نُدوب لا تشفى: التأثيرات البيولوجية
العصبية الناجمة عن سوء معاملة الطفل(*)
قد يكون لسوء المعاملة في عمر مبكر تأثيرات
سلبية طويلة الأمد في تنامي دماغ الطفل ووظائفه.
<H .M. تايشر>
في عام 1994 أُصيبت شرطة بوسطن بالصدمة لدى عثورها على طفل في الرابعة من عمره مصاب بسوء التغذية ومُحتجز داخل شقة قذرة في «روكسبوري»، حيث كان يعيش في ظروف بائسة إلى حد مخيف. والأسوأ من ذلك أن يدي الصبي الصغيرتين كانتا مصابتين بحروق رهيبة. وقد تبين أن أمه المسرفة في تعاطي المخدرات كانت قد وضعت يدي طفلها تحت صنبور ماء يغلي عقوبة له على أكله طعام عشيقها مخالفا بذلك تعليماتها له بعدم فعل ذلك، ولم يتلق هذا الصبي المتألم أية رعاية طبية على الإطلاق. وسرعان ما تصدرت هذه القصة المؤلمة عناوين الصحف العامة وأفضت إلى وضع الصبي في دار للحضانة، ونُقلت إليه طعوم grafts جلدية تساعد يديه المصابتين على استعادة عملهما. ولكن، مع أن الجروح الجسدية لهذه الضحية قد عولجت، فنتائج البحث الحديثة تشير إلى أن أية أذيات تحيق بعقله المتنامي قد لا تجد السبيل إلى شفاء حقيقي على الإطلاق.
ومع كونها مثالا متطرفا، فهذه القضية الشنيعة ليست لسوء الحظ أمرا نادرا. ففي كل سنة تستقبل وكالات رعاية الأطفال في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة ملايين ادعاء بسوء معاملة الأطفال وإهمالهم، كما تَجمع الأدلة الكافية لتأييد ما ينوف على مليون واقعة.
وقد لا يدهشنا أن تكشف الأبحاث وجود صلة قوية بين سوء معاملة الأطفال جسديا وجنسيا وعاطفيا من جهة وتنامي المشكلات النفسية لديهم من جهة أخرى. ولكن في أوائل التسعينات من القرن الماضي كان اختصاصيو الصحة العقلية يعتقدون أن الصعوبات العاطفية والاجتماعية تحدث بشكل رئيسي عبر وسائل نفسانية psychological. فقد رُئي أن سوء معاملة الأطفال إما أن يشجع تنامي آليات دفاعية داخل نفسية(1) intrapsychic برهنت على أنها مُحْبِطة للذات عند البلوغ، وإما أن يوقف التنامي النفسي الاجتماعي، مخلفا في أعماق النفس «طفلا مكلوما» wounded child. وكان الباحثون يتصورون أن هذه الأذية في أساسها مشكلة برمجية يمكن حلها عن طريق العلاج، بل حتى محوها عبر الحض على «تجاوزها».
ولكن التحريات الجديدة حول عواقب سوء المعاملة المبكر، ومنها البحث الذي أجريتُه مع زملائي في مستشفى مَكْلين بماساتشوستس وفي كلية طب جامعة هارڤارد، يبدو أنها تروي قصة مختلفة. فبما أن سوء معاملة الأطفال يحدث خلال الزمن التكويني الحرج الذي يُجرى فيه النحت الفيزيائي physical sculpture للدماغ بفعل الخبرة experience، فإن وقع الكرب stress الشديد يمكن أن يترك بصمة يصعب محوها على بنيته وعمله. ويبدو أن سوء معاملة من هذا القبيل يولِّد شلالا cascade من تأثيرات جزيئية وبيوعصبية neurobiological تغير التنامي العصبي بشكل لاعكوس.
شخصيات متطرفة(**)
يمكن أن تتكشّف تبعات سوء معاملة الأطفال في أية مرحلة عمرية بأساليب متنوعة. فقد تظهر داخليا على شكل اكتئاب أو قلق أو أفكار انتحارية أو كرب بَعْدي(2) posttraumatic stress. ويمكن كذلك أن تفصح عن نفسها خارجيا على شكل عدوان أو تهور أو جنوح أو فرط نشاط أو سَرَفٍ مادي substance abuse. ويعد اضطراب الشخصية الحدّي borderline personality disorder واحدا من أكثر الحالات الطبية النفسية المربكة التي ترتبط ارتباطا شديدا بسوء المعاملة المبكر. فالمرء المصاب بهذا الخلل الوظيفي يكون من طبعه أن يرى الآخرين «بمنظور الأبيض والأسود» واضعا الشخص في منزلة رفيعة بداية، ثم يشهِّر به إذا أحس منه شيئا من الاستخفاف أو الغدر. وكذلك يكون المصابون به عرضة لانفجارات غاضبة عنيفة ولوقائع عابرة من الزّوَر (الپارانويا) أو الذُّهان psychosis. ويكون لهؤلاء عادة تاريخ من العلاقات العميقة غير المستقرة، ويشعرون بالخواء أو الارتياب في هوياتهم، ويحاولون الإفلات عموما عبر السرف المادي، كما تتملكهم نزعات من إيذاء النفس أو الانتحار.
