لو أن أجسام البشر صُممت للبقاء(*)
ربما كنا سنبدو مختلفين كثيرا (من الداخل ومن الخارج)
لو أن التطور صمّم الجسم البشري كي يحقق الأداء السلس،
ليس فقط في مرحلة الشباب وإنما لمدة قرن أو أكثر.
<S. جاي أولشانسكي> ـ <A .B. كارنس> ـ <N .R. بتلر>
مع تقدم السن يصاب جسم الإنسان بالعديد من التغيرات المرضية، أكثرها شيوعا انفتاق الأقراص بين الفقرات، وهشاشة العظام(1)، وكسور الورك، وتمزقات الأربطة، وظهور الدوالي، والإصابة بالساد cataract 2 ، وفقدان السمع، والإصابة بالفتوق، والبواسير، وغيرها من التغيرات المرضية التي أصبحت تواجهنا حالما تتقدم بنا السن. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تتداعى أجسامنا عندما نصل إلى ما يفترض أن يكون ريعان الشباب؟
تصاب تلك الآلات الحية living machines، التي نسميها أجسامنا، بالتدهور الصحي لأنها لم تخلق إلا لتعيش فترة محددة، في الوقت الذي نسعى إلى أن ندفعها للاستمرار بالأداء أطول كثيرا من مدة صلاحيتها. فمع أن جسم الإنسان جميل ويستحق الدهشة والإعجاب من الناحية الفنية، فإنه من وجهة نظر المهندسين عبارة عن شبكة معقدة من العظام والعضلات والأوتار والصمامات والمفاصل غير المعصومة من الخطأ والتي يمكن تشبيهها بالبكرات والمضخات والرافعات والمفصلات الموجودة في الآلات. وعندما نتجاوز سن الإنجاب تبدأ مفاصلنا ـ وغيرها من البنى التشريحية ـ بإظهار عيوبها، وذلك بعد أن أدت وظيفتها على أكمل وجه خلال مرحلة الشباب. وبمعنى آخر تصاب هذه البنى بالبِلَى التدريجي، أو تسهم بصورة أخرى في حدوث جميع المشكلات الصحية التي تصبح شائعة مع التقدم في السن.
من وجهة نظر المفهوم التطوري فإن أجسامنا تحتوي على عيوب، لأن قانون الانتقاء (الاصطفاء/الانتخاب) الطبيعي ـ وهو القوة التي تصوغ سماتنا المحددة وراثيا ـ لا يستهدف الكمال أو الحياة الأبدية المليئة بالصحة. فإذا كان تصميم بنية الجسد يسمح للفرد أن يعيش إلى أن ينجب (إضافة إلى تنشئة الصغار لدى الإنسان ولدى الكثير من الكائنات الحية)، فإن هذا التصميم سوف يتم اصطفاؤه . وبمعنى آخر، إن الأفراد الذين يمتلكون القدرة الكافية للإنجاب هم الذين سيتمكنون من نقل جيناتهم (مورثاتهم) ـ ومن ثم شكل أجسامهم ـ إلى الجيل اللاحق، في حين أن تصاميم الأجسام التي تعوق بُقْيا الشباب سيتم التخلص منها (انتقاء مضاد)، وذلك لأن أكثر هؤلاء الأفراد سيموتون قبل أن يتمكنوا من إنجاب ذرية. والأمر الأكثر أهمية، أن التغيرات المرضية التشريحية والفيزيولوجية الشديدة التي تسبب الإعاقة بعد سن الإنجاب يمكنها أن تنتشر في الأجيال اللاحقة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت بنية الجسم مصممة بحيث إنها ستصاب بالانهيار التام في سن الخمسين، وذلك من دون التدخل في قدرته على الإنجاب المبكر، فإن هذا النوع من التصميم سينقل إلى الأجيال اللاحقة، وذلك على الرغم من العواقب الوخيمة التي ستحدث في أواخر سني الحياة.
