إنترنت الأشياء
إنترنت الأشياء(*)
إن المبادئ التي انبثقت عنها شبكةُ الإنترنت تفضي اليوم إلى
شبكة من نوع جديد لتجهيزاتنا اليومية، هي شبكة «الإنترنت-0».
<.N.گيرشينفِلْد> ـ <R. كريكوريان> ـ <D. كوهين>
منذ قرابة قرن استحدث المهندس المعماري <A. گودي>(1) في برشلونة أسلوبا معماريا سلسا جَمعَ ببراعة بين التصميم الجمالي والتصميم الإنشائي للمبنى. فالأقواس المعبِّرة في مبانيه لم تكن مجرد واجهاتٍ للزينة، بل كانت أيضا تمثل أجزاء من صميم الهيكل الذي ترتكز عليه الأحمال. إلا أن من دواعي الأسف أن أسلوبًا مماثلا من الجمع فيما يتعلق بالبنية التحتية الإلكترونية للمباني لم يحدث بعد. فالمفاتيح والمقابس والمنظِّمات الحرارية (الثرموستات) توضع في أنحاء المبنى كما لو لم تكن في الحسبان أثناء التصميم المعماري، فضلا عن أن الوظائف المنوطة بها تكون ثابتة تحددها سلفًا شبكة من التمديدات الكهربائية المطمورة، ثم تضاف الأجهزة الكهربائية والحواسيب كأشياء مقحمة، فليس ثمة شيء ينسجم مع أي شيء آخر؛ آية ذلك العدد الكبير من الأجهزة والأدوات في البيت أو المكتب، التي لا تكاد تتطابق حتى في تحديد الوقت أثناء اليوم.
يترتب على هذه الأمور المزعجة انعكاسات سلبية واسعة الأثر في اقتصاديات الإنشاء، وفي كفاءة استخدام الطاقة، وفي التناسق المعماري، وأخيرا، في نوعية الحياة ككل. ففي الولايات المتحدة يبلغ حجم صناعة البناء قرابة تريليون دولار، تنفق منها البلايين كل عام على رسم مخططات التمديدات والتوصيلات، ومن ثم تتبُّعها وتثبيتها وإعادة النظر فيها. وعلى مرِّ السنين سعت أعداد لا تحصى من مشروعات «البيوت الذكية» إلى إيجاد تطبيقات جديدة للبنى التحتية الذكية في المباني، غير أنها أغفلت الطلب الهائل حاليا لتطبيقات يمكن برمجتها بوساطة سكان المبنى أنفسهم دون الحاجة إلى مقاولين لتحديد وظائفها مسبقا.
ومع ذلك، فإن أيَّ جهد يُبذَل لتحقيق هذا المطلب سيكون مصيره الفشل إذا ما احتاج مصباح كهربائيٌّ بسيط إلى مهندس شبكات ماهر لتركيبه وإلى إدارة تقانة المعلومات في شركة كبيرة لإدارته. إن التحدي الذي يمثله تحسين إمكانيات التوصيل لا يحتاج إلى سرعات كبيرة تقدَّر بالجيگابتة ولا إلى وسائط تخزين بالجيگابايت، بل إن العكس هو الصحيح في واقع الأمر: تخفيضات ملحوظة في كلفة الشبكات وتعقيدها من حيث إنشاؤها وربط أجزائها.
نظرة إجمالية/ الإنترنت-0(**)
• إن إكساب أدواتنا اليومية القدرةَ على الارتباط بشبكة بيانات يعود علينا بفوائد جمَّة منها: التيسير على أرباب المنازل في إعداد ترتيبة الأضواء والمفاتيح الكهربائية، وتخفيض كلفة إنشاء المباني وتعقيده، والمساعدة على الرعاية الصحية المنزلية. يتنافس حاليا لتحقيق هذا الغرض العديد من المواصفات المعيارية، في وضع يشبه ما كان عليه الحال في البدايات الأولى للإنترنت عندما كانت للحواسيب والشبكات أشكال وأنماط عديدة وغير متوائمة.
