أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم السياسةقضايا

إثارة شكوك علمية

إثارة شكوك علمية

لتعطيل التنظيمات الحكومية(*)

تحارب المجموعاتُ الصناعية التنظيمات الحكومية بإثارة شكوك علمية حولها.

<D.مايكلز>

 

ثمة بضعة تحديات علمية أكثر تعقيدا من إدراك المحاذير على الصحة لمادة كيميائية أو دواء؛ إذ لا يستطيع الباحثون تعريض الناس لمُركبات سُمية كي يكتشفوا مقدار الجرعات المسببة للسرطان. ويعول الباحثون المختبريون، بدلا من ذلك، على إجراء اختباراتهم على الحيوانات. ويحلل المختصون بالوبئيات(1)ما سبق وقوعه من تعرضات بشرية لأخطار مادة كيميائية أو دواء. لكن يشوب كلا من نمطي الدراسة كثير من الشكوك، وعلى المختصين بالعلوم وضع تقديرات استقرائية استنادا إلى الأدلة المتوافرة لإجراء استنباطات سببية والتوصية باتخاذ تدابير احتياطية. وبما أن اليقين المطلق يندر أن يكون خيارا، فلن تجدي البرامج التنظيمية إذا ما طُلب برهان كهذا. وعلى المسؤولين الحكوميين استخدام أفضل الأدلة المتوافرة لوضع حدود ومعايير لمواد كيميائية مضرة ولتحديد سلامة مستحضرات صيدلانية.

 

إن الريبة مشكلة صميمية في العلم، أما الريبة المصطنعة فهي موضوع آخر تماما. فخلال العقود الثلاثة الماضية تورطت المجموعات الصناعية تورطا متكررا في تحقيقات قضائية عندما تهددت مصالحها. فمثلا، تظهر الدراسات أنه عندما يتعرض عمال شركة إلى مستويات خطرة لمادة كيميائية معينة، فإن الاستجابة النموذجية لإدارة هذه الشركة تكون توظيف باحثين خاصين بها كي يطرح هؤلاء شكوكا حول تلك الدراسات. أو عندما تُواجه مؤسسة صيدلانية بمساءلة حول الأمان لأحد منتجاتها الدوائية يقوم مديروها بامتداح اختبارات رعتها المؤسسة نفسها تُظهر عدم وجود محاذير ذات شأن على الصحة، وفي الوقت نفسه يعملون على تجاهل أو إخفاء الدراسات الأخرى الأقل طمأنة. إن وصم البحث المُهدد بأنه «علم مبتذل»، وبالمقابل فإن تسويغ البحث المفوض من الصناعة ووصفه بأنه «العلم السليم»، لم يعد سوى إجراء نموذجي لدى بعض قطاعات من الشركات الأمريكية.

 

في سنة 1969 التزم أحد المديرين التنفيذيين في شركة براون ووليمسون لصناعة التبغ، التي تمتلكها حاليا شركة رينولدز للتبغ، التزاما طائشا بكتابته شعارا يعكس بأمانة كاملة ما رفعته صناعته في حملتها للتشويه الإعلامي، فكتب: «الشك نتاجُنا، لأنه أفضل أسلوب للتنافس مع مجموعة الحقائق الموجودة في عقول عامة الناس.» وفي السنوات الأخيرة تبنت بلهفة كثير من الصناعات الأخرى هذه الاستراتيجية. وصعدت الشركات الكبرى من حملات تشكيك في دراسات موثقة عن التأثيرات الضارة في الصحة عند التعرض إلى البريليوم والنحاس والزئبق وفينيلات الكلوريد والكروميوم والبنزين والبنزيدين والنيكل وقائمة طويلة من مواد كيميائية سُمية ودوائية. والأدهى من ذلك، شجع الكونغرس وإدارة الرئيس <W.G.بوش> مثل هذه الوسائل لتمكين المجموعات الخاصة من تحدي البحوث الممولة حكوميا بسهولة أكبر. ومع أنه في بعض الحالات تثير الشركات دعاوى صحيحة، لكن المثير للقلق إنما هو المحصلة الشاملة: وهي نجاح كثير من المؤسسات التجارية، بالإعاقة وبالتلكؤ، في تجنب الإزعاجات والإنفاق على تنفيذ احتياطات تفتقدها كثيرا الصحةُ العامة.

