تفكيك المفاعلات النووية(*)
إن تفكيك منشأة نووية بلغت نهاية عمرها مهمة معقدة،
إنما ليس للأسباب التي قد تخطر في بالكم.
<L .M. وولْد>
في مكتب أنيق بمبنى بلدية ويسكاسِت في ولاية ميسوري تستطلع <J. فوس> مزايا موقع صناعي مساحته نحو 3.3 كيلومتر مربع، وهو الذي تخطط لأن يكون جاهزا للتطوير قريبا. ويوفر هذا الموقع ميزات منها سهولة الوصول إليه بوساطة الطرق البرية والحديدية والمراكب البحرية على حد سواء، وكذلك وجود كميات كبيرة من المياه للتبريد فيه، وهو موصول بشبكة التوتر العالي الكهربائية ولا يبعد سوى ميل واحد عن مطار المدينة، إضافة إلى أن الحكومة المحلية مستقرة والأهالي طيبو المعشر.
لكنْ هناك شَرَك؛ فالموقع ذو نشاط إشعاعي. وسوف تبقى أجزاء منه ذات نشاط إشعاعي حتى العام 2023 على الأقل، بل ربما لزمن أطول من ذلك بكثير.
يبعد الموقع 40 ميلا (نحو 64 كيلومترا) إلى الشمال الشرقي من بورتلاند ويحوي مِين يانكي Maine Yankee وهي أولى المحطات النووية التجارية الكبيرة لتوليد الطاقة الكهربائية التي بنيت في الولايات المتحدة، كما أنها إحدى أولى المحطات التي تغلق. وستكون بين المحطات الأولى من هذه المجموعة التي سوف تُفكك، ومهمة التفكيك هذه ليست بالمهمة الشيقة وهي لم تُدرس جيدا خلال فترة بناء المحطة.
تفكيك المنشآت النووية/ نظرة إجمالية
توجد لدى الولايات المتحدة 103 منشآت طاقة نووية قيد التشغيل، يعتبر كثير منها حجر الزاوية للاقتصاد المحلي. ويخطط المالكون اليوم لوقفها نهائيا عن العمل وتفكيكها ـ وهذه مهمة معقدة لم تؤخذ بالحسبان بكامل أبعادها في الفترة التي بنيت فيها هذه المنشآت.
تعتبر الإعادة الناجحة لمواقع هذه المنشآت إلى منزلة «حقل أخضر» من دون قيود على استخدامه، أمرا ضروريا لانتعاش الصناعة النووية؛ فالجمهور لن يقبل ببناء منشآت جديدة ما لم تُحسم أوضاع المنشآت المغلقة. توفر المنشأة «مين يانكي»، وهي إحدى أولى المنشآت النووية التجارية الكبيرة، حالة تستحق الدراسة بسبب التعقيدات التقنية والبيئية والاقتصادية لعملية تفكيكها. ولايزال السؤال: ما مدى النظافة من الإشعاع المطلوبة؟ واحدا من الأسئلة التي لم يُبت فيها بعد في مختلف أنحاء البلاد. |
وقد استدعيت المستشارة <فوس> لكي تجد بديلا للمنشأة مين يانكي التي كانت، مثلها مثل جميع مفاعلات الطاقة الأخرى تقريبا، حجر الزاوية للاقتصاد المحلي، فقد كانت تدفع 90 في المئة من ضرائب الملكية لمدينة ويسكاست، حين كانت قيد التشغيل من العام 1972 وحتى نهاية العام 1996، كما كانت تؤمّن معظم الوظائف المرتفعة الأجر. والمنشأة مين يانكي هي كمثيلاتها، ذات أهمية حيوية للمجتمعات التي تقام فيها، ولكونها الرائدة في التفكيك فهي ذات أهمية حاسمة لآمال الصناعة النووية بالانبعاث. ولا يحتاج التفكيك إلى تطوير تقانات جديدة لكن لدى الجمهور والسياسيين أسئلة لا بد من أخذها بالحسبان، ومنها: ما حجم العمل الهندسي الذي يجب القيام به وما درجة النظافة المطلوبة. (ففي حين تعتمد بلدان أخرى اعتمادا أكبر من اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة النووية، نجد أن البرنامج النووي الأمريكي أقدم، وهذا يجعل عملية تفكيك المنشآت النووية أكثر تقدما في الولايات المتحدة الأمريكية.)
لدى الولايات المتحدة 123 مفاعلا كبيرا بالمقاس التجاري جرى تشغيلها، منها 103 مفاعلات تعمل حاليا. وقد تحدثت عدة شركات تُشغل هذه المفاعلات حول بناء مفاعلات جديدة، وكان هذا مدعاة اهتمام جديد على مستوى البلاد كلها [انظر: «الجيل التالي من الطاقة النووية»، مجلة العلوم، العددان 5/6(2002)، ص 4]. وإذا لم تكن الصناعة النووية قد ماتت بالفعل (وهذه نقطةٌ موضع جدل لأنه لم تُطلب أية منشأة نووية منذ العام 1973، ما عدا تلك التي طُلبت ثم ألغي طلبها) فسوف يكون من بين العقبات التي لا بد من التغلب عليها قبل بناء منشآت جديدة هو التفكيك الناجح للمنشآت القديمة. وينبغي للصناعة أن تبرهن أن المساحة التي كانت مقامة عليها منشأة ما ليست منطقة صناعية جرت التضحية بها إلى الأبد وأنه يمكن أن تعود إلى منزلة الأراضي الخضراء النظيفة، وهو الأمر الضروري لمعظم أنماط إعادة البناء.
العمل جار على إزالة التلوث(**)
يبدو أن «التفكيك» لا يعني «القضاء على التأثيرات الضارة» بل يعني نقل المواد ذات النشاط الإشعاعي من مكان إلى آخر. وهذا يعني، في المنشأة مين يانكي، 105 آلاف طن من النفايات، منها 68 ألف طن خرسانة وأكثر من نصف النفايات بقليل، 59 ألف طن ذو نشاط إشعاعي. وبما أن للمنشآت الحديثة طاقة توليد تفوق بنحو 50 في المئة من طاقة المنشآت القديمة فسيكون حجم أنقاضها أكبر أيضا.