• للتغلب على مشكلة لغة التخاطب التقني هذه يمكن تطويع الپروتوكول الذي يقبع في قلب الإنترنت ليمثل المعلومات أيا كان الشكل الذي تتخذه: سواءً كانت نبضات كهربائية، أو ومضات ضوئية، أو نقرات صوتية، أو موجات كهرمغنطيسية أو مطبوعات ميكانيكية. • باستخدام طريقة التكويد «الإنترنت-0» هذه يمكن توسيع الفكرة الأساسية المتمثلة بربط شبكات الحواسيب لتأليف شبكة كلية واحدة من دون فواصل (وهو معنى البادئة «إنتر» في كلمة «إنترنت») لتشمل أيضا الشبكات من جميع أنواع التجهيزات، وهو المفهوم الذي يُعرف باسم تشبيك التجهيزات بالإنترنت Interdevice Internetworking. |
على مرِّ السنين ابتُكرت تشكيلة مذهلة من المعايير لربط الأجهزة المنزلية، بما في ذلك المنظومات X10 وLonWorks وCEBus وBACnet وZigBee وBluetooth وIrDAوHomePlug. والحال اليوم تشبه ما كانت عليه في حقبة الستينات من القرن العشرين عندما ابتُدعت الشبكة Arpanet التي تعتبر سلف الإنترنت الحالية. فقد كانت ثمة أنواع كثيرة من الحواسيب والشبكات حينذاك، تستدعي تطويرَ مكونات مادية (معدات) hardware حاسوبية مخصوصة بغية تجاوز هذا البون الشاسع من اللاتوافق.
وقد وُجد الحل لبناء شبكة عالمية من مجموعة شبكات محلية غير متجانسة، وهو ما يسمى تشبيك الشبكات internetworking، في فكرتين كبيرتين؛ أولاهما ابتدال الرزم packet switching: حيث تُجَزَّأ البيانات إلى رزم يمكن إرسالها عبر مسارات مستقلة حسب الحاجة، ثم تجميعها في نقطة الوصول. وكان هذا الأسلوب تحوُّلا عن الطريقة التقليدية المتبعة في شبكات الهاتف، وهي تخصيص دارة ثابتة لكل توصيلة مطلوبة. أما الفكرة الثانية فكانت مبدأ التشبيك باستعمال مبدأ «طرف إلى طرف» «end-to-end»، حيث يُحدِّد أداءَ الشبكة ما يُوصَّل بها وليس بنيتها الداخلية، وهو مفهومٌ تَضََمَّنه پروتوكول الإنترنت Internet Protocol IP. ثم توسعت الإنترنت تدريجيا فصار بإمكانها أن تتعامل مع تطبيقات مختلفة، ابتداء من النفاذ إلى الحواسيب عن بُعد، إلى التجارة الإلكترونية، إلى الفيديو التآثري. وأدخَلت كلٌّ من هذه الخدمات أنماطًا جديدة من البيانات لاستيعابها في الرزم، ولكن المهندسين لم يكونوا بحاجة إلى تغيير المكونات الحاسوبية للشبكة أو برمجياتها لتحقيق ذلك. لقد قادت هذه المبادئُ شبكةَ الإنترنت بنجاح عبر ثلاثة عقود من التطوُّر، مستغرقةً سبع مراتب من التوسُّع من حيث الحجم والأداء في آن معا ـ فمن 64 موقعا للشبكة Arpanetإلى 200 مليون حاسوب مُضِيف مُسجل على الإنترنت حاليا. وذلك يمثل رؤى راسخة في جودة تصميم المنظومات، وأهم من ذلك أنها لا تنطوي على متطلَّبات معيَّنة للأداء؛ فقد أمكن ـ بجهود كبيرة وضوابط صارمة ـ استبعادُ المتغيرات المعتمدة على التقانة خارج إطار المواصفات، بحيث أتيحت الفرصة للمكونات الحاسوبية أن تتطور من دون أن يتطلب ذلك إعادة النظر في البنيان الأساسي لشبكة الإنترنت.
وبالإمكان حاليا استعمال هذه الأفكار ذاتها لحل مشكلة توصيل أجهزة وأدوات غير متجانسة بدلا من الشبكات غير المتجانسة. إن توسيع نطاق الإنترنت ونشر استعمالها في شتى نواحي الحياة وصولا إلى المصباح الكهربائي البسيط يتطلب تعرُّفَ أوجهِ الشبه والاختلاف بين المصباح والحواسيب الرئيسية mainframe computers التي طُورت الإنترنت أساسا لها.
مساحات ذكية(***)
ظهرت لنا الحاجةُ وسنحت لنا الفرصة لتضمين الإنترنت في بنية تحتية فيزيائية عن طريق سلسلة من المنشآت قمنا بتنفيذها مع عددٍ من الزملاء في مناطق مختلفة من العالم، ويتمثَّل أحدها في صيدلية حَمَّام ذكية تكشف زجاجات الأدوية، كانت قد عُرضت كبيان عملي لتقنيات المستقبل ضمن فعاليات احتفالات البيت الأبيض ومتحف سميثسونيان بالألفية الثالثة. تستطيع هذه المنظومة تذكير الأشخاص بمواعيد تناول الدواء، وتنبيه الصيدلي عند الحاجة إلى عبوة جديدة من العقار، ومساعدة الطبيب على الإشراف على العلاج، إضافةً إلى المساعدة على الالتزام بالعلاج الطبي المقرر، ومن ثم التغلب على واحدة من أكبر المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المكلِّفة المرتبطة بالشيخوخة.