 

يشكل الخلاف حول البريليوم مثالا جيدا للمعارك الجارية حاليا بين الصناعة والعلم. فهذا المعدن الخفيف الوزن حيوي لإنتاج الرؤوس النووية، لأنه يزيد من حصيلة الانفجارات. وكانت منشآت الأسلحة النووية التابعة للولايات المتحدة المستهلك الأكبر في أمريكا لهذه المادة طوال فترة الحرب الباردة. أما الآن فيُستعمل البريليوم وسبائكه في صناعة أجهزة إلكترونية وحتى في مضارب لعبة الغولف. لكن هذا المعدن مُفرط في السمية، إذ يؤدي استنشاق كميات ضئيلة منه إلى مرض البريليوم المزمن الذي يُرمز إليه اختصارا بالأحرف CBD، وهو مرض موهن يترك ندوبا في الرئة. ولا تشمل ضحاياه فقط العمال الميكانيكيين الذين يتعاملون مباشرة مع المعدن لكنه يُصيب آخرين ممن لا يعملون سوى لفترات زمنية قصيرة جدا على مقربة من عمليات الطحن والجرش لهذا المعدن. فقد أصيب محاسب بالمرض CBD  بعد عمله كل عام أسابيع قليلة في مكتب قُرب مكان حيث يُعالج البريليوم، كما شُخص المرض CBD عند أناس يقطنون قرب مصانع البريليوم.

 

كنت خلال الفترة ما بين عامي 1998 و 2001 ـ بصفتي السكرتير المساعد للطاقة في شؤون البيئة والسلامة والصحة ـ أعلى موظف مسؤول عن سلامة مُجمع الأسلحة النووية وعن حماية صحة العاملين في منشآت الإنتاج والبحث، إضافة إلى حماية الجماعات والبيئة المحيطة بالمجمع. وعندما عينني الرئيس <كلنتون> لم يكن قد طرأ أي تغيير على مقياس التعرض للبريليوم الذي وضعته دائرة الطاقة منذ سنة 1949، بعد مرور عدد من السنوات على اتضاح أخطار هذه المادة على الصحة. واستجابة لأزمة مرتبطة بتمرض كثير من العمال ومن السكان قرب المجمع قام اثنان من العلميين كانا يعملان في لجنة الطاقة الذرية ـ أثناء ركوبهما سيارة أجرة وهما في طريقهما لحضور اجتماع ـ بتقدير ما تصوراه أن ميكروغرامين اثنين من البريليوم لكل متر مكعب من الهواء هو مقدار آمن. وهكذا أقرت اللجنة المسؤولة حينذاك، التي كانت السالفة لدائرة الطاقة، ذلك المقدار الذي أصبح يُعرف بمستوى التاكسي(2).

 

وعندما تأسست في سنة 1971 إدارة للسلامة والصحة المهنية لحماية صحة العاملين في القطاع الخاص التي يُرمز إليها بالأحرف OSHA تبنت هي أيضا مستوى التاكسي للبريليوم، لكن توضحت على مر العقود التالية حقيقة مرض عمال تعرضوا إلى البريليوم بمقادير أدنى بكثير من المستوى المقرر له. وفي التسعينات من القرن الماضي بدأت الوكالتان DOE و OSHA باتخاذ الإجراءات القانونية الطويلة كي تُغير حدودهما للتعرض إلى البريليوم، كما قامت شركة برش ويلمن المنتجة القيادية للمعدن في الولايات المتحدة بتوظيف الشركة إيكسبوننت [وهي شركة استشارية في ولاية كاليفورنيا متخصصة في حماية المنتجات]. نشر مستشارو هذه الشركة سلسلة بحوث بالاشتراك مع علميين يعملون في شركة برش ويلمن أشاروا فيها إلى أنه من الممكن أن يكون الحجم والمساحة السطحية وعدد جزيئات البريليوم أكثر أهمية مما كان يُعتقد للإصابة بالمرض CBD، كما أثاروا الافتراض بأن التعرض الجلدي يمكن أن يؤدي دورا أكبر في مخاطر المرض، واستنتج الخبراء أن مستوى البريليوم المعمول به حينذاك ربما لم يكن واقيا لكن ثمة حاجة إلى مزيد من البحوث قبل العمل على تغييره.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N7-8_H03_004136.jpg