لدى معالجتي ثلاثة مرضى باضطراب الشخصية الحدّي عام 1984، بدأت أشتبه في أنّ تعرّضهم المبكر لأشكال مختلفة من سوء المعاملة قد غير تنامي منظوماتهم (جُمَلِهم) الحُوْفِيّة limbic systems. والمنظومة الحوفية هي مجموعة نوى دماغية (مراكز عصبية) مترابطة معا، تؤدي دورا محوريا في تنظيم العاطفة emotion والذاكرة. ويُعد الحُصَيْن hippocampus واللوزة المخية amygdala الواقعان تحت القشرة المخية في الفص الصدغي منطقتين حوفيتين بالغتي الأهمية (انظر الشكل في الصفحة المقابلة). فالحصين، بحسب ما يُعتقد، مهم في سيرورتَيْ تكوين ذاكرتي الكلام والعاطفة واستردادهما، في حين تقوم اللوزة المخية بإكساب الذاكرة محتوى انفعاليا، مثل المشاعر المرتبطة بإشْراط الخوف fear conditioning والاستجابات العدائية.
في كل عام يتلقى المسؤولون في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة
ملايين ادعاء بسوء معاملة الأطفال وإهمالهم.
لقد تساءلتُ مع <Y. إيتو> و<A .C. گلود> [زميليّ في مستشفى مكلين] إن كان سوء معاملة الأطفال يمكن أن يعطل النضج السليم لهذه المناطق الدماغية. فهل يمكن أن يسبب سوء المعاملة المبكر تنبيه اللوزة المخية على نحو يثير فيها حالة من الاهتياج الكهربائي الزائد، أو أن يُتلف الحصين المتنامي عبر تعريضه المفرط لهرمونات الكرب؟ وأكثر من ذلك، فكرنا أن أذية الحصين أو فرط استثارة اللوزة المخية يمكن أن يسببا أعراضا شبيهة بالأعراض التي تنتاب مرضى صَرَع الفص الصدغي temporal lobe epilepsy (TLE) الذي يعطل أحيانا وظائف هاتين النواتين الدماغيتين. ونذكر هنا أن مرضى صرع الفص الصدغي يظلون على وعيهم في أثناء نوباته فيما يعانون طيفا من أعراض حركية نفسية تنجم عن العَصْفات storms الكهربائية داخل هاتين المنطقتين. أما التأثيرات المرافقة فإنها تتضمن هجمات مفاجئة للنّخْز tingling أو التّنَمّل numbness أو الدوارvertigo. كما تتضمن تظاهرات مرتبطة بالتحريك، مثل التحديق أو النفضانtwitching اللاإرادي؛ وكذلك أعراضا مرتبطة بالجهاز العصبي الذاتي (المستقل) مثل التّوَرّد flushing أو الغثيان أو «وَهْدَة البطن» pit in the stomach التي تنتاب المرء في حال صعود المصعد بسرعة. وكذلك قد يسبب صرع الفص الصدغي هلوسات أو توهمات في أي من الحواس الخمس. فعلى سبيل المثال، ليس مستغربا أن يشعر المريض بتشوهات distortions في حجوم الأشياء أو أشكالها. وكذلك تشيع مشاعر رؤية مشاهد سابقة لم يروْها وإحساسات بانفكاك العقل عن الجسد.
تبصر في سوء معاملة الطفل/ نظرة مُجْمَلَة(***)
حتى وقت قريب، كان علماء النفس يعتقدون أن سوء معاملة الطفل يؤدي إلى توقف التنامي الاجتماعي النفسي لديه وإلى نشوء آليات دفاعية نفسية محبِطة للذات. وقد أظهرتْ استقصاءات جديدة تعتمد تصوير الدماغ وتجارب أخرى غيرها أن سوء معاملة الطفل يمكن أن يسبب تلفا دائما في البنية العصبية والأداء الوظيفي للدماغ المتنامي نفسه.
وتوحي هذه النتيجة الكئيبة بوجوب القيام بالمزيد من الجهود للحيلولة دون معاملة الأطفال معاملة سيئة قد تترك أذيات لاعكوسة لدى ملايين الضحايا الصغار. ويمكن كذلك أن يُشار إلى مقاربات جديدة للمعالجة. |
تغيرات دماغية بسبب
سوء المعاملة(****)
ولاكتشاف العلاقة بين سوء المعاملة المبكر واختلال عمل المنظومة الحُوْفية قمت في عام 1984 بوضع قائمة أسئلة تقيس عدد المرات التي ينتاب المريض فيها الشعور بأعراض صرع الفص الصدغي. وفي عام 1993 أوردت ومساعديّ نتائج مستقاة من 253 فردا بالغا جاؤوا إلى العيادة الخارجية للصحة العقلية لغرض تقييم حالتهم النفسية. وقد ذكر أكثر من نصفهم بقليل أنهم تعرضوا لمعاملة جسدية أو جنسية سيئة عندما كانوا أطفالا. ولدى مقارنتهم بالمرضى الذين أشاروا إلى عدم تعرضهم لسوء معاملة، سجلتْ نتائج قائمة القياس لدى مرضى الإساءة الجسدية (ولكن بدون إساءة جنسية) معدلا يزيد بنحو 38 في المئة، كما يزيد بنحو 49 في المئة لدى مرضى الإساءة الجنسية (ولكن بدون إساءة جسدية). أما المرضى الذين اعترفوا بتعرضهم لمعاملة سيئة جنسية وجسدية معا فقد سجلتْ نتائجهم معدلا يفوق بنحو 113 في المئة نظيره لدى المرضى الذين لم يشيروا إلى أي منهما. هذا وتكون وطأة سوء المعاملة قبل سن الثامنة عشرة أشد منها لو كانت في عمر لاحق، كما يتأثر بها الذكور والإناث سواء بسواء.
وفي عام 1994 سعى فريقنا البحثي إلى معرفة ما إذا كان سوء معاملة الأطفال الجسدي أو الجنسي أو النفسي يترافق بشذوذات في الموجات الدماغية التي تظهر على مُخَطّطات كهربائية الدماغ (EEG)، الأمر الذي من شأنه أن يقدم مقياسا للانفعالية الحُوْفِيّة limbic irritability يكون أكثر دقة من قائمة أسئلتنا السابقة الذكر. فلما راجعنا سجلات 1155 حالة متتالية ممن أدخلوا إلى أحد مستشفيات الطب النفسي للأطفال والمراهقين بحثا عن صلة ما، وجدنا من الناحية السريرية شذوذات مهمة في الموجات الدماغية لدى 54 في المئة من المرضى الذين يتضمن تاريخهم حالات من الأذية المبكرة، مقابل 27 في المئة فقط من المرضى الذين لم يتعرضوا لسوء معاملة. ولقد شاهدنا شذوذات في مخططات كهربائية الدماغ لدى 72 في المئة ممن ثبت تعرضهم لحالات من سوء معاملة جسدية وجنسية خطرة. وقد نشأت هذه الشذوذات في مناطق دماغية جبهية وصُدغية. ولشدة دهشتنا ارتبطت تلك الشذوذات بالنصف المخي الأيسر بشكل خاص بدلا من ارتباطها بالنصفين المخيين كليهما، بحسب ما يتوقع المرء.
وانسجمت نتائجنا مع دراسة لكهربائية الدماغ كان قد أجراها <W .R. ديڤيز> [من كلية طب جامعة ييل] وفريقه في عام 1978 على بالغين كانوا ضحايا الزنى بين المحارم incest؛ إذ وجدوا أن 77 في المئة من هؤلاء أبدوا شذوذات كهربائية دماغية، وأن 27 في المئة انتابتهم نوبات صرعية.
هذا وقد أكدت أعمال لاحقة على أيدي باحثين آخرين استخدموا تقانة التصوير بالرنين المغنطيسي magnetic resonance imaging (MRI) وجود ارتباط بين سوء المعاملة المبكر وحجم الحصين لدى البالغين. وكذلك قد تكون اللوزة المخية أصغر حجما. وفي عام 1997 أجرى <D .J. برمنر> [وكان حينذاك في كلية طب جامعة ييل] وزملاؤه مقارنة بين صور مرنانية لسبعة عشر بالغا تعرضوا لسوء معاملة جسدية أو جنسية في مرحلة الطفولة كانوا قد أصيبوا جميعا باضطراب كربي بَعْدي posttraumatic stress disorder (PTSD)، وبين سبعة عشر فردا سليما يماثلونهم في العمر والجنس والعِرق واليَدَوية handedness وعدد سنوات التعليم وسنوات الإفراط في تعاطي الكحول، فوجدوا أن الحصين الأيسر لدى مرضى سوء المعاملة ذوي الاضطراب الكربي البعدي كان، في المتوسط، أصغر حجما بمقدار 12 في المئة منه لدى الأفراد الأصحاء في العينة الضابطة (الشاهدة)، في حين بقي الحصين الأيمن بحجمه الطبيعي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الدور المهم الذي يؤديه الحصين في وظيفة الذاكرة، فلن يكون مستغربا أن يحرز هؤلاء المرضى كذلك درجات نجاح في اختبارات الذاكرة الكلامية تقل عن نظرائهم في المجموعة التي لم تتعرض لسوء المعاملة.