حتى الأدوات البسيطة، مثل المصباح الكهربائي، يمكن وصلها بالإنترنت مباشرةً إذا زُوِّدت بدارات مناسبة زهيدة الكلفة تبثُّ إشارات على امتداد الأسلاك الكهربائية. |
وأقيمت مُنشأة ذكية أخرى في متحف الفنون الحديثة بمدينة نيويورك عام 1999، حيث استُخدمت قطع الأثاث في إحدى صالات العرض لإرشاد الزوار، وذلك ببث معلوماتٍ تتَّصل بمعروضات الصالة. وكان الهدف هو تجنب تشويه الطابع الجمالي والاجتماعي للمتحف بواجهات حاسوبية تقليدية. أعرب أحد المتبرعين للمتحف عن امتنانه قائلا: « إنها فكرة رائعة، فأنا أكره الحواسيب، ولا توجد حواسيب هنا!» ـ ولم يكن ليدور في خلده أن قطع الأثاث كانت تتضمن 17 حاسوبًا مدسوسًا فيها ومرتبطة بالإنترنت، وعلى اتصال بمئات الحواسيب المجسِّيَّة الميكروية (الصغرية).
تلا ذلك تقديم مبنى في «بيت الوسائط» Media House في سياق العرض الذي أقيم ـ في مكانه الملائم تمامًا ـ في برشلونة عام 2001. لم تكن الدعامات الإنشائية في ذلك المبنى ترفع الأحمال فقط، بل كانت أيضًا تنقل الكهرباء والبيانات. وكانت المصابيح ومفاتيح الكهرباء تحتوي على حواسيب دقيقة تسمح لها بالتآثر فيما بينها ومع حواسيب أخرى على الشبكة. أما عمليات الاقتران بين المصابيح والمفاتيح فكانت تتمُّ آنيًا ودون الحاجة إلى أي تحضير.
وفي حفل افتتاح بيت الوسائط كان أحد رواد مشروع الشبكة العالمية العالية السرعة «إنترنت-2» حاضرًا. دأب هذا الشخص على السؤال عن السرعة التي يمكن بها إرسال البيانات عبر المبنى، فذكَّره أحد الحاضرين بأن مصابيح الإضاءة لا تستدعي مشاهدةَ الأفلام السينمائية بسرعات تتطلب نطاق ترددات عريضًا broadband speeds، وأضاف مازحًا إن شبكة ربط الأدوات والأجهزة المستخدمة في حياتنا اليومية هي جزء من الشبكة «إنترنت-0» لا «إنترنت-2»!. ومنذئذٍ ارتبط اسم الشبكة «إنترنت-0» بهذا النوع من الشبكات.
لم تكن معالجات پروتوكول الإنترنت التي طُوِّرت لدعم هذه التجارب الإيضاحية في حدِّ ذاتها مشروعًا للبحث، غير أن الاهتمام المتكرر بها أدَّى إلى إطلاق مشروع الإنترنت-0. وانطوت تلك التجهيزات على سبعة مبادئ من شأنها أن توسِّع ـ بمجملها ـ الفكرة الأساسية لتشبيك الشبكات بالإنترنت لتشمل تشبيك التجهيزات بالإنترنت.
سبع مزايا لمشروع الإنترنت-0(****)
أولاً، إن كل تجهيزة إنترنت-0 تستخدم پروتوكول إنترنت (IP). وبالمقابل، يستحدث الكثيرُ من الأساليب المنافِسة لربط التجهيزات مواصفات معيارية بديلة؛ فعندما يحتاج حاسوب إلى الاتصال بإحدى هذه التجهيزات يتعين أولاً ترجمة الرسالة من پروتوكول إنترنت إلى پروتوكول آخر – وهي مهمة تحتاج إلى واجهة بينية خاصة. لقد أخذ المصممون هذا المنحى اعتقادًا منهم أن پروتوكول الإنترنت من التعقيد بحيث يصعب تطبيقه في التجهيزات البسيطة، غير أن الأمر ليس بالضرورة كذلك. فالكود اللازم لتشغيل پروتوكول إنترنت يمكن أن يُضغط إلى عدة كيلوبايتات، ومن ثم يُشغَّل على معالِج تحكم ميكرويmicrocontroller قد لا يتجاوز ثمنه دولارًا واحدًا. تضيف معلومات پروتوكول الإنترنت نحو 100 بتة إلى محتوى كل رسالة، ويترتب على ذلك عادة أثر طفيف يمكن إهماله في زمن الاستجابة ومتطلبات القدرة الكهربائية اللازمة. وفي مقابل هذه الزيادة المتواضعة تتجنب الشبكة كلفة إعداد واجهات بينية معقدة وصيانتها.
