الأصول الكُسمولوجية لسهم الزمن
الأصول الكُسمولوجية لسهم الزمن(*)
إن إحدى أهم الحقائق الأساسية للحياة هي أن المستقبَل يبدو مختلفا عن الماضي، ولكنهما قد يبدوان متطابقين في المقياس الكُسمولوجي (الكوني) الكبير.
<M.S. كارول>
مفاهيم مفتاحية
إن القوانين الأساسية للفيزياء صالحة، على قدم مساواة، حين ينساب الزمن نحو المستقبل ونحو الماضي. ومَعَ ذلك، فإننا نَعي الزمن وهو يتحرك باتجاه واحد فقط؛ باتجاه المستقبل. لماذا؟ لتفسير ذلك، يتعين علينا التنقيب في الحقبة قبل التاريخية للكوْن؛ أي في الزمن السابق للانفجار الأعظم. وقد يكون كوْننا جُزءا من كوْن متعدّد أكبر بكثير، يتّسم عموما بأنه متماثل زمنيّا. وربما ينساب الزمن نحو الماضي في أكوان أخرى. محررو ساينتفيك أمريكان |
لا يتراءى لنا الكونُ سليما. وقد يبدو هذا كلاما غريبا إذا عرفنا أن علماء الكسمولوجيا يكادون لا يملكون معيارا للمقارنة. فكيف لنا أن نعرف الشكل الذي يُفترض أن يتّخذه الكوْن؟ ومع ذلك، فقد طوّرْنا على مرّ السنين حَدْسا قويًّا لما يمكن أنْ يُعدَّ شكلا «طبيعيا»؛ ويبدو أنّ الكونَ الذي نراه لا يتّفق وهذا الوصف.
لكن علينا ألا نسيء فهم ما نعنيه؛ فقد رسم علماء الكسمولوجيا صورة ناجحة إلى أبعد الحدود لما يُؤلّف الكون، وللطريقة التي تطور بها. فقبل 14بليون سنة، كان الكون أسخن وأكثف من الجُزْء الداخلي لنجم. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يبرد ويقلّ كثافة نتيجة لتمدّد نسيج الفضاء. وتفسِّر هذه الصورةُ تقريبا كلَّ رصدٍ أجريناه. بَيْدَ أن عددا من السِّمات غير العادية، خاصة في المراحل المبكّرة من نشوء الكون، يوحي أن هنالك المزيدَ ممّا يجب إضافته إلى ما نفهمه عن قصة الكون.
ومن بين السمات غير الطبيعيّة للكون، تبرز واحدة؛ ألا وهي لاتماثل الزمنtimeasymmetry . فالقوانين الميْكروسكوپيّة (المِجهريّة) للفيزياء التي يستند إليها سلوك الكون لا تميّز بين الماضي والمستقبل؛ ومَعَ ذلك، فإنّ الكون في بواكيره ـ حارٌّ، كثيفٌ، متجانسٌ ـ يختلف كلّيا عمّا هو عليه اليوم: بارد، غير كثيف، غير متجانس. لقد استهلّ الكونُ وجودَهُ خاضعا لانتظام، وهو آيلٌ منذ ذلك الحين بازدياد نحو اللاانتظام. إنّ لاتماثل الزمن، وهو السهم الذي يتجه من الماضي إلى المستقبل، يؤدّي دورا جليّا في حياتنا اليومية؛ إذ إنه يفسّر لماذا لا نستطيع تحويل عجّة البيض (الأومليت) إلى بيض؛ ولماذا لا يمكن الحيلولة دون ذوبان مكعّبات من الثلج موضوعةٍٍ في كأسٍ من الماء؛ ولماذا نتذكر الماضي، لكن ليس المستقبل. هذا، وإن أصل اللاتماثل الذي نعانيه يمكن تعقّبه بالسير إلى الوراء وصولا إلى انتظام الكون في زمن قريب من الانفجار الأعظم. وفي كل مرة تكسرُ فيها بيضة، فإنك تمارسُ الكسمولوجيا الرّصدية.
ربما كان سهمُ الزمن أكثرَ السماتِ الواضحةِ للكون التي تُوقِع علماء الكسمولوجيا في ضياعٍ كاملٍ عند محاولتهم تفسيره. إلاّ أنّ هذه الأُحجية حول الكوْن الذي نلاحظه تشير بازدياد إلى وجود زمكان spacetime أكبر بكثير مما لا نلاحظه. وهذا يضيف دعما إلى الفكرة التي مفادها أننا جزءٌ من كونٍ متعدّدٍmultiverse، تساعدنا ديناميّاته على تفسير ما يبدو أنه سماتٌ غير طبيعيةٍ لجوارنا المحلّيّ.
أحجية الإنتروپية (الاعتلاج)(**)
يُضَمِّنُ الفيزيائيون مفهومَ لاتماثل الزمن في القانون الثاني الشهير للدّّيناميك الحراريّ thermodynamics، الذي ينص على أن الإنتروپية في نظامٍ مغلقٍ لا تتناقصُ البتَّةَ. وعلى وجْه التقريب، فإنّ الإنتروپية مقياسٌ للفوضى التي تسود نظاما ما. وفي القرن التّاسعَ عشر، فسّر الفيزيائي النمساوي <L. بولتزمان> الإنتروپية بدِلالة الفرق بين الحالةِ الميكروية (المجهرية) microstateلجسم وحالتِهِ الماكروية (الجاهرية) macrostate. فإذا طُلِبَ إليك وصف فنجان من القهوة، فأغلب الظن أنك سوف تشير إلى حالته الماكروية: درجة حرارته وضغطه وسماتٍ عامةٍ أخرى. وبالمقابل، فإن حالته الميكروية تحدِّد بدقةٍ موضعَ كلّ ذرّةٍ من القهوة وسرعتها. هذا، وإن كثيرا من الحالات الميكروية المختلِفة تقابل كلّ حالة ماكروية معيّنة؛ فبمقدورنا تحريك ذرّةٍ هنا وهناك من دون أن يلاحظ ذلك أي شخص ينظر إلى المقاييس الماكروية.
