالات نحل العسل قد يفيد في جعل خطوط التجميع في المصانع أكثر انسيابية.
اقتداء بالنمل وغيره من الحشرات الاجتماعية، ابتكر علماء
الحاسوب وسائط برمجية تسهم في حل مشكلات معقدة، كتغيير
حركة سير المعلومات في شبكات الاتصال عن بُعْد المزدحمة.
نمل برمجي(3)
كان استقصاء سلوك الامتيار(4) لدى النمل واحدا من بواكير دراسات ذكاء السرب، إذ إن . < L-J. دينوبورگ> وزملاءه [من الجامعة الحرة في بروكسل] أجروا تجربة بينوا فيها أن قوافل النمل التي تشاهد كثيًرا في الخلاء (وفي مطابخ البيوت) إنما تنجم عن مادة كيميائية يطلق عليها اسم “فيرومون”pheromone تفرزها نملات معينة فتجذب نملات أخرى. كما أن دينوبورگ ـ وهو رائد في هذا المجال ـ قد أثبت بالتجربة أن قيام نملة بترك أثر فيروموني يستطيع النملُ الآخر اتباعه، إنما يمثل استراتيجية سليمة لاكتشاف أقصر الطرق بين الذكر ومصدر الغذاء.
وفي تجربته على النملة الأرجنتينية التي تحمل اسم Linepithema humileصنع دينوبورگ قنطرة ذات فرعين، أحدهما له ضعف طول الآخر، لاستخدامها مَعْبَرا بين الوكر ومصدر الغذاء. وفي غضون دقائق كان نمل المستعمرة يختار، في معظم الحالات، الفرع الأقصر. ولقد تحقق الباحث من أن النملات تترك آثارًا من الفيرومون وتتبعها في بحثها عن الغذاء. وبديهي أن يكون أسرع النملات عودة إلى الوكر (قادمة من مصدر الغذاء) هي تلك التي سلكت الطريق الأقصر ذهابا وإيابا. ولما كان هذا الطريق هو الأسبق اكتسابا لكمية مضاعفة من الفيرومون، فإن رفيقات الوكر تنجذب إليه.
مسارات فيرومونية تمكِّن النمل من الامتيار بكفاءة: وفي الرسم نملتان تغادران العش في وقت واحد (في الأعلى) ولكنهما تسلكان طريقين مختلفين، وفي أثناء ذلك تَسِم كل نملة مسارها بالفيرومون، وطبيعي أن تكون النملة التي سلكت الطريق الأقصر هي الأسبق في العودة إلى العش (في الأسفل)؛ وبذلك يكون الطريق الذي سلكته (الفرع السفلي من قنطرة العبور) قد اكتسب كمية مضاعفة من الفيرومون، ولذلك فإن هذا المسار سيجذب أعدادا من النمل أكثر من الطريق الأطول. |
يرتاد النمل مصادر الطعام المختلفة بالتتابع نتيجة لتبخر الفيرومون. وفي هذه المحاكاة الحاسوبية وُضعت ثلاثة مصادر متماثلة من الطعام على مسافات غير متساوية من العش. وكما يوضح الرسم العلوي (a) يبدأ امتيار النمل عشوائيا، ثم تجتاح المصادر الأقرب إلى العش (b و c). وفيما تنضب إمدادات الطعام، يقل تردد النمل. وبالتالي يتناقص تركيز الفيرومون على مساراته بفعل التبخر (d)، وهنا يشرع النمل في ارتياد المصادر الأبعد.
|
يمكن تنظيم شبكة المرور بالاعتماد على برمجيات تقلد النّمل. فالانتقال من الموقع A إلى الموقع B يجب أن يمر عبر عدد من العُقَد البَيْنية (اللون البرتقالي يحدد أقصر ممر بين الموقعين). فلو حدث احتقان في جزء من هذا الممر، يكون على المنظومة توجيه السير عبر ممر بديل (الأخضر). وتستطيع وسائط برمجية تنظيم شبكة المرور أوتوماتيكيا بطريقة مشابهة لتلك التي يرتاد بها النمل الطبيعي مصادر الطعام المختلفة (الرسم العلوي). وفي هذا المثال، يشبه الممر المحتقن مصدرا غذائيا ناضبا. |
ولكن، إذا عُرض الفرع الأقصر على أفراد المستعمرة بعد عرض الفرع الأطول، فإن النمل لا يسلكه لأن الطريق الأطول في هذه الحالة كان هو الأسبق وَشْما بالفيرومون. غير أن علماء الحاسوب يمكنهم التغلب على هذه المشكلة في أحد الأنظمة الاصطناعية، وذلك بإدخال عامل اضمحلال الفيرومون: فحينما تتبخر هذه المادة الكيميائية بسرعة، تواجه الطرق الطويلة مشكلة الاحتفاظ بآثار فيرومونية ثابتة. فالنمل البرمجي software ants، يستطيع عندئذ أن يختار الطريق الأقصر، حتى لو جاء اكتشافه متأخرا. وهذه ميزة مستحبة جدا من حيث إنها تحول دون اتجاه النظام الحاسوبي نحو حلول وسط(5). (وفي حالة النمل الأرجنتيني، يضمحل فعلا تركيز الفيرومون، ولكن بمعدل بطيء جدا).