ثانيًا، يجري تبسيط البرمجيات عن طريق تنفيذ پروتوكولات الاتصالات دفعة واحدة، لا كلاّ على حدة. ففي الحاسوب التقليدي يُفصل بصرامة بين المهام المتعلقة بالاتصال على الشبكة، بحيث يتعامل كود المستوى المنخفض مع الإشارات الفعلية، مثل توليد النبضات الكهربائية التي ترسَل على كبل إيثرنت أو عبر مودم هاتفي. يبث ذلك الكود خرجَه إلى طبقة أخرى من البرمجيات تقوم بتكويد البيانات وفكّ تكويدها. إضافة إلى ذلك توجد طبقات تشرف على إرسال الرُّزم واستقبالها وتجميعها وتفكيكها وترجمة المواصفات المعيارية المتعلقة بمحتواها. وفي نهاية المطاف تصل البيانات إلى التطبيق الجاري تشغيله على الحاسوب، كمتصفح الوِب مثلاً.
يتم عادة تنفيذ كلٍّ من هذه الطبقات، باعتبارها نوعا من نسخة برامجية للبيروقراطية البشرية، ومن ثم يخصص جزء كبير من الكود لتمرير الرسائل بين الطبقات المختلفة. تمثل الطبقات تجريدا مفيدا في عملية تطوير المواصفات المعيارية، بحيث يمكن تغيير إحداها دونَ الحاجة إلى تعديل سائرها. إلا أن هذا التعميم ربما لا يصحُّ عند تطبيق هذه المواصفات فعليًا. وفي تجهيزة على شبكة إنترنت-0 يجري تنفيذ البرمجيات استنادًا إلى ما توفره المعلوماتُ المتاحة عن التطبيق الجاري تشغيله.
ثالثًا، إن عمل تجهيزتَي إنترنت-0 لا يتطلب بالضرورة وجود تجهيزة ثالثة. فمعظم الحواسيب على شبكة الإنترنت تعمل كزبائن clients (متصفحات للوِب مثلاً) أو مخدِّمات servers؛ ولا غنى للزبائن عن المخدِّمات. أما في حالة شبكة الإنترنت-0 فإن كل مصباح أو مفتاح على الشبكة يخزن لديه البيانات dataوالمساقات routines اللازمة له، بدلاً من الاعتماد على مخدِّم مركزي وما يؤدي إليه ذلك من انخفاض في درجة الوثوقية وزيادة في التكلفة. صحيح أن المخدِّمات يمكن أن تعزِّز قيمةَ النظام ـ مثلا بتوفير إمكانيات لإضاءة جميع المصابيح أو إطفائها في ساعة معينة من اليوم ـ إلا أنها غير ضرورية له في أداء وظيفته.
مواضع وجود(*****)
رابعًا، إن كل تجهيزة إنترنت-0 مسؤولة عن تتبُّع هويتها الذاتية. ولكلِّ حاسوب متَّصل بالشبكة خمسةُ أسماء مختلفة هي: رقم التحكم في النفاذ إلى الوسائط Media Access Control MAC وهو العنوان الفعلي للمكونات الحاسوبية على الشبكة المحلية (مثلاً: “00:08:74:AC:05:0C”)، وعنوان پروتوكول إنترنتIP على الشبكة العالمية ( مثلاً: “18.7.22.833”)، واسم الشبكة ( مثلاً: «www.mit.edu»)، واسم وظيفي (مثلاً: المخدِّم الثالث من اليسار)، وأخيرًا اسم الكود المفتاحي الذي يستعمل للاتصال به بطريقة مأمونة. هذا مع العلم بأن تخصيص الأسماء هو من الوظائف الأساسية للمخدِّمات، ومن ثم يجب أن تكون تجهيزات شبكة الإنترنت-0 قادرة على القيام بتلك الوظائف بنفسها في حالة عدم وجود مخدِّم، وكذلك قبول الإجابات من مخدِّم إن وجد.
وأكثر أنواع عناوين المكونات الحاسوبية شيوعًا يجري التحكم فيه مركزيًا بتخصيص مجموعات من عناوين الشركات المصنِّعة تُضَمَّن في منتجاتها. غيرَ أن هذا النوع من التنسيق ربما لا يكون ممكنًا لكل مصباح ومفتاح يتم إنتاجه في شتى أنحاء العالم. وكبديل لذلك، يمكن ببساطة أن تختار كل تجهيزة تسلسلاً عشوائيًا من الأرقام عنوانًا لها. ويكون احتمال اختيار تجهيزتين للرقم نفسه (المكوَّن على سبيل المثال من 128 بتة) شبه معدوم لا يتجاوز 1 في كل 1038 حالة. وبإمكان المستخدمين تخصيص أسماء وظيفية وأسماء للمكونات الحاسوبية عن طريق التآثر مع التجهيزة – ربما بالضغط على أزرار برمجة موجودة على مصباح أو مفتاح يحمله على إطلاق عنوانه على التتابع، ومن ثم إقامة علاقة تحكُّم، أو بنقل عنوان الشبكة مع كود مفتاحي بين التجهيزات لإحكام التوصيل وجعله مأمونًا تمامًا.