تمول شركات الأدوية معظم البحوث المتعلقة بالمخاطر الصحية لمنتجاتها. وفي معظم الحالات تركز هذه الشركات الأضواء على الدراسات التي تُظهر أن منتجاتها مأمونة وتعتم في الوقت نفسه على النتائج الأقل طمأنة.

 

وبعد مراجعة جميع الدراسات وأخذ شهادات من الصناعة ومن علميين مستقلين قامت قيادة الوكالة DOE في السنوات الأخيرة من إدارة كلنتون باتخاذ قرار بأنه على الرغم من أن مزيدا من البحوث مرغوب فيه دائما فقد كان لدى الوكالة أكثر مما يكفي من معلومات تستوجب في الحال تحديد مستوى للبريليوم يكون أكثر صرامة، فأصدرنا قاعدة جديدة بتخفيض مقدار التعرض المقبول في أمكنة العمل بعامل عشرة. ومع أننا لم نستطع البرهنة على أن المستوى المخفض يُزيل جميع المحاذير على الصحة، فإننا اخترنا مقدارا نعتقد أنه سيزيل معظم حالات المرض CBD وهو مقدار قابل للتطبيق تقنيا؛ لكن المستوى الجديد يُطبق فقط على عمال الوكالة DOE، أما العاملون في القطاع الخاص والمنضوون تحت مظلة الوكالة OSHA فلا يتمتعون بالحماية نفسها. ففي سنة 1998 أعلنت الوكالة OSHA نيتها اتباع خُطى الوكالة DOE؛ لكن بعد مرور ثلاث سنوات أسقطت الوكالة OSHA مبادرتها تلك. وفي الشهر  11/2002 قبلت هذه الوكالة ضمنيا حجج الصناعة بإصدارها دعوة إلى بيانات إضافية حول الحجم والمساحة السطحية وعدد الجزيئات ومدى ملامسة الجلد للإصابة بمرض البريليوم.

 

يعتقد معظم العلميين أن البريليوم يزيد أيضا من خطر الإصابة بسرطان الرئة. وقد عززت هذا الاعتقاد بحوث عديدة أجراها مختصون بالوبئيات يعملون في مراكز السيطرة ومنع الأمراض (CDC). ولكن في سنة 2002، قام إحصائيون في مؤسسة أخرى لحماية المنتجات (هي شركة روث وشركاؤه من روكفيل في ولاية ماديسون الأمريكية) بالتعاون مع إحصائيين من جامعة إلينوي الأمريكية بإعادة تحليل لدراسة ترجع لعشر سنوات أجرتها المراكز CDC، خلصوا فيها إلى رفع التقديرات لمعدل انتشار سرطان الرئة، بحيث لم يعد ارتفاع معدل الإصابة بسرطان الرئة بسبب البريليوم ذا شأن إحصائيا. (إن هذا الإجراء يمكن تحقيقه بسهولة، بينما العكس ـ أي تحويل أمر غير ذي شأن إلى أمر ذي شأن ـ هو في غاية الصعوبة). لقد موّلت هذا البحث شركة برش ويلمان والشركة NGK للمعادن وهي منتجة لسبائك البريليوم. وقد نُشر التحليل الجديد في المجلة: InhalationToxicology (السموميات الاستنشاقية) وهي مجلة مقالاتها محكَّمة(3) إلا أنها ليست مختصة بالوبئيات. والآن تُروج الصناعة لبحثها هذا كدليل على أن كل بحث آخر خاطئ.