وفي محاكاة حاسوبية لتبخر evaporation الفيرومون، أقام بعض الباحثين مستعمرة صنعية للنمل، ووضعوا مصادر غذاء متماثلة على مسافات مختلفة من الوكر (انظر الشكل في يمين هذه الصفحة). في البداية، استكشف النمل الافتراضي بيئته بشكل عشوائي، ثم أقام مسارات ربطت جميع مصادر الطعام بالوكر. وبعد ذلك استبقى فقط مسارات المصادر الأكثر قربا من الوكر مما أدى إلى استغلال تلك المؤن. وعند نضوب ذلك الغذاء، بدأ النمل البرمجي بتوجيه غاراته إلى المصادر البعيدة.
وفي تطويرٍ لهذا النموذج النَّملي ant model، قام < M. دوريگو> [أحد علماء الحاسوب من الجامعة الحرة في بروكسل] وزملاؤه بتصميم طريقة لحل “مسألة البائع المتجول”(6) الشهيرة التي تستدعي اكتشاف الطريق الأقصر بين عدد من المدن في زيارة واحدة لكل منها، (انظر ما هو مؤطّر في الصفحة المقابلة ). وهذه المسألة جذابة، لكونها سهلة الصياغة لكنها بالغة الصعوبة جدا بسبب ما تتطلبه من خطوات حسابية تتنامى أسرع من تنامي عدد المدن مرفوعا لأي قوة (أُس) متناهية. وعادة ما يحاول الناس بالنسبة إلى مثل هذه المسائل إيجاد حلول تقريبية، ولكنها ليست الأفضل بالضرورة(7). وفي هذه التجربة بيّن دوريگو أن بالإمكان الحصول على مسارات شبه مُثْلى(8) باستخدام نمل صنعي سبق ضبطه، بحيث يختلف تركيز الفيرومون الذي يضعه باختلاف المسافات الإجمالية التي قطعها.
هذا وبمثل هذا الأسلوب نجحت محاولات أخرى لاستخدام النمل الصنعي في معرفة أفضل الحلول لبعض المشكلات المستعصية على الحل الكامل، ومنها على سبيل المثال مشكلة التكليف التربيعي quadratic assignment التي يكون فيها على منتِج عدة أنواع من البضائع أن يكلف بها مصانع مختلفة بحيث يقلل إلى أدنى حد المسافة الإجمالية التي يلزم نقل المواد عبرها بين مراكز إنتاجها. وفي تطبيق مقارب لهذا الأسلوب ذكر < D. گريگ> [من الشركة يونيليڤر بالمملكة المتحدة] و< V. دارلي> [من مجموعة بَيُوس في نيومكسيكو] أنهما أوجدا طريقة مستوحاة من النمل لتقليل الزمن الذي يستغرقه إنجاز مقدار معين من العمل في مصنع كبير في يونيليڤر بالمملكة المتحدة. وكان على هذه المنظومة أن تخطط بشكل فعال للجمع بين صهاريج تخزين متنوعة وخلاطات كيميائية وخطوط تغليف وغيرها من التجهيزات.
بيد أن الوسائط الشبيهة بالنمل antlike agents لا تقتصر على حل المسائل المثلى optimization problems ذات الصفة الساكنة (الستاتيكية) أو غير المتغيرة، بل تصلح كذلك للبيئات الدينامية مثل تعطُّل مصنع ما نتيجة لتعطل إحدى آلاته. فعن طريق صون المسارات الفيرومونية والاستكشاف المستمر لمسالك جديدة، يهيئ النمل ـ بطريقة توصل إليها مصادفة ـ خطة رديفة backup ، وبذلك يكون مستعدًّا للاستجابة للتبدلات في بيئاته. وهذه الخاصية التي يمكن أن تفسر لنا نجاح النّمل الحقيقي بيئيا ـ تُعَد حاسمة في عديد من التطبيقات.
دعونا نتأمل حالة عدم إمكانية التنبؤ الدينامي في شبكة ما للهاتف. فعلى العموم لا بد لأي نداء هاتفي بين طرفين من أن يمر خلال عدد من العقد البينية ـ أي محطات التحويل ـ الأمر الذي يتطلب وجود آلية تحدد مكان الخطوة التالية للنداء على طريق إتمام الاتصال بين نقطة البداية A ونقطة النهاية B. وغني عن البيان أن الخوارزمية algorithm اللازمة لهذه السيرورة يجب أن تتحاشى مناطق الاحتقان كي تقلل الإعاقات إلى أدنى حد. وتصبح المسارات الرديفة backup routes قيِّمةً للغاية حينما تتغير الظروف بشكل كبير؛ ومن أمثلة ذلك سوء الأحوال الجوية في المطارات، أو بث مسابقة تليڤزيونية تتطلب مكالمات هاتفية من المتسابقين، وهي حالات تؤدي إلى اختناقات مؤقتة في الشبكة، مما يستدعي تحويل خطوط الاتصالات في الحال إلى مناطق أقل ازدحاما في المنظومة.