خامسًا، تستخدم الإنترنت-0 بتات أضخم من الشبكة. ومعروف أن للبتات حجمًا ماديًا ـ فهي لا تعدو كونها نبضات كهربائية أو لاسلكية أو ضوئية. يُعرَّف حجم البتة بالوقت اللازم لإرسال النبضة مضروبًا في سرعة انتقالها (التي تقارب عادة سرعة الضوء). وكانت البتات فيما مضى أضخم من الشبكات التي ترسَل عبرها. أما اليوم فهي أصغر بكثير – فهي بطول نحو 30 سنتيمترًا عندما تتدفق البيانات بمعدل جيگابتة في الثانية. وإذا كانت الشبكة أكبر من ذلك تنشأ مشكلات عند الواجهات البينية التي تصل أجزاء الشبكة بعضها ببعض، بحيث يؤدي أي خللٍ طفيف في التوافق في خواص انتقال البيانات عند تلك الواجهات إلى توليد إشارات زائفة. وإضافة إلى ذلك، إذا بدأ اثنان من الحواسيب بإرسال بياناتهما في وقت واحد على الشبكة فلن يتمكنا من اكتشاف التضارب الحاصل إلا بعد أن يكونا قد أرسلا بتات كثيرة. من هنا تبرز حاجة الشبكات ذات السرعة العالية إلى كبلات خاصة، وموزِّعات مركزية نشيطةactive hubs ووحدات إرسال/ استقبال تتسم بالمرونة، وفنيين مهرة للقيام بتركيبها. أما عند إرسال البيانات بمعدل ميگابتة في الثانية، أي على وجه التقريب بالسرعة المعتادة لمودم كبل منزلي أو توصيلة خطّ رقميّ لمشترك DSL(وهي سرعة كافية بالتأكيد للتعامل مع مصباح إضاءة)، فسيصل طول البتة إلى 300 متر ـ وهو من الكبر بحيث يمكن أن يغطي شبكة مبنى بالكامل، وعندئذ لا يهم أي نوع من الواجهات البينية تستخدمه الشبكة.
شبكة واحدة تربطها جميعًا(******)
تتيح شبكة الإنترنت-0 لأنواع كثيرة من التجهيزات إمكان الاتصال فيما بينها والعمل معًا: فزجاجات الأدوية يمكن أن «تطلب» إعادة ملئها من الصيدلية؛ ومفاتيح الإضاءة ومنظمات الحرارة (الثرموستات) يمكن أن «تتحدث» إلى المصابيح والسخانات؛ ويمكن أن يطمئن الناسُ إلى أمورهم المنزلية وهم في مكاتب العمل. ولئن كانت التقانات الحالية تسمح بالقيام بالعديد من هذه الوظائف، غيرَ أن شبكة الإنترنت-0 تمتاز بأنها توفر مواصفة معيارية واحدة ومتسقة؛ إذ صار بالإمكان التعامل مع المعلومات المرسَلة عبر تمديدات المنبع الكهربائي ذي التيار المتردد، أو المبثوثة باستعمال وصلة لاسلكية، بل حتى تلك المحفورة على مفتاح معدني. وهي تمتاز بقدرتها على الاندماج السلس في الشبكات الحاسوبية المحلية والعالمية. ويمكن إعداد التجهيزات عن طريق التآثر معها، لا عن طريق الطباعة على الحواسيب.
|
على طريق التلغراف(*******)
سادسًا، يتيح استعمالُ بتات كبيرة تمثيلَ البيانات التي تؤلِّف رزمة بالطريقة نفسها، مهما كان الوسطُ المادي الذي ينقلها. وإذا كانت البتات صغيرة فإن تمثيلها المادي (أو التضمين modulation) لا بُدَّ من أن يطوَّع بحيث يناسب كل قناة اتصال. فالتضمين المستخدم مع مودم هاتفي يختلف تمامًا عن ذلك المستعمل مع مودم كبلي، لأن خط الهاتف المكوَّن من زوج مضفر من الأسلاك يختلف عن الكبل المتّحد المحور من حيث سعة amplitude الإشارة التي يحملها وتردُّدها وطورها. ولكن عندما تكون البتات كبيرة، فإن التفصيلات الدقيقة لخصائص انتقال الإشارة على كل قناة اتصال لا يكون لها تأثير يذكر.