أثناء التفكيك ترتفع قبة الاحتواء للمنشأة «مين يانكي» فوق بقايا قاعة العنفة، حيث كانت طاقة البخار تحوّل فيما مضى إلى كهرباء. وكانت المواسير الواسعة الأربع في الأسفل تنقل الماء المالح بين الخليج والمكثّف حيث يُعاد تحويل البخار إلى ماء. وفوقها, خارج القبة, توجد ثلاثة خطوط كانت تنقل البخار من مولدات البخار الثلاثة داخل قبة الاحتواء وثلاثة خطوط كانت ترجع الماء لإعادة غليه. أما المدخنة فكانت تستخدم للإطلاق المتحكم فيه للغازات ذات النشاط الإشعاعي. |
كانت هناك خطة لإنقاص حاد لكمية النفايات التي يجب نقلها من مكان إلى آخر. في الأصل، أراد مالكو مين يانكي تفتيت الخرسانة ورميها في أساسات البناء ثم صب مزيد من الخرسانة فوقها لصنع كتلة كبيرة منها. إلاّ أن القانون المحلي يمنع دفن النفايات النووية بهذه الطريقة دون إجراء استفتاء على مستوى الولاية كلها. (ما زالت هيئة التنظيم النووي The Nuclear Regulatory Commission(1) تعتبر أن الدفن في الموقع نفسه خيار مفيد، لكن حتى الآن لم تجربه أية منشأة مدنية) ولذلك فإن المنشأة، عوضا عن ذلك، سوف تُرحّل بمعدل حمولة قطار كل أسبوع. وبهذا الترحيل تَظهر مشكلات وسهولة التفكيك على حد سواء.
في الموقع، في شبه جزيرة محاطة بالماء المالح إلى الجنوب من المدينة حيث تعشش طيور مالك الحزين فوق أبراج الكهرباء، مزقت الآليات الضخمة الأبنية غير النووية وحملت المعدن والخرسانة في عربات السكة الحديدية التي تتجه إلى المَكبّات dumps النووية في ولاية ساوث كارولينا أو أوتا أو إلى مكبّات غير نووية لأنقاض البناء في إقليم نياگارا بنيويورك.
ويجري تشريح المنشأة بصورة تشبه إلى حد ما تشريح ضفدعة في مختبر البيولوجيا في مدرسة ثانوية. وخلال هذه الزيارة كانت قبة الاحتواءcontainment dome الضخمة تستند إلى طرف كتلة متشابكة من الحطام كانت فيما مضى قاعة العنفة (التوربين) turbine hall، حيث كانت تتحول طاقة البخار المسخن نوويا إلى قوة تدير مولّد الكهرباء. ويرى الآن بوضوح الدرب الذي كان يسلكه ناتج المفاعل. هناك ثلاث مواسير، كل منها بحجم ماسورة توزيع الماء الرئيسية، تخرج من جدار بناء الاحتواء لتنقل البخار الذي تبلغ حرارته 260 درجة سيلزية إلى العنفات عند ضغط يفوق 70 كيلوغراما على السنتيمتر المربع. وتوجد تحت كل ماسورة ماسورة أخرى أكبر منها كانت تعيد الماء لتسخينه من جديد. وكانت هذه المواسير تُراقَب بصورة مشددة لكشف أية دلائل على وجود تلوث مشعّ أو وجود اضطراب في درجة الحرارة أو الجريان. أما الآن فهي قابعة عرضة للريح تنتظر دورها لتُنقل إلى عربات سكة حديد لا غطاء لها.
أما القبة فهي مشكلة أكثر تحديا. إنها احتواء نموذجي لمنشأة نووية كبيرة. وهي واسعة لدرجة أنها يمكن أن تستوعب قاعة رياضية لمدرسة ثانوية. يبلغ سمكها عند القاعدة 122 سنتيمترا ينخفض بالتدريج إلى 61 سنتيمترا عند القمة، وفيها طبقات متمركزة من القضبان الفولاذية لتقويتها. وهي تزن نحو 28 ألف طن.
استخدم العمال مناشير ألماسية لإخراج المكونات الأساسية من القبة. وللخرسانة على سطح القبة الخارجي بنية خشنة أشبه بسطح طريق أسفلتي، أما حيث أزيلت الكتل فيبدو السطح مصقولا مثل سطح طاولة لمّاع. يقول <M .J. مايسنر> [الموظف النووي الرئيسي في المشروع]: «كان إجراء التقطيعات القليلة الأولى في منظومة ذات علاقة بالأمان النووي أمرا بالغ الصعوبة، مع أننا نعلم أنها لن تعود أبدا.» إن ما كان مصمما لأن يكون محكما بحيث لا ينفذ الهواء منه حتى لو بلغ الضغط الإضافي3.5 كيلوغرام على السنتيمتر المربع، هو باب خشبي متين مقفول، يكاد الآن لا يصمد أمام هبّات النسيم.
ومع أن الأمر يبدو منافيا للبديهة إلاّ أن إحدى أكثر المهام سهولة حتى الآن كانت إزالة المكونات النووية الرئيسية، مثل وعاء المفاعل ومولدات البخار الثلاثة من وسط المنشأة. فهذه أُخرجت كلها دفعة واحدة. أما وعاء المفاعل، وهو وعاء عملاق من الفولاذ الكربوني له بطانة من الفولاذ غير القابل للصدأ، فقد قطعت «الباطنيات» internals فيه، وهي الهيكل المعدني الذي كان يثبت قلب المفاعل ويوصل الماء إلى طريقه المتلوي ـ بوساطة النفاثات المائية وأدوات القطع. وقد نفذ العمل بالتحكم من بعد وتحت الماء. (وإنه لأمر ذو دلالة أن صناعة المفاعلات الأمريكية لم تبق حية المدة الكاملة لدورة حياة المنشآت الكبيرة الأولى فقامت شركة فرنسية،Framatome ANP ، بتجهيز التقانة اللازمة لتقطيع المكونات المعدنية الكبيرة.)
بعد ذلك مُلئ قلب المفاعل بالخرسانة، أو “حُقن” كما يقال بلغة الصناعة، لإنقاص احتمال تبعثر أجزائه في القرون القادمة. ثم رُفع الوعاء تحضيرا للترحيل بوساطة بَرْج(2) إلى مكبّ النفايات ذات المستوى الإشعاعي المنخفض في بارنويل بساوث كارولينا. وتُرحّل المواد ذات النشاط الإشعاعي الأقل إلى إنڤيروكير في كليف بولاية أوتا على بعد ما يقرب من 855 ميلا إلى الغرب من سولت ليك سيتي. كما استُخدم مكبّ ثالث في المحمية النووية في هانفورد التابعة للحكومة الفدرالية في الوسط الجنوبي لولاية واشنطن لبعض عمليات التفكيك. والفائدة التي تجنيها البيئة من نقل المواد هي أنه من الأسهل حراستها ومراقبتها في مكان مركزي.