ولمواجهة مثل هذه الحالات ابتكر < R. شوندرڤيرد> و<J. بروتن> [من مختبرات أبحاث هيوليت-پاكارد في بريستول بإنكلترا] و<O.هولاند> [من جامعة غرب إنكلترا] تقنية خاصة لتخطيط مسالك الاتصال، تودِع فيها وسائطُ شبه نملية ant like agents نُتَفًا من المعلومات (أو فيرومونات افتراضية) في عُقَد الشبكة من أجل تقوية الممرات عبر المناطق غير المحتقِنة. وفي الوقت نفسه، تقوم آلية للتبخير بضبط معلومات العقد بغية إحباط الممرات الذاهبة عبر المناطق المزدحمة.
وعلى وجه التحديد، فإن كل عقدة على الشبكة تحتفظ بجدول للمسير يحدد لكل نداء هاتفي خطواته التالية وفقا لوجهته النهائية، في حين تقوم الوسائط شبه النملية بتعديلٍ مستمرٍ لمداخل الجدول، بحيث تعكس الأحوال الراهنة للشبكة. فإذا عانى وسيط ما تأخيرا طويل الأمد بسبب دخوله منطقة شديدة الاحتقان، فإنه يكفيه أن يضيف كمية ضئيلة من الفيرومون إلى مداخل الجدول التي سوف ترسل نداءات إلى تلك المنطقة المزدحمة. وبتعبير رياضياتي، سوف تَحدث زيادة طفيفة في عدد النقاط لصالح العقد المقابلة. وبالمقابل، إذا ذهب الوسيط سريعا من عقدة إلى أخرى غيرها، فسوف يعزز استخدام ذلك الممر عبر تركه الكثير من الفيرومون؛ أي عبر زيادة ملحوظة في عدد “النقاط المناسبة” المحسوبة لصالح هذا الممر؛ وتكون النتيجة أن الممر المزدحم (على الرغم من اكتظاظ الوسائط التي قد تجوبه) سوف يحوي من الفيرومون المتراكم أقل مما يحويه ممر محتقن ذو وسائط أقل عددا.
ويتولى هذا النظام استبعاد الحلول المتروكة عن طريق تطبيق شكل رياضياتي من التبخر: وذلك بأن تُقلل جميع مدخلات الجدول نظاميا بمقدار صغير. وقد صممت هذه السيرورة وكذلك الأسلوب الذي تزيد فيه الوسائط شبه النملية عدد النقاط الصحيحة، على نحو يعمل بالتقاطر(9)، بحيث تتعرض الممرات المزدحمة لتبخرٍ يفوق التعزيز في حين تتعرض الممرات غير المحتقنة لعكس ذلك تماما.
إن أي توازن بين التبخر والتعزيز يمكن تعطيله بسهولة. فإذا احتقن ممر كان من قبل صالحا، فإن الوسائط التي تسلكه تتعرض للتأخير فيتغلب التبخر على التعزيز؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الممر وتكتشف الوسائط بدائل تستغلها. وهنا تكون الفوائد مضاعفة: فعندما يعاد تسيير ممرات النداءات الهاتفية عبر أقسام من الشبكة أفضل (بمعنى أقل احتقانا) من سابقاتها، فإن هذه السيرورة لا تسمح فقط بمرور النداءات سريعا، بل تمكِّن كذلك المناطق المحتقنة من التعافي من فرط الحمولة.
وتقوم حاليا بضع شركات بِسَبْر هذا النهج للتعامل مع ضغط الحركة على شبكاتها، وكان السبق في تطبيق طرائق التسيير المبنية على الأسلوب النَّملي لصالح منظومات الشركة الفرنسية فرانس تيليكوم France Telecom والبريطانية بريتش تليكوميونيكيشن British Telecommunication. أما في الولايات المتحدة فإن الشركة MCI Worldcom لم يقتصر استقصاؤها النملَ الصُّنعي على إدارة شبكة الاتصال الهاتفي الخاصة بها، بل تجاوز ذلك إلى مهام أخرى مثل إعداد قوائم حسابات الزبائن. ولكن التطبيق النهائي قد يكون على الإنترنت، حيث تزدحم الحركة بشكل استثنائي يصعب التنبؤ به.
ولمعالجة الظروف الملحَّة للشبكة قام <دوريگو> وزميله . <G. دي كارو> [من الجامعة الحرة في بروكسل] بإضافة المزيد من التطوير إلى الوسائط النملية عن طريق أخذهما بالحسبان بضعة عوامل أخرى، بما في ذلك إجمالي الوقت اللازم لانتقال المعلومات من مصدرها إلى غايتها (علما بأنه في حالات شبكات الهاتف لا يدخل في الحساب سوى مدة الانتقال من عقدة إلى أخرى؛ كذلك يفترض أن رحلة العودة تستغرق الوقت الذي تستغرقه رحلة الذهاب). وتشير نتائج المحاكاة إلى أن منظومة دوريگو وزميله دي كارو تتفوق على جميع طرائق التسيير الأخرى فيما يخص تصعيد كَمّ المرور وتقليل وقائع التأخير إلى أبعد حد. وفي الواقع، إن الاختبارات المستفيضة توحي بتفوق الطريقة المستوحاة من النَّمل على الپروتوكول المسمى “افتح الممر الأقصر أولا” Open Shortest Path First، وهو الپروتوكول الذي تستخدمه شبكة الإنترنت حاليا والذي يكون على العُقَد فيه أن تُخبر باستمرار بعضها بعضا عن وضعية الوصلات التي ترتبط بها.