ويُستَغَل هذا المبدأ بالفعل في كود (نظام) مورس Morse Code، إذ يمكن استعماله على مبرقة تلغراف، أو بثُّه على شكل ومضات من سفينة إلى أخرى، أو دقّه بعنف على أنبوب. إن قنوات الاتصال هذه، المختلفة تمامًا فيما بينها، تحمل البيانات نفسها بالمعدل نفسه وبنظام التكويد نفسه. ولا حاجة هنا لأي ترجمة؛ فالمعلومات تنتقل ببساطة عن طريق زمنِ وصولِ تغيرٍ في الوسط المادي للقناة، من قبيل قفزة في الفلطية على خط التلغراف أو ظهور مفاجئ للصوت. علمًا بأن القيمة الدقيقة (المضبوطة) لنغمة الإشارة أو سعتها ليست ذات بال.
وشبكة الإنترنت-0 شبيهة بذلك إلا أنها تستخدم نبضات الـ”0″ والـ “1” بدلا من النقط والشُّرط. فترسل تجهيزة الإنترنت-0 (على غرار أجهزة المودم المستعملة اليوم) رزمة تتكون من سلسلة من عدة بايتات يضم كل منها 8 بتات، وتؤطَّر ببتات تدلُّ على البدء والانتهاء. تتمثَّل البتة الصفرية بنبضة يتبعها فراغ، في حين تتمثل البتة الواحدية بفراغ تتبعه نبضة. أما بتات البدء أو الانتهاء فبزوج من النبضات. يعرف هذا النظام بتكويد مانشستر(2) Manchesterencoding، وهو يسهِّل التمييز ما بين “0” أو “1” صحيح وإشارة تداخل أو إشارة غائبة. إضافة إلى ذلك، تسمح المسافة بين نبضتي بتة البدء لجهاز الاستقبال بقياس معدل إرسال البيانات، ومن ثم فلا داعي لتثبيت هذا المعدل سلفًا. وإذا تطلب الأمر زيادة الحصانة ضد الضجيج، يمكن للمرسل والمستقبل اعتماد طريقة لتغيير الزمن بين البايتات (كما هو متبع في منظومات الراديو بنطاق ترددي فائق العرض ultrawideband radios)، مما يساعد على فصل الإشارة عن الضجيج، وفي الوقت نفسه يحافظ على التوافق العكسي مع تجهيزات الإنترنت-0 من نوع أبسط، تقتصر على استخدام نبضات التأطير فقط.
عندما يكون الأبطأ هو الأفضل(********)
عند إرسال البيانات ببطء يكون حجم النبضات الكهربائية أو اللاسلكية المقابلة كبيرًا، مما يبسِّط كثيرا الطريقة التي تعمل بها الشبكة الحاسوبية. ففي حين يتردد صدى النبضات الصغيرة عند واجهات الاتصال في الشبكة (مثل الصناديق المعدنية للمعدات في حالة الإشارات اللاسلكية) أو الوصلات السلكية (للإشارات الكهربائية)، فإن النبضات الكبيرة تملأ بالفعل كل بوصة من الهواء أو من أسلاك التشبيك في المنزل. يؤدي ذلك، من ثم، إلى الاستغناء عن الموزعات المركزية وغيرها من المعدات الخاصة. |
وما دامت البتات تُرسَل ببطء يكفي لجعلها أكبر من الشبكة، فإن بالإمكان استخدام طريقة تكويد واحدة مع جميع أنواع الأوساط المادية، فيمكن إرسال النبضات عبر سلك، أو بقرنها بخط للطاقة الكهربائية، أو بنقرها بوساطة مجهار صوتي، أو بطبعها على صفحة، أو بحفرها على مفتاح. يقوم كل وَسطٍ بإمرار جزء مختلف من النبضة المرسَلة: فخط الطاقة الكهربائية يستبعد الترددات العالية، في حين يستبعد هوائيُّ اللاسلكي التردداتِ المنخفضة. كل المطلوب هو أن تنجح بعض ترددات النبضة في الوصول. (ومع ذلك فإن تفصيلات الاستجابة للترددات المختلفة قد تكون مفيدة إذا احتاجت تجهيزة الإنترنت-0 إلى سبر الوسط المادي المحيط بها.)
إن هذا التمثيل يوسِّع مفهوم «طرف إلى طرف» في شبكة الإنترنت ليشمل التضمين. فعندما يقوم حاسوب بإرسال رزم باستخدام پروتوكول الإنترنت لا يلزمه معرفة أي شيء عن الشبكات التي تحمل الرزمة. وبالمِثل، عندما تَستخدِم تجهيزةٌ نبضاتِ الإنترنت-0 فلا يلزمها معرفة شيءٍ عن الوسط الذي سيحمل الإشارة المرسَلة.