أين توجد المنشآت النووية ومكبّات نفاياتها(***)
تُشغّل المفاعلات النووية التجارية الكبيرة (اللون الأزرق) بصورة رئيسية في الشمال والشرق من الولايات المتحدة الأمريكية. وسوف تفكك المنشآت المغلقة (اللون الأحمر) وترسل نفاياتها ذات المستوى الإشعاعي المنخفض إلى مكبات النفايات في بارنويل بولاية ساوث كارولينا أو في كليف بولاية أوتا. كما أن المحمية هانفورد الفدرالية في ولاية واشنطن استخدمت لعدد من عمليات التفكيك للمنشآت النووية. ومع افتراض أن الموافقة على المَرْفِق المقترح للنفايات العالية المستوى الإشعاعي وأن بناءَه في يوكا ماونتن (اللون البرتقالي) في نيفادا سينفذ في الموعد المخطط له، فهي لن تفتتح قبل العام 2010. |
أما «الباطنيات» فسوف ترحّل إلى حيث يُرحل الوقود ـ أي حبيبات اليورانيوم المحشوة في قضبان رفيعة كأقلام الرصاص. نظريا، سترحل الباطنيات إلى يوكا ماونتن في نيفادا حيث تأمل وزارة الطاقة بناء مستودع للنفايات النووية. وعلى أية حال فسوف تنتظر الباطنيات داخل أربعة براميل عملاقة من الفولاذ والخرسانة إلى جانب 60 برميلا آخر مملوءة بالوقود المستهلك.
وتشكل هذه البراميل، الموجودة على قطعة أرض مساحتها نحو 24 ألف متر مربع، منشآت تخزين الوقود المستهلك المستقلة Independent Spent Fuel Storage Installation الجديدة التي سيدخل اسمها المختصر ISFSI المعجم النووي، كما تدخل أسماء أخرى مشابهة تبرز في منشآت في أنحاء البلاد. وفي المنشأة مين يانكي حواجز ترابية تحيط بالحاويات التي يبلغ ارتفاعها نحو 5.4 متر وسياج مكهرب وكاميرات تصوير ذات دارة مغلقة ومبنى حراسة متين المظهر. وإذا التزمت وزارة الطاقة بآخر مواعيدها لإنهاء مستودع يوكا ماونتن وصارت تستقبل النفايات فيه، وهذا أمر رائع، فسيمكن استخدام قطعة الأرض هنا بعد نحو 20 سنة. لكن المتوقع ألاّ يحدث هذا إلا بعد ذلك الموعد بكثير.
وفي الحقيقة، مع أن هيئة التنظيم النووي ترفض إعطاء ترخيص للبراميل من غير تحديد إلاّ أنه ليس من الواضح ماذا يمكن أن يجعل هذه البراميل غير آمنة الاستخدام خلال السنين المئة القادمة أو أكثر، سوى ارتفاع مستوى البحار في العالم أو ربما الإرهاب. ويقول المنتقدون إن البراميل قابلة لأن يصيبها العطب إذا هوجمت. واقترح البعض حفظ الحاويات داخل القبة لكن المالكين يعارضون ذلك لكون القبة لا تتسع لهذه الحاويات. ويجادل الخبراء النوويون في أن تحطيم الحاويات عسير وأن المادة في داخلها، وقد أصبحت درجة حرارتها منخفضة بصورة كافية بحيث لا تحتاج إلى تبريد ميكانيكي، لا تنزع إلى التناثر هبابا والانتشار إلى مسافات كبيرة. وتقول هيئة التنظيم النووي إنها تعتقد أن البراميل آمنة، لكن الوكالة فرضت عليها قواعد أمنية جديدة في الشهر 8/2002، وهذه القواعد سرية.
تشريح منشأة(****)
سوف يُنقل نحو 106 آلاف طن من النفايات في المنشأة مين يانكي إلى ثلاثة مكبّات نفايات تبعا لمستوى نشاطها الإشعاعي. وأكثر من نصف كمية المواد ذو نشاط إشعاعي. وبغية التوضيح في الرسم أدناه، جرى تعديل منظر التصميم الفعلي للمنشأة ومخططها.
حفرت حفرة في جدار قبة الاحتواء للتمكن من إزالة المكونات. وقد شُحن الضاغط وثلاثة مولدات بخار [للتبسيط لا يُظهر الشكل سوى اثنين] وهي سالمة إلى مستودع تخزين في بانويل بساوث كارولينا. تجري إزالة قضبان الوقود المستهلك التي تحتوي على حبيبات اليورانيوم لتوضع في براميل جافة لتخزينها تخزينا مؤقتا في الموقع [قد يستمر عقودا حتى يفتتح مرفق مركزي]. أما «الباطنيات» ـ وهي الأطر المعدنية التي كانت تحمل القلب وتسيّر الماء عبر المنشأة ـ فسوف تملأ في النهاية أربعة من 64 برميلا في المنشأة مين يانكي. لقد «نُقر» السطح الخرساني حول وعاء المفاعل أو نُسف، لإزالة الغطاء، وهي الطبقة الملونة. بعد أن أُزيلت المكونات مُلئ وعاء المفاعل بالخرسانة وجُهز لنقله إلى بارنويل. غُسلت الدارات الأولية كيميائيا لإزالة الرواسب ذات النشاط الإشعاعي. [في المنشأة مين يانكي ثلاث دارات من المواسير لكن الشكل يُظهر اثنتين فقط للتبسيط.] تذهب النفايات ذات المستوى الإشعاعي المنخفض إلى إنفيروكير في كليف بولاية أوتا. أما المواد غير النشطة إشعاعيا فترسل إلى مدفن نفايات مخصص لأنقاض البناء في ولاية نيويورك.
التخزين في الموقع نظرا لعدم وجود مرفق مركزي متاح حتى الآن للمواد ذات المستوى الإشعاعي العالي، فإن المنشآت النووية التجارية تخصص أمكنة مستقلة لتخزين الوقود المستهلك وتضع فيها براميل نفاياتها العملاقة. وفي بعض المنشآت (في اليسار) تُوضع هذه الحاويات من الفولاذ والخرسانة أفقيا، لكن في المنشأة مين يانكي وضعت البراميل شاقوليا تحت مجازات أرضية في قطعة أرض مساحتها نحو 300 24 متر مربع. |
كم هو نظيف ما يعتبر «نظيفا»؟(*****)
إن الوقود مشكلة واضحة. لكن الكثير من سائر المنشأة يمثل مشكلة أكثر دقة. لقد أجرى التقنيون 14300 قياس كان أكثر من نصف عددها في مناطق لم يتوقعوا أن يجدوا فيها تلوثا. ومن ناحية أخرى هناك بعض الأجزاء التي لم تختبر إلا قليلا، مثل منظومة تبريد المفاعل ومنظومة تبريد القلب الاحتياطية، والحجم الكيميائي ومنظومة التحكم؛ وقد افترض أن هذه الأجزاء قذرة. وقد أخذت بعض العينات بوساطة عربة تسير فوق الأرض بسرعة تقل عن خمسة أميال في الساعة. وأُرسل العديد من العينات إلى مختبرات خارج الموقع بغية تحليلها بحساسية أكبر مما كان ممكنا باستخدام مكاشيف گايگر-مولر.