سيل من التطبيقات(10)
هناك سلوكيات أخرى للحشرات الاجتماعية ألهمت تشكيلة متنوعة من الجهود البحثية. فحاليا يعكف علماء الحاسوب على دراسة أسراب الحشرات من أجل تصميم تقنيات مختلفة للتحكم في مجموعة من الإنسالات (الروبوتات). ويجري حاليا دراسة واحد من التطبيقات يتمثل في النقل التعاوني cooperative transport (انظر ما هو مؤطر في أسفل هذه الصفحة). وباتباع مثل هذه المقارَبات، يستطيع المهندسون تصميم إنسالات بسيطة ورخيصة الثمن نسبيا تتضافر لأداء مهام متزايدة التعقيد. وفي مشروع آخر، نجد نموذجا، كان قد أُعِدّ أصلا لتوضيح الكيفية التي يجمع بها النمل موتاه ويصنف بها يرقاته، اتخذ أساسا لمقاربة جديدة لتحليل البيانات المالية (انظر ما هو مؤطر في الصفحة 10). وكذلك هناك بحث لاختبار الطريقة المرنة التي يوزِّع بها نحل العسل المهام فيما بينه، وقد يؤدي هذا البحث إلى طريقة أكثر فعالية لجدولة الوظائف في مصنع ما (انظر ما هو مؤطر في الصفحة 11).
وهناك المزيد من الأمثلة: فبتطبيق المعلومات المستقاة من الكيفية التي تبني بها الزنابير أعشاشها، صمم <D. پتروڤتش> [من معهد التقانة التابع للسلاح الجوي الأمريكي في ولاية أوهايو] سربا من سواتل متحركة ضئيلة الحجم تقوم بالتجمع بعضها مع بعض في بنية كبيرة مسبقة التحديد، كما يقوم حاليا <H. ڤان دايك باروناك> [من معهد ميتشيگان للبحوث البيئية في مدينة آن آربر] بنشر تشكيلة منوعة من “وسائط برمجية شبه حشرية” لاستخدامها في حل بعض مشكلات التصنيع؛ نذكر منها على سبيل المثال جدولة شبكة معقدة من المُوَرِّدين لمصنع ما. وكذلك فإن <P. كانتور> [من جامعة رتگرز] طور مقاربة مبنية على ذكاء السرب لغرض العثور على المعلومات عبر الوِب (الشبكة العنكبوتية العالمية) (WWW) وغيرها من شبكات المعلومات الكبرى. وبإمكان متصفحي الوِب الذين يبحثون عن مواقع مهمة والذين ينتمون إلى “مستعمرة” من المستخدمين، إدخال المعلومات في صورة فيرومونات رقمية (تتمثل في كنهها بتقديرات) خلّفها مستخدمون سابقون خلال بحثهم.
وفي الواقع، إن إمكانات ذكاء السرب كبيرة جدا؛ فإنّه يزودنا بطريقة بديلة لتصميم منظومات كانت تتطلب تحكما مركزيا وبرمجة مكثفة مسبقة. فهذه الطريقة، تمتاز باستقلاليتها وباكتفائها الذاتي عبر استنادها إلى تآثرات مباشرة أو غير مباشرة بين وسائط فردية بسيطة، ومثل هذه العمليات يمكن أن تُفضي إلى منظومات تستطيع التكيف بسرعة كي تتلاءم مع ظروف سريعة التقلب.
غير أن هذا المجال مازال في بدايته. ونظرا لكون الباحثين يفتقرون إلى الفهم المفصَّل للفعاليات الداخلية لأسراب الحشرات، فإن تحديد القواعد التي تتآثر بوساطتها أفراد هذه الأسراب فيما بينها كان ومازال تحديا هائلاً. ومن دون مثل هذه المعلومات كان من الصعب على علماء الحاسوب إيجاد البرمجية المناسبة لذلك. إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن مقاربات ذكاء السرب قد نجحت في القيام بعدد من مهمات التحكم والبحث عن الحل الأمثل، فإن المنظومات التي تم التوصل إليها كانت بطبيعتها تتسم بكونها ردود أفعال، وليست مبادرات، كما أنها افتقدت النظرة الشمولية اللازمة لحل المشكلات التي تتطلب تقنيات تعتمد على التفكير المنطقي العميق. علاوة على ذلك فإن أحد الانتقادات الموجَّهة لهذا المجال يتمثّل في أن استعمال “الوسائط شبه الحشرية المستقلة” سيُفضي إلى سلوك لا يمكن التنبؤ به في أجهزة الحاسوب التي تؤويها. ومع ذلك، فقد يتبين أن هذه الخاصية هي في الواقع مَعْلم قوة، باعتبارها قد تسمح لمثل هذه المنظومات بالتكيف لحل مشكلات جديدة غير متوقعة، الأمر الذي يُعَدُّ مرونة تفتقر إليها البرمجيات المعهودة.