الإنتروپية هي عدد الحالات الميكروية المختلِفة المقابلة للحالة الماكروية نفسها. (تقنيا، إنه عدد خانات، أو لغاريتم، ذلك العدد). وعلى ذلك، فإنه توجد طرقٌ أكثر لترتيب عدد معطى من الذرات في تشكيلٍ عالي الإنتروپية من ترتيبها في تشكيل منخفض الإنتروپية. تصوّر أنك تصبّ حليبا في فنجان قهوتك. هنالك عدد كبير جدا من طرق توزيع الجُزَيئات بحيث يصبح الحليب والقهوة ممتزجيْن معا كّليّا؛ لكنْ يوجد عدد قليل نسبيّا من الطرق لفصل الحليب عن القهوة المحيطة به. لذلك فللمزيج إنتروپية أعلى.
ومن وجهة النظر هذه، فلن نُصابَ بالدهشة من أن الإنتروپية تنحو إلى التزايد بمرور الوقت. إن الحالات ذات الإنتروپية العالية تفوق كثيرا في عددها الحالات ذات الإنتروپية المنخفضة؛ وتقريبا أي تغيير في النظام سيوصله إلى حالة ذات إنتروپية أعلى، بكلّ بساطة، بفضل قوانين الاحتمالات. وهذا هو السبب في أن الحليب يمتزج بالقهوة؛ لكنْ لا يمكنه البتة الانفصال عنها. ومَعَ أنه من الممكن فيزيائيّا لجزيئاتِ الحليب كافة أن تُخطّط تلقائيّا لترتب نفسها الواحدة بجوار الأخرى، فإن هذا يبدو بعيد الاحتمال إحصائيّا. وإذا انتظرتَ كي يحدث هذا طوعا حين تعيد الجُزيئات تنظيم نفسها عشوائيا، فعليك في الحالة النمطيّة الانتظار مدة أطول من العمر الحاليّ للكوْن القابل للرصد. سَهْمُ الزمن هو، ببساطة، نزوع النُّظُمِ إلى التطوّرِ صوْب واحدة من الحالات الطبيعيّة الكثيرة ذات الإنتروپية العالية.
لكن تفسير السبب في تطور الحالات المنخفضة الإنتروپية إلى حالاتٍ عالية الإنتروپية يختلف عن تفسير السبب في تزايد الإنتروپية في كوننا. ويبقى السؤال: لماذا كانت الإنتروپية منخفضة عند البداية؟ يبدو هذا غيرَ طبيعيٍّ للغاية إذا علمنا أن الحالات المنخفضةَ الإنتروپية نادرة جدّا. وحتى لو سلّمنا أن لكوْننا اليومَ إنتروپية متوسطة، فهذا لن يفسر السبب في أن الإنتروپية كانت حتى أقلّ. ومن بين جميع الظروف الابتدائية المحتملة، التي ربما تطوّرت إلى كونٍ يشبه كوننا، فإن للأغلبية العظمى منها إنتروپية أعلى، لا أدنى(1).
وبعبارة أخرى، ليس التحدي الحقيقي عدم تفسير السبب في أن إنتروپية الكوْن ستصبح غدا أعلى ممّا هي عليه اليوم؛ إنما هو تفسير السبب في أن الإنتروپية كانت أدنى أمس، بل حتى أدنى أوّلَ من أمس. ويمكننا تعقّب هذا المنطق بالعودة إلى الوراء، وصولا إلى بداية الزمن في كوننا القابل للرصد. وفي النهاية، فإن لاتماثل الزمن هو سؤال يتعين على الكسمولوجيا الإجابة عنه.
فوضى الفراغ(***)
كان الكون في بواكيره مكانا استثنائيّا. فقد كانت جميع الجُسَيْمات التي تكوّن الكوْن، الذي نرصده حاليّا، مضغوطة في حيّز تسوده حرارةٌ وكثافةٌ فوق العادة. والأهمّ من ذلك هو أنهما كانتا موزعتيْن بانتظام تقريبا عبر هذا الحيّز الصغير. ففي المتوسّط، كانت الكثافة تختلف من مكان إلى آخر بما يناهز جُزءا واحدا فقط في000 100 . ومَعَ تمدّد الكون وتبرّده تدريجيّا، عزّز جذْب الثقالة (الجاذبية) gravity تلك الاختلافات. فكوّنت المناطق التي تحوي عددا أكبر قليلا من الجُسيْمات النجومَ والمجرّاتِ؛ في حين فرغت المناطق التي تحوي عددا أقل من الجسيْمات لتكوّنَ البقاعَ الخالية.
[من النظام إلى الفوضى] الإنتروپية (الاعتلاج) في المطبخ(****)
تقدم البيضة النيئة مثالا على لاتماثل الزمن؛ فالبيضة الطازجة تنكسر بسهولة، لكن البيضة المكسورة لا تجمع نفسها تلقائيا لتعود إلى حالتها الأولى، وذلك لسبب بسيط وهو أن عدد طُرق انكسارها يتجاوز طُرق عدم انكسارها. وبالمصطلح الفيزيائيّ، فإن للبيضة المكسورة إنتروپية أعلى. |
من الواضح أن الثقالة كانت، وما زالت، حاسمة في تطوّر الكون. ولسوء الحظ، فنحن لا نفهم الإنتروپية تماما بوجود الثقالة. فالثقالة تنشأ عن شكل الزمكان spacetime؛ لكنْ لا يوجد لدينا نظرية شاملة للزمكان. وهذا هو هدف أي نظرية كموميّة (كوانتيّة) للثقالة. وفي حين يمكننا ربْط إنتروپية مائع بسلوك الجُزْيئات التي تكوّنه، فنحن لا نعرف ما الذي يؤلف الفضاء. لذلك فإننا لا نعرف الحالات الميكروية للثقالة المقابلة لأي حالة ماكروية معينة.