شبكة مؤلفة من 24 عينا تحمل تجميعات الوقود ذي النشاط الإشعاعي طول الواحدة من هذه العيون نحو 3.6 متر في الأعلى، وهذه التجميعات تغطى بفولاذ سمكه 6.3 سنتيمتر وتوضع في صومعة من الخرسانة سمكها 72 سنتيمترا وارتفاعها 5.8 متر (في اليمين). |
كان مستوى الإشعاع المتبقي الذي تسمح به قوانين الولاية والقوانين الفدرالية منخفضا لدرجة أن مديري المنشأة استنتجوا أنه كان يتعين عليهم أن يحددوا مستوى إشعاع الخلفية العادي خشية أن ينتهي بهم الأمر لأن يزيلوا النوى المشعة radionuclides التي كان يمكن أن تكون موجودة حتى وإن لم تكن المنشأة قد بنيت أصلا. (فعلى سبيل المثال، أحد المصادر الرئيسية لإشعاع الخلفية هو السّقط fallout من التجارب النووية في الجو، وهو في معظمه سيزيوم 137). وهكذا توجهوا إلى المركز الرئيسي لأحد مالكي المنشأة مين يانكي، وأخذوا عينات للكشف عن النشاط الإشعاعي بيتا من خرسانة مطلية وأخرى غير مطلية ومن البلاط الخزفي ومن الأسفلت.
وبينما كان القائمون على العمل يحاولون حذف مصادر الإشعاع الطبيعية كانوا يبحثون كذلك عن المصادر غير الطبيعية. وكجزء من اتفاق مع مجموعة بيئية محلية، هي أصدقاء الساحل، دعوا العمال السابقين للعودة إلى مين يانكي لبحث موضوع الأمكنة التي طُمرت فيها المواد أو اندلقت. ويصنف مكتب المحاسبة العام(GAO) ، وهو الذراع البحثية للكونگرس، هذه المناسبة كعامل يساعد على إنهاء التفكيك بسرعة.
تكون مفاعلات الماء المضغوط، مثل المفاعل مين يانكي، مجهزة بطبقات متعددة لكي تحتجز المواد ذات النشاط الإشعاعي داخلها، لكن هذه المواد تتسرب دائما وتصل إلى أمكنة غير متوقعة. وفي حالة مين يانكي، تعلق الأمر بالكوبالت 60 في ملعب البيسبول الخاص بالموظفين. (يعتقد القائمون على التفكيك أن الكوبالت 60 وصل إلى هناك مع الثلج الذي جُرف من المنطقة المحيطة بالمنشأة مباشرة.)
يصنع مفاعل توليد الطاقة نوعين من المواد ذات النشاط الإشعاعي. والنوع المهيمن هو نواتج انشطارية fission products. فحين تعمل المنشآت النووية تشطر اليورانيوم، الذي لا يصدر إلا قليلا جدا من الإشعاع لدرجة أن التقنيين يمسكون الوقود الخام بأيديهم وهم لا يرتدون سوى قفازات قطنية. لكن اليورانيوم ينشطر إلى أكثر من عشرة أنواع رئيسية من الشظايا التي تضمحل decayبدورها إلى أخرى. وتكون الشظايا والعديد من نواتج الاضمحلال غير مستقرة إلى حدّ بعيد. وهذه سرعان ما تعطي طاقة ـ على صورة أشعة گاما أو جسيمات ألفا وبيتا وأحيانا شعاع گاما وجسيم ـ لتعود إلى التوازن. يكون الوقود في البداية على شكل حبيبة أو قرص خزفي مغلف داخل أنبوب معدني مغمور في الماء العادي. ولكن أثناء التشغيل يتشقق الخزف؛ وفي عدة منشآت، ومنها مين يانكي، رشحت الأنابيب وتسربت منها نواتج الانشطار ووصلت إلى ماء التبريد. ويلتصق الكثير من الجسيمات المشعة بالسطح الداخلي للوعاء أو للمواسير.
في التصميم المبني على الماء المضغوط يجري الماء الذي يدور بمحاذاة الوقود عبر مبادلات exchanger حرارية عملاقة، تدعى مولدات البخار، مندفعا داخل مواسير معدنية رقيقة الجدران بينما يغلي ماء نظيف خارجها ويتحول إلى بخار يتدفق متجها إلى العنفة. وفي مين يانكي رشحت هذه المواسير أيضا. وكما هو شائع في المنشآت الصناعية فقد كانت المياه الملوثة تُصرف أحيانا في مجاري التصريف.
وللتغلب على مشكلة نواتج الانشطار هذه قام تقنيو المنشأة بغسل المواسير بالمواد الكيميائية فخفضوا بذلك الإشعاع في دارة التبريد الأولية إلى خُمسه. أما سطح الخرسانة الملوث فقد لجأ التقنيون إلى تنقيره وإزالة ربع إلى نصف البوصة الأولى منه، ثم شُفط الغبار الناتج ومُرر عبر منظومات ترشيح فعالة.
الوقود هو مشكلة واضحة؛
لكن الكثير مما يتعلق بالمنشأة النووية يمثل مشكلة أكثر صعوبة.
ولكن حتى لو أن المواسير أو الوقود لم يرشح قط هناك نوع آخر من التلوث، وهو نواتج التنشيط activation products، فالذرات التي صدمتها النيوترونات الناتجة من اليورانيوم المنشطر تمتص النيوترونات وتصبح غير مستقرة، أو ذات نشاط إشعاعي، بدلا من أن تنشطر. وقد وجد التقنيون دليلا على وجود نواتج التنشيط حتى على عمق قدمين داخل الخرسانة. وعلى مدى سنوات التشغيل تكون باطنيات المفاعل على العموم قد تحولت بفعل التشعيع النيوتروني تحولا يصبح معه من الضروري معاملتها كنفايات ذات مستوى إشعاع عال.
وحسب هيئة التنظيم النووي (NRC) فإن أحد نواتج الانشطار الرئيسية هو الكوبالت 60 وهو مصدر مهم للنشاط الإشعاعي إلى جانب الوقود. إنه ينتج من جراء تفاعل النيوترونات مع الكوبالت 59 أو النيكل، وكلاهما مكونان يدخلان في مختلف السبائك المعدنية. لكن هناك ما يشفع للكوبالت 60؛ فعمر النصف له، أي الفترة التي يستغرقها نصف المادة لكي يصدر جسيماته وأشعة گاما ويتحول إلى نيكل 60 غير مشع، هو فقط 5.27 سنة. ومن الناحية النظرية، بإمكان العمال انتظار انقضاء الزمن اللازم، فخلال 21 سنة يزول 15/16 من الكوبالت 60.
