أصول الحواسيب الشخصية
أصول الحواسيب الشخصية(*)
إن أسس الحواسيب التفاعلية المعاصرة وضعت قبل عدة عقود من
إسهامات روّاد ثورة الحواسيب الشخصية <گيتس> و<جوبز> و<وزنياك>.
<M .M.والدروپ>
منذ نحو ربع قرن، ووفق الروايات المعتمدة، بدأت مجموعة من الشباب المهرة في الأمور التقنية من أمثال <B.گيتس> و <S.جوبز> و <S.وزنياك> بالتعاطي في مرائب سياراتهم وغرف نومهم، مع التقانة الحديثة الخاصة بالمعالجات الميكروية (الصغرية) microprocessors، وانتهى بهم الأمر مصادفة إلى أن أصبحوا روّاد ثورة الحواسيب الشخصية.
ومع ذلك، فإن هذه القصة لم تبدأ حقيقة مع هؤلاء المتعهّدين الشباب، لأن من أضرم النار في هذه الثورة (وفي ثورة الإنترنت لاحقا) لم تكن التجهيزات (المكونات المادية) hardware أو البرمجيّات software بحدّ ذاتها، وإنما الرسالة التي انطوت عليها هذه المنتجات. ومفادها أن الحواسيب يجب أن لا تكون مجرد آلات ضخمة كبيرة الحجم موضوعة في غرف خلفية تقوم بمعالجة البطاقات المثقبة لصالح بعض المؤسسات الكبيرة. بل إنها بدلاً من ذلك يمكن أن تكون شخصية وحميمة تستجيب لنا وتساعدنا كأفراد. إن الحواسيب يمكن أن تحسّن من إبداعات الإنسان، وتوفر ديمقراطية الوصول إلى المعلومات، وتنشئ مجتمعات أوسع، وتبني مفاهيم مشتركة عامة للاتصالات والأعمال التجارية. وبشكل مختصر فإن الحواسيب يمكن أن تكون أدوات أساسية لتقوية إمكانات الأفراد. ومن السخرية بمكان أن أسس هذه الرؤية كانت قد رُسِمت منذ أكثر من ثلاثة عقود من قبل نفس الحكومة ونفس المؤسسة التي لم يثق بها جيل السبعينات.
الاستجابات في الزمن الحقيقي(**)
لنفترض، على سبيل المثال، أن الحوسبة الشخصية personal computing، كما نعرفها اليوم، لا يمكن تصوّرها من دون الفكرة الأساسية المتمثلة بالحوسبة التفاعلية interactive computing؛ أي إن الآلة يمكن أن تستجيب فوريا لأفعال المستخدم عوضا عن أن تعطي نتائجها على حزمة من الصفحات المطبوعة بعد ست ساعات من تلقيها تعليمات المستخدم.
لم تكن هذه الفكرة بالتأكيد واضحة في الأيام الأولى، ولا أيضا عندما كانت الحواسيب تعد أكثر بقليل من آلات حاسبة فائقة السرعة. فمنذ تطوير أول حاسوب رقمي إلكتروني بالكامل في أواخر الحرب العالمية الثانية، مرورا بأول موجة كبرى من إدخال الحواسيب إلى الشركات في أوائل الستينات، كان كل حاسوب موضوع في الخدمة مصمما عمليا ليحل مسألة محددة ويعطي الإجابة عنها، ثم ينتظر – مثل الآلة الحاسبة المكتبية المعروفة – ورود مدخلات جديدة.
إلا أنه حتى في البدايات، كانت هناك حالة شذت عن القاعدة، وهي حاسوب ويرلويند Whirlwind التجريبي الذي جرى تطويره في معهد ماساتشوستس للتقانة (MIT)بتمويل من البحرية الأمريكية. بدأ مشروع ويرلويند عام 1944 كمجهود حربي لبناء محاكي طيران flight simulator إلكتروني بالكامل، لا مجرد آلة حاسبة، وهو آلة لا تعطي البتة «إجابات» محددة وإنما تعرض، بشكل مستمر، تسلسلا متغيرا لأفعال الطيّار ومحاكاة simulation لاستجابة الطائرة لها. وسرعان ما أدرك رئيس فريق العمل في المشروع <J.فوريستر> وزملاؤه أن الحاسوب الذي بنوه ليتحكم في المحاكي يجب أن يكون تفاعلياً بالكامل، وقادرا على الاستجابة للحوادث بالسرعة نفسها التي تحدث بها. وهذا يعني أنه كان من المتوجب أن يكون أول حاسوب يعمل بالزمن الحقيقي.