 

ليس هذا النمط مقصورا على صناعة البريليوم وحدها؛ إذ إن كثيرا من الشركات الأخرى التي تنتج مواد كيميائية خطرة وظفت باحثين ليعترضوا ويعيدوا تحليل بيانات توضح تأثيرات ضارة لهذه المواد في الصحة. ونتائجهم تكاد تكود دائما نفسها تقريبا، وهي أن الدلائل غامضة، وعليه ليس هنالك من مبرر لاتخاذ تدابير تنظيمية. ومن بين قُرابة 3000 مادة كيميائية منتجة بكميات كبيرة (أي بأكثر من مليون رطل إنگليزي(4) سنويا) تفرض الوكالة OSHA حدودا للتعرض لأقل من 500 من هذه المواد. وفي السنوات العشر الأخيرة حددت هذه الوكالة مستويات جديدة لما مجموعه الإجمالي اثنان من المواد الكيميائية؛ ومازالت الأغلبية الكبيرة المتبقية من المواد «منظمة» بمستويات اختيارية وُضعت قبل سنة 1971، حينما تبنتها الوكالة المستحدثة حينذاك من دون انتقاد ولا تغيير. ولم يكن للتطورات العلمية الجديدة أي وَقْعٍ عليها. من ذلك أستنتج أن الإدارات المتتالية للوكالة OSHA قد أدركت بكل بساطة أن وضع مستويات جديدة موضع التنفيذ سيأخذ منها وقتا طويلا وعناء شديدا، وسيدعو حتما الصناعة إلى القيام بمعارضة منسقة تجعل أن لا جدوى من بذل الموارد المحدودة للوكالة على الجُهد المطلوب.

 

إن الإصرار على التشكيك من أجل مصالح الشركات التجارية الكبرى أصبح بحد ذاته عملا تجاريا كبيرا. فغدت مؤسسات حماية المنتجات متمرسة وناجحة كهيئات استشارية في الوبئيات والإحصاء الحيوي والسموميات. في الحقيقة، لقد غدا من غير المُعتاد حاليا ألا يجري تحدي العلم الذي يقف وراء أي تنظيم مقترح للصحة العامة أو البيئة مهما بلغت قوة حججه. ونجد في الوقت الحاضر ممثلين عن الصالونات الداخلية لاسمرار البشرة منهمكين بجد في التقليل من دور الإشعاع فوق البنفسجي كسبب لسرطان الجلد. إضافة إلى ذلك، إن الإنكار للدليل العلمي والإصرار على يقين مستحيل ليسا مقصورين فقط على مصالح الأعمال التجارية. فمثلا يبقى بعض المتزمتين من المدافعين عن البيئة معارضين بعناد تشعيع الأطعمة ـ أي تعريضها إلى الإشعاع باستعمال أشعة گاما أو أشعة إكس أو حُزما إلكترونية لقتل الجراثيم في اللحوم والمنتجات ـ وذلك على الرغم من أن منافع هذا الأسلوب تفوق بكثير محاذيره.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N7-8_H03_004137.jpg

إن العقبات التي تضعها الشركات الكبرى تحول دون تنفيذ التنظيمات الخاصة بالمواد الكيميائية والأدوية غير المأمونة.