ولو كنا صُممنا للتشغيل المديد، لقلت العيوب القادرة على أن تسبب لنا البؤس من الناحية الصحية في أواخر حياتنا. ولكن الملاحظ هو أن قانون التطور يعمل بصورة مخالفة؛ أي إنه بدلا من ذلك يَخْصِف الصفات الجديدة ويرقعها مع تلك الموجودة أصلا بصورة تفتقر إلى البراعة.
فوضعية القامة المنتصبة عند الإنسان أمر وثيق الصلة بهذا الموضوع. فهي وضعية تكيفية تطورت من تصميم للجسم كان يقضي بأن تمشي جميع الثدييات على أربع. ولا شك في أن هذه العملية التعديلية ساعدت أسلافنا من أشباه الإنسان: فالوقوف على أقدامنا مكننا من استخدام الأدوات وطور قدراتنا الذهنية. ومنذئذ، تكيف عمودنا الفقري إلى حد ما كي يلائم هذا التغير غير المواتي، فأصبحت الفقرات السفلية أكبر حجما، وذلك لتتناسب وحجم الضغوط العمودية المطبقة عليها، وكذلك اكتسب عمودنا الفقري بعض الانحناء ليحمينا من السقوط. ولكن تلك التعديلات لم تتفاد مجموعة من المشكلات التي نجمت عن وضعية وقوفنا على قدمين.
دعنا نتخيل(3)
بدأنا مؤخرا ـ نحن الثلاثة ـ نتصور كيف يمكن لجسم الإنسان أن يبدو فيما لو أنه صُمِّم لكي يعيش بصحة جيدة ولفترة طويلة من الزمن؟ فالتنقيحات التي أدخلناها على الصفات التشريحية لجسم الإنسان والتي أوردناها في الصفحات التالية خيالية وغير كاملة. ومع ذلك فما أوردناه هو لجلب الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي أن الشيخوخة كثيرا ما توصف بأنها مرض يمكن أن نعكس سيره أو أن نتجنبه. في الحقيقة، إن متعهدي الترويج لعقاقير المحافظة على الشباب يريدوننا أن نعتقد أن المشكلات الصحية المترافقة مع الشيخوخة ناجمة بشكل رئيسي عن ممارساتنا الخطأ في سلوك بعض الأنماط الحياتية السيئة. فمن المؤكد أن أي إنسان معتوه يمكن أن يكون السبب في تقصير عمره (أو عمرها). ولكن ليس من الإنصاف أن نلوم أشخاصا لأنهم يعانون مشكلات صحية نتيجة لتوارثهم أجساما تفتقر إلى نظام محكم للصيانة والإصلاح ولم تُصمم لحياة مديدة أو لصحة أبدية. ويمكن باختصار القول إنه حتى لو توصلنا بطريقة سحرية إلى تعرف نموذج الحياة المثالية وطبقناه، فإننا سنظل نعاني البِلَى بمرور الزمن.
من هذا كله نخلص إلى حقيقة أن الشيخوخة، وما يرافقها من اضطرابات، ليست أمرا غير طبيعي وليست أمرا يمكن تجنبه. فحتى الآن لا يوجد اختراع بسيط يمكن من خلاله منع حدوث العيوب التي لا تحصى والتي تسري في بنيتنا التشريحية وتنكشف مع مرور الزمن. ومع كل ذلك فنحن متفائلون في أن علم الطب الحيوي biomedical science 44 سيكون قادرا على التخفيف من آثار بعض هذه الأمراض التي تنتج من الشيخوخة. فالباحثون يعملون حثيثا لتعرف آلاف الجينات المسؤولة عن تلك الأمراض في جسم الإنسان مع تحديد وظائفها، إضافة إلى تطوير بعض الأدوية للتحكم فيها، فضلا عن تعرف كيفية تسخير وتعزيز القدرات غير العادية لأجسامنا على الإصلاح والموجودة أصلا داخله. إن التقدم الكبير في هذا المجال سوف يساعدنا في نهاية الأمر على التغلب على بعض عيوب التصميم الموجودة في أجسامنا جميعا.