ومع ذلك، فلدينا فكرة تقريبية عن كيفية تطور الإنتروپية [انظر المؤطر في الصفحة المقابلة]. ففي الحالات التي يمكن فيها إهمال الثقالة، كمثل فنجان من القهوة، يكون للتوزيع المنتظم للجُسيْمات إنتروپية عالية. وهذا الظرف هو حالة اتزان. وحتى حين تُعيد الجسيمات تنظيم نفسها، فإن امتزاجها يكون قد بلغ حدّا لا يبدو معه أن الكثير منها يحدث ماكرويا(2) macroscopically. لكنْ إذا كانت الثقالة مهمة، وكان الحجم ثابتا، فيكون لتوزيعٍ ممهّد إنتروپية متدنّية نسبيّا. وفي هذه الحالة، يكون النظام بعيدا جدّا عن الاتزان. فتتسبّب الثقالة في تكتّل الجُسيْماتِ بنجومٍ ومجرّاتٍ، وتزداد الإنتروپية بشكل ملحوظ؛ انسجاما مع القانون الثاني.
إذا أردنا أن نعظّم قيمة إنتروپية حجمٍ ما حين تكون الثقالة فاعلة، فنحن نعرف ما الذي سنحصل عليه: إنه ثَقْب أسود. ففي السبعينات من القرن الماضي، أكّد <S. هوكينك> [من جامعة كيمبردج] اقتراحا مثيرا لـ<J. بيكنشتاين> [الذي يعمل الآن في الجامعة العبرية بالقدس] مفاده أن الثقوب السوداء تنسجم بدقةٍ مع القانون الثاني. وكما هو الحال في الأجسام الحارّة التي صيغ القانون الثاني في الأصل لوصْفها، فإن الثقوب السوداء تبثّ إشعاعاتٍ، ولها إنتروپية؛ بل قدر كبير منها. فإنتروپية ثقب أسود واحد، كتلته تعادل مليون كتلةٍ شمسيةٍ ـ مثل ذلك الثقب الموجود في مرْكز مجرتنا ـ أكبر 100مرّة من إنتروپية جميع الجسيمات العادية في كوننا المرصود.
وفي نهاية المطاف، فحتى الثقوب السوداء تتبخّر ببث إشعاع هوكينك. وليس للثقب الأسود أعلى إنتروپية ممكنة؛ لكنْ له فقط أعلى إنتروپية يمكن حشْرها في حجمٍ معيّن. بَيْدَ أن حجم الفضاء في الكون ينمو بلا حدود فيما يبدو. ففي عام 1998، اكتشف الفلكيون أن تمدُّدَ الكونِ متسارعٌ. وأفضل تفسير مباشر لهذا هو وجود طاقة معتمة(3). وهي نوع من الطاقة توجد حتى في الفراغ (الفضاء الخالي)؛ ولا يبدو أنها تتناقص بتمدّد الكون. إنها ليست التفسيرَ الوحيدَ للتسارع الكونيّ؛ لكنّ المحاولاتِ الجاريةَ للتوصل إلى فكرةٍ أفضل لم تنجح حتى الآن.
وإذا لم تتناقص الطاقةُ المعتمة، فإنّ الكون سيواصل تمدده إلى الأبد، وستختفي المجرّات البعيدة عن الأنظار(4). أما المجرّات التي لن تختفي عن الأنظار فستنهار؛ متحوّلة إلى ثقوبٍ سوداء تتبخّر بدورها في الظلام المحيط بها، مثلما يحدث لبُرَيْكة ماءٍ في يوم حارّ. وما سيتبقّى هو تقريبا كوْن فارغٌ. عند ذلك فقط، سيكون الكون قد زاد إنتروپيته إلى حدها الأعلى، وسيكون في حالة اتزان؛ ولن يحدث البتة أي شيء ذي بال.
[إنتروپية غاز] ما تفعله الثقالة (الجاذبية) للإنتروپية(*****)
يتوقف وصف الإنتروپية بأنها منخفضة أو عالية على الحالة. ويحدّد الفيزيائيون حالة الإنتروپية العالية لنظام ما بناء على الكيفيّة التي يتطور بها النظام مع الزمن. فمثلا، إذا تعرض غاز منتشر وبارد بقدر كاف لسحب الثقالة، فإنه يتكتل. ويستلزم قانون زيادة الإنتروپية عندئذٍ أن يكون للتكتل إنتروپية عالية، مَعَ أنه قد يبدو لأول وهلة أنه منظّم (إنتروپية متدنّية). |
قد يبدو من الغريب أن يكون للفضاء الفارغ مثلُ هذه الإنتروپية الضخمة. وهذا يشبه قولنا إن المكتب الذي تسود سطحه ودروجه فوضى لا مثيل لها هو مكتب فارغ تماما. إن الإنتروپية تتطلب حالات ميكروية؛ ولأول وهلة، يبدو أن الفضاء الفارغ لا يتضمن أيا من هذه الحالات. ومَعَ ذلك، فإن الفضاء الفارغ يمتلك في الواقع قدرا كبيرا من الحالات الميكروية؛ وهي الحالات الميكروية الكمومية للثقالة المبنية في نسيج الفضاء. فنحن لا نعلم بعد شيئا عن هذه الحالات، أكثر مما نعرف عن تلك الحالات الميكروية التي تسبب إنتروپية ثقب أسود؛ لكننا نعلم أنه، في كون متسارع، تقترب الإنتروپية داخل الحيّز المرصود من قيمة ثابتة تتناسب مع مِساحة حدوده. إنها حقّا كمية هائلة من الإنتروپية؛ وهي أكبر بكثير من إنتروپية المادة داخل ذلك الحيِّز.