 

لقد نجحت كثير من الشركات الكبرى في تجنب الإنفاق

وذلك بإبطاء مشروعات حماية الصحة العامة

إن قدرة الشركات على التأثير وتحريف البحوث هي أيضا كبيرة في الصناعة الصيدلانية. تأمّل الإجراءات التحكمية التي قامت بها متأخرة وكالة الأطعمة والأدوية الأمريكية (FDA) على الدواء phenylpropanolamine  PPA  الذي استعمل استعمالا واسعا لعقود من الزمن كمزيل للاحتقان وككابح للشهية، وكان الحصول عليه ممكنا من دون وصفة طبية. ومنذ سنة 1970 بدأت التقارير تتحدث عن إصابات بنوبات نزف تعرضت إليها شابات تناولن الدواء PPA. وعلى مدى العشرين سنة التالية أثارت الوكالة FDA أسئلة حول سلامة هذا الدواء PPA؛ لكن الجمعية التجارية الممثلة لمصنعي هذا الدواء ـ التي تشمل كلا من الشركات بير و ويث و غلاكسوكلاين وساندوز ـ رفضت قلق الوكالة ووظفت علميين وجماعات ضغط للحفاظ على عرض الدواء PPA للبيع في الأسواق. وفي النهاية توصل الطرفان إلى حل وسط يسمح للشركات باختيار محقق وتمويل دراسة وبائية يوافق على تصميمها المصنعون والوكالة FDA، واختار الطرفان كلية طب جامعة ييل الأمريكية. وفي سنة 1999، أقرت الدراسة أن الدواء PPA يُسبب نوبات نزف.

 

هل سحب المصنعون الدواء الذي وصلت مبيعاته السنوية إلى أكثر من 500 مليون دولار؟ كلا… بل بدلا من ذلك استنجدوا بمجموعة واينبرگ (وهي شركة استشارية لحماية المنتجات مركزها واشنطن العاصمة)، للتهجم على الدراسة، وقد أدخل محامو الشركة الباحثين عبر إجراءات قضائية مُنهكة. يقول <D.كسلر> [المدير السابق لوكالة الأطعمة والأدوية الأمريكية، وهو حاليا عميد كلية طب جامعة سان فرانسيسكو]: «بالقدر الذي تحمّله علميو جامعة ييل من صراع وعناء فأنا متأكد أنهم في المرة القادمة التي يُطلب إليهم الاضطلاع بشيء شبيه بذلك فسوف يتساءلون أيستحق الموضوع كل ذلك الثمن.» وأخيرا في الشهر 11/2000 أوصت الوكالة FDA المصنعين بالتوقف عن تسويق الدواءPPA، وتقدر الوكالة أن هذه المادة الكيميائية سببت ما يراوح بين 200 و 500 نوبة نزف سنويا عند أناس تراوح أعمارهم بين 18 و 49 عاما.

 

والآن، لندخل في اعتبارنا الدواء rofecoxib المشهور أكثر باسم ڤيوكس Vioxx، وهو من صنع شركة ميرك. وحتى قبل أن توافق على تسويقه الوكالة FDA في الشهر 5/1999 فإن هذه الوكالة اطلعت على بيانات تشير إلى أن هذا الدواء يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بمرض القلب؛ إذ إن بعض العلميين المستقلين (أي أولئك الذين لم تكن أسماؤهم على قائمة رواتب شركة ميرك) رفعوا رايات حُمْرًا، لكن الوكالة تجاهلت أغلبها. بعدئذ وفي أوائل سنة 2000 أظهرت نتائج اختبارات سريرية أنه كان لدى المشاركين في الاختبار من الذين تناولوا الدواء فيوكس مدة تسعة أشهر خمسة أضعاف خطر الإصابة بنوبة قلبية من الذين تناولوا الدواء (قاتل الألم) naproxon المُباع تحت الاسم التجاري آليڤ Aleve

 

واجه العلميون العاملون في شركة ميرك مأزقا محيرا؛ إذ يمكنهم تفسير هذه النتيجة بطريقتين: إما أن الڤيوكس يزيد محذور الإصابة بنوبة قلبية 400 في المئة وإما أن الدواء naproxon  يخفض المحذور إلى النسبة المدهشة ثمانين في المئة، التي تجعله قرابة ثلاث مرات أكثر فعالية من الأسبرين في حماية الجهاز القلبي الوعائي. ولم يكن غريبا أن يختار باحثو الشركة التفسير الثاني. لكن شركة ميرك تراجعت فجأة في الشهر 9/2004 عندما أظهرت تجربة أخرى أن المشاركين الذين تناولوا الدواء لمدة أطول من 18 شهرا أصيبوا بضعف عدد النوبات القلبية والسكتات من الذين تناولوا علاجا غفلا(5). وقد قدر أحد محللي الوكالة FDA أن الڤيوكس سبب ما يراوح بين000 88 و000 1399 نوبة قلبية ـ ربما كان 30 إلى 40 في المئة منها مميتا ـ خلال السنوات الخمس لوجود الدواء في الأسواق.