يتنبأ كثير من ذوي النظرة المستقبلية بأن الشيپات(11) سرعان ما سيشيع إدخالها في آلاف الأغراض المعيشية. ولكن تحقيق التواصل بين جميع هذه القطع السيليكونية بطريقة مجدية سوف يحتاج إلى طرق مبتكرة في التعامل معها. وهذه الحقيقة يُعبِّر عنها أحد أساطين التقانة المتقدمة، وهو <كيڤين كيلي> بقوله: “إن الأجزاء الخرساء ـ لو أحسن الربط بينها بطريقة سِرْبِيّة ـ تعطي نتائج باهرة.” وبالطبع، إن السر يكمن في الربط السليم بين جميع الأجزاء.
النمل ومسألة البائع المتجول(12)
في “مسألة البائع المتجول” يكون على المرء أن يجد أقصر طريق يستطيع عبره زيارة عدد معين من المدن من دون تكرار. إن هذه المسألة القديمة بالغة الصعوبة؛ فثمة بلايين احتمالات المسير من أجل 15 مدينة فقط (انظر الشكل العلوي في هذه الصفحة).
ولقد بدأ بعض الباحثين مؤخرا باستخدام “وسائط شبيهة بالنمل” لاستخلاص حل لهذه المسألة، مستندين في ذلك إلى ما يقوم به النمل الصّنعي من محاكاة للنمل الطبيعي بوضعه ما يعادل الآثار الفيرومونية ثم اتباعها (انظر الشكل في الصفحة المقابلة).
تخيلْ مستعمرة من نمل كهذا تهرول كل نملة منه ـ بمفردها ـ من مدينة إلى مدينة مفضلةً المواقع القريبة (وإلا واصلت مسيرها عشوائيا)، حتى إذا ما أتمَّت جولة في جميع المدن عادت أدراجها إلى الوصلات التي استخدمتها لتضع الفيرومون عليها. وكمية هذه المادة الكيميائية تتناسب عكسيا مع الطول الإجمالي للجولة؛ فكلما قَصُرت المسافة ازدادت كمية الفيرومون التي تتلقاها كل وصلة. وهكذا فبعد أن تتم جميع النملات جولاتها وتنشر فيروموناتها فإن الوصلات التي انتمت إلى أكبر عدد من أقصر الطرق تكون هي أغنى الوصلات بالفيرومون. ولأن هذه المادة تتبخر، فمع الوقت تكون كمية الفيرومون على الطرق الطويلة أقل، بقدر كبير، منها على الطرق القصيرة.
وبعد ذلك يجري إطلاق مستعمرة النمل الصنعي للقيام برحلة ثانية، ولكن في هذه المرة تسترشد النملاتُ بالمسارات الفيرومونية السابقة (فتفضل الوصلات ذات التركيز الفيروموني الأعلى)، وبالمسافات بين المدن (مفضلة الأمكنة الأقرب)، التي تحصل عليها النملات بالرجوع إلى جدول يتضمن تلك الأعداد. وعلى العموم، يُعطى كلا المعيارين (تركيز الفيرومون والمسافة بين المدن) وزنين متعادلين على وجه التقريب.
لقد حقق < M. دوريگو> [من الجامعة الحرة في بروكسل] وزملاؤه هذه المنظومة المبنية على سلوك النمل في برمجية. وبالطبع تفترض المنهجية أن الوصلات المفضلة إذا ما أخذتْ بمجملها ستؤدي إلى طريق إجمالي قصير. وبعد تكرار العملية (إكمال الجولة متبوعا بتعزيز فيروموني وتبخر) عدة مرات وجد دوريكو أن النمل الصنعي يستطيع بالفعل تحقيق جولات متزايدة في القصر على شاكلة ما هو ظاهر في الشكل أدناه.
ومع هذا، تنشأ صعوبة عندما يتصادف أن طرقا كثيرة تستخدم وصلة يتبين أنها ليست جزءا من جولة قصيرة. (في الحقيقة، قد تنتمي مثل هذه الوصلة إلى طرق طويلة عديدة جدا)؛ ولكن دوريگو اكتشف أن هذه الوصلة المرغوبة، على الرغم من احتمال تضليلها المسار بضع مرات، فإن وصلة أفضل ستحل محلها في نهاية المطاف. وينتج ذلك من التفاعل الدقيق بين التعزيز والتبخر، الأمر الذي يضمن بقاء الوصلات الفضلى فقط. ويحدث عند نقطة ما أن يتم مصادفة انتقاء ارتباط بديل alternative connection، يكون جزءا من طريق قصير فيتعزز هذا الارتباط أكثر من الوصلة المرغوبة التي ستفقد بدورها جاذبيتها للنمل الصنعي كلما تبخر فيرومونه.
وتحدث مشكلة أخرى عندما يتضمن طريق قصير وصلة بالغة الطول لا يحتمل استخدامها من البداية. ولكن دوريگو أوضح أنه حتى وإن كانت الوصلة هذه تجعل الارتباط أبطأ في البداية، إلا أنه ما إن يتم انتقاؤها حتى تتعزز بسرعةٍ تفوق الوصلات الأخرى المنافسة لها.