الماضي مقابل المستقبل(******)
السمة المذهلة لهذه القصة هي الاختلاف البيّن بين الماضي والمستقبل. فالكون يبتدئ بحالةٍ من الإنتروپية المتدنّية جدّا؛ تكون الجُسيْمات فيها مرصوصة معا بسلاسة. وهو يتطوّر عبر حالةٍ من الإنتروپية المتوسّطة؛ أي التوزيع غير المنتظم للنجوم والمجرّات التي نراها حولنا اليوم. وفي النهاية، فإنه يبلغ حالة من الإنتروپية العالية؛ وهي فضاءٌ فارغٌ تقريبا، يمثّل فقط الشّرودَ العَرَضِيَّ للجُسيْمات المنخفضة الطاقة.
تُرى، إلامَ يعود هذا الاختلافُ الكبير بين الماضي والمستقبل؟ لا يكفي مجرّد وضع نظريةٍ للشروط الابتدائية تحدّد السبب في أن الكون ابتدأ بإنتروپية متدنية. وكما أشار الفيلسوف <H. پرايس> [من جامعة سيدني]، فإن أي محاججة عقلية تصح في الشروط الابتدائية يجب أن تصلح في الشروط النهائية أيضا؛ وإلاّ، فسنكون قد اقترفتا ذنبَ افتراض الشيء نفسه الذي كنا نحاول إثباته؛ أي إن الماضي كان شيئا خاصّا متميّزا. فإما أن نقبل اللاتماثل العميق للزمن على أنه سمةٌ غير دقيقة للكون تستعصي على التفسير؛ وإما أن نسبرَ بعمقٍ أكبر أدوار الزمان والمكان.
[من «ولادة حرارية» إلى «موت»] استعادة التماثل للزمن(*******) وَفْقا للنموذج المعياري لعلم الكوْن، استهل الكونُ وجوده بغازٍ منتظم تقريبا، وسينتهي إلى فضاء فارغ تقريبا؛ باختصار، فإنه ينتقل من إنتروپية متدنية إلى إنتروپية عالية، ويسمّي الفيزيائيون هذه الحالة الأخيرة «موْتا حراريّا». لكن هذا النموذج يُخفق في تفسير نشوء حالة الإنتروپية المتدنّية البدائية. ويضيف نموذجُ مؤلف المقالة حقبة متعلقة بما قبل التاريخ. فقد بدأ الكون فارغا وسينتهي فارغا؛ وظهور النجوم والمجرات هو انحرافٌ مؤقت عن حالته الاتزانية العادية. (هذا الشكل تخطيطي؛ وهو لا يُظْهِرُ أنّ الكون آخذ في التمدّد). |
لقد حاول كثير من علماء الكسمولوجيا عَزْوَ لاتماثل الزمنِ إلى سيْرورة (عملية) الانتفاخ الكسمولوجي (الكونيّ)(5). فالانتفاخ تفسيرٌ جذّابٌ لكثيرٍ من السماتِ الأساسيّة للكون. وطِبقا لهذه الفكرة، فإن الكون في مراحله المبكّرة جدّا (أو على الأقل جُزءا منه) كان مملوءا ليس بالجُسيْمات، وإنما بنوْع مؤقّت من الطاقة المعتمة كثافته أعلى كثيرا جدّا من كثافة الطاقة المعتمة التي نرصدها اليوم. وهذه الطاقة جعلت توسُّعَ الكون يتسارع بمعدّلٍ خياليٍّ، ومن ثم انقسمت إلى مادةٍ وإشعاعٍ؛ تاركة وراءها كمية قليلة من الطاقة المعتمة التي أصبحت سائدة مرة أُخرى هذه الأيام. وما تبقّى من حكاية الانفجار الأعظم، من الغاز البدائي المنتظم إلى المجرات وما بعدها، يتبع بكلّ بساطة.
كان الدافعُ الأصليّ للانتفاخ توفيرَ تفسيرٍ مُقنع للظروف المواتية في الكون المبكّر؛ خاصة الكثافة المنتظمة إلى حدّ استثنائيّ للمادة في مناطقَ متباعدةٍ كثيرا عن بعضها. فالتسارع الذي تولّده الطاقة المعتمة المؤقّتة يجعل الكون منتظما تماما تقريبا. أما التوزيع السابق للمادة والطاقة فلا عَلاقَة له بالموضوع؛ إذ حالما يبدأ الانتفاخ، فإنه يمحو جميع آثار الظروف التي كانت موجودة سابقا، مخلِّفا كونا مبكّرا حارّا، كثيفا، منتظما.