لقد تنبأ <فوريستر> وفريقه أيضا بأن الحوسبة التفاعلية بالزمن الحقيقي قد تكون أكثر أهمية من محاكي الطيران بحدّ ذاته. وقد صنّفت ضمن هذا المجال تطبيقات مهمة، بدءا من الأعمال اللوجستية والتنظيمية للقوات الخاصة في البحرية، وصولا إلى التحكّم في الدفاعات ضد الصواريخ البالستية وحركة الطيران. وهكذا ففي عام 1948 تباحث العلماء مع البحرية الأمريكية بشأن تطوير مشروع ويرلويند وتحويله إلى نظام توضيحي لحاسوب متعدد الأغراض يعمل بالزمن الحقيقي، وذلك بتمويل تبلغ قيمته مليون دولار سنويا – والذي عُدّ المجهود الأكبر والأكثر كلفة في مجال الحاسوب حينذاك.
كان حجم هذه الآلة المبتكرة متناسبًا مع تكلفتها الكبيرة. فعندما وضع حاسوب ويرلويند قيد العمل عام 1951، كانت خزائن صماماته الإلكترونية الثمانية العالية تحتل مساحة بيت صغير فيه متّسع من المكان يكفي لحركة الباحثين في داخله. وكان أداء هذا الحاسوب، مثل حجمه، مثيرا، إذ إنه كان يكافئ تقريبا أداء الحواسيب الشخصية المنتجة عام 1980 مثل حاسوب TRS-80. وبالفعل فإن حاسوب ويرلويند يعدّ أول آلة جرى استخدامها كحاسوب شخصي، حيث خصصت عليها جلسات عمل للمستخدمين مدة كل منها 15 دقيقة، يستطيعون خلالها كتابة تعليماتهم على عارض الشاشة الكاثودية أو تشغيل برامج المحاكاة أو مجرد التسلي.
ولسوء الحظ، كانت البحرية الأمريكية عند هذه المرحلة قد سئمت من تمويل حاسوب ويرلويند وهددت بإيقافه. لكن الأمر الذي أنقذ هذا المشروع، وأنقذ معه مستقبل الحوسبة التفاعلية، كان اختبار الاتحاد السوڤييتي قنبلته الذرية الأولى في الشهر 8/1949، مما زاد من مخاطر هجوم مفاجئ للقاذفات السوڤييتية بعيدة المدى. وفي عام1951أناطت القوات الجوية الأمريكية بمعهد ماساتشوستس للتقانة مهمة تصميم نظام إنذار مبكّر جديد ومتطور تقوم فيه حواسيب الزمن الحقيقي، المبنية على تصميم حاسوب ويرلويند، بتنسيق عمل رادارات الرصد وملاحقة الأهداف وغير ذلك من العمليات الأخرى. وفي 20/4/1951 أثبت حاسوب ويرلويند جدوى هذا المفهوم من خلال ملاحقته ثلاث طائرات ذات دفع مروحي في سماء ماساتشوستس، وذلك بأخذ بيانات (معطيات) الرادار وحساب مسارات الاعتراض، التي وجَّهت «المقاتلات الدفاعية» إلى مسافة 1000ياردة من «الطائرات المهاجمة». وسرعان ما أصبح هذا الحاسوب الجزء المركزي من برنامج تطوير شامل سمي مشروع لينكولن ProjectLincoln.
بعد إنفاق ملايين الدولارات ومُضيّ أكثر من نصف عقد على ذلك، كانت النتيجة ولادة النظام SAGE (مختصر Semi-Automatic Ground Environment)، وهو نظام مسح على مستوى القارة الأمريكية يتكون من23 مركز إدارة، يضم كل منها 50 مُشَغِّلا، إضافة إلى حاسوبَي دعمٍ قادريْن على التعامل مع عدد من الطائرات يصل إلى 400 طائرة في آن واحد. وبسبب عدم اختباره خلال معركة حقيقية فإن فعالية النظام SAGE كانت موضع نقاش (تم إيقاف العمل فيه عام 19844)، ولكن ليس هناك شكوك حول تأثيره في تاريخ الحوسبة.