لكن في المنشأة مين يانكي كما في منشآت أخرى كثيرة يبقى الحافز هو التحرك بسرعة. وأحد أسباب ذلك هو التكلفة التي تميل إلى الارتفاع مع مرور الزمن. وسبب آخر تتصف به المشروعات النووية تعلّم المالكون أن يخشوه: إنه القواعد المتغيرة. وتماما مثلما أدى تغيير التنظيمات إلى تأخير كبير في بناء المنشآت، كذلك يمكنه أن يؤدي إلى تأخير في تهديمها. وثمة مشكلة تتعلق بهذا الأمر، وهي هل ستكون مستودعات النفايات ذات المستوى الإشعاعي المنخفض جاهزة في وقتها. فإذا توجب إغلاق واحد أو أكثر من المستودعات الثلاثة قيد الخدمة حاليا في الولايات المتحدة ولم يكن هناك عدد كاف من المستودعات الجديدة التي تقرر فتحها، فإن الأسعار يمكن أن ترتفع باطراد أو يمكن أن يصبح التخلص من النفايات غير متاح. حاليا، يُمكن أن تبلغ نفقات التخلص من النفايات نحو 600 دولار للقدم المكعبة (28 لترا تقريبا.)
وفي الحقيقة، حدث تغير في القواعد منذ إغلاق المنشأة مين يانكي وازدادت التحديات التنظيمية. كان التحدي في العام 1997 هو تطبيق معايير هيئة التنظيم النووي من أجل تحرير غير مقيد لملكية ما، لكن القواعد الآن أصبحت أكثر صرامة.
إن معيار الهيئة NRC هو «أخفض ما يمكن الوصول إليه» لكن ليس أكثر من 25 ميلّيريم millirem في السنة كإشعاع إضافي (إضافة إلى التعرض من الخلفية الإشعاعية في تلك المنطقة) لأحد العناصر الوسَطية من مجموعة حرجة أو حساسة. أما وكالة حماية البيئة فلديها معيار للمواقع الملوثة كيميائيا يعتمد على احتمال واحد من المليون لسرطان إضافي. وهذا يعادل 15 ميليريم في السنة بصورة لا يكون معها أكثر من 4 ميليريم من ذلك المقدار آتيا من المياه الجوفية.
إن الميليريم هو وحدة غريبة ليس من السهل التعامل معها. وهي ليست مباشرة وحدة إشعاع لكنها وحدة عطب بيولوجي. وهي تُشتق من الرونتجن، قياس القدرة التأيينية لأشعة گاما. لكن أنواع الإشعاع الثلاثة المهيمنة ـ ألفا وبيتا وگاما ـ تختلف في فعاليتها البيولوجية . ويجمل الريم rem ، وهو الاسم المختصر من «المكافئ البشري للرونتجن» rontgen equivalent man، الأشعة الثلاثة في رقم واحد.
وتؤكد الهيئة NRC أن معاييرها تؤمن الوقاية بشكل كاف. وهي حاليا المعايير الفدرالية. لكنها إلى جانب ذلك تفقد بسرعة صلتها الوثيقة بالموضوع. وسبب هذا أن الحَكَم النهائي للصحة والأمان، وهي الولايات، بدأت تتدخل. ففي عام 2000 خفّضت الهيئة التشريعية في ولاية مين المقدار إلى 10 ميليريم بحيث لا يكون أكثر من 4 منها آتيا من المياه الجوفية. وقد خطت ولايات ماساتشوستس ونيويورك ونيوجرسي خطوات مشابهة مع أن الولايتين الأخيرتين ليس لديهما حتى الآن مفاعلات جاهزة للتفكيك الكامل.
والرقم عامل مهم لأن التنظيف يصبح أكثر تعقيدا بمجرد أن تضيق المعايير. وحين يتعلق الأمر بالإشعاع يبدو أنه يمكن القول ما من معايير يمكن اعتبارها متشددة بما فيه الكفاية.
يعتقد البعض أن قانون مين هو سابقة سيئة. لكن <M .S.فِرتِل> [نائب رئيس معهد الطاقة النووية، وهو الجمعية المهنية للصناعة] يقول: «ماينبغي لنا عمله هو وضع معايير للتنظيف مستندة إلى العلم السليم وإلى حماية الصحة وإلى الأمان؛ ومعايير مين مازالت دون هذا الحد بكثير وهي لا تمثل أفضل تصرف بموارد المجتمع.»
ويلاحظ <D .J. ويرنر> [الذي كان مدير المراقبة طويلة الأمد في وزارة الطاقة خلال رئاسة كلينتون] أن متطلبات التنظيف النووي تناقش في عالم الإيديولوجيين. فمن جهة، هناك أناس يقولون إنها آمنة جدا لدرجة أنه يمكنك أن تضعها في طعامك؛ وهناك آخرون يقولون «طفلي سيموت» أو على الأقل «سيصبح المستثمرون عصبيي المزاج». هناك قدر سيئ مرتبط بهذه المواقع. وهذه ردود أفعال عاطفية وليست منطقية. وسنكون في وضع سيئ لو كان لدى الناس مثل ردود الأفعال هذه حول أنابيب الغاز أو الكابلات الكهربائية.
مغلي أم مضغوط(******)
يوجد نوعان من المفاعلات قيد التشغيل في الولايات المتحدة. يبلغ عدد مفاعلات الماء المضغوط 69 مفاعلا من أصل 103 مفاعلات، والبقية هي مفاعلات الماء المغلي.
في مفاعل الماء المغلي، يغلى الماءُ في المفاعل ويستخدم البخار لتدوير العنفة تماما مثلما تستخدم المنشآت التي تعتمد على الفحم الحجري البخارَ لعمل الشيء ذاته. لكن البخار الآتي من المفاعل ذو نشاط إشعاعي خفيف. وهذا التصميم أكثر كفاءة بقليل (من مفاعل الماء المضغوط) من حيث الوقود، وقد اعتُبر ذلك مهما من قبل المخططين حين اخترعت المفاعلات، لكن وقود اليورانيوم الآن غير مرتفع الثمن. يسخن مفاعل الماء المضغوط الماءَ في المفاعل ويدفعه إلى مبادل حراري يدعى مولد البخارsteam generator. يجري ماء المفاعل عبر الآلاف من المواسير الرقيقة الجدران. وخارج هذه المواسير يغلي ماء نظيف ليس له نشاط إشعاعي ويتحول إلى بخار لتدوير العنفة. وهكذا فإن الماء ذا النشاط الإشعاعي يبقى في مبنى المفاعل ولا يدخل قاعة العنفة ( ما لم يحدث تسرب في مولد البخار، وهذا ما حدث في المنشأة مين يانكي وفي منشآت أخرى كذلك.) |
ويأتي تقييم آخر أقل تقنية لكنه أكثر قربا من مزاج الجمهور من <W . J.أوكونيل> [مدير ويسكاست بالوكالة]: «أعتقد أن المستوى الوحيد المقبول هو صفر.»