سهم الزمن أسئلة وأجوبة، الجزء1(********) إذا كانت الإنتروبية في تزايد دائم، فكيف تتكون أجسام منخفضة الإنتروبية، كما يتكون البيض في المقام الأول؟ إن قانون الإنتروبية يطبق على النظم المغلقة. فهو لا يمنع التناقص في الإنتروبية في النظم المفتوحة، بما في ذلك الدجاج. فالدجاجة تكتسب الطاقة، وتبذل قدرا كبيرا من الجهد لتنتج بيضة. ألا تملك بعض سيْرورات الجسيمات سهمَ زمنٍ مبنيا فيها؟ إن اضمحلال بعض الجسيمات الأولية مثل الكيونات Kaons المتعادلة يحدث بتواتر أكبر في اتجاه واحد للزمن منه في الاتجاه الآخر (لا يحتاج الفيزيائيون إلى السفر إلى الوراء في الزمن ليلاحظوا اللاتماثل هذا؛ إذ يستطيعون استخلاصه من التجارب على خصائص الجسيمات ذات العلاقة). لكن هذه السيرورات عكوسة (قابلة للعكس)؛ بخلاف تزايد الإنتروبية، لذلك ، فهي لا تفسر سهم الزمن ، وإن النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات يبدو غير قادر على تقديم أي مساعدة على تفسير الإنتروبية المتدنية للكوْن المبكِّر. |
كانت فرضية الانتفاخ ناجحة جدّا في أوجه متعدّدة. فتنبؤاتها بحدوث انحرافات طفيفة عن انتظام مثاليٍّ تتفق مع أرصاد تغيرات الكثافة في الكون. إلا أنها كتفسير لِلاتماثل الزمن، فإن علماء الكسمولوجيا يَعدّونها أكثر فأكثر موضوعا ينطوي على بعض الخداع؛ لأسباب أكّدها <R. پنروز> [من جامعة أكسفورد] وآخرون. فحتّى تنجحَ السيرورة كما نرغب، كان لا بد للطاقة المعتمة فوق الكثيفة أن تبدأ بتشكيلٍ محدَّدٍ جدّا. والحق أنّه كان على إنتروپيتها أن تكون أصغر بقدر غير معقول من إنتروپية الغاز الحار الكثيف الذي اضمحلّت فيه. وهذا يستلزم أن لا يكون الانتفاخ قد حلّ، حقّا، أيّ شيء: إنه “يفسّر” حالة من إنتروپية متدنية بدرجةٍ غيرِ عاديّةٍ (غاز حار، كثيف، منتظم)، وذلك باستحضار حالةٍ سابقةٍ ذات إنتروپية حتى أدنى (رقعة ملساء من الفضاء الذي تسوده طاقة معتمة فوق كثيفة). وهذا، ببساطة، يُعيدُ الأحجيةَ خطوة إلى الوراء؛ فتصبح: لماذا حدث الانتفاخ في المقام الأول؟
أحد الأسباب التي تجعل علماء الكسمولوجيا يقدّمون الانتفاخ تفسيرا لِلاتماثل الزمن هو أن التشكيل الابتدائي للطاقة المعتمة لا يبدو غير محتمل كثيرا. ففي الزمن الذي حدث فيه الانتفاخ، كان قطر كوننا القابل للرصد أقل من سنتيمتر واحد. وحَدْسيّا، لا يكون لمثل هذه المِنطقة البالغة الصغر حالات ميكروية متعدّدة؛ ومن ثم فليس من المستحيل تماما على الكون أن يتعثّر مصادفة بالحالة الميكروية المقابلة للانتفاخ.
ولسوء الحظ، فإن هذا الحَدْس مضلّل. فللكونِ المبكِّرِ، حتى لو كان قطره سنتيمترا واحدا فقط، العدد نفسه تماما من الحالات الميكروية كما للكون الذي نرصده في أيامنا هذه برمّته. ذلك أنه وَفْقا لقواعد الميكانيك الكمومي، فإن العدد الكلّيّ للحالات الميكروية في نظامٍ ما لا يتغيّر البتّة. (تزداد الإنتروپية ليس لأنّ عدد الحالات الميكروية يزداد؛ بل لأن النظام ينتهي بطريقة طبيعية إلى أكثر الحالات الماكروية عموميّة). إن الكون في بواكيره هو النظام الفيزيائي نفسه للكون في خواتيمه. وفي النهاية، فإن أحدهما يتطور إلى الآخَر.
ومن بين جميع الطرق المختلفة التي يمكن للحالات الميكروية للكون أن تسلكها لتنظيم نفسها، فإن جُزءا صغيرا جِدا منها يُقابل تشكيلا سلسا من الطاقة المعتمة فوق الكثيفة المحشورة في حجمٍ جدِّ صغيرٍ. إن الشروطَ اللازمةَ لبدء انتفاخ خاصّةٌ للغاية؛ ومن ثََمّ فهي تصف تشكيلَ إنتروپية بالغة الانخفاض. وإذا تعيّن عليك اختيار تشكيلاتٍ للكون عشوائيّا، فإن وقوعَك على الشروط السليمة لبدء انتفاخٍ ما أمرٌ بعيد الاحتمال جدّا. فالانتفاخ لا يفسِّرُ، بحدّ ذاته، لماذا يكون للكوْن المبكّر إنتروپية متدنية؛ إنه، ببساطةٍ، يقبل هذه القيمة منذ البداية.
كوْن متماثل زمنيّا(*********)
وهكذا، فإن الانتفاخَ يُساعدُنا على تفسير اختلاف الماضي عن المستقبل. وإنها استراتيجية جريئة، لكنْ بسيطة، أن نقول فقط: ربما كان الماضي البعيد جدّا غيْرَ مختلِف عن المستقبل. وربما كان الماضي البعيد في الواقع، كالمستقبل، حالة ذات إنتروپية عالية. وإذا كان هذا هو الحال، فإن الحالة الحارة الكثيفة التي ما فتئنا نسميها «الكون المبكّر» ليست في واقع الأمر البدايةَ الحقيقةَ للكوْن، بل مجرد حالةٍ انتقاليةٍ بيْن طوْريْن في تاريخه.
أسئلة وأجوبة،الجزء 2(**********) هل يوجد للميكانيك الكمومي سهمٌ للزمن؟ وَفْقا للتفسير المعياري للميكانيك الكمومي، يتسبّب قياسُ نظامٍ ما في أن «تنهار» دالّتُه الموجيّة wave function؛ وهذه سيْرورة لاتماثلية في الزمن. لكنّ السبب في انهيار الدوالّ الموجيّة، وعدم عودتها أبدا إلى ما كانت عليه، هو السبب نفسه في أن البيض ينكسر ولا يمكن البتة أن يعود إلى حالته الأصلية؛ أي إن الانهيارَ يزيد إنتروپية الكون. ولا يساعد الميكانيك الكمومي على تفسير السبب في أن الإنتروپية كانت متدنيّة في المقام الأول. لماذا نتذكر الماضي، لا المستقبل؟ لتكوين ذاكرة يُعَوَّلُ عليها، لا بد أن يكون الماضي منظّما؛ أي أن يكون له إنتروپية متدنية. أما لو كانت الإنتروپية عالية، لكانت معظم «الذكريات» تقلّباتٍ عشوائيّة، وغير مرتبطة إطلاقا بما حدث حقّا في الماضي. |
يتصور بعض علماء الكسمولوجيا أن الكوْن مرّ في «قفزة مفاجئة». قبل هذا الحدث، كان الفضاء يتقلّص؛ لكنْ بدلا من أن يتحطّمَ في نقطةٍ كثافتها لانهائية، هبّت قوانينُ فيزيائيةٌ جديدة ـ الثقالة الكمومية، أبعاد إضافية، نظرية الأوتار، أو ظواهرُ غرائبيّة أخرى ـ لإنقاذ الوضع في اللحظة الأخيرة؛ وبزغ الكوْن في الجانب الآخر [من القفزة] بما ندرك اليوم أنه الانفجار الأعظم(6). ومَعَ أن هذه القوانين مثيرة للاهتمام، فإن علماء الكسمولوجيا الذين يعتمدون القفزة المفاجئة لا يفسّرون سَهْمَ الزمن. فإمّا أن الإنتروپية كانت تتزايد عند اقتراب الكون السابق من الانسحاق ـ وفي هذه الحالة يمتد سهم الزمن بلا نهاية إلى الماضي ـ أو أنّ الإنتروپية كانت تتناقص؛ وفي هذه الحالة حدثت حالةٌ غيرُ طبيعيّة من الإنتروپية المتدنّية في منتصف تاريخ الكون (عند حدوث القفزة المفاجئة). وفي كلتا الحالتيْن، نكون قد عدنا ثانية إلى السؤال عن السبب الذي جعل الإنتروپية، قرب ما نسميه الانفجار الأعظم، صغيرة.