ومن المهم ملاحظة أن هذه الطريقة المبنية على سلوك النمل ناجعة في اكتشاف الطرق القصيرة، ولكن ليس بالضرورة الطريق الأقصر. ومع ذلك فإن هذه الحلول شبه المثلى للمسألة تكون في العادة أكثر من كافية، ولا سيما أن الحصول على أفضل طريق يتطلب قدرا غير عملي من الحسابات. وفي الحقيقة، إن إيجاد الحل الصحيح لتلك المسألة سرعان ما يصبح عسيرا كلما زاد عدد المدن المدرجة في الرحلة.
يضاف إلى ذلك أن منظومة دوريگو ذات ميزة واحدة تتمثل في مرونتها. وبما أن النمل الصنعي لا يتوقف عن استطلاع مختلف الممرات، فإن الآثار الفيرومونية تقدِّم خططا رديفة. وهكذا، كلما انهارت إحدى الوصلات (بسبب طقس سيئ بين هيوستن وأتلانتا مثلاً)، فستكون هناك كوكبة من البدائل الجاهزة.
النقل التعاوني لدى النمل والإنسالات(13)
في بعض أنواع النمل تُجنَّد رفيقات العش للمعاونة في حمل الفريسة إذا كانت هذه أكبر من أن تقوى على حملها نملة بمفردها. وفي هذه الحالة يقوم النمل في بداية الأمر وخلال فترة قد تستمر بضع دقائق، بتغيير أوضاعه واصطفافه حول الفريسة إلى أن يصبح قادرًا على تحريكها في اتجاه وكره.
نملات يتعاون بعضها مع بعض على طي ورقة نبات كبيرة (في اليمين). وقد ألهم عملها الجماعي هذا العلماءَ لبرمجة الإنسالات من دون الحاجة إلى برمجيات معقدة. وفي تجربة أجريت بجامعة ألبرتا (الأسفل)، يتعين على الإنسالات دفع صندوق مستدير مضاء في اتجاه مصدر ضوئي. وعلى الرغم من انعدام التواصل بين أفراد الإنسالات (في اليسار) وعمل كل منها بشكل مستقل باتباعه مجموعة صغيرة من التعليمات البسيطة، فإن هذه الجماعة بمجملها تحقق الهدف المنشود. |
وباستعمال إنسالات ميكانيكية قام الباحثان < R .C. كيوب> و< H. زهانك> [من جامعة ألبرتا] بمحاكاة هذا السلوك. وكانت مهمة الحشد الإنسالي الذي جندوه تتمثل في دفع صندوق ما في اتجاه هدف محدد. وقد تمت برمجة كل إنسالة بتعليمات بسيطة جدا مفادها: اعثر على الصندوق، اتصل به، اتخذ الوضع المناسب بحيث يقع الصندوق بينك وبين الهدف، ثم ادفع الصندوق نحو الهدف.
ومع أن الإنسالات تمت برمجتها بشكل فجٍّ جدا عن قصد، فإن التشابه بين سلوكها وسلوك سرب من النمل يبدو مدهشا. ويمكن مشاهدة شريط الڤيديو الذي سُجِّلت عليه التجارب على الموقع التالي على الوِبhttp://www.cs.ualberta.ca/~kube .
ففي البداية، تتحرك الإنسالات بشكل عشوائي محاولة العثور على الصندوق، وبعد تحديد موضعه تبدأ بدفعه، ولكن إذا أخفقت في تحريكه فإنها تغيّر أوضاعها واصطفافها. وتظهر نكسات موقتة بشكل واضح على غرار ما يحدث عند تحريك الصندوق في اتجاه بعيد عن الهدف. هذا وتعدل الإنسالات أوضاعها باستمرار كلما أفلت اتصالها بالصندوق، أو كلما اعترض أحدها الآخر، أو عندما يدور الصندوق حول نفسه. وعلى الرغم من القدرات المحدودة للإنسالات فإنها تنجح أخيرا في إيصال الصندوق إلى الهدف.
وغنّي عن البيان أن هناك طرقا أكثر فاعلية يمكن للأفراد استخدامها للتعاون في أداء مثل هذا العمل. ولكن هذه المقاربة البسيطة جدا والمبنية على تقليد سلوك النمل في العمل التعاوني، تعد محاولة واعدة بتطبيقات ناجحة وغير مكلفة ولا تحتاج إلى أحجام كبيرة، يكفي للتدليل عليها أن التعاون يتم بين الإنسالات من دون حاجة إلى أن تتواصل فيما بينها.
من المقابر إلى قواعد البيانات(14)
في بعض أنواع النمل مثل النوع مِسُّور سَنْكتا Messor sancta تقوم الشغالات بتنظيف الوكر من جثث النمل الميت أولاً بأول وتجميعها في أكوام. والشكل في اليسار يبين “دينامية الدفن”. فإذا كانت الجثث تتوزّع في بداية التجربة عشوائيا، فإن الشغالات ستصنع منها أكواما في ساعات قليلة.
لقد اقترح < L-J. دينوبورگ> وزملاؤه [من الجامعة الحرة في بروكسل] تفسيرا بسيطا لهذه الظاهرة على النحو التالي: تتنامى المجموعات الصغيرة للأشياء عن طريق اجتذاب الشغالات لإلقاء المزيد من الأشياء. وتؤدي هذه التغذية المرتدة (التلقيم الراجع) feedback الإيجابية إلى تشكيل رزم أكبر حجما. ولكن العلماء مازالوا يجهلون التفاصيل الدقيقة للسلوك الفردي الذي يحقق آلية التغذية المرتدة.