وقد يكون 25 ميلّيريم و10 ميليريم فعليا الشيء ذاته. ولكن الأسوأ من ذلك هو أنه حتى معنى 25 ميليريم مجهول إلى حد بعيد. وفكرة أن لهذا المقدار تأثيرا في الصحة ماهي إلا جزء من افتراض خطير لكنه غير مبرهَن حول التعرض للإشعاع ـ وهذا بخلاف العديد من مصادر الخطر الكيميائية حيث لا توجد عتبة دونها تكون هذه المصادر غير مؤذية. وفي الحقيقة، إن النموذج الرياضياتي المستخدم لاستقاء تنظيمات الأمان، يفترض أن حدا معينا من التعرض، وهو 10000 (شخص-ريم) من الجرعة الجماعية سوف يسبب بين واحد وثمانية سرطانات مميتة بغض النظر عن طريقة تطبيقه. فيمكن أن يكون ال10000 شخص-ريم نتيجة لتعريض 10000 شخص إلى ريم واحد لكل منهم أو تعريض 000 100 شخص إلى عُشر ريم لكل منهم، أو تعريض مليون شخص لجزء من مئة من الريم لكل منهم وهذا بخلاف الجرعة الفردية؛ إذ تؤدي جرعة مقدارها نحو 350 ريم، دون معالجة طبية، إلى قتل نصف عدد الذين تعرضوا إليها بما يسميه المنظمون «الموت الفوري» مقارنة «بالهلاك الكامن بسبب السرطان» الناتج من جرعات جماعية.
ومن ناحية أخرى، يجادل فيزيائيو الصحة أنه لم يبرهَن على وجود تأثيرات دون 10 ريم. فالتأثيرات الحادة مثل الغثيان وسقوط الشعر لا تظهر إلا بعد أن يكون الشخص قد أخذ جرعة تقدر بعشرات الريمّات.
وثمة عدة مقاييس أخرى. مثلا، تقدر الحكومة الفدرالية أن الجرعة السنوية للشخص الأمريكي العادي الناتجة من جميع المصادر الإشعاعية، بما فيها الأشعة الكونية وغاز الرادون والأشعة السينية الطبية، هي بحدود 360 ميليريم. وهذا يعني أن 25 ميليريم من مفاعل نووي مفكك تعادل تقريبا جرعة شهر إضافي كل سنة. فأحد قاطني ويسكاست التي تقع على مستوى البحر سينال تقريبا المقدار الإضافي نفسه من الإشعاع إذا انتقل إلى دنڤر التي تقع على ارتفاع 1580 مترا فوق مستوى البحر حيث يكون حجب الغلاف الجوي للأشعة الكونية أقل. (إن الفرق في الخلفية الطبيعية للإشعاع هو أحد أسباب أن حد التعرض للإشعاع قد وضع بدلالة جرعة إضافية من نشاط بشري معين، وليس جرعة كلية. ولو لم يكن الأمر كذلك لأمكن، طبقا لمعايير صارمة، اعتبار العيش في دنڤر مخالفا للقانون). ويقدر مختبر لوس ألاموس الوطني أن الإشعاع الكوني عند مستوى البحر يراوح بين 25 و30 ميليريم في السنة، وعند ارتفاع 2736 مترا نحو 90 ميليريم.
وبصورة مغايرة للحد الأعظم البالغ 25 ميليريم من المفاعلات المفككة يُسمح للمنشآت النووية العاملة بأن تسبب تعرض الناس الذين يعيشون بالقرب منها إلى 100 ميليريم في السنة، مع أن التعرض الفعلي هو أدنى من ذلك بكثير. ويبلغ الحد المسموح به لعمال المنشآت النووية 5 ريم في السنة مع أن المشغلين يسعون إلى ألاّ يتجاوز الحد الأعظم 2 ريم في السنة. ومعظم الموظفين يتعرضون لأقل من ذلك بكثير.
إضافة إلى ذلك سوف يتحمل العمال خلال عملية التفكيك كمية أكبر من الجرعة في سبيل تخفيض تعريض الجمهور للإشعاع. إن لدى المشروع مين يانكي “ميزانية” لتعرض العاملين للإشعاع، 1115 شخص-ريم خلال تنفيذ العمل في موقع واحد. ويقارن هذا بالتعرض 440 (شخص-ريم) خلال العام الذي توقف فيه المفاعل لإعادة تزويده بالوقود.
وفي حين يبدو الرقم 25 ميليريم منخفضا إلا أنه سيكون من الصعب للشخص العادي أن يتعرض لإشعاع بهذا القدر. وتفترض الهيئة NRC أن الشخص الأكثر احتمالا لامتصاص مثل هذه الجرعة هو مزارع يأكل من محصوله المنتج في الموقع والمرويّ من بئر محفورة في البقعة الأشد تلوثا.
لكن الزراعة يمكن أن تخيف «فوس» [مستشارة إعادة التنمية] لأنه لن يترتب على الزراعة الكثير من الضرائب، بينما الموقع ثمين جدا كعقار صناعي. وفي الحقيقة ليس في ولاية مين سوى القليل من الناس الذين ينتجون جميع غذائهم بأنفسهم. ويشك في أن شخصا ما عمل في الموقع ثماني ساعات في اليوم، و250 يوما في السنة وكان يأكل طعاما منتجا في مكان آخر ويشرب ماء المدينة، يكون قد تعرض لأي تعرض إضافي على الإطلاق، بل ربما يكون تعرضه في تلك السنة أقل مما يتعرض له مسافر بالطائرة عبر القطب. ومع ذلك فإن المبدأ المرشد لتحرير الأرض تحريرا غير مقيد هو وجوب كونها بحالة جيدة لأي استخدام يمكن تصوره.
ستكون هناك رقعة كبيرة واحدة من الخرسانة على
ساحل «مين» لن يعلق عليها الثلج.