وبدلا من ذلك لنفترض أن الكوْن بدأ بحالةِ إنتروپية عالية؛ وهي حالته الطبيعية الأكثر احتمالا. والفضاء الفارغ هو مرشّح جيد لمثل هذه الحالة. ومثل أي حالة جيدة تتسم بإنتروپية عالية، فإن نزوع الفضاء الفارغ هو إلى البقاء على حاله. لذلك، فالمسألة هي: كيف يمكن إخراج كوننا الحالي من زمكان مقفر هامد؟ قد يكمن السّر في وجود الطاقة المعتمة.
بوجود الطاقة المعتمة، لا يكون الفضاء الفارغ خاليا كلّيّا. فتقلّبات المجالات الكمومية تولّد حرارة منخفضة جدّا؛ أخفض بقدْرٍ هائلٍ من درجة الكوْن الحالي، ولكن لا تصل تماما إلى الصفر المطلق. إن جميع المجالات الكمومية تخضع لتقلّباتٍ، من وقت إلى آخر، في مثل هذا الكوْن. وهذا يَعني أنه غير هامد كلّيّا. فإذا انتظرنا وقتا كافيا، فإن جُسيْماتٍ منفردة، وحتى مجموعاتٍ كبيرة من الجُسيْمات، ستبرز بتقلّباتها إلى الوجود، قبل انتشارها ثانية في الخلاء. (هذه جُسيْمات حقيقية؛ خلافا للجُسيْمات «الافتراضية» القصيرة العمر التي يحويها الفضاء الفارغ، حتى عند غياب الطاقة المعتمة).
ومن بين الأشياء التي يمكن أن تبرز بتقلّباتها إلى الوجود رُقَعٌ صغيرة جدّا من الطاقة المعتمة فوق الكثيفة. وإذا كانت الظروف ملائمة تماما، فمن الممكن أن تنتفخَ رقعةٌ منها وتنسلّ لتكوّن كوْنا منفصلا قائما بذاته؛ كوْنا رضيعا. وربما كان كوْننا من نَسْلِ كوْنٍٍ آخر.
ولهذا السيناريو بعض الشبه، ظاهريّا، بالوصف المعياريّ للانتفاخ. ففي ذاك الوصف، أيضا، نفترض أن رقعة من الطاقة المعتمة فوق الكثيفة تنشأ بمحض المصادفة، مشعلة الانتفاخ. ويكمن الاختلافُ في طبيعة شروط البدء. فالتفسير المعياريّ هو أن الرقعة نشأت عن كونٍ شديد التقلّب، لم تُُولِّد فيه الغالبيّة العظمى من التقلّباتِ ما يشبه الانتفاخ. ويبدو أن الأكثر احتمالا للكون هو أن يتقلب مباشرة إلى انفجار أعظم حار؛ متجاوزا مرحلة الانتفاخ تماما. وفيما يتعلق بالإنتروپية، سيكون حتى الاحتمال الأكبر للكون التقلّب مباشرة إلى التشكيل الذي نراه هذه الأيام؛ متجاوزا الأربعة عشر بليون سنة الماضية من التطوّر الكونيّ.
وفي السيناريو الجديد الذي وضعناه، فإن الكوْن السابق الوجود لم يكن يتقلّب عشوائيّا؛ إذ إنه كان في حالة محدّدة جدّا: كان فضاء فارغا. ما تذهب إليه هذه النظرية ـ وما يظلّ دون برهان ـ هو أن أكثر الطرق احتمالا لتوليد أكوان مثل كوننا، انطلاقا من حالةٍ سابقةِ الوجودِ كهذه، هي المرور بحقبةٍ من الانتفاخ، بدلا من التقلّب إليه مباشرة. بعبارة أخرى، فإن كوْننا حالة تقلّب محدّدة، لكنْ ليست عشوائيّة.
أسئلة وأجوبة،الجزء 3(***********) هل يمكن اختبار صحة نظرية الكون المتعدد؟ إن فكرة أن الكون يمتد أبعد كثيرا مما يمكننا أن نراه ليست نظرية حقّا؛ إنها تنبؤ لنظريات معينة في الميكانيك الكمومي والثقالة. ويقر الجميع بأنه من الصعب اختبار هذا التنبؤ. لكن جميع نظريات الفيزياء تجبرنا على تجاوز حدود ما يمكننا رؤيته مباشرة. على سبيل المثال، يتطلّب أفضل نموذج حاليّ لأصل البنية الكونية، ونعني به سيناريو الكون المنتفخ، أن نفهم الظروف التي كانت سائدة قبل الانتفاخ. |
سيناريو «وُرّا»(************)
يقدّم هذا السيناريو، الذي اقترحتُه عام 2004 و<J. تشين> [من جامعة شيكاگو]، حلاّ استفزازيّا لأصل لاتماثل الزمن في كوننا المرصود. وينصّ هذا السيناريو على أن ما نراه ليس سوى رقعةٍ صغيرةٍ جدّا من الصورة الكبيرة؛ وهذا الميدان الأكبر متماثل الزمن تماما. فالإنتروپية يمكن أن تزداد من دون حدودٍ عن طريق توليد أكوانٍ رُضّعٍ جديدةٍ.