أولا، أسهم هذا المشروع في إنشاء وادي السيليكون Silicon Valley في الشرق. أما مشروع لينكولن فقد اتخذ عام 1952 اسما جديدا هو مختبر لينكولن LincolnLaboratory، ومكانا جديدا في ضاحية لكسينگتون ليس بعيدا عن الطريق الرئيسي الدائري الذي يحيط بمدينة بوسطن: الطريق 128. وسرعان ما تبع ذلك إنشاء عدد من مؤسسات التقانة العالية. ثانيا، كان مشروع النظام SAGE بمنزلة خط الأنابيب الذي انتقلت بواسطته تقانة ويرلويند إلى العالم التجاري. وعلى سبيل المثال، فقد استخدمت الشركة IBM في أواخر الخمسينات خبرتها باعتبارها متعهدا أساسيا في حواسيب SAGE، لابتكار نظام على مستوى الدولة يعمل بالزمن الحقيقي، لإجراء عمليات بيع تذاكر السفر في شركات الطيران الجوية الأمريكية. وقد وضع هذا النظام قيد التشغيل عام 1964 تحت اسم النظام SABRE (مختصر Semi-Automatic Business-Related Environment) وأصبح نموذجا لكافة نظم نقاط البيع points-of-sale التي تلته. وفي عام 1955أصبحت الشركة IBM أيضا أول مُصنّع يسوّق حاسوبًا تجاريا يستخدم تقانة ذواكر القلب المغنطيسي magnetic core memory المعتمدة في حاسوب ويرلويند، التي كانت الأرخص والأكثر وثوقية من أي طريقة أخرى لخزن البيانات الثنائية. وقد سيطرت ذواكر القلب المغنطيسي على الصناعة لعقدين تاليين، قبل أن تمهّد الطريق لاحقا لذواكر الشيپات شبه الموصلة semiconductormemory chips في منتصف السبعينات.
أنتج المشروع SAGE لوحة تحكم معيارية تطوّرت
لتصبح فيما بعد بيئة الحوسبة المكتبية
وعلى أي حال فقد تكون أكثر الأمور صلة بهذه القصة هي أن النظام SAGEأنتج لوحات (أجهزة) تحكم consoles معيارية للمشغّلين تحولت فيما بعد إلى بيئة التشغيل الحاسوبية المكتبية الحديثة. وكانت كل لوحة تحكّم من لوحات مشغّلي الرادار تحتوي على شاشة عرض كاثودية ولوحة مفاتيح وأداة محمولة باليد تتيح للمشغل انتقاء بنود مختلفة من الشاشة (هذه الأداة كانت مدفعا ضوئيا light gun وليس فأرة، ولكنها كانت تستخدم بطريقة مماثلة). إضافة إلى ذلك كانت حواسيب مراكز الإدارة الثلاثة والعشرين موصولة خلف الكواليس بعضها ببعض بواسطة شبكة رقمية بعيدة المدى تعمل عبر الخطوط الهاتفية. وبالفعل، فمن أجل إرسال الإشارات الرقمية عبر الخطوط المخصّصة للإشارات النظيرية analog signals، كان على مصمّمي النظام SAGE أن يطوروا نوعا آخر من الأدوات المهمة، ألا وهو المودم modem.
وبالطبع، فإن من الصعب اعتبار المسار من النظام SAGE إلى الحواسيب الشخصية الحديثة خطا مستقيما. فقد كان أشبه بخطين متوازيين من التطوير: أحدهما يركّز على التجهيزات والثاني على كيفية استخدام الأشخاص لهذه التجهيزات.
التعامل مع التجهيزات(***)
نما مسار التجهيزات من خلال العديد من جلسات العمل الشخصية التي تبلغ مدتها 15 دقيقة على حاسوب ويرلويند، وعلى الآلات الأخرى التي جرى تطويرها من أجل المشروع SAGE. إن استخدام هذه الحواسيب بهذه الطريقة أوحى لبعض المشاركين الأصغر سناً في المشروع بأن يفكروا أن الحواسيب يجب أن توفر المتعة نفسها لأي شخص كان. وهكذا ففي عام 1957 قام اثنان منهم هما<K.أولسن>و<H.أندرسون> بتأسيس شركة صغيرة لتوفير مثل هذه الحواسيب التفاعلية في الأسواق. وقد أطلقا على هذه الشركة اسم DEC، وهو اختصار Digital Equipment Corporation.