الأقل أكثر(*********)
تتمثَّل المزيَّةُ السابعة والأخيرة لشبكة الإنترنت-0 في استعمال مواصفات معياريةٍ مفتوحة. وإذا كان استحباب المعايير المفتوحة أمرًا مفروغًًا منه عادة، فإنه حريٌّ بالذكر في هذا المقام. إن كثيرًا من المعايير المتنافسة في مجال توصيل التجهيزات مملوكة لجهات معينة، في حين أن العبرة المتكررة من صناعة الحاسوب تقضي بأن تكون الجهاتُ المالكةُ قائمة على المعايير المفتوحة، لا متضاربة معها.
كمثال من واقع عمل شبكة الإنترنت-0، لنعد إلى صيدلية الحمَّام واستخدامها في إدارة التطبيب وتناول الدواء. لقد استعمل مشروعُنا الإيضاحي عُلاَّمات تعرف الأشياء بوساطة التردد الراديوي radio-frequencyidentification RFID tags في زجاجات الأدوية ـ وهي شيپات صغيرة تُطرح بعد الاستعمال وتغذِّيها الإشارات الراديوية التي تستجوبها. كان علينا إعداد جهاز قراءة العُلاَّمة لمعرفة المطلوب عمله بالبيانات التي استقبلها. وينطبق الأمر نفسه على المنظومات RFID المنتشرة الآن في سلاسل مواقع التموين الاستهلاكية والعسكرية: يحتاج الأمر إلى جيش من الاستشاريين والمقاولين لإعداد جميع أجهزة قراءة العلامات المستخدمة.
يمكن إرسال البيانات عبر سلك، أو بنقرها بوساطة مجهار صوتي، أو بطبعها
على صفحة، أو بحفرها على مفتاح ـ وكل ذلك باستعمال تكويد شبكة الإنترنت-0 نفسه.
معالج الإنترنت-0
لكن العملية تصبح أسهلَ بكثير باستخدام شبكة الإنترنت-0؛ إذ تقوم العُلامة بتكويد رزمة پروتوكول إنترنت ـ قد نسمِّيها علامة التعريف بپروتوكول الإنترنتIPID ـ وما على قارئ العُلامة عندئذ سوى إرسال الرزمة إلى الشبكة، حاملة عنوانَ الصيدلي أو الطبيب، بدلاً من كود معدٍّ سلفًا يتعين على قارئ العلامة ترجمته إلى الإنكليزية، وبحيث تكون المعلومات مثبتة في زجاجة الدواء نفسها لا مبرمجةً في جهاز قراءة العلامة.
ونتساءل: إذا كانت هذه السمات مفيدة إلى هذه الدرجة، فلماذا إذًا لم توضع موضع التطبيق من قبل؟. تكمن المشكلة في تحيُّز مهندسي الاتصالات لوجهة النظر القائلة بأن عرض النطاق الترددي شحيحٌ ويتعين من ثم استخدامه بكفاءة، وذلك في إشارة إلى الماضي حينما كان ذلك صحيحًا. لقد وُجِّهَ اللوم إلى مصممي شبكة الإيثرنت الأصلية لأنها لم تحقق في مجال الاتصالات الحدود الأساسية الدنيا التي تمليها ميكانيكا الكم. وكان هذا صحيحًا ولكنه بعيد عن الموضوع، فقد نجحت الإيثرنت بفضل بساطتها النسبية.
واليوم تقترب الشبكات بالفعل من حدود ميكانيكا الكم، مضحية بالبساطة في سبيل تحقيق المزيد من المكاسب الباهرة في الأداء. وتسعى شبكة الإنترنت-0 إلى عكس هذا التوجه. إنها تجسيد لواقعٍ تقانيٍّ بأن الأقل قد يكون في الحقيقة هو الأكثر، حيث يُضحَّى بالسرعة في سبيل التشغيلية البينية(3).
تستهدف شبكة الإنترنت-0 حدود التكبير التي يُمليها تعقيد الشبكة لا أداؤها الخام. وليس الغرض منها أن تحل محل الإنترنت الحالية، بل أن توفر طبقة متوائمة تحتها. وتعتمد تجهيزة الإنترنت-0 في نقل الرزم بين شبكات I0 الفرعية على موجهات المسار routers وبوابات الاتصال gateways ومخدِّمات الاسمname servers المستخدمة حاليًا. على أن التمايز بين شبكة الإنترنت-00 وسائر الشبكة ربما ينحسر مع الزمن. وتوصف الپروتوكولات المستعملة في مخدمات الإنترنت، كتلك المستخدمة لتوجيه رزم پروتوكول الإنترنت إلى وجهتها النهائية، بالخوارزميات ـ باعتبارها مجموعةً من التعليمات لإيجاد أفضل مسار يمكن أن تسلكه الرزمة. غير أنه يمكن أيضًا النظر إلى الپروتوكولات كعمليات للوصول إلى الأمثل ـ أي كطريقة لتحقيق الاستغلال الأفضل لموارد الاتصالات المتاحة في حدود إمكاناتها. أظهرت الأبحاث الحديثة كيفية حل مسائل تحقيق الأمثلية المقيَّدة تلك بالاستعانة بمنظومات موزعة وليس معالجات مركزية. وعليه، فقد يُلجأ إلى عُقَد شبكة الإنترنت I0 nodes -0 يوما ما في حل مشكلات إدارة الشبكة العالمية عبر أدائها المحلي بصورة تمكِّن بنيان الإنترنت على المستوى الأعلى من الظهور من خلال التآثر فيما بينها.