وبطريقة مماثلة، يمكن تفسير ظاهرة سلوكية أخرى لدى النمل المعروف باسم لپتوثوراكس يونيفشياتس الإنكليزي الذي تقوم شغالاته بفرز صغار المستعمرة بشكل منهجي، إذ يوضع البيض واليرقات الحديثة الفقس في المركز، في حين توضع كبرى اليرقات على الحواف؛ أما الخادرات (العذارى) pupae فتوضع في المنطقة الوسطى. وأحد تفسيرات هذا العمل السلوكي هو أن النمل يلتقط الأشياء أو يسقطها تبعا لعدد الأشياء المشابهة المحيطة به. فمثلاً، إذا عثرت النملة على يرقة كبيرة محاطة بالبيوض، فإنها على الأرجح سوف تلتقط تلك اليرقة لكونها غير مطابقة لما حولها. وربما تُلقي بحمولتها هذه في منطقة تحتوي على يرقات كبيرة مثلها.
وعن طريق دراسة مثل عملية فرز الصغار هذه، أوجد < E. لومر> [من الكلية الجامعية بلندن] و< B .فاييتا> [من معهد أبحاث پالوألتو في كاليفورنيا] طريقة لاستكشاف قاعدة بيانات كبيرة. فمثلاً، تخيل أن أحد المصارف (البنوك) يريد أن يعرف أيا من زبائنه يرجَّح أن يسدد قرضا، وتكمن مشكلة في أن عددا كبيرا من الزبائن لم يسبق لأحد منهم أن اقترض نقودا من أية مؤسسة مالية.
ولكن المصرف يمتلك قاعدة بيانات كبيرة عن صفات الزبائن مثل: العمر والجنس والوضع العائلي ومستوى السكن والخدمات المصرفية التي يستخدمها الزبون وما إلى ذلك. فلو أن لدى المصرف طريقة لمشاهدة أكداس الناس ذوي الصفات المشابهة وتوليفها في مجاميع، لأمكن للموظف المختص بمنح القروض أن يتنبأ بدرجة أكثر دقة بما إذا كان شخص معين سيقوم بسداد القرض. فمثلاً لو أن طالب قرض معينا كان ينتمي إلى مجموعة يغلب على أفرادها عدم السداد، فإن هذا الشخص لن يُرْتجى خيرا في إقراضه.
ولما كانت مشاهدة التجمعات في بُعْدَيْن أفضل عموما منها في أكثر من بعدين (بسبب صعوبة تفسير البيانات)، قام لومر وفاييتا بتمثيل كل زبون بنقطة على لوحة مسطحة، بحيث يشبه كل من الزبائن فردا من حَضْنَة (مجموعة صغار) نمل. ويستطيع نمل البرمجية تحريك الزبائن على اللوحة بالتقاطهم ثم وضعهم في الأمكنة المناسبة وسط أشباههم. وبذلك فإن المسافة بين زبونين تكون مؤشرا إلى درجة الشبه بينهما. فمثلاً، لو أخذنا صفة العمر، فإن المسافات القصيرة تمثل فروقا عمرية أقل. ويتخذ النمل الصنعي قراراته بشأن الفرز (التصنيف) عبر أخذ جميع الخصائص المميزة للزبائن بالاعتبار في وقت واحد. كما يمكن للبرمجية إعطاء بعض الخصائص وزنا أكبر من البعض الآخر بما يتفق مع أهداف المصرف.
ومن خلال هذا النوع من التحليل، قد يضم أحد التجمعات أناسا غير متزوجين تتراوح أعمارهم حول العشرين عاما يعيش معظمهم مع الأبوين وتتمثل الخدمات المصرفية التي يبغونها عادة في حسابات جارية تدر فائدة، في حين يمكن أن يضم تجمع آخر إناثا متزوجات أو أرامل يملكن بيوتا غير مرهونة وتقارب أعمارهن 57 عاما. وبالطبع هناك مصارف وشركات تأمين استخدمت بالفعل أنماطا مشابهة من تحليل المجموعات. ولكن استخدام المقاربات المبنية على سلوك النمل يُمكِّن من قراءة البيانات بسهولة ويمتاز بسمة مثيرة: فعدد المجموعات يتبدى تلقائيا من البيانات، في حين تفترض الطرائق المعهودة في العادة عددًا مسبق التحديد من المجموعات التي توضع فيها البيانات لاحقا. وهكذا ثبتت فاعلية “الطريقة النملية للفرز” في اكتشاف تجميعات مهمة كان من الممكن أن تظل خفية لو لم تطبق هذه الطريقة المستحدثة في الفرز.
تقوم شغالات النمل بتكديس جثث موتى المستعمرة تمهيدا لتنظيف وكرها. وفي بداية هذه التجربة (الإطار العلوي) وضع في الوكر نحو ألف وخمسمئة جثة بشكل عشوائي. وبعد ست وعشرين ساعة شكلت الشغالات ثلاثة أكوام (الإطار السفلي)، وهذا العمل السلوكي وكذلك أسلوب النمل في فرز (تصنيف) يرقاته أفضى إلى تصميم نمط جديد من برمجة حاسوبية لتحليل البيانات المصرفية. |
منهمك كنحلة(15)
في مستعمرة نحل العسل تتخصص الأفراد في أعمال معينة حسب أعمارها. فالامتيار(16) foraging مثلاً يتعهده النحل المتقدم في العمر. ولكن هذا التخصص في المهام ليس صارما، فعندما يشح الغذاء يقوم أيضا النحل الأصغر عمرا بهذه المهمة.