إن المعايير صارمة لدرجة أن التأكد من الالتزام بها يصبح مشكلة تقنية. ويقول <T .E. هاوس> [مدير الشؤون العامة والحكومية في المنشأة مين يانكي]: «لاتستطيع قياس ذلك؛ فعليك نمذجته.» يُعايَر الإشعاع عادة بالإصدار الطاقي في الساعة، ويحتاج تعيين الإصدارات السنوية بالميليريم، أي بأجزاء من الألف من الريم، إلى قياس الإصدارات كل ساعة بأجزاء من المليون من الريم.
ومما يزيد في التعقيد هو أن كل نظير isotope يدوم مدة زمنية مختلفة. فعلى سبيل المثال، كان الكوبالت 60 من بين أكثر النظائر انتشارا عند الإغلاق وعمر النصف له خمس سنوات. بعد ذلك يصبح السيزيوم 137 الذي عمر النصف له 30.2 سنة مصدر القلق الرئيسي. وأخيرا تصبح المصادر المشعة الباقية هي الكميات الضئيلة من النظائر التي تقدر أعمار النصف لها بآلاف السنين.
لقد كان المديرون يتجنبون باستمرار التصريح بمقدار التكلفة الإضافية اللازمة للوفاء بالمعايير الأقسى ل«مين»، كما لو أن الفكرة تزعجهم. إلاّ أن مكتب المحاسبة العامة يقول إن المنشأة مين يانكي تحسب أن التكلفة الإضافية ستكون بين 25 و30 مليون دولار. وكانت المنشأة قد قدرت تكلفة التفكيك الكلية بنحو 635 مليون دولار، منها 81.5 مليون دولار لدفن النفايات ذات المستوى الإشعاعي المنخفض و26.8 مليون دولار للتوضيب والشحن. وينبغي أن تكون النفقات في المنشآت الأخرى ضمن المجال نفسه. وهذه أرقام مذهلة الضخامة مقارنة بالمبلغ 231 مليون دولار الذي أُنْفق من أجل بناء المنشأة في الستينيات والسبعينيات.
ويقدر المعهد EPRI أن تكلفة تفكيك منشأة شُغلت على مدى 40 عاما يعادل 0.2 سنت لكل كيلوواط ساعي أنتجته المنشأة خلال هذه المدة. ويدفع المستهلكون اليوم بصورة عامة ثمانية أو تسعة سنتات قيمة الكيلوواط الساعي من الكهرباء مما يجعل المبلغ السابق صغيرا وفق معاييرهم، لكن الرقم كبير بالنسبة إلى شركة تدرس قرارا بشأن نوع المنشأة التي ستبنيها.
لم تكن تكلفة التفكيك أمرا بالغ الأهمية دائما. كانت واجبا جماعيا وكانت القضية الوحيدة هي قضية بين الأجيال: هل سيُجمع ما يكفي للتفكيك من زبائن شركة الكهرباء الحاليين المجبرين على الدفع أم أن الشركات سوف تضطر إلى تحميل المستفيدين المقبلين الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد حين كان غيرهم يتمتع بأرباح المنشأة.
يتبدل مالكو محطات التوليد الآن بصورة متكررة، وسيكون شخص ما هو المالك الأخير. وقد اشتكى مكتب المحاسبة العامة في تقريره في الشهر 12/2001 من أن الهيئة NRC لم تكن تعير اهتماما كافيا للكفاءات التمويلية للكيانات التي تشتري المنشآت. وقد ردّت الهيئة NRC على ذلك بالنفي، مع أن بعض المالكين لم يكونوا من بين الذين منحتهم الهيئة رخص التشغيل، كما كان الذين بنوا هذه المنشآت. لكن الصورة التمويلية تغيرت تغيرا واضحا، فمن بين مالكي منشآت اليوم نجد الشركة إينرون Enron التي حصلت على الحصة الأكبر في المفاعل تروجان Trojan البائد حين اشترت الشركة بورتلاند جنرال إلكتريك في أوريگون.
وفي النهاية لم تكن الأموال مشكلة في مين يانكي لأن هيئة تنظيم الطاقة الفدرالية سمحت للمالكين بتحصيل ما للمنشأة في ذمة الزبائن السابقين.
ويصعب القول، في العديد من المنشآت، متى سيكون إغلاقها ـ وهذا واحد من بين أسئلة أخرى معلقة سوف تؤثر في مصير المفاعلات التي تشيخ. فأصلا رُخصت المفاعلات لمدة 40 عاما بدءا من إصدار رخصة البناء. وقد طال كثيرا زمن بناء بعضها لدرجة أن الهيئة NRC وافقت على تأجيل موعد بدء التشغيل إلى الوقت الذي يبدأ فيه فعليا. ثم أخذت تمنح تمديدات للترخيص مدتها 200 عاما. ويبدو أن معظم المنشآت العاملة، التي يبلغ عددها 130 منشأة، ستتقدم بطلب لتمديد الترخيص.
ومع ذلك فإن الحياة الاقتصادية للمفاعلات القديمة غير معروفة على وجه التحقيق. فهذه المفاعلات أشبه بالسيارات القديمة، تستأهل تبديل زيت محركها لكن لا تستأهل جهازا جديدا لنقل الحركة. وقد أحيلت المنشأة «مين يانكي» إلى التقاعد لأن المشكلات المتعلقة بتمديدات الأسلاك ومولدات البخار صارت ظاهرة للعيان. كما أن منشأة شقيقة هي يانكي رو Yankee Rowe في ولاية ماساتشوستس عانت هي الأخرى هشاشة embrittlement في وعاء مفاعلها. وهذه الحالة التي تسببها سنوات من القذف النيوتروني تجعل المفاعل عرضة للصدمة الحرارية ـ أي لإمكان تصدعه فيما لو تعرضت منظومة تبريد القلب الاحتياطية للماء البارد. ولم يكن مدى الهشاشة في المنشأة يانكي رو معروفا، لكن المالكين ـ وهم ائتلاف من شركات الكهرباء التي يشارك بعضها في ملكية مين يانكي ـ قرروا أن الأمر لم يكن يستأهل تكلفة البحث عنه.
وحتى تلك المنشآت التي مددت فترة حياتها 20 عاما لن تُشغّل على الأغلب حتى آخر يوم من أيام ترخيصها، إذ ينبغي أن تعوض التحسينات الأساسية التي تطلبها تشغيلها المستمر في السنوات القليلة الماضية تكلفة هذه التحسينات في فترة قصيرة من الزمن.