كانت السوق فاترة في البداية. فعندما أدخلت الشركة DEC عام 1960 أول معالج بيانات قابل للبرمجة، وهوPDP-1، باعت منه 49 قطعة فقط – وهو رقم لا بأس به ولكن من الصعب اعتباره رقما مثيرا. إلا أن الحاسوب PDP-1 كان يُعد بالنسبة إلى العلماء والمهندسين عملا بارعا. فقد كانت هذه الآلة تفاعلية بالكامل، تحتوي على شاشة عرض كاثودية مبيّتة يمكن أن تلائم حجم غرفة واحدة صغيرة، وتقدم قدرة حسابية كبيرة بالنظر إلى كلفتها التي بلغت 120000دولار. إضافة إلى ذلك، كان هناك إغراء إضافي مبعثه أن الحاسوب PDP-1 كان نظاما«مفتوحا»، أي إن جميع تفاصيل تجهيزاته كانت موضّحة للعموم، وبالتالي فقد كان بإمكان المستخدمين المهرة من الناحية التقنية أن يُدخلوا على آلاتهم بعض التعديلات أو الإضافات بالطريقة التي يريدون، وهذا ما فعلوه.
والواقع إنه بحلول عام 1964 كانت حماسة المستخدمين للحاسوب PDP-1، والنجاحات التي حققتها الشركة DEC في منتجات أخرى، قد جعلتها تباشر تطوير حاسوب «مكتبي» tabletop موجّه إلى المجموعات الصغيرة وحتى إلى الأفراد. وقد اعتمدت نسبة كبيرة من تصميمه على الحاسوب LINC، وهو حاسوب تجريبي مختبري جرى تطويره في مختبر لينكولن من قبل زميل سابق لكل من أولسن وأندرسون اسمه <W.كلارك>، الذي نَقل فريقَه فيما بعد إلى جامعة واشنطن. ولكن الفكرة أتت أيضا من التقدم السريع الذي تحقق في مجال أشباه الموصلات وتقانات التخزين ، إلى جانب تقنيات الإنتاج في مجال خطوط التجميع.
وكانت النتيجة ولادة الحاسوب PDP-8 الذي كان صغيرا وخفيفا بشكل لايصدق – نحو 120 كيلوغراما – حيث عرض في أحد الإعلانات التجارية للشركةDEC محمولا على المقعد الخلفي لسيارة مكشوفة من نوع فولكسفاگن. كما أن سعره كان منخفضا بشكل لا يصدّق: 000 188 دولار. وكانت رغبة الزبائن في اقتنائه لا تقاوم، حتى إن المستخدمين ممن لا يملكون أية خلفية تقنية أحبّوا حاسوبا يستطيعون العمل عليه. أُنزل هذا الحاسوب للمرة الأولى إلى الأسواق في الشهر 4/1965، وما لبث أن انتشر في المصانع الكيميائية والصحف والمختبرات ومصافي البترول وحتى في المدارس.
ونظرا لوجود عشرات المتنافسين المندفعين لتقديم حواسيب مشابهة ، فقد غدا واضحا أن الحاسوب PDP-8 كان بمنزلة نموذج أولي لجيل جديد كامل من الحواسيب الصغيرة (حواسيب ميني) minicomputers ـ وهو اسم أطلق على هذه الحواسيب في مكتب الشركة DEC في لندن، ويبدو أنه كان مستوحى من موضة جديدة مثيرة سميت مينيسكيرت أو ميني جوپ (التنورة القصيرة). إضافة إلى ذلك، وبسبب اشتداد المنافسة في أواسط السبعينات على إنتاج مجموعات أقوى وأكثر قدرة من الحواسيب الصغيرة (الميني) المعتمدة على تقانة أشباه الموصلات الأكثر تعقيدا، بدأت الشركة DEC ومنافسوها القيام بغزوات جدية لسوق الحواسيب الرئيسية mainframes الخاصة بالشركة IBM.
استطاعت هذه الاستقلالية في التعامل أن تأسر قلوب هواة الإلكترونيات أيضا. ذلك أن العديد منهم كانوا قد اختبروا الحواسيب الصغيرة في العمل أو في المدرسة، وهم الآن يريدون حاسوبا يستطيعون أن يتعاملوا معه في منازلهم. وفي الشهر1/1975وصل عدد مجلة الإلكترونيات الميسرة Popular Electronics (التي أصبحت شهيرة فيما بعد) إلى أكشاك بيع الصحف. وقد حملت صفحة الغلاف صورة صندوق أزرق باهت، مع صفيف من المفاتيح والديودات(1) diodesعلى الواجهة الأمامية واسم على الزاوية اليسارية العليا: «آلتير Altair 88000». وكان العنوان البارز فيه هو «أول حاسوب صغير في العالم ينافس النماذج التجارية».
بحلول عام 1958 كان<ليكلايدر>قد بدأ الحديث عن
«التعايش» بين الإنسان والآلة
وجد القرّاء في داخل المجلة أن سعر المجموعة هذه يبلغ 397 دولارا، ويمكنهم طلبها من الشركة MITS، وهي شركة هواة في مدينة ألبيكيركي بولاية نيومكسيكو، وأنها ترتكز على المعالج إنتل 8080، وهو معالج ميكروي وُضعت فيه وحدة المعالجة المركزية central processing unit (CPU) بكاملها على شيپة واحدة. (كانت وحدة المعالجة المركزية في الحواسيب الصغيرة التقليدية تتكون من عدة شيپات أو حتى من عدة لوحات دارات). وبلغة التعبير الحديثة أصبح آلتير حاسوبا ميكرويا (صُغريا) microcomputer. وفي الحقيقة فقد ثبت أن هذا الحاسوب كان أول حاسوب ميكروي ناجح من الناحية التجارية. ولكن بحسب ما ورد في مجلة «الإلكترونيات الميسرة»، فإنه صمّم في البداية ليكون أحد الحواسيب الصغيرة (ميني). كان شكله مثل الحواسيب الصغيرة، وكانت له البنية المفتوحة التي تميز الحواسيب الصغيرة. وكان قادرا على استخدام الأجهزة المحيطية ذاتها التي تستخدمها الحواسيب الصغيرة. وبالفعل، ففيما عدا احتوائه على الشيپة 8080، فإن آلتير كان من الحواسيب الصغيرة (الميني).
وحتى اللغة التي اختارتها الشركة MITS لاحقا لغة للبرمجة الرسمية، كانت تذكِّر بلغة الحاسبات الصغيرة. فهذه اللغة ـ وهي لغة «ألتير بيسِك» AltairBASIC ـ استمدت مجموعة من خصائصها الأساسية من لغة «البيسِك» الخاصة بالشركة DEC المستخدمة في الحاسوب PDP-11، والتي كان قد وضعها في ربيع عام 19755 اثنان من أهالي مدينة سياتل بناء على فكرة استوحياها من مقالة مجلة «الإلكترونيات الميسرة»، هما <بيل گيتس>[الطالب في جامعة هارڤارد] ورفيقه أيام الدراسة الثانوية <پول> ألن [وهو مبرمج كان يعمل خارج مدينة بوسطن].(عندما أصبحت اللغة جاهزة، ترك <ألن> عمله و<گيتس> جامعته وانتقل الاثنان إلى ألبيكيركي ليكونا قريبين من الشركة MITS وأسّسا معا شركة صغيرة سمياها ميكروسوفت Micro Soft لتسويق هذه اللغة.)
حقق الحاسوب آلتير نجاحا ساحقا في عالم الهواة، إذ بيع أكثر من000 100وحدة منه في نهاية الأمر. وقد أدى ذلك إلى تشكيل العديد من مجموعات المستخدمين، بما فيها نادي هومبرو للحاسوب Homebrew Computer Clubالأسطوري، الذي عقد أول اجتماع له في مرآب للسيارات في مدينة پالو ألتو بولاية كاليفورنيا في الشهر3/1975.
وخلال عام أو عامين، ونظرا إلى تنافس الحواسيب الميكروية التي ظهرت بالعشرات، فقد بدأ بعض المتعهدين entrepreneurs الشباب بالتفكير في تسويق آلاتهم للمستهلكين. صحيح إن ذلك يتطلب ليس تأمين مجرد طقم(2) kit من التجهيزات فحسب، وإنما يتطلب شيئًا أكثر من ذلك مثل جهاز appliance الذي يعمل بمجرد أن يقوم المستخدم بتوصيله، لكن العديد من الشركات قبلت التحدي، وأقربها إلى الذاكرة الشركة Apple التي أسسها عام 19766 عضوان في نادي هومبرو للحاسوب هما <ستيڤ وزنياك> و <ستيڤ جوبز>، وهما صديقان قديمان من مدينة كوپرتينو في وادي السيليكون. وكانت آلتهما الجديدة آپل II التي عرضت في الشهر5/1977 تحتوي على لوحة مفاتيح مبيتة وعلبة بيجية اللون مصمّمة بشكل احترافي. وقد بلغ سعرها حينذاك 11955دولارا من دون شاشة العرض. وأفضل ما فيها أنها كانت رائعة لألعاب الڤيديو.
عند نهاية العقد أضحت الشركة آپل من أسرع الشركات نموا. وغدت بقية القصة جزءا من التاريخ، وإن كان تاريخا صاغه بقوة الخط الثاني للتطوير الذي نتج من المشروع SAGE.
التعايش بين الإنسان والآلة(****)
جاءت الأهمية المحورية لهذه القصة عام 1962، عندما وظّفت وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة Advanced Research Project Agency (ARPA) التابعة للبنتاگون عالم النفس التجريبي <R .C .J.ليكلايدر> لتنظيم برنامج بحث جديد في التحكّم والسيطرة. فقبل عقد من الزمن كان <ليكلايدر> عضوا في فريق تصميم لوحة تحكم لحاسوب المشروع SAGE؛ واختص ليكلايدر بالنواحي المتعلقة بالعوامل البشرية. وفي عام1957 كانت هذه الخبرة قد أوصلته إلى تصوّر «لنظام SAGEحقيقي»، يمكن تركيزه ليس فقط على الأمن القومي ولكن على تحسين قوة العقل. وبدلا من مراكز الدفاع الجوي الثلاثة والعشرين فقد تصوّر شبكة وطنية من «مراكز التفكير» مع حواسيب تحتوي على مكتبات واسعة تغطي جميع الموضوعات التي يمكن تخيّلها. وبدلا من لوحات التحكم الرادارية فقد تخيل حشدا من الأجهزة الطرفية التفاعلية، يستطيع كل واحد منها عرض نصوص ومعادلات وصور ورسوم تخطيطية وأي نوع آخر من المعلومات.
وبحلول عام 1958 كان <ليكلايدر> قد بدأ يصف هذا التصّور على أنه «تعايش» بين الإنسان والآلة، حيث إن كلاّ منهما متفوق في عالمه – استظهار الخوارزميات بالنسبة إلى الحاسوب، والتعلم الذاتي الخلاق بالنسبة إلى الإنسان – ولكنهما إذا اجتمعا، أصبح وضعهما أقوى بكثير مما إذا كانا منفصلين. وقد دوّن <ليكلايدر> أفكاره بالتفصيل عام 1960 (في مقالة بعنوان «التعايش بين الإنسان والآلة») طارحا في الواقع برنامج بحث حول الكيفية التي يمكن لتصوره أن يصبح حقيقة. وفي الوكالة ARPA، قرر <ليكلايدر> أن يستخدم أموال البنتاگون لتحقيق هذا البرنامج.
في منتصف الستينات من القرن العشرين تحول مشروع
MAC إلى أول مجتمع مستخدم للإنترنت في
العالم ـ مجتمع متكامل يضم الدخلاء أيضًا.
كان المسعى الرئيسي ل<ليكلايدر> يتمثل في المشروع MAC بمعهد ماساتشوستس للتقانة، وهو أول تجربة على نطاق واسع للحوسبة الشخصية. لم يكن مديرو المشروع يأملون إعطاء كل شخص حاسوبا شخصيا مستقلا، إذ لم يكن هذا ممكنا بطبيعة الحال في وقت كانت فيه أرخص الحواسيب لا تزال تكلف مئات الآلاف من الدولارات. ولكن كان بإمكانهم نشر عشرات من الطرفيات البُعدية remote terminals حول حرم الجامعة وفي منازل العاملين. ثم باستخدام تقانة المشاركة بالوقت time-sharing، كان بإمكانهم أن يطلبوا إلى حاسوبهم المركزي الكبير أن يقدم للمستخدمين، بشكل سريع جدا، مددا صغيرة من زمن المعالجة بحيث يشعر كل مستخدم وكأن الحاسوب يستجيب له وحده بالزمن الحقيقي. وفي منتصف الستينات تحوّل مشروع MAC إلى أول مجتمع موصول إلى الشبكة الحاسوبية(3) online community في العالم، مع كل ما يتضمنه من لوحات الإعلانات والبريد الإلكتروني والصداقات «الافتراضية» والبرمجيّات المجانية freeware ـ وبالطبع الدخلاء (الهاكرز)(4).