 

ومع أن ما أوردته الجريدة وول ستريت جورنال بأن مستندات معينة توحي بأن مديرين تنفيذيين في شركة ميرك كانوا على علم بزيادة مخاطر النوبات القلبية، لكن من الصعب تصور تعمد علميي الشركة الترويج لدواء يعرفون مسبقا أنه غير آمن. وفي الوقت نفسه من الصعب التصور أنهم فكروا حقا بأن الدواء naproxon يخفض من مخاطر النوبات القلبية ب800 في المئة. وإذا كانوا قد فكروا فعلا بذلك لكان الأجدر بهم حث الحكومة على إتلافه سريعا. يبدو أنه من المرجح أن ولاءاتهم ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنتج الذي عملوا عليه وبالصحة المالية لموظفيهم إلى درجة أفسدت أحكامهم. وماذا عن وكالة الأطعمة والأدوية الأمريكية؟ ليس لتلك الوكالة السلطة القانونية ولا المصادر لتحدد بفعالية النتائج الخطرة التي تسببها الأدوية المعروضة في الأسواق.

 

وكنتيجة لذلك غدت الإجراءات القضائية المدنية الوسيلة الرئيسية لحماية الجمهور من أدوية وكيميائيات غير مأمونة. لكن قرارات حديثة للمحكمة العليا الأمريكية جعلت من العسير أكثر على المدعين تقديم شهادات علمية لدعم قضاياهم. وبناء على السوابق القضائية التي نجمت عن قضية دوبرت(6) ضد شركة ميريل داو الصيدلانية، وقرارين آخرين لهما علاقة، فإن المطلوب الآن من الحكام الفدراليين تحديد إمكان الاعتماد على شهادة الشهود وأهميتها. إن ما بُدئ به كجهد ذي غاية حسنة لتحسين نوعية الأدلة العلمية صارت له نتائج مزعجة: فاستنادا إلى تحليل منشور عام 2000 في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية أوضح أن الحكام الفدراليين منعوا باحثين محترمين من الإدلاء بشهاداتهم في مرافعات متعلقة بالأدوية، لأن أدلتهم ـ مثل تقارير الحالات الطبية والدراسات السُمّية على الحيوانات ـ لا تتماشى مع صرامة المستويات الجديدة. وغدا المدافعون عن الشركات الكبرى أكثر شجاعة لتحدي شهادة أي خبير بحجة أنها مبنية على «علم مُبتذل»(7).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/21/SCI2005b21N7-8_H03_004138.jpg

لقد كانت الوكالات الحكومية بطيئة التصرف حتى في حالات يكون الدليل لتنظيم أكثر صرامة دافعا.

 

جودة البيانات(**)