وأفضل ما في الأمر أنّ هذه القصة يُمكن سردها باتجاه الماضي وباتجاه المستقبل. تصوّر أننا نبدأ بفضاءٍ فارغ في لحظة معينة، وأننا نرقبه يتطوّر باتجاه المستقبل وباتجاه الماضي. (إنه يسير بكلا الطريقيْن، لأننا لا نفترض سهما زمنيّا أحاديّ الاتجاه). إن الأكوان الرُّضَّع تتناوب الوجودَ في كلا اتجاهي الزمن؛ وهي، في النهاية، تُخْلي المكان وتلد رُضّعا من صُلبها. في المقاييس فوق الكبيرة، يبدو مثلُ هذا الكون المتعدّد متماثلا إحصائيّا بالنسبة إلى الزمن؛ إذ إن كُلا من الماضي والمستقبل سيُبرز أكوانا جديدة تتأرجح إلى الحياة وتنتشر بلا حدود. وسيخضع كل منها لسهمِ زمنٍ؛ لكنْ سيكون لنصفها سهمٌ انعكس بالنسبة إلى سهم الأكوان الأخرى.
قد تبدو فكرةُ كون ذي سهم زمنيٍّ متجهٍ نحو الماضي مثيرة للإزعاج. فلو قابلنا أُناسا من ذاك الكون، فهل سيتذكّرون المستقبل؟ لحسن الحظ، لا يوجد خطر من مثل هذا اللقاء. ففي السيناريو الذي نصفه، تكون الأماكن الوحيدة التي يبدو فيها الزمن عائدا إلى الوراء بعيدة بعدا هائلا في ماضينا؛ أسبق بكثير من انفجارنا الأعظم. وفي الوسط، يوجد امتداد فسيح من الكون الذي يبدو أن الزمن لا يجري فيه إطلاقا؛ فلا وجود فيه تقريبا للمادة، وإنتروپيته لا تتطور. وأي أُناسٍ عاشوا في إحدى المناطق ذات الزمن المعكوس لم يكونوا ليُولدوا مُسنّين ويموتوا فتيّين؛ أو يحصل لهم أي شيء خارجٍ عن المألوف. فبالنسبة إليهم، سوف ينساب الزمن بطريقة تقليدية تماما. ولن يبدو أي شيء خارجا عن المألوف إلا عند مقارنة كونهم بكوننا؛ فماضينا هو مستقبلهم، والعكس بالعكس. لكنّ مثلَ هذه المقارنة افتراضيةٌ تماما؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نذهب إلى هناك، كما أنهم لا يستطيعون المجيء إلينا.
تاريخ الكوْن القابل للرصد(*************)
نورد فيما يلي سلسلة زمنية للأحداث المهمّة في تاريخ كوننا القابل للرصد، وَفْقا للكسمولوجيا التقليدية. * الفضاء فارغ، لا يحوي شيئا سوى قدرٍ بالغِ الصغر من طاقة الخلاء vacuum energy، وجُسيْمٍ عَرَضيٍّ طويل الموجة تَكوّن بواسطة تقلّبات المجالات الكموميّة التي تسود الفضاء. * يهبّ فجأة إشعاع بالغ الشدة عبر الكون، وذلك بشكل كروي مركزه نقطة في الفضاء. وحين يتجمّع الإشعاعُ في تلك النقطة، يتكوّن «ثقب أبيض». * يكبر الثقب الأبيض تدريجيا لتصل كتلته إلى بلايين أضعاف كتلة الشمس، وذلك عن طريق تنامي إشعاع إضافيٍّ لحرارةٍ متناقصة أبدا. * تبدأ ثقوب بيضاء أخرى بالاقتراب من بقاع تبعد بلايين السنوات الضوئية. وهذه تكوّن توزيعا متجانسا، وتتحرك جميعها ببطءٍ الواحد نحو الآخر. * تبدأ الثقوب البيضاء بفقد كتلتها بواسطة قذفها غازا وغبارا وإشعاعا في البيئة المحيطة بها. * يتفجّر الغاز والغبار تفجُّراتٍ داخلية بين الآونة والأخرى، تسفر عن تكوين نجوم تنشر نفسها لتكوّن مجرات تحيط بالثقوب البيضاء. * ومثلما حدث للثقوب البيضاء قبلها، تتلقّى هذه النجوم الداخلية إشعاعا موجّها باتجاه أقسامها الدّاخليّة. وهي تستعمل طاقة هذا الإشعاع لتحوّل العناصر الثقيلة إلى عناصرَ أخفّ. * تتبدّد النجوم إلى غاز ينشر نفسه تدريجيا عبر الفضاء؛ وتواصل المادة بمجملها التحرك معا لتزداد كثافتها. * تتزايد حرارة الكون وكثافته، ليتقلّص أخيرا إلى «سَحْقَة» كبيرة. ومن نافلة القول إن هذه ليست الطريقة المعتادة التي نصف بها تاريخ الكون؛ إنها المتتالية التقليدية من الأحداث التي تُسرَد لدى العودة بالزمن إلى الماضي. لكن قوانين الفيزياء تعمل على قدم مساواة حين نسير بالزمن إلى الأمام أو إلى الوراء. لذلك، فإن هذه المتتالية صحيحة ومنطقية شأنها شأن المتتالية العادية. إنها تؤدي الغرض لتوضيح كم أنّ التّاريخ الكلّي لكوْننا القابل للرّصد هو بعيدُ الاحتمال حقّا. . S.M.C |
ومنذ هذه اللحظة، فإن هيئة المحلَّفين [في محاكمتنا] ستنهش نموذجنا. فقد تدبّر علماء الكسمولوجيا، طوال سنوات متعدّدة، فكرةَ الأكوان الرضّع؛ لكننا لا نفهم سيرورة الولادة. فإذا كان بمقدور التقلبات الكمومية استحداث أكوان جديدة، فبمقدورها أيضا استحداث أشياء كثيرة أخرى؛ مجرّة كاملة، مثلا. وكي يتمّكَن سيناريو كالذي وضعناه من تفسير الكون الذي نراه، عليه التنبؤ بأن معظم المجرّات تنشأ في عقابيل الانفجار الأعظم؛ بوصفها أحداثا، وليست تقلّبات منعزلة عن غيرها في كون فارغ. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيبدو كوننا غير طبيعي إلى حد بعيد.