وباستخدام مثل هذا النظام البيولوجي نموذجا، قمنا بالتعاون مع < M. كامپوس> [من جامعة نورث وسترن] بتصميم تقانة تُدْرِج مقصورات (أكشاكا) للطلاء في مصنع للشاحنات. ففي هذا المرفق يجب على المقصورات أن تطلي الشاحنات الخارجة من خط التجميع بحيث تتخصص كل مقصورة بلون واحد، وفي هذا تشبه المقصورة نحلة صنعية. وتستطيع المقصورات أن تغير اللون الخاص بكل منها عند الضرورة، ولكن القيام بذلك أمر مكلف ويستغرق الكثير من الوقت.
ولما كان العلماء بحاجة إلى فهم دقيق للكيفية التي يُنَظم بها النحل توزيع العمل فيما بينه، فقد طرحنا الفرضية التالية: إن كل فرد يؤدي العمل الذي تخصص فيه ما لم يستشعر حاجة ماسة إلى أداء مهمة أخرى، وهكذا فإن المقصورة المتخصصة باللون الأحمر ستواصل تنفيذ التعليمات الخاصة بهذا اللون ما لم تتطلب مهمة عاجلة طلاء شاحنة باللون الأبيض في وقت يشتد ضغط العمل على مقصورات الطلاء الأخرى، ولا سيما المقصورات المتخصصة باللون الأبيض.
وعلى الرغم من أن هذه القاعدة الأساسية تبدو مفرطة في البساطة، فإنها من الناحية العملية فعالة جدا. وفي الحقيقة، إن منظومة شبيهة بمنظومة النحل ستتمكن مقصورات الطلاء من تحديد جداول عملها الخاصة بكفاءة عالية تفوق ما يمكن أن يقدمه حاسوب مركزي، ولا سيما في حالة تغيرات اللون القليلة. وتعد هذه الطريقة ملائمة للاستجابة لتغيرات طلبات المستهلكين. فإذا ما ارتفع عدد الشاحنات المطلوب طلاؤها باللون الأزرق بشكل غير متوقع، فإن المقصورات الأخرى يمكن أن تتخلى بسرعة عن الألوان التي تخصصت فيها وأن تتحول إلى الطلاء باللون الأزرق. وأكثر من ذلك، إذا ما تعطلت إحدى مقصورات الطلاء، سرعان ما تُبادر مقصورات أخرى إلى القيام بالعبء الإضافي الذي يترتب على ذلك.
تؤدي شغالات من نحل العسل (الشكل العلوي) مهام مبنية على احتياجات الخلية، ويعكف العلماء حاليا على دراسة الطريقة التي يتم بها التكليف بهذه المهام أملاً في استنباط طرق أفضل لبرمجة المعدات في مصنع مُؤَتْمَت automated factory (الصورة السفلى). |
المؤلفان
Eric Bonabeau – Guy Théraulaz
يدرسان سلوكيات الحشرات الاجتماعية وتطبيقاتها في مجال تصميم المنظومات المعقدة. بونابو هو كبير العلماء في يوروبيوس EuroBios بباريس. وقد حصل على الدكتوراه في الفيزياء النظرية وعلى درجات متقدمة في علوم الحاسوب والرياضيات التطبيقية من جامعة پاريس السادسة. أما تيرولاز فهو باحث مشارك في مختبر سلوك الحيوان وعلم النفس الحيواني التابع لجامعة پول ساباتيه في تولوز بفرنسا، وقد حصل على الدكتوراه في العلوم العصبية وعلم السلوك من جامعة پروڤينس بروڤانس بفرنسا.
مراجع للاستزادة
SWARM INTELLIGENCE: FROM NATURAL TO ARTI FICIAL SYSTEMS. Eric Bonabeau, Marco Dorigo and Guy Theraulaz. Oxford University Press 1999.
For more information on ant-based optimiza tion, see iridia.ulb.ac.be/dorigo/ACO/ACO.htm on the World Wide Web.
Scientific American, March 2000
Swarm Smarts(*)
(1) امتيار foraging: الخروج طلبا للميرة (للغذاء)، وبحثا عن مصادرها.
(2) ج: إنسالة robot وهي نحت من إنسالي-آلي. (التحرير)
(3) software ants
(4) سلوك الحشرات في البحث عن غذاء
(5) mediocre
(6) the traveling salesman problem
(7) أي إيجاد طريق قصيرة ولكنها قد لا تكون الأقصر.
(8) optimal
(9) in tandem الواحد خلف الآخر في سطر واحد.
(10)A Swarm of Applications
(11) chips
(12) Traveling Sales Ants
(13)Cooperative Transport in Ants and Robots
(14) From Cemeteries to Databases
(15) Busy as a bee (التحرير)
(16) أي استكشاف مصادر الغذاء وجلبه إلى الخلية.