امش هكذا(**)
هناك عدد من الأمراض المنهكة أو حتى المميتة، التي تظهر مع التقدم في السن، تنجم ـ جزئيا ـ عن مشي الإنسان على قدميه. ومن السخرية أن تلك المشية هي التي كانت السبب في ازدهار الجنس البشري؛ إذ إن كل خطوة نخطوها تولد ضغطا شديدا على القدمين والكاحلين والركبتين والظهر، وهي البنى التشريحية التي تحمل وزن الجسم الذي يعلوها. ففي كل يوم تتحمل الأقراص في أسفل الظهر ضغطا يعادل عدة أطنان لكل بوصة مربعة واحدة. فعلى مدى العمر كله تستوفي جميع هذه الضغوط المتكررة ضريبتها، مثلما يفعل الاستخدام المتكرر لمفاصلنا والشد المستمر الذي تمارسه الثقالة (الجاذبية الأرضية) على نسجنا.
ومع أن الثقالة تشدنا إلى الأسفل، فنحن نمتلك بعض الصفات التي تقاوم آثار مثل هذا الشد المستمر. فمثلا، يساعد وجود الشبكة المعقدة من الأربطة على تثبيت أعضائنا بالعمود الفقري، مما يمنعها من التدلي والارتخاء وأن يسحق أحدها الآخر.
ولكن تلك التعديلات التشريحية ـ كما هي الحال في الجسم بصفة عامة ـ لم تصمم قط للعمل إلى الأبد. فلو كان الهدف الشامل للتطور هو أن يعيش الإنسان طويلا وفي صحة جيدة لأدخلت ترتيبات مثل تلك التي تصورناها في الشكل أدناه لتصبح شيئا مألوفا.
عيوب
|
إصلاحات
تصميم الرأس(***)
تتعرض مختلف الأجزاء الكائنة في الرأس والرقبة لعدة مشكلات متكررة مع التقدم في السن. فإذا نظرنا للعين، فإن العين البشرية هي معجزة في التطور، إلا أن تركيبها المعقد يتيح فرصا عديدة لحدوث المشكلات على امتداد سنوات العمر الطويلة.
فإبصارنا يتضاءل كلما صار السائل القَرْني الذي يقوم بدور الحماية للعين أقل شفافية مع مرور الزمن. وكذلك تصاب العضلات المسيطرة على فتحة القزحية وتبئير العدسة بالضمور ونقص الاستجابة، كما تصبح العدسة أكثر سماكة واصفرارا. وهذا كله يقلل من حدة الإبصار والقدرة على تمييز الألوان. إضافة إلى ذلك، يمكن للشبكية ـ المسؤولة عن نقل الصور إلى الدماغ ـ أن تصاب بالانفصال(5) بسهولة في الجزء الخلفي للعين مؤدية إلى حدوث العمى.
وكثيرا ما يصعب تجنب مثل تلك العيوب عند التصميم، إلا أنه لوحظ أن عين الحبّار squidمثلا تحتوي على صفات تشريحية تقلل من إمكانية حدوث انفصال الشبكية. كذلك بالنسبة إلى حاسة السمع، فإن إحداث بعض التعديلات التشريحية قد يحفظ على المسنين سمعهم.
إن تصميما ـ دون الحد الأمثل ـ لأعلى الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي يضيف خطرا آخر على حياة المسنين، يتمثل في حدوث الغصة (الاختناق) choking 66 . إن تعديلا بسيطا كان يمكن أن يصحح الأمر، ولو أنه قد يسبب خسائر كبيرة بالمقابل.
|
استدع السمكري (السباك)(****)
عندما ينظر سمكري (سباك) خبير إلى تشريح الپروستاته (الموثة)(7) عند الرجل، فقد يتساءل عن السبب وراء هذا الترتيب، إذ إن الإحليل، وهو الأنبوب الذي يبدأ من المثانة، يمر بشكل مستقيم ضمن غدة الپروستاته. فهذا الترتيب قد ينطوي على فوائد غير معروفة حتى الآن، إلا أنه يسبب ـ في نهاية الأمر ـ العديد من المشكلات عند الكثير من الرجال بما فيها ضعف تدفق البول مع الشعور المتكرر بالحاجة إلى التبول.