لكن ما يُستخلص من ذلك عمليا ليس أي سيناريو خاصٍّ لبنية الزمكان بمقاييسَ فائقة الكبر؛ إنها فكرة أن أي سمة لافتة للنظرِ إلى كوننا القابل للرصد ـ [خصوصا] سهم الزمن الناشئ عن ظروف ذات إنتروپية جدّ منخفضة في باكورة الكون ـ يمكن أن تزوّدنا بمفاتيح لحل لغز طبيعة الكون غير القابل للرصد.
وكما ذُكر في مطلع هذه المقالة، فإنه من الظريف الحصول على صورة توائم البيانات، إلاّ أن علماء الكُسمولوجيا يطلبون أكثر من ذلك؛ فنحن نسعى وراء فهمٍ لقوانين الطبيعة ولكوننا الخاص، بحيث يكون لكلّ شيء معنى بالنسبة إلينا. نحن لا نريد أن نضطرّ لتقبل السمات الغريبة لكوننا كحقائقَ فجّة. ويبدو أنّ لاتماثل الزمن الدراميّ لكوننا المرصود يقدّم لنا مفتاحا لحلّ لغزِ شيءٍ أعمق؛ أعني إشارة خفية إلى الأدوار النهائيّة إلى المكان والزمان. ومهمتنا، بوصفنا فيزيائيين، هي استعمال هذا المفتاح ومفاتيحَ أخرى كي نضعَ معا صورة مُقنعة.
إنْ كان الكون القابل للرصد هو كل ما كان موجودا، فقد يكون من المستحيل تقريبا تفسير سهم الزمن بطريقة طبيعية. أما إذا كان الكون المحيط بنا جُزءا صغيرا جدّا من صورة أكبر، فإن إمكانات جديدة تقدّم نفسَها. فبإمكاننا أن ندرك جُزءَنا الصغير من الكون بوصفه مجرّد قطعة من الأحجية، وجُزءا من نزوع النظام الأكبر لزيادة إنتروپيته من دون حدود في الماضي البعيد جدا والمستقبل البعيد جدّا. وإذا أردنا إعادة صياغة ما قاله الفيزيائي <E. ترايون>، فإن الانفجار الأعظم يكون أيسرَ فهما إذا لم يكن بدايةَ كلِّ شيء، بل مجرَّدَ واحدٍ من تلك الأشياء التي تحدث من وقت إلى آخر.
وهنالك باحثون آخرون يعالجون أفكارا متصلة بالأفكار السابقة؛ إذ إن عددّا متزايدا من علماء الكسمولوجيا يَحْمِلُونَ المسألةَ التي طرحها سهمُ الزمنِ على محمل الجِدّ. ومن السّهل جدّا ملاحظةُ السّهم: كل ما عليك عمله هو مزج قليلٍ من الحليب في قهوتك. وفي أثناء رشفك لهذا المزيج، يمكنك التأمّل كيف أن هذا العمل البسيط يمكن تعقّبه بالعودة بالزمن إلى الوراء، وصولا إلى بداية كوننا القابل للرصد؛ وربما إلى ما قبل ذلك.
المؤلف
باحث مشارك رئيسي في الفيزياء بمعهد كاليفورنيا للتقانة (C.I.T). وتشمل مجالات أبحاثه الكسمولوجيا، وفيزياء الجُسيْمات، ونظرية النسبية العامة لآينشتاين؛ مَعَ خبرة خاصة بالطاقة المعتمة. وقد مُنح زمالات لإجراء الأبحاث من مؤسستي سلون وَپاكارد؛ إضافة إلى جائزة التدريس من مجلس طلبة الدراسات العُليا لمعهد ماسَتْشوستس للتقانة M.I.T، وميدالية خريجي الآداب والعلوم لجامعة فيلانوفا. وخارج النطاق الأكاديمي، فإنّ <كارول> معروف أكثر شيء كمساهم في جمعية الاختلاف الكونيّ Cosmic Variance، التي هي واحدة من أعمق المدوّنات العلمية.
|
Sean M. Carroll |
مراجع للاستزادة
(*) THE COSMIC ORIGINS OF TIME’S ARROW
(**) The Puzzle of Entropy
(***) The Disorder of Emptiness
(****) ENTROPY IN THE KITCHEN
(*****) WHAT GRAVITY DOES TO ENTROPY
(******) Past vs. Future
(*******) RESTORING SYMMETRY TO TIME
(********) TIME’S ARROW . FAQs, PART I
(*********) A Time-Symmetric Universe
(**********) FAQs, PART II
(***********) FAQs, PART III
(************) Emit fo Worra
(************) The History of the Observable Universe
(1) انظر: The Arrow of Time,” by David Layzer”Scientific American, December, 1975.
(2) عيانيًّا أو كبيريا.
(3) dark energy خفية/ مظلمة.
(4) انظر: The End of Cosmology? by Lawrence M. Krauss – Robert J. Scherer; Scientific American, March, 2008
(5) cosmological inflation
(6) big bang