ثمة مستفيد آخر من <ليكلايدر> هو <C .D.أنگلبارت>، وهو مهندس رقيق الصوت يعمل في الشركة SRI الدولية، وهي شركة استشارية كبيرة للتقانات العالية في مدينة مينلو پارك بكاليفورنيا، قريبة من المنطقة التي أصبحت فيما بعد وادي السيليكون. وجد مديرو <أنگلبارت> أفكاره حول «تنمية الفكر البشري» augmenting the human intellect غير مفهومة، إلا أن <ليكلايدر> تبين على الفور أن هذه الأفكار مماثلة لتصوره عن التعايش. وبتمويل من الوكالةARPA (وكذلك من القوات الجوية ووكالة الفضاء الأمريكية ناسا) تابع <أنگلبارت> أعماله فاخترع الفأرة والنوافذ على الشاشة والنص الفائقhypertext ومعالَجة النصوص word processing على كامل الشاشة، إضافة إلى مجموعة من الابتكارات الأخرى. وبالفعل، فإن عرض <أنگلبارت> لهذه الأعاجيب في المؤتمر Fall Joint Computer Conference الذي عقد بمدينة سان فرانسيسكو في الشهر 12/19688، سوف يظل في الذاكرة كإحدى نقاط التحول في تاريخ الحاسوب: اللحظة التي بدأ فيها أخيرا عدد كبير من المختصين في مجال الحواسيب يفهمون ماهيّة الحوسبة التفاعلية.
وبشكل عام، فقد كانت استراتيجية <ليكلايدر> في الوكالة ARPA تتلخص في البحث عن مجموعات بحث منعزلة تقوم بأعمال متوافقة مع رؤيته، لكي يرعاها بوساطة تمويله الوافر نسبيا، ويشكل منها حركة وطنية بإمكانها مواصلة العمل بعد رحيله. (في الواقع، انتقل <ليكلايدر>، أولا إلى الشركة IBMفي عام 1964، ثم إلى وظيفة جديدة في معهد ماساتشوستس للتقانة). وفي 25/4/1963، وفي مذكرته إلى الأعضاء والمنتسبين إلى «شبكة الحاسوب بين المَجَرِّية» Intergalactic Computer Network، الذين كانوا بمثابة باحثيه الأساسيين، حدد <ليكلايدر> جزءا أساسيا من استراتيجيته، هي وصل جميع حواسيبهم الفردية ونظم المشاركة في الوقت بشبكة حاسوبية واحدة تنتشر عبر القارة الأمريكية. وفي أواخر الستينات، بدأ خلفاء <ليكلايدر> في الوكالة ARPA، الذين كان قد انتقاهم بعناية، بوضع شبكته بين المجرية موضع التنفيذ تحت اسم آرپانِتْ Arpanet، وهي شبكة رقمية على المستوى الوطني تربط حواسيب جميع مراكز الأبحاث الممولة من الوكالة ARPA. بعد ذلك، وخلال السبعينات بدأ هؤلاء بتوسيع الشبكة آرپانت لكي تصبح شبكة الشبكات التي تعرف حالياً باسم الإنترنت.