إن حجم التفكيك المطلوب غير مؤكد هو أيضا. فهناك خيارات أخرى أقل قساوة من إعادة الموقع إلى منزلة حقل أخضر. فعلى سبيل المثال، حين أغلقت الشركة نورثرن ستيت باور المفاعل باثفايندر في سيوكس فولز بساوث داكوتا، وهو منشأة قديمة لايتجاوز حجمها عُشر حجم مين يانكي، ركّبت الشركة مرجلا عاديا كان وقوده الفحم الحجري في البداية، ثم صار الغاز الطبيعي فيما بعد، وشُغلت العنفة بهذه الطريقة. وفعلت الشركة پَپْليك سيرفيس في كولورادو الشيء ذاته بالمفاعل فورت سانت فرين وذلك بأن ركّبت عنفات الغاز الطبيعي واستخدمت الحرارة الفائضة لتوليد البخار الذي شغّلت به العنفة النووية القديمة. وفي كلتا الحالتين لم تُزل سوى المكونات النووية.
أما المفاعلات إنديان پوينت 1 في ولاية نيويورك، وميلستون 1 في كونيكتيكوت ودرسدن 1 في إيلينويس، وپيتش بوتوم 1 في بنسلڤانيا ومفاعلات أخرى، وكلها مجاورة لمفاعلات مازالت تشغّل، فقد أُزيل وقودها فقط وأغلقت وتركت لتهدأ، وسوف تفكك لاحقا. وهكذا كان شأن المفاعل ثري مايل آيلاند 2 ، وهو المفاعل القريب من هاريسبورگ في بنسلڤانيا، الذي انصهر قلبه في الشهر 3/1979. وليست المنشأة مين يانكي هي الوحيدة التي تُطهّر من التلوث. فالمنشأة يانكي رو تخضع للسيرورة ذاتها، مثلها مثل المنشأة كونيكتيكوت يانكي. وقد فُرّغ ونُظف المفاعل شورهام في لونگ آيلاند في نيويورك، وهو الذي لم يُشغل سوى أيام قليلة، ولكن عديدا من أجزائه البنيوية مازال قائما.
وأمر آخر غير مؤكد هو كمية الأنقاض التي سيلزم التخلص منها. فقد أعلنت الهيئة NRC في 6/11/20022 أنها ترغب في تطوير قاعدة لإعادة تدوير الفلزات الملوثة. ويقول المؤيدون إن الفلز ذا النشاط الإشعاعي الضئيل سيكون ممتازا إذا استخدم في الخرسانة. ويخشى آخرون أن ينتهي الأمر باستخدامه في أطواق تقويم تركب على أسنان الأطفال أو في سحابات السراويل. وحين حاولت وزارة الطاقة أن تنقذ النيكل وفلزات أخرى من منشآتها النووية في منتصف التسعينيات كان الغضب الجماهيري شديدا لدرجة أن البرنامج أُنهي في العام 2000.
وسوف تعتمد التكلفة النهائية جزئيا على طول المدة التي تنتظر الصناعة أثناءها من أجل التخلص النهائي من الوقود النووي ذي المستوى العالي من الإشعاع. وإلى أن يتوفر حل لذلك ستكون هناك رقعة كبيرة واحدة من الخرسانة على ساحل «مين» لن يَعلق عليها الثلج؛ فكل واحد من براميل التخزين في الموقع والعائدة إلى قاعدة تخزين الوقود المستهلك المستقلة ISFSI، يولّد حتى 17 كيلوواط، وهذا تقريبا ما تولده دستة من مجففات الشعر المحمولة. وتوجد داخل هذه البراميل شبكة مؤلفة من 24 عينا مربعة (طول كل واحدة منها يكفي لتجميعة وقود fuel assembly طولها 3.6 متر)، مفرغة وجافة ومغلقة باللحام في غلاف فولاذي سمكه 6.25 سنتيمتر موضوعة في صومعة خرسانية سمكها 72سنتيمترا، وهي توحي بأنها من أوابد العصر الصناعي مع أن بُناتها يأملون بحماس ألاّ ينسى أحد الغرض منها. وقد بدأ ملء هذه البراميل في الشهر 8/2002 وسوف يستمر في العام 2003 وحين تنتهي هذه المهمة سيكون بإمكان العمال هدم بركة الوقود المستهلك، وهي المنظومة الأخيرة العاملة من المنشأة القديمة.
وخلال الجدل حول التفكيك في «مين» لم يعط المعارضون أية مهلة للمالكين، مطالبين بعملية متقنة ومكلفة. لكن المالكين برهنوا على أن تنفيذ هذه المهمة هو من الناحية التقانية ليس بالأمر العسير جدا.
وأكثر من أي شيء، برهنت معايير التفكيك على أنها جواب عن الجهل والارتياب. وأحد الهموم الذي يساور عقل الجمهور هو تأثير المقادير الصغيرة من الإشعاع. لكن هذا الموقع، ومواقع أخرى في أنحاء البلاد سوف تنظف وفق معايير محددة بحيث، أيّا كان الاستنتاج المستقبلي حول ذلك التأثير، لن يترك ما يكفي لجرعة من الإشعاع.
المؤلف
Matthew L. Wald
مراسل في صحيفة نيويورك تايمز حيث كان يغطي الموضوعات النووية منذ العام 1979. وقد كتب كثيرا حول بناء المفاعلات وتشغيلها وإنتاج المواد للأسلحة النووية وتدبير النفايات العسكرية والمدنية واقتصاد توليد الطاقة. زار 22 من المنشآت النووية لتوليد الطاقة في أمريكا الشمالية كما زار ثلاثة مفاعلات بحث ومفاعلين عسكريين وثلاثة مواقع لدفن النفايات النووية والمخزن المقترح لدفن النفايات النووية ذات النشاط الإشعاعي العالي في يوكا ماونتن في نيڤادا. يقيم في واشنطن العاصمة حيث يغطي كذلك أمان المواصلات وموضوعات تقنية أخرى.
مراجع للاستزادة
Maine Yankee License Termination Plan: www.maineyankee.com
Multi-Agency Radiation Survey and Site Investigation Manual, the federal standard for measuring environmental contamination:
www.epa.gov/radiation/marssim (includes FAQs and other introductory material as well as the manual itself)
World Nuclear Association listing of decommissioning status:
www.world-nuclear.org/wgs/decom/portal_atoz.htm
U.S. Nuclear Regulatory Commission FAQ on Decommissioning, NUREG 1628:www.nrc.gov/reactora/decommissioning/feq.html
General Accounting Office report: Nuclear Health and Safety: Consensus on Acceptable Radiation Risk to the Public Is Lacking, RCED-94-190:
Scientific American, March 2003
(*)DISMANTLING NUCLEAR REACTORS
(**)Decontamination in Action
(***)Where the Plants and Dumps Are
(****)Dissection of a Plant
(*****)”How Clean is “Clean?
(******) Boiling or Pressurzed
(1)NRC
(2) بَرْج barge مركب كبير لنقل البضائع.