يبدو أن السلوك المضاد للمجتمع antisocial الحاصل من سوء معاملة في مرحلة الطفولة ناجم عن استثارة مفرطة للمنظومة (الجملة) الحُوْفية التي هي منطقة الدماغ المتوسط البُدائية التي تنظم الذاكرة والعاطفة. ويُعتقد أن بنيتيْن صغيرتين نسبيا تقعان عميقا في الدماغ (تسميان الحصين واللوزة المخية) تؤديان دوريْن بارزين في توليد هذا النوع من خلل التواصل بين الأشخاص interpersonal dysfunction. فالحصين مهم لتحديد طبيعة المعلومة الواردة التي سيتم اختزانها في الذاكرة الطويلة الأمد. أما اللوزة المخية فمهمتها الأساسية ترشيح وتأويل المعلومات الحسية الواردة إليها في سياق بُقيا survival الفرد وحاجاته الانفعالية، ومن ثم المساعدة على إنشاء استجابات مناسبة. |
وكذلك اكتشف <B .M. شتاين> [من جامعة كاليفورنيا في سان دييگو] عام 1997 شذوذات في الحصين الأيسر لدى 21 امرأة بالغة كن قد تعرضن لسوء معاملة جنسية في طفولتهن وأصبن بالاضطراب الكربي البَعدي أو باضطراب الهوية المتفككة dissociative identity disorder (الذي يعرف كذلك باسم اضطراب الشخصية التعددي multiple personality disorder، وهو يمثل حالة يعتقد بعض الباحثين أنها شائعة لدى اللواتي أسيئت معاملتهن). فقد توصل شتاين إلى أن حجم الحصين الأيسر لدى هؤلاء النسوة قد اختُزل إلى حد ملموس، في حين لم يتأثر الحصين الأيمن نسبيا. يضاف إلى ذلك، أنه وجد تقابلا جليا بين درجة الاختزال في حجم الحصين وبين شدة أعراض التفكك لدى أولئك المريضات. وفي عام 2001 ذكر <M. دريسن> [من مستشفى جيلياد في ألمانيا] وزملاؤه اختزالا في حجم الحصين قدره 16 في المئة واختزالا في حجم اللوزة المخية قدره 8 في المئة لدى مصابات باضطراب الشخصية الحدّي لهن تاريخ من سوء في مرحلة الطفولة.
|
يصوِّر الباحثون الأذية على أنها مشكلة بَرْمَجِية يمكن حلّها عن طريق المعالجة.
ولكن من جهة أخرى، أخفق <D .M. دو بيليس> وزملاؤه [في كلية طب جامعة پتسبرگ] في ملاحظة اختلاف مهم في الحجم حينما قاسوا بعناية (عام 19999) صورا مرنانية للحصين لدى 44 طفلا مصابا باضطراب كربي بعدي (PTSD) ممن أُسيئت معاملتهم، و61 فردا صحيحا يكوِّنون المجموعة الضابطة.
لقد توصلتُ مع <S. أندرسن> و<A. پولكاري> [زميلتيّ في مستشفى مَكْلين] إلى نتائج مشابهة في تحليلنا الحجمي volumetric analysis للحصين، الذي اكتمل مؤخرا، على 18 شابة بالغة (أعمارهن تتراوح بين 18 و22 سنة) لديهن تاريخ من سوء المعاملة الجنسية القسري المتكرر والمصحوب بخوف أو رعب مقارنة بمجموعة ضابطة تتألف من 19 شابة سليمة من الفئة السِّنِّية نفسها. وخلافا للحال في الدراسات السابقة، فإن شابات المجموعة الضابطة لم يكنّ مريضات، بل جرى اختيارهن من بين عامة الناس؛ كما لم يعانين إلا القليل من مشكلات الصحة العقلية. إننا لم نشاهد أية فروق في حجم الحصين، ولكننا ـ شأن مجموعة دريسن ـ وجدنا معدل اختزال يعادل 9.8 في المئة في حجم اللوزة المخية اليسرى ويتلازم مع مشاعر اكتئاب وانفعالية أو عِدَائية. وهنا تساءلنا عن سبب صغر الحصين لدى المفحوصات اللواتي تعرضن لسوء المعاملة في دراسات مجموعات برمنر وشتاين ودريسن مع بقائه بحجمه الطبيعي في تحريات دوبيليس وتحرياتنا نحن. ويتمثل أكثر الأجوبة احتمالا، من بين الإجابات الممكنة المتعددة، في كون الكرب يُحدث تأثيرا متدرجا جدا في الحصين، بحيث لا تظهر التأثيرات السلبية في المستوى التشريحي العياني إلا في سن متقدمة.
إضافة إلى ذلك، سبق لدراسات على الحيوانات أجراها <S .B. مكيوين> [من جامعة روكفلر] و<M .R. ساپولسكي> [من جامعة استانفورد] أن أوضحت قابلية الحصين للتأثر باجتياحات الكرب. ولا يقتصر الأمر على أن الحصين معرض لهذا نتيجة تناميه البطيء، بل إنه كذلك يؤلف واحدة من مناطق الدماغ القليلة التي تواصل إنتاج عصبونات (خلايا عصبية) جديدة بعد الولادة. يضاف إلى ذلك أن الحصين يحوي كثافة عالية من مستقبلات هرمون الكرب والشدائد المسمى كُرتيزول تفوق أية منطقة دماغية أخرى تقريبا. فالتعرض لهرمونات الكرب يمكن أن يغير بقدر ملموس شكل عصبونات الحصين الكبيرة، بل ربما يؤدي إلى قتلها. وكذلك يوقف الكرب إنتاج الخلايا الحُبَيْبِيّة الجديدة (العصبونات الصغيرة) التي يستمر في العادة تناميها بعد الولادة.
لقد أظهرت تجارب على الجرذان أجراها <Ch. كالجي> و<J .M. ميني> [من جامعة مكگيل] و<M .P. پلوتسكي> [من جامعة إموري] أن الكرب المبكر يعيد تشكيل الترتيب الجزيئي لهاتين المنطقتين. وتتمثل إحدى النتائج الرئيسية في تغيير بنية وُحَيْدات subunits پروتين المستقبلات الگاباوية GABA receptors في اللوزة المخية (انظر الشكل في الصفحة 22). فهذه المستقبلات تستجيب لحمض گاما أمينوبيوتيريك (حمض الزبدة) الذي يُعتبر الناقل العصبي المثبطinhibitory neurotransmitter الرئيسي في الدماغ والذي يُضْعف الاستثارية الكهربائية للعصبونات. وهكذا فإن تقليل الأداء الوظيفي لهذا الناقل العصبي يؤدي إلى فرط النشاط الكهربائي ويمكن أن يفجر النوبات seizures. ويقدم هذا الاكتشاف تفسيرا جزيئيا معقولا لنتائجنا حول شذوذات الموجات الكهربائية الدماغية والانفعالية الحَوْفية لدى مرضى تعرضوا لسوء المعاملة في طفولتهم.
مشكلات الجانب الأيسر(*****)
لم يكن التأثير في المنظومة الحوفية إلا التّبِعَةَ الأكثر توقعا للأذية (الرّضْح) في مرحلة الطفولة. ولكن ما أثار استغرابنا هو ما لاحظناه سابقا من أن سوء المعاملة قد يترافق بشذوذات في مخطّط كهربائية النصف المخي الأيسر. وهذا ما أوحى إلينا بفحص تأثير سوء المعاملة المبكر في تنامي النصفين المخيين الأيسر والأيمن. لقد وقع اختيارنا على استخدام ترابط تخطيط كهربائية الدماغEEG coherence، وهو طريقة تحليل كمي حذقة، توفر بيّنات على البنية الميكروية الدماغية فيما يخص تشبيكها wiring وداريّتها circuitry. فتخطيط كهربائية الدماغ المعهود يكشف عن وظيفة الدماغ، في حين يحقق ترابط التخطيط EEGمهمته عبر قياس رياضياتي لدرجة الارتباط المتبادل cross correlation بين الاتصالات العصبونية المتبادلة المعقدة في قشرة المخ، التي تُعالج إشارات الدماغ الكهربائية وتحوِّرها. وعلى العموم، تُعَدُّ المستويات العالية لترابط تخطيط كهربائية الدماغ EEG دليلا على تنام متضائل في هذه المبادلات العصبونية.
تقليل التثبيطات: يسبب الكرب تغيرات في المستقبلات ما بعد المشبكية السوية (اليسار) الخاصة بحمض گاما أمينوبيوتيريك (GABA) الذي هو الناقل العصبي المُثْبِط الرئيسي في الجهاز العصبي المركزي. فوجود هذا الحمض يخفض الاستثارية الكهربائية للعصبونات عن طريق السماح بزيادة تدفق أيونات الكلوريد (في الوسط). ويؤدي فقدان واحدة من الوُحَيْدات البنيوية الرئيسية للمستقبل الگاباوي إلى تعطيل قابليته لتخفيف النشاط العصبي (اليمين). |
استخدم فريقنا البحثي هذه التقانة عام 1997 للمقارنة بين خمسة عشر متطوعا سليما وخمسة عشر طفلا ومراهقا من مرضى العيادة الطبية النفسية مصابين بتاريخ مؤكد من سوءِ معاملةٍ شديد جنسيا أو جسديا. وقد بينت قياسات الترابط أن القشرات المخية اليسرى للأصحاء في المجموعة الضابطة كانت أكثر تناميا من القشرات المخية اليمنى، الأمر الذي يتوافق مع ما هو معروف عن البنية التشريحية للنصف المخي المُهَيْمِن: بمعنى أن الناس الأيامنright-handed تهيمن لديهم عادة القشرة المخية اليسرى. ولكن مرضى سوء المعاملة أبدوا تناميا في القشرة المخية اليمنى يفوق بشكل ملحوظ نظيره في القشرة المخية اليسرى، مع أنهم جميعا أيامن يهيمن لديهم من ثم النصف المخي الأيسر. ومع أن أنصاف الكرة المخية اليمنى لدى مرضى سوء المعاملة تساوت في تناميها مع الأنصاف المخية اليمنى لأفراد المجموعة الضابطة، فإن الأنصاف المخية اليسرى لديهم أبدت تخلفا في نموها على نحو جوهري. وقد ظهرت هذه النتيجة الشاذة بصرف النظر عن التشخيص الأولي للمريض. ومع أن هذا التأثير شمل كل أرجاء النصف المخي الأيسر، فإن المناطق الصدغية منه كانت الأكثر تأثرا. وهذا ما دعم فرضيتنا الأصلية.
يتخصص النصف المخي الأيسر في إدراك اللغة والتعبير بها، في حين يتخصص النصف المخي الأيمن في معالجة المعلومات المكانية (الحيّزية) spatialومعالجة العواطف والتعبير عنها، ولا سيما العواطف السلبية. وقد تساءلنا عما إذا كان الأطفال الذين أُسيئت معاملتهم يختزنون ذكرياتهم المزعجة في النصف المخي الأيمن، وعما إذا كان استحضار هذه الذكريات ينشط ذلك النصف المخي الأيمن على نحو تفضيلي.
ومن أجل اختبار هذه الفرضية عمل <F. شيفر> [في مختبري بمستشفى مكلين] عام 1995 على قياس نشاط النصفين المخيين لدى البالغين في أثناء استرجاعهم إحدى ذكرياتهم العادية أولا، ومن ثم في أثناء استرجاعهم ذكرى قديمة مكدرة لهم، وفي النتيجة بدا أن أولئك الذين لديهم قصص سوء معاملة يستخدمون على الأغلب النصف المخي الأيسر حينما يفكرون في ذكرياتهم العادية، في حين يستخدمون النصف المخي الأيمن حينما يستحضرون ذكريات قديمة مكدِّرة. أما أفراد المجموعة الضابطة فقد استخدموا النصفين المخيين معا بدرجة متساوية في كلتا المهمتين، مما يوحي بأن استجاباتهم كانت أكثر تكاملا بين النصفين المخيين.
ولأن البحث الذي أجراه شيفر دل على أن الأذية في مرحلة الطفولة كانت مصحوبة بتكامل يميني-يساري منقوص، قررنا أن نبحث عن قصورٍ ما في المسار الرئيسي المسؤول عن تبادل المعلومات بين النصفين المخيين والمتمثل في الجسم الثّفَني (الجاسئ) corpus callosum. ففي عام 1997 تعاونتُ وأندرسن مع<J. جيد> [من المعهد الوطني للصحة العقلية] في البحث عن التأثير المفترض. لقد وجدنا أنه في حالة الصبيان الذين أُسيئت معاملتهم أو أُهملوا كانت الأجزاء الوسطى من الجسم الثفني عندهم أصغر بكثير منها لدى المجموعات الضابطة. وأكثر من ذلك، لقد أحدث الإهمال لدى هؤلاء الصبيان تأثيرا يفوق كثيرا أي نوع آخر من سوء المعاملة. أما بالنسبة للبنات فقد كان سوء المعاملة الجنسية عاملا أشد قوة، إذ صحبه اختزال رئيسي في حجم الأجزاء الوسطى من الجسم الثفني. هذا وقد تكررت هذه النتائج وتوسعت عام 1999 على يد دو بيليس. وعلى نحو مماثل، تأكدت تأثيرات ممارسات الإساءة المبكرة في تنامي الجسم الثفني من خلال أبحاث <M .M. سانشيز> [من إموري] على الرئيسياتprimates.
ينحت الكرب الدماغَ ليبدي سلوكيات مختلفة مضادة للمجتمع مع كونها تكيفية.
أما أحدث مكتشفاتنا فإنه يستند إلى الدراسات الأصيلة للباحث <F .H.هارلو> [من جامعة ويسكونسن ـ ماديسون]. ففي الخمسينات من القرن الماضي قارن هارلو بين قردة أشرفت على تنشئتها أمهاتها وبين قردة تمت تربيتها من قبل أمهات بديلة صنعية (من قماش أو أسلاك). لقد أصبحت القردة الأخيرة عند بلوغها شاذة اجتماعيا وشديدة العدوانية. وبالتعاون مع هارلو، اكتشف <W. ماسون> [من مركز دلتا للرئيسيات في لويزيانا] أن هذه العواقب تكون أقل شدة لو جُعلت هذه الأم البديلة تتأرجح من جانب إلى آخر، مما جعل <W .J. پريسكوت> [من المعهد الوطني لصحة الطفل والتنامي البشري] يفترض أن هذه الحركة تنتقل إلى المخيخ ولا سيما جزؤه المتوسط، المسمى الدودة المُخَيْخِيّة cerebellar vermis، الواقع فوق جذع الدماغ. ومن بين الوظائف المختلفة لهذه الدودة أنها تضبط عمل نوى جذع الدماغ التي تتحكم في إنتاج وتحرير الناقلين العصبيين المعروفين باسم نورإپنفرين ودوپامين. وكما هي الحال في الحصين، فإن هذا الجزء من الدماغ يتنامى تدريجيا ويستمر في تخليق عصبوناتٍ بعد الولادة، حتى إنه يحتوي على كثافة عالية من مستقبلات هرمونات الكرب تفوق ما يحتوي عليه الحصين، وهكذا فإن التعرض لمثل هذه الهرمونات يمكن أن يؤثر في تناميه إلى حد كبير.
وذُكر مؤخرا أن شذوذات في الدودة المخيخية تصحب الاضطرابات النفسية المختلفة، بما في ذلك داء الاكتئاب الهوسي manic-depressive illness والفُصام (الشيزوفرينيا) والذاتوية (التوحد) autism وضعف الانتباه وفرط النشاطattention deficit/hyperactivity. إن هذه الأمراض تنشأ عن عوامل جينية وقبل ولادية وليس عن عوامل سببها سوء معاملة الأطفال، بيد أن حقيقة حدوث شذوذات في الدودة المخيخية في صميم العديد من الحالات النفسية، توحي بأن هذه المنطقة تؤدي دورا حاسما في الصحة العقلية.
ويمكن أن يولِّد خلل تنظيم النواقل العصبية التي تتحكم فيها الدودة (والمتمثلة في النورإپنفرين والدوپامين) أعراض اكتئاب وذُهان وفرط نشاط، كما يمكن أن يُضعف الانتباه. ونشير إلى أن تنشيط المنظومة (الجملة) الدوپامينية قد رُبط بتحول الانتباه نحو حالة لغوية verbal أكثر انحيازا إلى النصف المخي الأيسر، في حين يؤدي تنشيط المنظومة النورإپنفرينية إلى تحويل الانتباه نحو حالة عاطفية emotional أكثر انحيازا نحو اتجاه النصف المخي الأيمن. ولعل الأكثر غرابة أن تساعد الدودة المخيخية كذلك على تنظيم النشاط الكهربائي في المنظومة الحُوْفية؛ وقد يقمع التنبيه الدودي نشاط النوباتseizure activity في الحصين واللوزة المخية.
هذا وقد وجد <G .R. هيث> [في أثناء عمله بجامعة تولان في الخمسينات من القرن العشرين] أن قردة <هارلو> لديها بؤر للنوبات في نواها المخروطيةfastigial وفي الحصين. كما وجد في بحث لاحق على البشر أن تنبيه الدودة كهربائيا يقلل تواتر النوبات ويحسن الصحة العقلية لدى عدد من المصابين باضطرابات عصبية نفسانية جامحة. وقد قادتني هذه النتيجة وزملائي إلى التأمل إن كان سوء معاملة الأطفال يولِّد شذوذات في الدودة المخيخية تُسهم في الأعراض الطبية النفسانية والتهيج الحوفي والتنكّس degeneration الحصيني المتدرج.
ومن أجل الشروع في اختبار هذه الفرضية، عمل <M .C. أندرسُن> مؤخرا بالترادف معي ومع <P. رينشو> [في مركز تصوير الدماغ بمستشفى مكلين]. لقد استخدم أندرسُن طرائق القياس الارتخائي T2 T2-relaxometry، وهي تقانة تصوير وظيفي جديدة مبنية على التصوير MRI قمنا نحن بتطويرها. فلأول مرة، غدونا نستطيع رصد التدفق الدموي المخي المناطقي (النّاحي) regional cerebral blood flow وقت الراحة بدون استعمال واسمات مشعة أو أصبغة تباين ضوئي.
عندما يكون الدماغ في حالة الراحة، فإن النشاط العصبوني لمنطقة ما يضاهئ تماما كمية الدم التي تستقبلها تلك المنطقة لتكفل هذا النشاط. وقد وجد أندرسُن ترابطا قويا بين النشاط داخل الدودة المخيخية ودرجة الانفعالية الحوفية المشار إليها في قائمة أسئلتي المتعلقة بصرع الفص الصدغي TLEلدى البالغين الشباب young adults الأصحاء في المجموعة الضابطة، والبالغين الشباب الذين تعرضوا لسوء معاملة جنسية متكررة.
ولكن، في جميع مستويات مبحث الأعراض الحوفية، تناقصت كمية التدفق الدموي في الدودة المخيخية تناقصا ملموسا عند أفراد لديهم تاريخ فيه أذية. ويشير تدني التدفق الدموي إلى خلل وظيفي في نشاط الدودة. وبالمتوسط، يحرز مرضى سوء المعاملة درجات عالية في هذه القائمة، ربما لكون الدودة لديهم (على الأرجح) لا تتنشط بقدر يكفي لتخفيف المستويات العالية للانفعالية الحوفية.
وتقترح هذه الاكتشافات مجتمعة نموذجا model مثيرا يشرح إحدى الطرق التي ينشأ بها اضطراب الشخصية الحدي. فالتكامل المنقوص بين النصفين المخيين (الأيمن والأيسر) وكذلك صغر الجسم الثفني قد يؤهبان هؤلاء المرضى إلى تحول مفاجئ من حالة الهيمنة اليسرى إلى حالة الهيمنة اليمنى، مع ما ينطوي عليه ذلك من مدرَكات وذكريات عاطفية مختلفة جدا. ومثل هذه الهيمنة النصف المخية المستقطَبة قد تجعل المرء يرى أصدقاءه وأسرته ومعاونيه بطريقة إيجابية فوق العادة في إحدى الحالات وبطريقة سلبية للغاية في حالة غيرها، الأمر الذي يشكل العلامة المميِّزة لهذا الاضطراب. وإضافة إلى ذلك، فقد تولِّد الانفعالية الكهربائية الحوفية أعراض العدوان والحنق والقلق. وكذلك يشاهد في معظم الأحيان نشاط شاذ في مخطط كهربائية الدماغ EEG للفص الصدغي لدى الأشخاص ذوي الاستعداد المفرط للانتحار والسلوك المدمر للذات.
تخريب تكيفي(******)
استهل فريقنا هذا البحث بالفرضية التي تفيد بأن الكرب المبكر عامل سُمّي، يشوش المسير السوي، المتناغم بسلاسة، لتنامي الدماغ، مما يؤدي إلى مشكلات طبية نفسانية قاسية. وحاليا يقوم كل من <W .F. پوتنام> [من المركز الطبي لمستشفى الأطفال في سنسيناتي] و<D .B. پيري> [من مجلس الصحة العقلية في ألبرتا بكندا] بإيضاح الفرضية ذاتها. ولكنني أريد هنا أن أُمحص مُسلّمتنا الأولى وأعيد تقييمها. لقد تطورت الأدمغة البشرية لكي تقولب moldedبفعل الخبرة. وكانت الصعوبات المبكرة روتينية خلال تنامينا السليفي our ancestral development. فهل يُعقل أن الدماغ المتنامي لم يتطور على الإطلاق ليتصدى لما يتعرض له الإنسان من سوء معاملة، وهكذا يتخرب بطريقة لاتكيّفية؟ إن هذا الأمر يبدو أبعد ما يكون عن الاحتمال. ويتمثل البديل المنطقي لذلك في أن التعرض لكرب مبكر يولد تأثيرات جزيئية وبيولوجية عصبية تعدِّل التنامي العصبي بطريقة تكيفية من شأنها أن تُعدّ الدماغ البالغ للبُقْيا survivalوللاسترجاع في عالم خطر.