والأمر الآخر القابل للنقاش، والذي يعد جزءا مهما من استراتيجية <ليكلايدر> هو أنه وجَّه معظم تمويل أبحاثه إلى الجامعات. وقد تابع خلفاؤه نفس السياسة، وهذا جعل تصوّر <ليكلايدر> حول التعايش بين الإنسان والآلة ينتقل بسرعة إلى صناعة الحواسيب السائدة، بواسطة جيل كامل من خريجي علوم الحواسيب. لقد كان هذا الجيل هو الذي بنى الشبكة أرپانت، وهو الذي اجتمع عام 1970 في مركز أبحاث «پالو ألتو» الأسطوري (PARC) التابع للشركة زيروكس، حيث صيغ تصوّر <ليكلايدر> للتعايش بالشكل الذي مازال مُعتَمدا حتى اليوم: حاسوب شخصي مستقل مجهز بشاشة لعرض الرسومات، وفأرة، وطابعة ليزرية تطبع المخرجات، وشبكة «إيثرنت» Ethernet محلية لوصل كل واحد بالآخر. ولا ننسى بالطبع الواجهات البينية interface التي اشتهرت بعد ذلك بواسطة الشركة آپل من خلال حاسوبها ماكنتوش ـ وهو الحاسوب الذي يتضمن النوافذ والأيقونات وقوائم الخيارات وقضبان اللف (أشرطة التمرير)scroll bars وكل ما تبقّى من أدوات معروفة.
أخيرا، كان هذا الجيل، إضافة إلى الطلبة الذين علّمهم، هو الذي سيقوم فيما بعد بهندسة ثورة الحاسوب الشخصي في الثمانينات، وثورة الشبكات في التسعينات – وذلك بعد أكثر من خمسين عاما على مباشرة <فوريستر> وزملائه التفكير في الحوسبة بالزمن الحقيقي.
المؤلف
M. Mitchell Waldrop
له كتاب جديد عن تاريخ الحوسبة بعنوان الآلة الحلم The Dream Machine، استوحِيَت منه هذه المقالة. حصل على الدكتوراه في فيزياء الجسيمات الأولية وعلى الماجستير في الصحافة من جامعة ويسكونسن – ماديسون. وكان عضواً في هيئة المراسلين لمجلتي «أخبار العلوم والهندسة» و«ساينس». وهو الآن كاتب مستقل يعيش في واشنطن العاصمة. وقد ألّف كتابين آخرين، الأول سنة 1987 حول الذكاء الصنعي بعنوان عقول من صنع الإنسان Man-Made Minds، والثاني سنة 1992 حول معهد سانتافي وعلوم التعقيد ويحمل العنوان: التعقيد Complexity.
مراجع للاستزادة
Bit by Bit: An Illustrated History of Computers. Stan Augarten. Ticknor and Fields, 1984.
A History of Personal Workstations. Edited by Adele Goldberg. ACM Press History Series. ACM Press, 1988.
Man-Computer Symbiosis. J. C. R. Licklider in In Memoriam: J. C. R. Licklider 1915-1990. Edited by Robert W. Taylor. Digital Systems Research Center Reports, Vol. 61. Palo Alto, Calif., 1990.
Digital at Work: Snapshots from the First Thirty-Five Years. Edited by Jamie Parker Pearson. Digital Press, 1992.
Transforming Computer Technology: Information Processing for the Pentagon, 1962-1986. Arthur L. Norberg and Judy E. O’Neill. Johns Hopkins University Press, 1996.
A History of Modern Computing. Paul E. Ceruzzi. MIT Press, 1998.
The Dream Machine: J. C. R. Licklider and the Revolution That Made Computing Personal. M. Mitchell Waldrop. Viking, 2001.
The Computer Museum History Center Web site is at www.computerhistory.org/
Scientific American, December 2001
(*) THE ORIGINS OF PERSONAL COMPUTING
(**) Real-Time Responses. يقصد بها التجاوب الفوري، أو المعالجة الفورية للمدخلات، بحيث يمكن لعمليات الحاسوب أن تضاهي إدراك الإنسان للزمن. (التحرير)
(***) Hands-On Hardware
(****)Man-Machine Symbiosis
(1) استخدمت الديودات المصدرة للضوء كوسيلة لإظهار نتائج العمليات التي يجريها حاسوب آلتير. (التحرير)
(2) طقم kit: مجموعة من دوائر وأجزاء متفرقة تباع كطقم، مع دليل إرشادي للتركيب.
(3) جميع مستخدمي (إنترنت) و(وِب). (التحرير)
(4) شخص مولع بالحاسوب ومنغمس كليا في تقانته وبرمجته، يستخدم خبرته الحاسوبية لأغراض غير مشروعة للنفاذ إلى المنظومات الحاسوبية، وأحيانا بهدف العبث بالبرامج والبيانات. (التحرير)