وإذا كان الأمر كذلك، فلن ينحصر مصير شبكة الإنترنت-0 في نهاية الأمر في إضاءة المصابيح. ولن يكون بالإمكان تمييز شبكة الإنترنت-0 من الحواسيب التي تربطها، بل ستكون في الواقع هي الحاسوب نفسه. إن إفساح المجال لتجهيزات الاتصالات والحوسبة والخَزْن والاستشعار والإظهار، لتبادل المعلومات بالتزام طريقة التمثيل هذه تمامًا ـ على نطاق محلِّي أو عالمي ـ سيمكِّن من تجميع مكوِّنات أي نظام بصورة ديناميكية تقوم على إدراك احتياجات المشكلة دون التقيُّد بإطار ثابت تمليه حدود صندوق.
المؤلفون
Neil Gershenfeld – Raffi Krikorian – Danny Cohen
مجموعة من الباحثين تجد نفسها في تحدٍ للحواجز التقليدية بين الحقول العلمية. گيرشينفلد مدير مركز البتات والذرات بمعهد ماساتشوستس للتقانة الذي ترفده المؤسسة الوطنية للعلوم. يَدرس العلاقة بين الشكل المادي والوظيفة المنطقية لكل شيء، من الحواسيب الكمومية إلى منظومات الأمان في السيارات، ومن الآلة الموسيقية فيولونسيل cello محوسبة صممها للشركة Yo-Yo Ma إلى أدوات يستخدمها القرويون الهنود. كريكوريان طالب دراسات عُليا في معهد ماساتشوستس للتقانة؛ قاد مشروع تطوير المكونات المادية الحاسوبية والبرمجيات لمشروع الإنترنت-0. تنوعت خبرته السابقة في الجهات الأكاديمية والصناعة بين اللوائح الخطِّية الدقيقة لپروتوكولات الإنترنت ومحركات الحوسبة الموزَّعة الضخمة. نشأ مشروع الإنترنت-0 عن تعاونهما مع كوهين، وهو «مهندس متميِّز» في شركة صن Sun، وأحد كبار مؤسسي الإنترنت. استحدث كوهين تطبيقات تآثرية في الزمن الحقيقي على الأرپانت، أسهمت في تطوير پروتوكول الإنترنت (IP)، كما أنشأ الخدمة MOSIS IC لتصنيع شيپات الدارات المتكاملة.
مراجع للاستزادة
How the Internet Came to Be. Vinton Cerf in The Online User’s Encyclopedia. Edited by Bernard Ababa. Addison-Wesley, 1993. Available at www.internetvalley.com/archives/mirrors/cerf-how-inet.txt When Things Start to Think. Neil Gershenfeld. Henry Holt,1999.
Other publications are available at cba.mit.edu/projects/10
Scientific American, October 2004
(*) THE INTERNET OF THINGS
(**) Overview/ Internet-Zero
(***) Smart Spaces
(****) The Sevenfold Way
(*****) Whereabouts
(******) One Network to Connect Them All
(*******) On The Telegraph Road
(********) When Slower Is Better
(*********) Less Is More
(1) (1825-1926) Antoni Gaud?: مهندس معماري إسباني مبدع.
(2) طريقة في تكويد البيانات تستعمل في الاتصالات، وتجمع البيانات وإشارات التوقيت في دفقة البتات المرسلة. وهي تختلف عن طريقة التكويد الطوري phase encoding الذي يستلزم وضع معلومات رقمية على موجة حاملة تماثلية بحيث يتغير الطور دوريًا ليزيد كثافة الإرسال البتية. (التحرير)
(3) interoperability: صفة لمكونات منظومات الحاسوب القادرة على العمل في بيئات مختلفة، مثل قابلية تشغيل النظام مايكروسوفت NT على النظام Intel والنظام DEC Alpha. كذلك توصف برمجيات بأنها تشغيلية بينية إذا أمكنها التشارك في البيانات والموارد؛ فمثلا يستطيع برنامج Microsoft Word قراءة الملفات المحدثة ببرنامج Microsoft Excel. (التحرير)