حاولت المجموعات الصناعية أن تُدَولب(8) العلم مهما كان الحزب المسيطر  على الحكومة؛ لكن الجهود نمت بشكل أكثر صفاقة منذ أن تولى <جورج دبليو بوش> رئاسة البلاد. وإني أعتقد أن من الحق القول إنه لم تكن في تاريخنا قط مصالح الشركات الكبرى ناجحة كنجاحها اليوم في صياغة السياسات العلمية حسب أهوائها. ففي سنة 2002 على سبيل المثال، أعادت إدارة بوش تشكيل لجنة لتوصي المركز CDC حول موضوع تسمم الأطفال بالرصاص. قام وزير الصحة والخدمات الإنسانية <T.ثومبسون> بالاستعاضة عن باحثين مرموقين في هذه اللجنة بآخرين هم على الأغلب منحازون إلى صناعة الرصاص. (أدلى أحد الأعضاء الجدد بشهادة لصالح صناعة الأصبغة الرصاصية في مرافعة أقامتها ولاية رود آيلاند الأمريكية لاسترجاع تكاليف معالجة أطفال أصيبوا بالتسمم بالرصاص وتنظيف بيوت ملوثة بالرصاص.) ومنذ ذلك الحين لم يتحرك المركز CDC لرفع معايير التسمم بالرصاص على المستوى الفدرالي على الرغم من وجود بحوث تُبين أن مقدارا من الرصاص في الدم، حتى ولو كان ضئيلا جدا، يمكن أن يخفض ذكاء طفل ـ IQ  ـ خفضا حادا.

 

هنالك حاجة إلى نموذج تنظيمي جديد يُحتذى به،

لكن إدارة بوش تتجه اتجاها خاطئا في هذا المضمار.

والأدهى من ذلك هو أن هذه الإدارة حاولت تسهيل وتثبيت الأسس لاستراتيجيات الاتحادات الكُبرى في اختلاق الشكوك. وأهم أداة لها لتحقيق ذلك هو قانون جودة البيانات(9) الذي يرمز إليه اختصارا بDQA، وهو تذييل قانوني وضع في اللحظة الأخيرة كملحق لقانون التخصيصات لسنة 2000 وقد وافق عليه الكونغرس دون جلسة استماع ولا نقاش. إن القانون DQA يخول وضع ضوابط «لتأمين ولإيجاد أفضل نوعية وواقعية، وفائدة ومصداقية من المعلومات ـ يبدو أن هذا القانون لا يحمل في طياته أي أذى، بل يبدو أنه مفيد جدا، فمن لا يرغب في تأمين جودة المعلومات الموزعة من الحكومة؟ لكن في الواقع العملي، تستخدم المجموعات الصناعية القانون DQA لإبطاء أو لإيقاف محاولات لتنظيم استخدامات الأدوية والمواد وذلك بالتقليل من أهمية التقارير العلمية المتعلقة بها. ويمنح القانون الشركات الكبرى أسلوبا شرعيا لوأد أو لتغيير الوثائق الحكومية التي لا يتفقون معها. وقد استغل من قبل مجموعات صناعة النفط الممولة مصرفيا للارتياب في التقديرات الوطنية للتغيرات المناخية(10) وهو تقرير فدرالي عن «الاحترار العالمي»(11)، وقد استغل أيضا من قبل أصحاب مصالح صناعة الأطعمة لمهاجمة الضوابط الغذائية التي وضعتها مؤسسة الصحة العالمية التي توصي بتخفيض تناول السكر لمنع السمنة المفرطة كما استُغل من قِبل معهد الملح ليتحدى نصيحة المعاهد الوطنية للصحة بأن على الأمريكيين الإقلال من استهلاكهم للملح.

 

حتى إنه صار من الأفضل للصناعة أن تكون لها طريقة لتسيطر على المعلومات حتى قبل أن تُصبح جزءا من وثيقة رسمية حكومية. ولتحقيق هذا الهدف المغيظ نشرت، في الشهر 8/2003، دائرة الإدارة والميزانية OMB مقترحا جديدا بعنوان «المراجعة النقدية وجودة المعلومات.» استنادا إلى هذا المقترح تُخضع جميع المعلومات المغطاة إلى شكل من أشكال المراجعة النقدية قبل إصدارها من وكالة حكومية، وأن أي معلومة يمكن أن تؤثر في تنظيمات كبرى، أو يمكن أن يكون لها وقع جوهري على السياسات العامة أو على قرارات تخص القطاع الخاص، ستوضع خلال منظومة مرهقة تُراجع فيها المعلومة من قبل خبراء مستقلين عن الوكالة. ولما كانت العملية المقترحة للمراجعة من قبل محكِّمين خبراء تستبعد جميع العلميين الذين يتسلمون منحا أو تعهدات من الوكالة، فيبدو أن المقترح مصمم ليمنح مصالح الشركات الكبرى أعظم قابلية ممكنة في اختلاق وتضخيم شكوك علمية.