فأي الصفات أو المَقْدِرات يمكن أن تكون مفيدة للبُقْيا في الظروف القاسية للأزمنة المبكرة؟ لعل أوضحها يتمثل في القدرة على استنفار استجابة كرٍّ أو فرٍّfight or flight response قوية، والتعامل مع التحدي بلا هوادة ودونما تردد، والاتصاف بيقظة عالية تجاه الأخطار، وتوليد استجابات كرب قوية من شأنها أن تيسر الشفاء من الأذية. وبهذا المعنى نستطيع إعادة هَيْكَلَة التبدلات الدماغية التي شاهدنا حدوثها، كتكيفات تجاه بيئة مناوئة.
ومع أن هذه الحالة التكيفية تساعد الفرد المصاب على أن يجتاز اجتيازا آمنا سنوات الخصوبة (بل ربما تدعم حتى الإباحة الجنسية) التي تُعد سنوات مصيرية للنجاح التطوري، فإنها تكلف ثمنا باهظا. ومؤخرا وضع مكيوين نظرية مفادها أن التنشيط الزائد لمنظومات استجابة الكرب (وهو رد فعل قد يكون ضروريا للبقيا القصيرة الأمد) يزيد في مخاطر التعرض للبدانة والسكري من النمط الثاني (II) وفرط ضغط الدم، ويُفضي إلى حشد من المشكلات الطبية النفسية (ومنها تزايد الميل للانتحار)، ويُسرع الخُطى نحو الهرم (الشيخوخة) وتَنَكُّس البنى الدماغية (ومنها الحُصَيْن).
إننا نفترض أن الرعاية الكفؤة للأطفال وغياب الكرب الشديد المبكر يسمحان لأدمغتنا بالتنامي بطريقة أقل عدوانية وأكثر استقرارا من الناحية العاطفية، وبالتحلي بروح اجتماعية، وإحساس بالآخرين، وبالتكامل بين النصفين المخيين. وإننا نعتقد أن هذه السيرورة تعزز قدرة الحيوانات الاجتماعية على بناء وشائج تآثر معقدة بين الأفراد وتمكن البشر من تحقيق قدراتهم الإبداعية على نحو أفضل.
إن المجتمع ليحصد ما يزرع في أسلوب رعاية أطفاله. فالكرب ينحت الدماغ ليصوغ سلوكيات مضرة بالعلاقات الاجتماعية، على الرغم من كونها تكيفية. وسواء جاء الكرب على هيئة أذية جسدية أو عاطفية أو جنسية، أو عبر التعرض للحروب أو المجاعات أو الأوبئة، فإنه يفجر موجة من تغيرات هرمونية تدأب على تشبيك wiring دماغ الطفل كي يتصدى لعالَم شرير. وعبر هذه السلسلة من الأحداث ينتقل العنف وسوء المعاملة من جيل إلى جيل مثلما ينتقلان من مجتمع إلى مجتمع. واستنتاجنا الكلي هو أننا نلمس الحاجة إلى أن نفعل الكثير الكثير كي نضمن عدم تعرض الأطفال لسوء المعاملة في المقام الأول، لأنه إذا ما حدثت هذه التغيرات الدماغية الرئيسية فقد لا يكون هناك سبيل إلى إصلاحها.
المؤلف
Martin H. Teicher
أستاذ مشارك في الطب النفسي بكلية طب جامعة هارڤارد، مدير برنامج بحوث الطب النفسي الحيوي النمائي في مستشفى مَكْلين بماساتشوستس، رئيس مختبر الفارماكولوجيا النفسية النمائية في مركز بحوث ميلمان بمستشفى مكلين.
مراجع للاستزادة
Developmental Traumatology, Part 2: Brain Development. M. D. De Bellis, M. S. Keshavan, D. B. Clark, B. J. Casey, J. N. Giedd, A. M. Boring, K. Frustaci and N. D. Ryan in Biological Psychiatry, Vol. 45, No. 30, pages 1271-1284; May 15, 1999.
Wounds That Time Won’t Heal: The Neurobiology of Child Abuse. Martin H. Teicher in Cerebrum (Dana Press), Vol. 2, No. 4, pages 50-67; Fall 2000.
McLean Hospital: www.mcleanhospital.org/
Scientific American, March 2002
(*)SCARS THAT WON’T HEAL: THE NEUROBIOLOGY OF CHILD ABUSE
(**)Extreme Personalities
(***)Abuse-Driven Brain Changes
(****)Overview/ Insight into Child Abuse
(*****)Left-Side Problems
(******)Adaptive Detriment
(1) واقعة ضمن النفس.
(2) تالٍ للأذية النفسية. (التحرير)