وكذلك تتعايش المرأة مع مشكلات السمكرة (السباكة) مع التقدم في السن، ولا سيما مشكلة سلس البول. وربما تجنب الجنسان كلاهما الكثير من المتاعب لو أن التطور أدخل بعض التعديلات البسيطة في التصميم التشريحي.
|
المؤلفون
S. J. Olshansky – B. A. Carnes – R. N. Butler
جميعهم لهم اهتمام كبير بالسيرورات التي تشكل الأساس للشيخوخة. أولشانسكي أستاذ في مدرسة الصحة العامة في جامعة إلينوي بشيكاگو. وهو، مع كارنس، عالمان باحثان في المركز القومي لبحوث الرأي ومركز بحوث الشيخوخة التابع لجامعة شيكاگو، ويتعاونان على إنجاز دراسات (يمولها المعهد القومي لبحوث الشيخوخة (NIA) والوكالة ناسا) عن المظاهر الديموغرافية الحيوية للشيخوخة (تحري الأسباب البيولوجية الكامنة وراء أنماط الأمراض والوفيات المرتبطة بالشيخوخة في المجموعات السكانية). وكذلك شاركا في تأليف كتاب: السعي نحو الخلود: العلم في تخوم الشيخوخة (.W .W نورتون، 2001). أما بتلر فهو رئيس المركز الدولي لإطالة الحياة في مدينة نيويورك، وكذلك كان المدير المؤسس للمعهد القومي لبحوث الشيخوخة NIA.
مراجع للاستزادة
ON GROWTH AND FORM. D’Arcy Wentworth Thompson. Expanded edition, 1942. (Reprinted by Dover Publications, 1992.)
THE PANDA’S THUMB: MORE REFLECTIONS IN NATURAL HISTORY. Stephen Jay Gould. W. W. Norton, 1980.
THE BLIND WATCHMAKER: WHY THE EVIDENCE OF EVOLUTION REVEALS A UNIVERSE WiTHOUT DESIGN. Richard Dawkins. W. W. Norton, 1986.
THE SCARS OF EVOLUTION: WHAT OUR BODIES TELL US ABOUT HUMAN ORIGINS. Elaine Morgan. Souvenir Press, 1990. (Reprinted by Oxford University Press, 1994.)
WHY WE GET SICK: THE NEW SCIENCE OF DARWINIAN MEDICINE. Randolph M. Nesse and George C. Williams. Random House, 1994.
The Olshansky and Carnes Web site is www.thequestforimmortality.com
The International Longevity Center Web site is www.ilcusa.org
Scientific American, March 2001
(*) If Humans Were Built to Last
(**) Walk this Way
(***) Plan a Head
(****)Call a Plumber
(1) يعرف أيضا باسم Osteoporosis (تثقب العظام)، وهو نقصان في النسيج العظمي، مما يؤهب لحدوث الكسور لدى أقل رض.
(2) مرض يصيب العين، يتصف بزيادة كثافة العدسة، مما يعيق الرؤية. أكثر ما يشاهد عند المسنين، ويعالج باستئصال العدسة.
(3) What If?
(4) أحد فروع الطب الحديثة نسبيا ويعنى بشكل رئيسي بدراسة الجينات (المورثات) ودورها في حدوث الأمراض. (التحرير)
(5) انفصال الشبكية retinal detachment: مرض عيني خطير، إذا لم يعالج بسرعة أدى إلى العمى.
(6) ويعني دخول الطعام أو الشراب إلى مجرى الهواء (الرغامى) بدلا من مجرى الطعام (المريء). (التحرير)
(7) تتوضع غدة الپروستاته حول الإحليل عند مخرج المثانة، وتتضخم عند المسنين لتُسبب عسرة التبول. (التحرير)