 

لقد بلغ السيل الزُّبى، ففي الشهر 11/2003وقفت الجماعة العلمية، المعتاد هدوؤها، محتجة وذلك في اجتماع للأكاديمية الوطنية للعلوم دعت إليه الإدارةOMB. وفي وجه هذه المعارضة ـ حيث بعث العديد من المؤسسات رسائل شديدة اللهجة إلى البيت الأبيض ـ تراجعت الإدارة OMB فوضعت برنامجا أقل تهاونا بحيث لا يُستبعد فيه العلميون الأكثر تأهيلا من عملية المراجعة النقدية.

 

ومن الواضح أن ثمة حاجة إلى نموذج تنظيمي جديد يُحتذى به، لكن إدارة بوش تتجه اتجاها خاطئا. فبدلا من أن تشجع المجموعات الصناعية على مراجعة تقارير العلميين الحكوميين، كان يجب على الوكالات الحكومية أن تركز أكثر على التدقيق في البيانات والتحاليل المُقدمة من العلميين العاملين في الصناعة وفي شركات حماية المنتجات. وبدلا من السماح للشك بأن يكون عذرا للعطالة، كان يجب على الذين يناط بهم وضع الأنظمة العودة إلى المبادئ الأولية: استخدم أفضل علم متوافر لكن لا تتطلب يقينا حيث لا وجود له.

 

والنموذج الجيد لمثل هذه المقاربة هو البرنامج لتقديم تعويضات إلى عمال الأسلحة الذين مرضوا بعد تعرضهم إلى إشعاع أو كيميائيات في مواقع الODE(لقد ساعدت على تصميم حق المبادرة الذي سنه الكونغرس عام 20000) وبما أنه من المستحيل تحديد ما إذا كان سرطان معين قد سببه تعرض إشعاعي، فإن البرنامج يقدر الاحتمالية تقديرا مبنيا على معدل نمو السرطان عند الناجين من تفجيري هيروشيما ونگازاكي. ليس النموذج كاملا تماما، لكن التقديرات هي من الدقة بقدر ما تسمح به البيانات والطرائق المتوافرة.

 

في تلك الحال، نكون قد قمنا بما يجب عمله. وقد آن الأوان لتؤدي الصناعة ما عليها على الوجه الصحيح. فنحن في حاجة إلى موازنة أفضل بين الصحة والمال.

 

 المؤلف

David Michaels

مختص بالوبئيات وعمل ما بين عامي 1998 و 2001 في دائرة الطاقة معاونا لوزير البيئة والسلامة والصحة. وهو حاليا أستاذ ورئيس مشارك في قسم البيئة والصحة الوظيفية بكلية الصحة العامة والخدمات الصحية التابعة لجامعة جورج واشنطن.

 

مراجع للاستزادة 

Deceit and Denial: The Deadly Politics of Industrial Pollution. Gerald Markowitz and David Rosner. University of California Press, 2002.

Science for Judges I-III. Edited by Margaret Berger. Journal of Law and Policy, Vols. 12-13; 2003-2005. Available online at www.brooklaw.edu/students/journals/jlp.php

More information about the use of scientific evidence in public policy is available at

 www.Defendingscience.org

Scientific American, June 2005

 

(*) العنوان الأصلي: DOUBT IS THEIR PRODUCT

(**) Data Quality 

 

(1)epiderniologists

(2) the taxicab standard

(3)  أي تخضع إلى تحكيم خبراء، هم أنداد المؤلف أو أكفاء له علما.

(4)pound

(5)placebo

(6) Daubert

(7)junk scienc

(8)manipulate تحوّر وتغير.

(9) Data Quality Act

(10) NACC

(11)global warming

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى