لنمضِ قُدمًا في التنسخ
لنمضِ قُدمًا في التنسخ(*)
الطيور تفعل ذلك، وكذلك النحل، فهل بوسع الماكينات فعل ذلك؟
إن محاكيات حاسوبية جديدة تشير إلى أن الإجابة ستكون نعم.
<M. سيپر> ـ <A .J. ريجيا>
إن التفاح «ينجب» تفاحا، فهل بوسع الماكينات أن «تنجب» ماكينات؟ إن بناء مجرد ماكينة بسيطة يتطلب اليوم جهازا تصنيعيا معقدا. فهل باستطاعتنا أن نَهِب أداة صنعية المقدرة على أن تتضاعف من تلقاء نفسها؟ لطالما اعتبرنا التنسّخ الذاتي خاصية أساسية تميز الحي من اللاحي. وتاريخيا، فإن معرفتنا المحدودة بآلية حدوث التوالد البيولوجي أسبغت عليه حالة من الغموض، وأظهرته على نحو يستحيل معه بأي حال إنجازه بواسطة شيء من صنع الإنسان. يُذكر أنه عندما أكد <R. ديكارت> لملكة السويد <كريستينا> أن الحيوانات هي مجرد شكل من أشكال الأتوماتا(1) automata، أومأت جلالتها إلى ساعتها قائلة: «تدبر أمرها واجعلها تنجب.»
في أواخر الأربعينات انتقلت معضلة الماكينة الذاتية التنسخ من نطاق الفلسفة إلى حقل العلم والهندسة، نتيجة أبحاث الرياضياتي الفيزيائي البارز <J. ڤون نويمان>. وبالفعل، بنى بعض الباحثين مُنَسِّخات replicators فيزيائية. فقبل أربعين عاما، مثلا، بنى عالم الوراثيات <L. پنروز>، وابنه الفيزيائي الشهير <روجر> تجمعات صغيرة من الخشب الرقائقي playwood، أبدت شكلا بسيطا من أشكال التنسخ الذاتي(2). ولكن ثبت فيما بعد أن التنسخ الذاتي على درجة من الصعوبة، بحيث إن معظم الباحثين درسوه باستخدام أداة فكريةconceptual tool التي كان <ڤون نويمان> قد ابتدعها، وتتمثل بأتوماتا خلوية ثنائية البعد.
وإذا ما نُفذت بالحاسوب، فإن بوسع الأوتوماتا الخلوية أن تحاكي تشكيلة هائلة من المُنَسِّخات الذاتية، بما يصل إلى أن تضاهي عوالم بسيطة جدا، ذات قوانين فيزيائية تختلف عن قوانينا. لقد حررت هذه النماذج الباحثين من القلق بشأن قضايا الإمداد والتموين، مثل قضايا الطاقة والبناء الفيزيائي، فأتاحت لهم التركيز على المسائل الأساسية الخاصة بانسياب المعلومات. فكيف يستطيع الكائن الحي أن يتنسخ من دون أي عون، في حين أن الأشياء الميكانيكية لابد أن يبنيها الإنسان؟ وكيف ينبثق التنسخ الذاتي في مستوى الكائن الحي من التآثرات العديدة التي تحدث في النُّسج والخلايا والجزيئات؟ وكيف تمكن التطور الدارويني أن ينشئ كائنات ذاتية التنسخ؟
أوحت الأجوبة عن هذه التساؤلات بتطوير رقاقات السيليكون الذاتية التصليح [انظر الإطار في الصفحة 16]، والجزيئات التلقائية التحفيز [انظر: «الجزيئات الصنعية ذاتية التكرار»، مجلة العلوم، العدد 4(1995)، ص 4]. وقد تكون هذه مجرد بداية؛ فمنذ زمن طويل، اقترح الباحثون في مجال التقانة النانوية أن خاصية التنسخ الذاتي ستكون حاسمة في تصنيع ماكينات بمقاييس جزيئية. ويرى مؤيدو ارتياد الفضاء أن نسخة ماكروية (كبرية) لهذه السيرورة تعد وسيلة لاستعمار الكواكب باستعمال مواد محلية (من الكواكب نفسها). وأكد التقدم العلمي الحديث مصداقية هذه الأفكار التي تبدو مستقبلية. وكما هي الحال في فروع المعرفة العلمية الأخرى، بما في ذلك الوراثيات والطاقة النووية والكيمياء، يواجه الذين يدرسون منا التنسخ الذاتي تحديا ثنائيا: إنشاء ماكينة مُنَسِّخة، وكذلك تجنب التنبؤات الشريرة عن الأجهزة التي تفلت من عقالها. إن المعرفة التي ستتوافر لنا، ستساعدنا على التمييز بين التقانات البناءة وتلك الهدامة.
لعبة الحياة(**)
غالبا ما تصف قصص الخيال العلمي التنسخ الذاتي السيبري cybernetic(المتعلق بعلم أجهزة التحكم والاتصال) كتطور طبيعي للتقانة الحالية، بيد أن هذه القصص تحاول أن تخفف من المشكلة العميقة التي يطرحها ذلك التنسخ: كيف تتجنب حدوث انتكاس (نكوص) لانهائي. قد تحاول منظومة ما أن تنشئ نسيلة (مستنسَخا) clone باستعمالها طبعة زرقاء (المخطط الأصلي) blueprint، أي باستعمال توصيف ذاتي. ولكن التوصيف الذاتي هو جزء من الماكينة، أليس كذلك؟ وإذا كان الأمر هكذا، فما الذي سيصف التوصيف؟ وفي هذه الحالة قد يغدو التنسخ الذاتي كمن يسأل مهندسا معماريا أن يصنع طبعة زرقاء كاملة للاستديو الخاص به. وسيكون على هذه الطبعة الزرقاء أن تحوي نسخة مصغرة للطبعة الزرقاء التي تتضمن بدورها نسخة مصغرة للطبعة الزرقاء، وهكذا دواليك. ومن دون هذه المعلومات سيتعذر على طاقم البناء أن يعيد على نحو كامل إنشاء الاستديو؛ فستكون هناك مساحة خالية حيث كانت الطبعة الزرقاء.
ولقد تمثل ما لدى <ڤون نويمان> من نفاذ بصيرة هائل في إيضاحه طريقة للتخلص من الانتكاس اللانهائي. لقد أدرك أنه بالإمكان استعمال التوصيف الذاتي بطريقتين متميزتين: الأولى بصفتها التعليمات التي تؤدي ترجمتها إلى بناء نسخة مطابقة للأداة، والثانية بصفتها البيانات التي يجب نسخها من دون ترجمة، وربطها بالنسخة المبتدعة الجديدة، بحيث تمتلك هي أيضا المقدرة على التنسخ الذاتي. وباتباع هذه السيرورة ذات الخطوتين لن يكون التوصيف الذاتي بحاجة إلى أن يحوي توصيفا لذاته. وبالمشابهة مع المجال المعماري، نجد أن الطبعة الزرقاء تشتمل على مخطط لبناء ماكينة نسخ فوتوغرافيphotocopy machine. وما إن يتم بناء الاستديو الجديد وماكينة النسخ الفوتوغرافي، حتى يصور طاقم البناء ببساطة نسخة من الطبعة الزرقاء، ويضعها في الاستديو الجديد.
وتستعمل الخلايا الحية توصيفها الذاتي (الذي يسميه البيولوجيون النمط الجيني genotype) وفقا لهاتين الخطوتين بالضبط، وهما: الانتساخ (يُنسَخ الدنا من دون تفسير في معظمه ليشكل رنا مرسالا mRNA)، والترجمة (يُترجَم الرنا المرسال لبناء الپروتينات). لقد ميز <ڤون نويمان> بين هاتين الخطوتين (الانتساخ والترجمة) قبل سنوات عديدة، وذلك قبل أن يميز بينهما علماء البيولوجيا الجزيئية، وكانت أبحاثه حاسمة في فهم التنسخ الذاتي كما يحدث في الطبيعة.
وللبرهنة على صحة هذه الأفكار، ابتكر <ڤون نويمان> والرياضياتي <M .S. أولام> مفهوم الأوتوماتا الخلوية. وتشتمل محاكاة الأوتوماتا الخلوية على شبكة من المربعات (أو الخلايا) شبيهة برقعة الشطرنج، تكون كل خلية منها إما فارغة وإما مشغولة بعنصر واحد من العديد من العناصر المحتملة. ويحدث على فترات زمنية متباعدة أن تتفحص كل خلية من الخلايا وضعها ووضع جاراتها، لتقرر إن كان عليها التحول إلى عنصر آخر. وحتى تتخذ هذا القرار، تخضع الخلية لقواعد بسيطة نسبيا، وهي القواعد نفسها بالنسبة إلى جميع الخلايا. وتشكل هذه القواعد الفيزياء الأساسية لعالم الأوتوماتا الخلوية. ويتم اتخاذ القرارات والأفعال موضعيا؛ ولا تعرف الخلية الواحدة مباشرة ما الذي يحدث خارج جيرتها القريبة.
إن البساطة الظاهرية للأوتوماتا الخلوية هي بساطة مضللة، فهي لا تنطوي على سهولة في التصميم، أو فقر في السلوك. وأشهر أوتوماتا، كما ورد في «لعبة الحياة» ل<H .J. كونوي>، تنتج أنماطا ذات تعقيد مذهل. وهناك أسئلة كثيرة حول السلوك الدَيْنَمي للأوتوماتا الخلوية تظل عادة من غير حل. وعليك لمعرفة كيف يتكشف أحد الطُّرز أن تعمد إلى محاكاته محاكاة كاملة(3). ويمكن لطراز من الأوتوماتا الخلوية أن يَكُون بطريقته الخاصة معقدا بمثل تعقيد العالم الحقيقي.
أومأت جلالتها إلى ساعتها قائلة: «تدبر أمرها واجعلها تنجب»
ماكينات نسخ(***)
يحدث التنسخ الذاتي بين الأوتوماتا الخلوية عندما تمر مجموعة من العناصر (أو ماكينة) في تسلسل من الخطوات لتبني نسخة عنها مجاورة لها. لقد تأسست ماكينة <ڤون نويمان> على بنّاء شامل؛ أي ماكينة تنشئ (إذا ما أعطيت التعليمات المناسبة) أي طراز من الطرز. وتكوَّن البنّاء من طرز عديدة من العناصر، نشرت على عشرات الآلاف من الخلايا، وتطلب تحديد توصيفها مخطوطة بحجم كتاب. وبسبب تعقيدها، فإنها لم تجر محاكاتها بكاملها، ناهيك عن بنائها فعليا؛ بل إن البنّاء سيكُون، حتى في لعبة الحياة، أكثر تعقيدا، ذلك أن الوظائف التي تؤديها الخلايا المنفردة في نموذج <ڤون نويمان> (كنقل الإشارات وتوليد عناصر جديدة)، ينبغي أداؤها في الحياة بواسطة بنى مركبة.
أما في الطرف الآخر، فإنه يسهل العثور على أمثلة بسيطة من التنسخ الذاتي. لنفترض مثلا أن لدينا أوتوماتا خلوية، تشتمل على نمط واحد من العناصر، يرمز له بإشارة +، وأن كل خلية تخضع لقاعدة واحدة فقط: فإذا احتوت خلية واحدة بالضبط من الخلايا الأربع المجاورة على الإشارة +، فإن هذه الخلية ستصبح +؛ وإلا فإنها ستغدو خالية. وباتباع هذه القاعدة، فإن إشارة + متفردة ستنمو إلى أربع + أخرى، تنمو كل إشارة منها بطريقة مماثلة، وهلم جرا.
وهذا التكاثر المماثل لتكاثر الأعشاب البرية لا يسلط ضوءا كافيا على قواعد التنسخ الذاتي، لأنه لا توجد هنا ماكينة ذات أهمية. وهذا يدعو إلى التساؤل عن الكيفية التي يتم وفقا لها التمييز بين ماكينة ذات أهمية وأوتوماتا تتكاثر على نحو مبسط. لم يستنبط أحد حتى الآن إجابة شافية. ولكن من الواضح أن على البنية المُنَسِّخة أن تكون، بشكل أو بآخر، معقدة. فعليها أن تتكون مثلا من عناصر عديدة ومتباينة، حيث ينتج من تآثراتها جميعا حدوث ظاهرة التنسخ، عملا بالمثل القائل: «لا بد أن يكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء». ويتيح وجود عناصر كثيرة متميزة اختزان التوصيف الذاتي داخل البنية المُنَسِّخة.
في السنوات التي أعقبت البحث الرائد ل<ڤون نويمان> سَبَر عدد كبير من الباحثين المجال الممتد بين المعقد والبسيط، وطوروا مُنَسِّخات تتطلب عناصر أقل أو حيزا أصغر أو قواعد أبسط. وأُنجزت خطوة رئيسية للأمام عام 1984 عندما لاحظ <G .C. لانگتون> [الذي كان يعمل وقتها في جامعة متشيگان] أن هناك أدوات تخزين تشبه العُرَى ـ سبق استعمالها كوحدات مكملة في الماكينات الذاتية التنسخ الأكثر قدما ـ يمكن أن تبرمَج لتنسخ نفسها تلقائيا. وتتألف هذه الأدوات عادة من قطعتين: العروة نفسها (التي هي عِقْد string من العناصر، يدور حول مستطيل)، وذراع بناء تبرز من إحدى زوايا المستطيل إلى الفراغ المحيط. وتؤلف العناصر الدائرة وَصْفة (مجموعة تعليمات) للعروة ـ كأن تأمرها، مثلا، بأن «تتقدم ثلاثة مربعات إلى الأمام، ثم تنعطف إلى اليسار.» وعندما تصل هذه الوصفة إلى ذراع البناء، فإن قواعد الأوتوماتا تصنع نسخة عنها. وتستمر نسخة واحدة في الدوران حول العروة؛ في حين تهبط النسخة الأخرى على طول الذراع، حيث تترجم إلى تعليمات.
وإذ يتخلى <لانگتون> عن متطلبات البِنَاء الشامل، التي كانت أمرا محوريا في مقاربة <ڤون نويمان>، فإنه بذلك يبين إمكان بناء المتنسِّخ من مجرد سبعة عناصر فريدة، تشغل 86 خلية فقط؛ بل إنه تم ابتكار عرى ذاتية التنسخ أصغر حجما وأشد بساطة بواسطة واحد منا (ريجيا) وزملاء لنا (انظر الإطار في الصفحة 14). وبالنظر إلى أن هذه العرى لديها الكثير من العناصر التي تتآثر فيما بينها، وتحتوي على توصيف ذاتي، فهي ليست بسيطة. ومن المحير أن اللاتناظر يؤدي هنا دورا غير متوقع؛ فعندما تكون العناصر المكونة لامتناظرة في مداراتها، فإن القواعد التي تحكم التنسخ الذاتي غالبا ما تكون أبسط مما لو كان هناك تناظر.
تنسخ منبثق(****)
لقد تم تصميم هذه البنى الذاتية التنسخ كلها بفضل براعة الباحثين ومن خلال الكثير من محاولات التجربة والخطأ. وهذه سيرورة شاقة وكثيرا ما تكون محبطة؛ فأي تغير ضئيل في إحدى القواعد ينتج منه سلوك شامل الاختلاف كليا، يؤدي إلى (على الأرجح) تفكك تفسخ البنية المعنية. ولكن هناك أبحاثا حديثة تجاوزت مقاربة التصميم المباشر. فعوضا عن تفصيل القواعد لتلائم نمطا معينا من البنية، أجرى الباحثون تجارب على مجموعات متباينة من القواعد، وملؤوا شبكة الأوتوماتا الخلوية بـ «حساء بدئي»(4) مؤلف من عناصر منتقاة عشوائيا، وتفحصوا إن كانت المتنسَّخات الذاتية تنبثق تلقائيا.
وفي عام 1977 لاحظ كل من <H-H. تشو> [الذي يعمل الآن في جامعة أيوا الحكومية] و<ريجيا> أنه مادامت الكثافة البدئية للعناصر الحرة المتاحة فوق عتبة معينة، فإن عرى صغيرة ذاتية التنسخ تظهر على شكل موثوق. وعندما تتصادم العرى فإنها سوف تَبيد؛ ومن ثم تتواصل هنا سيرورة من الموت وكذلك من الولادة. وبمرور الزمن، تتكاثر العرى وتنمو حجما، وتتطور بوساطة الطفرات التي يستثيرها الحطام الناجم عن التصادمات السابقة. ومع أن قواعد الأوتوماتا كانت محتومة، فإن تلك الطفرات كانت، في واقع الأمر، عشوائية؛ ذلك أن المنظومة كانت معقدة، وقد بدأت العناصر المكونة وهي في مواضع عشوائية.
لقد قُصد من هذه العرى أن تمثل ماكينات تجريدية، وليس صورا لأي شيء بيولوجي، غير أنه من المهم مقارنتها ببنًى جزيئية بيولوجية. إن العروة تشبه، ولو بشكل تقريبي، الدنا الدائري للبكتيرات، وتعمل ذراع البناء مثل الإنزيم الذي يحفز تنسخ الدنا. والأهم من ذلك أن عرى التنسخ توضح كيف يمكن لأنماط سلوك شامل معقد أن تنشأ عن تآثرات موضعية بسيطة. فالعناصر، مثلا، تتحرك حول العروة، مع أن القواعد لا تتدخل في الحركات؛ إن ما يحدث فعلا هو أن الخلايا المنفردة تبعث حية أو تموت أو تتحول، على نحو تتم فيه إزالة نمط ما من أحد المواضع ليعاد بناؤه في مكان آخر ـ وهذه سيرورة ندركها على أنها حركة. وخلاصة القول إن الأوتوماتا الخلوية تعمل موضعيا، ولكنها تبدو وكأنها «تفكر» على نطاق شمولي. والكثير مما يماثل ذلك يصدق في البيولوجيا الجزيئية.
وفي تجربة حاسوبية حديثة، أجراها <J. لون> [يعمل حاليا في مركز أبحاث إيمز التابع للوكالة NASA] و<ريجيا>، لم يختبرا فيها بنى مختلفة، وإنما مجموعات متباينة من القواعد. وكانت نقطة البداية كتلة اعتباطية تتألف من أربعة عناصر، فوجدا أن بوسعهما تحديد مجموعة من القواعد، تجعل الكتلة ذاتية التنسخ. واكتشفا تلك القواعد بخوارزمية وراثية: سيرورة أوتوماتية تحاكي التطور الدارويني.
وأكثر مظاهر هذا العمل إثارة للتحدي كان تعريف ما يسمى بدالّة التلاؤم ـ المعيار الذي يستعمل في الحكم على مجموعات القواعد بحيث تميز الحلول الصح من الحلول الخطأ، ومن ثم تَدفع السيرورة التطورية باتجاه مجموعات القواعد التي تيسر التنسخ. فليس بوسعك أن تضفي ببساطة صفة التلاؤم العالي على تلك المجموعات من القواعد التي تجعل إحدى البنى تتنسخ، ذلك أنه من غير المرجح أن أيا من مجموعات القواعد البدئية سوف تتيح التنسخ. لقد تمثل الحل في استنباط دالة تلاؤم تتألف من حاصل جمع مُثقل weighted sumلثلاثة مقاييس: مقياس النمو (المدى الذي يولِّد به كل نوع من العناصر المكونة مددا متزايدا من ذلك العنصر)، ومقياس الموضع النسبي (مدى بقاء العناصر المتجاورة بعضها مع بعض)، ومقياس التنسخ replicant measure (دالة لعدد المُنَسِّخات الفعلية الموجودة). فبوجود دالة التلاؤم الصح، يصبح بوسع التطور أن يحول مجموعات القواعد العقيمة إلى مجموعة خصبة؛ وهذه سيرورة تحتاج عادة إلى 150 جيلا أو نحو ذلك.
إن البنى الذاتية التنسخ التي اكتشفت بهذا الشكل تعمل بطريقة مختلفة جوهريا عن عمل العرى الذاتية التنسخ. فهي تتحرك، مثلا، وتخلِّف وراءها نسخا، خلافا للعرى المُنَسِّخة التي هي أساسا ساكنة. ومع أن هذه المُنَسِّخات المكتشفة حديثا تتألف من عناصر عديدة تتآثر موضعيا، فإنها لا تمتلك توصيفًا ذاتيًا يمكن تعرفه ـ أي لا يوجد جينوم (مَجين) واضح. وقد تكون المقدرة على التنسخ الذاتي (بدون وجود توصيف ذاتي) لها علاقة بالمسائل التي تدور حول الطريقة التي نشأت بها أقدم المُنَسِّخات البيولوجية. وبمعنى ما، يرى الباحثون أن هناك متصلة continuum تمتد بين البنى اللاحيّة والبنى الحية.
ولقد جرب باحثون كثيرون نماذج حاسوبية أخرى، إلى جانب الأوتوماتا الخلوية التقليدية. ولا يتم في الأوتوماتا الخلوية اللامتزامنة تحديث متناغم للخلايا، ذلك أنه يمكن في الأوتوماتا الخلوية اللامنتظمة non-uniform أن تتباين القواعد من خلية لأخرى. وهنالك مقاربة مختلفة تماما تعرف باسم حرب الصميمCore War [انظر: «التسلية بالحاسوب»،مجلة العلوم، العدد 1(1986)، ص 1033]، وكذلك المقاربات التي تلتها، كنظام «تييرا» Tierra للباحث الإيكولوجي <S .T. ريي>. وتَكُون «الكائنات الحية» في هذه المحاكيات برامج حاسوبية، تتنافس من أجل زمن المعالِج والذاكرة. لقد لاحظ <ريي> انبثاق «طفيليات» تنتقي كود التنسخ الذاتي لكائنات حية أخرى.
الاتجاه إلى الواقعية(*****)
إذًا، ما الفائدة من هذه الماكينات؟ إن بوسع بنَّاء <ڤون نويمان> الشامل إجراء الحوسبة، وذلك إضافة إلى التنسخ، بيد أنه يبقى بهيمة غير عملية. ونجد أن أحد أوجه التقدم الرئيسية هو تطوير مُنَسِّخات بسيطة، إنما مفيدة. ففي عام 1995 بسّط <G. تمپستي> [من المعهد الفدرالي السويسري للتقانة في لوزان] التوصيف الذاتي للعروة، بحيث أمكن أن تنضفر interlace مع برنامج قصير (هو في هذه الحالة كلمة مؤلفة من الأحرف الأولى لاسم مختبره، أي LSL). وظهر نفاذ بصيرته في إنشائه قواعد أوتوماتية تتيح للعرى أن تتنسخ عبر مرحلتين. في المرحلة الأولى، تصنع العروة نسخة عن ذاتها، شأنها شأن عروة <لانگتون> وما إن يتم ذلك حتى ترسل العروة الابنة إشارة إلى الأم، التي تصدر التعليمات لكتابة الأحرف.
كان رسم الأحرف مجرد إثبات بالأمثلة. وفي العام التالي (1996) صمم <Y-.J. پيرييه< و<J. زاند> وواحد منا (سيپر) عروة ذاتية التنسخ ذات قدرات حاسوبية شاملة؛ أي إن لها القوة الحاسوبية لماكينة <تورينگ> الشاملة؛ بمعنى أنها حاسوب شديد البساطة، ولكنه حاسوب كفؤ تماما. ولهذه العروة شريطان، أي عِقدان طويلان من العناصر المكونة: الأول خاص بالبرنامج والثاني خاص بالبيانات. وبوسع هذه العرى أن تنجز برنامجا اعتباطيا، إضافة إلى التنسخ الذاتي. وبمعنى ما، فإن هذه العرى معقدة كتعقيد الحاسوب الذي يحاكيها، ولكن قصورها الرئيسي يتمثل في أن البرنامج يُنسخ من الأب إلى الابن من دون أي تغيير، وبذا، فإن العرى كافة تنفذ مجموعة التعليمات ذاتها.
أنشئ بنفسك مُنَسِّخَتك الخاص(******)
إن إجراء محاكاة لعروة صغيرة ذاتية التنسخ باستعمال رقعة شطرنج عادية طريقة جيدة للتوصل إلى إدراك حدسي للكيفية التي تعمل وفقها منظومات المُنَسِّخات هذه. ولهذا النموذج الخاص من الأوتوماتا الخلوية أربعة أنواع مختلفة من العناصر: البيدق (الجندي) والفرس(5) والفيل والرَّخ (الطابية). وتشتمل الماكينة بداية على أربعة بيادق وفرس واحد وفيل واحد. وللأوتوماتا قسمان: العروة نفسها التي تتألف من مربع من اثنين في اثنين، وذراع بِنَاء تبرز إلى اليمين.
يمثل الفرس وكذلك الفيل التوصيف الذاتي؛ فالفرس، الذي يكون لتوجهه أهمية خاصة، يحدد اتجاه النمو؛ في حين أن الفيل يتابع، ويحدد الطول الذي ينبغي أن يكون عليه جانب العروة. وتؤدي البيادق دور الحشوات التي تحدد بقية شكل العروة. أما الرُّخ فيمثل إشارة انتقالية توجه نمو ذراع بِنَاء جديدة. ومع تقدم الزمن، فإن الفرس والفيل يدوران حول العروة باتجاه معاكس لحركة عقارب الساعة. وكلما واجها الذراع، تغادر نسخة خارج الذراع، في حين أن النسخة الأصلية تستمر في الدوران حول العروة. كيف تلعب: ستحتاج إلى رقعتي شطرنج: الأولى لتمثيل التشكيل الحالي، والأخرى لتبين التشكيل التالي. في كل جولة تفحّص كل مربع في التشكيل الحالي، واقرأ القواعد، وضع القطعة الملائمة في المربع المناظر في الرقعة الثانية. وسيحدث تحول لكل قطعة على نحو يتوقف على هويتها، وعلى هوية المربعات الأربعة الموجودة مباشرة في اليسار واليمين والأعلى والأسفل. عندما تراجع كل مربع وتُقِيم التشكيل التالي تكون الجولة قد انتهت. أفرغ الرقعة الأولى وكرر العملية. بالنظر إلى تعقد القواعد، فإن الأمر سيتطلب في البداية شيئا من الصبر. بإمكانك مشاهدة هذه المحاكاة أيضا على الموقع: Islwww.epfl.ch/chess. ثمة أهمية لاتجاه الفرس. هذا وقد استعملنا في الرسم المرافق المصطلحات المعيارية للشطرنج لنشير إلى توجه الفرس: يكون خطم الفرس متجها إلى الأمام. فإذا لم تنطبق قاعدة ما بوضوح، تبقى محتويات المربع من دون تغيير. وتجب معاملة مربعات الحافة وكأن لها مربعات تجاورها خارج الرقعة. مراحل التنسخ في البداية، يستوي التوصيف الذاتي أو «الجينوم» (ويمثله هنا فرس يتبعه فيل) عند بداية ذراع البناء.
1 يتحرك الفرس والفيل حول العروة باتجاه معاكس لحركة عقارب الساعة. تبرز نسيلة (مستنسَخ) clone للفرس من الذراع. 2 يستمر الزوج الأصلي (الفرس-الفيل) بالدوران ويستنسَل (يستنسَخ) الفيل، ويتبع الفرس الجديدة خارج الذراع. 3 يستثير الفرس تشكيل زاويتي العروة الابنة. ويتابع الفيل المسار متمما نقل الجينة. 4 يصوغ الفرس الزاوية المتبقية من العروة الابنة. تتصل العرى بوساطة ذراع البناء وبفرس مغامر.
5 يتحرك الفرس المغامر ليهب العروة الأم ذراعا جديدة. وفي خطوة تالية، تبدأ سيرورة مماثلة بالحدوث للعروة الابنة. 6 يستحضر الفرس الشارد، ومعه زوج «الفرس ـ الفيل»، رُخّا. وتُمحى في تلك الأثناء الذراع القديمة. 7 يقتل الرخ الفرس، ويولِّد الذراعَ الجديدة الصاعدة. ويتهيأ رخ آخر ليفعل الشيء نفسه بالابنة. 8 أخيرا، تصبح العروتان منفصلتين وتامتين. وتستمر التوصيفات الذاتية بالدوران، وما عدا ذلك، فإن كل شيء يبقى هادئا. 9 تستعد الأم لتلد من جديد. وفي الخطوة التالية تبدأ الابنة أيضا بالتنسخ. |
وفي عام 1998، أزال <شو> و<ريجيا> هذا القصور. لقد أوضحا كيف أن العرى الذاتية التنسخ (التي تحمل معلومات متميزة، وليس مجرد برنامج نسيلcloned) يمكن أن تستعمل لحل معضلة تعرف ب«الإرضائية» satisfiability. فيمكن استعمال العرى لتحديد ما إذا كانت المتغيرات التي في تعبير منطقي يمكن أن تُعطَى قيما محددة، بحيث يصل بنا تقييم التعبير بكامله إلى أنه «حقيقي». إن هذه المعضلة هي معضلة NP تامة. وبكلمات أخرى، إنها تنتمي إلى فصيلة الألغاز البغيضة، بما فيها معضلة البائع المتجول(14) الشهيرة، التي لم يتحقق لها حتى الآن حل كفؤ. ففي عالَم أوتوماتا <شو> و <ريجيا> الخلوي الشامل، حظيت كل مُنَسِّخَة بحل جزئي مختلف. وفي أثناء سيرورة التنسخ، طفرت الحلول، وأتيح للمُنَسِّخات ذات الحلول الواعدة أن تتكاثر، في حين انقرضت المُنَسِّخات ذات الحلول الفاشلة.
أيتها الإنسالة(6): داوِي نَفْسَك(*******)
إن أول تطبيقات التنسخ الذاتي الصنعي سوف يتمثل في الحواسيب التي تتدبر أمر نفسها.
لوزان، سويسرا ـ ليس هناك الكثير من الباحثين الذين يشجعون التدمير المتعمد لأجهزة مختبراتهم. ولكن <D. مانگ> يحبذ ذلك عندما يتجه الزائرون إلى أحد اختراعاته، ويضغطون على زر كتب عليه «اقتل». تنطفئ عندئذ أضواء اللوحة، ويتحطم صندوق صغير مملوء بالدارات الكهربائية. وفي مطلع الشهر 5(2001) كشف فريق <مانگ> النقاب عن آخر بدعة له، وذلك ضمن «مهرجان للعلوم» عقد في لوزان: ساعة رقمية بحجم الجدار، يمكنك تحطيم مكوناتها كما تشاء. وطلب أفراد الفريق العلمي إلى الجمهور: «ابذلوا قصارى جهدكم، لنرى إن كان بوسعكم تحطيم المنظومة.» يهدف مانگ وفريقه إلى تجهيز الدارات الإلكترونية بالقدرة على تلقي ضربة انسحاقية ومواصلة العمل بعدها، تماما كالكائنات الحية. وربما كانت الكائنات المخلوقة من لحم ودم لا تجيد حساب قيمة پاي (Л) إلى جزء من مليون جزء، ولكن باستطاعتها تمضية اليوم من دون أن يضغط أحد على الأزرار: Ctrl-Atl-Del. إن الجمع بين دقة الأداة الرقمية (التي تميز الحواسيب) والمرونة (التي تتمتع بها أدمغة البشر) لهو أمر فيه تحد رئيسي للإلكترونيات الحديثة. لقد عمل مهندسو الإلكترونيات، منذ نشوء هذا الفرع من الهندسة، على ابتكار دارات تتحمّل الخطأ(7). ولولا كشف الخطأ والتصحيح، لظلت مودمات (معدالات الحاسوب)(8) modems تنز البيانات قطرة قطرة بمعدل 1200 بود(9). يمكن في تطبيقات كثيرة الاكتفاء بفحوص بسيطة لضبط الجودة، كأن يستعمل مثلا عدد إضافي من بتات البيانات. وتوفر المنظوماتُ الأكثر تعقيدا مجموعةً كاملة من الحواسيب الداعمة. فلدى مكوك الفضاء مثلا خمسة معالِجات، أربعة منها تجري الحسابات نفسها، في حين أن الخامس يتحقق من صحة توافقها، ويوقف تشغيل أي مخالف منها. ومع هذا، فإن مشكلة هذه المنظومات اعتمادها كلها على جهاز تحكم مركزي. فما الذي سيحدث إذا ما أصيبت تلك الوحدة المركزية بتلف؟ إن أول اختراع لهم مما عرف اختصارا ب«ميكتري» MICTREE (شجرة التعليمات الميكروية (الصِغرية) microinstruction tree) وهي خلية صنعية، تتألف من معالج بسيط، وأربع «بتات» لتخزين البيانات. وتضم الخليةَ علبةٌ لدائنية (پلاستيكية) بحجم نصف الكف تقريبا. وتحدث تماسات إلكترونية على طول جوانب العلبة، ومن ثم يمكن تشبيك الخلايا بعضها مع بعض كما هو الأمر في قطع الليگو. وكما هي الحال في الأوتوماتا الخلوية (النماذج التي تستعمل في دراسة نظرية التنسخ الذاتي) تتصل خلايا الميكتري بجيرانها المباشرين فقط. ولذا، فإن عبء الاتصال بالنسبة إلى كل خلية لا يتوقف على العدد الكلي لهذه الخلايا. وبمعنى آخر، فإن المنظومة يمكن تدريجها بسهولة، خلافا للكثرة من بِنَى الحواسيب المتوازية. إن الخلايا تتبع التعليمات التي في «جينومها»، وهو برنامج كُتب بمجموعة رموز فرعية للغة الحاسوبية «پاسكال». وكما هي الحال في سلفها البيولوجي، فإن الخلايا كافة تحوي بالضبط الجينوم نفسه، وتنفذ، بناء على موقعها في المنظومة، جزءا منه، وهو موقع تحسبه كل خلية بالنسبة إلى ما يجاورها من خلايا. وعلى الرغم من التبذير الذي يبدو عليه هذا الحشو الزائد، فإنه يتيح للمنظومة أن تصمد عند فقد أي خلية من الخلايا. وكلما ضغط أحد على الزر «اقتل» في خلية ما، فإن الخلية تتوقف عن العمل، ويتم فورا وصل خليتي الجوار اليسرى واليمنى. وتعيد خلية الجوار اليمنى حساب موقعها، وتشرع في تنفيذ برنامج الخلية التي قضت؛ أما مهامّها، فستضطلع بها الخلية التالية إلى اليمين، ويتواصل الأمر هكذا حتى تدخل للخدمة خلية احتياطية، أي مخصصة للعمل كقطعة غيار. وتتطلب كتابة البرامج لأي معالج متواز براعة خاصة، بيد أن منظومة «الميكتري» تتطلب مقاربة غير تقليدية بوجه خاص. فعوضا عن إعطاء تعليمات صريحة، على المبرمج أن يستنبط قواعد بسيطة، تنبثق منها الوظيفة المرغوبة. وبالنظر إلى أن مانگ مواطن سويسري، فإنه برهن عمليا على ما سبق بأن بنى ساعة إيقاف stopwatch فائقة الوثوقية. ويتطلب إظهار الدقائق والثواني أربع خلايا في صف، واحدة لكل رقم. ويتيح الجينوم نمطين من الخلايا: عداد يعد من الصفر إلى تسعة، وعداد يعد من الصفر إلى خمسة. وتغذي مذبذِبَةٌ (مجاوبة) oscillator أقصى خلية إلى اليمين بنبضة واحدة في كل ثانية. وبعد عشر نبضات، تدور هذه الخلية رجوعا إلى الصفر، وترسل نبضة إلى الخلية التي إلى يسارها، ليستمر ذلك حتى نهاية السلسلة. وتشغل الساعة جزءا من منظومة مكونة من 12 خلية؛ فعندما تُقتل خلية واحدة، فإن الساعة تواصل عملها من خلال خلية مجاورة. ومع هذا، فإنه من الواضح أن هنالك حدًا لهذه المرونة؛ إذ ستخفق المنظومة عند حد أقصاه ثماني عمليات قتل.
إن خلايا النموذج الأوَّلي من «الميكتري» تعتمد على وسائل للمعالجة مبنية داخليا hardwired (11)l ، ولذلك فإن طاقة المعالجة في هذه الخلايا لا يمكن أن تكيف لتلائم تطبيقا خاصا. وبدلا من ذلك فإن الخلايا في المنتج النهائي تستخدم في صفيف بوابي قابل للبرمجة هو شبكة من العناصر الإلكترونية، يمكن إعادة تشكيلها أثناء التشغيل [انظر: «الحوسبة التشكُّلية (المُطاوِعة)»،مجلة العلوم، العددان6/7 (1997)، ص 32] ويقوم فريق <مانگ> حاليا بتصميم صفيف بوابي بحسب الطلب، يعرف باسم موكستريMUXTREE (من multiplexer tree، الشجرة التعددية)، وهي الشجرة المثلى للخلايا الصنعية. وفي استعارة بيولوجية مجازية، فإن العناصر المكونة لهذا الصفيف هي «الجزيئات» التي تشكل الخلية. فكل واحدة تتألف من بوابة منطقية، وبتة للبيانات، وعِقْد (سلسلة) من بتات التشكيل يحدد وظيفة هذه البوابة. عندما تُبنى إحدى الخلايا من مثل هذه الجزيئات، فإن هذا لا يحقق المرونة فحسب، وإنما يوجِد أيضا تحملا إضافيا. ويحوي كل جزيء نسختين من البوابة، وثلاث نسخ من بتة التخزين. وإذا حدث بأي حال أن تمخضت البوابتان عن نتيجتين مختلفتين، فإن الجزيء سيقتل نفسه في سبيل المصلحة العليا للخلية. وعند لفظ أنفاسه الأخيرة يرسل هذا الجزيء بتة بياناته (المحفوظة بالتخزين الثلاثي) وكذلك تشكيله إلى الجزيء المجاور الأيمن، الذي يفعل الشيء نفسه، وتستمر السيرورة حتى يقوم أقصى جزيء لليمين بنقل بياناته إلى جزيء احتياطي. ويؤدي هذا المستوى الثاني من تحمل الخطأ إلى منع أي غلطة منفردة من أن تمحو الخلية بكاملها. يتألف البيو وول BioWall (الجدار الحيوي)، تلك الساعة الرقمية العملاقة التي عرضها فريق مانگ من عدد من الجزيئات يبلغ مجموعها 20000 جزيء، تتوزع في أربع مجموعات، تتألف كل واحدة منها من 25×20 خلية. ويوجد كل جزيء داخل علبة صغيرة، ويشتمل على زر القتل وعلى جهاز العرضLED (12)1 . وتتخذ بعض الجزيئات تشكيلا يؤدي عمليات الحوسبة؛ في حين تعمل جزيئات أخرى في شاشة العرض كپكسلات (عنصر صورة ـ عنصورات)(13) pixels. لقد أسرفْت في استخدام أزرار القتل، باذلا قصارى جهدي لتحطيم المنظومة، وهذا عمل أُجيد عادة إتقانه. ولكن الساعة العنيدة أبت أن تذعن. وشرعت شاشة العرض تأخذ مظهرا مثيرا للغرابة ـ فبدت الأعداد ملتوية مع زحزحة پكسلاتها إلى اليمين ـ ولكنها ظلت على الأقل مقروءة، خلافا لمعظم الإشارات الإلكترونية المعيبة. ومع هذا، فإن المنظومة عانت بالفعل اختلالات في العرض، عزاها <مانگ> بصورة رئيسية إلى مشكلات في التوقيت. ومع أن طاقة المعالجة لامركزية، فإن الخلايا ظلت تعتمد على مذبْذِبة مركزية تنسق اتصالاتها؛ وكانت الخلايا تفتقر أحيانا إلى التزامن. ودرس فريق آخر يعمل في حقل الإلكترونيات الجنينية، يقوده <A. تيرّل> [من جامعة يورك في إنكلترا] أمر جعل الخلايا لا متزامنة، كنظائرها البيولوجية. وستولد الخلايا إشارات تصافحية لتنسق نقل البيانات. والمنظومة الحالية لا تستطيع أيضا أن تكشف أنماطا معينة من الخطأ، بما في ذلك عقود (سلاسل) التشكيل المعطوبة. ولقد اقترح فريق <تيرل> إضافة جزيئات حراسة تعمل كجهاز مناعي ـ يضبط التشكلات، ويراقب بعضها بعضا للكشف عن أي من أوجه الخلل. ومع أن هذه المنظومات تتطلب قدرا هائلا من النفقات العمومية، فهذا ينطبق أيضا على التقانات الأخرى التي تتحمل الخطأ. ويجادل <تيرل> قائلا: «في حين أن الإلكترونيات الجنينية تبدو مثقلة بالحشو الزائد على الحاجة، فهي في الواقع ليست بهذا السوء عندما تقارن بالمنظومات الأخرى.» أضف إلى ذلك، أنه ينبغي أن يكون تصغير «موكستري» حتى المستوى النانوي أمرا أكثر سهولة؛ «فالجزيئات» على درجة من البساطة بما يكفي لأن تكون محض جزيئات حقا. ويقول مانگ: إننا نعد العدة لموقف تصبح فيه الإلكترونيات في المستوى نفسه الذي توجد فيه البيولوجيا. وعلى المستوى الفلسفي سنجد أن الإلكترونيات الجنينية تقترب قربا وثيقا من حلم بناء ماكينة ذاتية التنسخ. وقد لا تكون هذه الماكينة مثيرة بنفس الدرجة التي تثيرها إنسالة يمكنها التوجه إلى أحد محلات Radio Shack(التي تبيع الأجهزة الإلكترونية وأجزاءها)، وأخذ قطع غيار من على الرفوف، وحملها إلى المنزل لإعادة لحم وصلة ما، أو لبناء رفيقة يلهو معها. ومع هذا، تتماثل النتائج كثيرا. وعلى ما يبدو، فإن السماح للماكينات بأن تحدد مصيرها بنفسها (سواء بأن تعيد تشكيل نفسها على شيپة سيليكونية، أو بأن تعيد برمجة نفسها باستعمال شبكة عصبية أو خوارزميات وراثية) لهو أمر مخيف، ومع ذلك فربما ينبغي أن نشعر بالرضا لأن هذه الماكينات أصبحت تماثلنا أكثر فأكثر؛ بمعنى أنها لا تتصف بالكمال، وليست معصومة عن الخطأ، ولكنها واسعة الحيلة بصورة لا هوادة فيها. <G. موسر> [عضو في هيئة التحرير في ساينتفيك أمريكان، لا يتصف بالكمال ولكنه واسع الحيلة]
|
ومع أن مجموعات بحث متباينة قامت ببناء أوتوماتا خلوية في معدات إلكترونية، فمن المحتمل أن يكون في هذه المنظومات، عند التطبيق العملي، أوجه إسراف أكثر مما ينبغي، فالأوتوماتا لم يقصد لها بتاتا أن تكون أدوات تنفيذ مباشر؛ إذ إن الغرض من الأوتوماتا هو إيضاح المبادئ الأساسية للتنسخ، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تحث على بذل محاولات أكثر تماسكا. ويقدم مفهوم العرى نموذجا (صيغة) paradigm جديدا لتصميم حاسوب على التوازي، سواء من الترانزستور أو من الكيميائيات [انظر: «الحوسبة بوساطة الدنا»،مجلة العلوم، العدد10 (1999)، ص 40].
وبمعنى ما، يرى الباحثون أن هناك متصلة continuum تمتد
بين البنى اللاحيّة والبنى الحية
وفي عام 1980 اقترح فريق من «ناسا» NASA، يقوده <R. فرايتاز، جونير> إنشاء مصنع على القمر، قادر على التنسخ الذاتي (مستعملا مواد قمرية محلية) والتوسع أُسِّيا في منطقة كبيرة. والحقيقة، كما يحاج الفيزيائي <J .F. تيپلر> [من جامعة تولين]، إن مسبارا مماثلا يمكن أن يستعمر المجرة بكاملها. وتجدر الإشارة إلى أن علماء الحاسوب ومهندسيه أجروا تجارب على تصاميم مؤتمتة للإنسالات(15) (الروبوتات)(16). ومع أن هذه النظم في الحقيقة لا تتنسخ (لأن الأبناء أكثر بساطة من الآباء)، فإنها تعد الخطوة الأولى باتجاه تحقيق طلب ملكة السويد.
وإذا ما صارت الماكينات الفيزيائية الذاتية التنسخ ماكينات عملية، فإنها ستستثير ـ هي والتقانات المتصلة بها ـ قضايا عويصة، بما في ذلك سيناريو فيلم الحد الفاصل Terminator الذي تَبُز فيه كائنات صنعية المخلوقات الطبيعية. إننا نحبذ السيناريو الأكثر تفاؤلا والأكثر احتمالا، سيناريو يمكن فيه تسخير المُنَسِّخات لنفع البشرية(17). وسيكون مفتاح ذلك الأخذ بنصيحة فيلسوف القرن الرابع عشر البريطاني <W. الأوكهامي>: «ليس للكيانات أن تتكاثر بما يتجاوز الضرورة.»
المؤلفان
Mosbe Sipper – James A. Reggia
يتشاركان في اهتمامات حول الكيفية التي تتعضى فيها ذاتيا المنظومات المعقدة. وسيپر محاضر أول في قسم علم الحاسوب بجامعة بن غوريون، وباحث زائر في مختبر المنظومات المنطقية التابع للمعهد الفدرالي السويسري للتقانة بلوزان. وينصب اهتمام سيپر بصورة رئيسية على النماذج الحاسوبية المستلهمة من البيولوجيا، كالحوسبة التطورية والمنظومات الذاتية التنسخ والحوسبة الخلوية. أما ريجيا فهو أستاذ علم الحاسوب وطب الجهاز العصبي في معهد الدراسات الحاسوبية المتقدمة بجامعة ميريلاند. وإضافة إلى دراسته ظاهرة التنسخ الذاتي، فإن ريجيا يجري أبحاثا على النماذج الحوسبية للدماغ ولاضطراباته، مثل السكتة الدماغية.
مراجع للاستزادة
Simple Systems That Exhibit Self-Directed Replication. J. Reggia, S. Armentrout, H. Chou and Y. Peng in Science, Vol. 259, No. 5099, pages 1282-1287; February 26, 1993.
Emergence of Self-Replicating Structures in a Cellular Automata Space. H. Chou and J. Reggia in Physica D, Vol. 110, Nos. 3-4, pages 252-272; December IS, 1997.
Special Issue: Von Neumann’s Legacy: On Self-Replication. Edited by M. Sipper, G. Tempesti, D. Mange and E. Sanchez in Artificial Life, Vol. 4, No. 3; Summer 1998.
Towards Robust Integrated Circuits: The Embryonics Approach. D. Mange, M. Sipper, A. Stauffer and G. Tempesti in Proceedings of the IEEE, Vol. 88, No. 4, pages 516-541;April 2000.
Moshe Sipper’s Web page on artificial self-replication is at Islwww.epfl.ch/-moshes/selfrep/
Animations of self-replicating loops can be found at necsi.org/postdocs/sayama/sdsr/java/
For John von Neumann’s universal constructor, see alife.sp`ntafe.edu/alife/topics/jvn/jvn.html
Scientific American, August 2001
(*) GO FORTH AND REPLICATE
(**) Playing Life
(***) Copy Machines
(****) Emergent Replication
(*****) Getting Real
(******)Build Your Own Replicator
(*******) Robot, Heal Theyself
(1) جمع أتمتة automation.
(2) [انظر:” Self-Reproducing Machines “,
by Lionel Penrose; Scientific American, June 1959].
(3) [انظر:” Mathematical Games “, by Martin Gardner; Scientific American, October 1970 and February 1971 and “The Ultimate in “Anty-Particles,
by Ian Stewart, July 1994].
(4) الحساء البدئي primitive soup: ماء المحيطات والبحار والبحيرات والمستنقعات البدئية التي احتوت على عناصر تكوّن الحياة الأولى. ويعزي بعضهم هذا التعبير إلى الروسي <A. أوپارين> 1894-1980.
(التحرير)
(5) knight فرس (في الشطرنج)، ونعتبره هنا اسما مذكرا. (التحرير)
(6) إنسالة: نحت من إنسان-آلي، والصفة إنسالى.
(7) [انظر:” Redundancy in Computers”, by William H. Pierce;
Scientific American, February 1964].
(8) المودم: جهاز يجمع بين أداة التضمين modulator ومزيل التضمين demodulator. ويقوم المودم بمواءمة الحاسوب بخط هاتف، فيحول النبضات الرقمية للحاسوب إلى ذبذبات داخل المجال السمعي للهاتف، ثم يحولها مرة أخرى عند الاستقبال إلى نبضات رقمية. وكلمة modem تجميع لجزء من كلمة modulator وجزء من كلمة demodulator.
(9) بود baud: بتة في الثانية، وهي مقياس لمعدل تدفق البيانات.
(10) نحت من كلمتي embryonic electronics.
(11) hardwired: معالجة مبنية داخل الدوائر الإلكترونية في الحاسوب، بدلا من أن تكون من خلال استخدام البرنامج. وتؤدي هذه المعالجة الداخلية إلى أداء وظائف معينة بسرعة أكبر. (التحرير)
(12) LED هي اختصار light-emiting diode (صمام باعث للضوء ومناوب الاتجاه)، وهو جهاز لعرض البيانات مصنوع من مواد شبه موصلة تبث صورة عندما يمرر تيار كهربائي من خلالها في الاتجاه الصحيح.
(13) الپكسل: هي أصغر عنصر في الضوء يمكن للجهاز عرضه على الشاشة.
(التحرير)
(14) travelling salesman problem: معضلة رياضياتية تستهدف البحث عن أقصر الطرق التي تمر عبر كل نقطة من مجموعة من النقط مرة واحدة، ومرة واحدة فقط.
(15) مفردها إنسالة، وهي نحت من إنسان-آلي robot.
(16) [انظر:” Down of a New Species”, by George Musser; Scientific American, November 2000].
(17) [انظر: “Will Robots Inherit the Earth?” by Marvin Minsky; Scientific American, October 1994].
(التحرير)