تأمُّلات في حقبة الخصوصية الجديدة
تأمُّلات في حقبة الخصوصية الجديدة(*)
كثير مما يُطرح بوصفه قضايا تتعلق بالخصوصية، يمكن أن يتحوَّل إلى قضايا تتعلق
بالأمن أو السياسة الصحية أو التأمين أو تقديم الذات. ومن المفيد
توضيح تلك القضايا قبل تسليط الضوء على مسألة الخصوصية ذاتها.
<E. دايسون>
مفاهيم مفتاحية
كثيرا ما تُفهم اهتراءات الخصوصية على نحو أفضل باعتبارها أنواعا أخرى من الضرر. يمكن أن يكون «فقدان الخصوصية» فقدانا للأمن فعلا. إن معظم (وليس مجمل) القلق بشأن الخصوصية الجينية سوف يزول إذا كانت تكاليف الرعاية الطبية ملائمة للجميع. يجب أن يكون للمواطنين الحق في مراقبة المعلومات الخاصة بأنشطة الحكومة والموظفين الرسميين وإعلانها على الملأ. أصبح الناس قادرين على الحصول على أدوات فعالة للتحكم في المعلومات الشخصية التي يرغبون في التصريح عنها، وفي تحديد المخوَّلين معرفتها. محررو ساينتفيك أمريكان |
إذا ذُكرت كلمة «خصوصية» على الملأ، فإنها كثيرا ما تثير نقاشات حادة. فهذا يبدي قلقه من إساءة استعمال الحكومة للسلطة، وذاك يَحْمرُّ وجهه خجلا بسبب تعاطيه المخدِّرات، أو بسبب تاريخه الجنسي، وآخر يصب جام غضبه على طريقة الشركات في جمع بيانات خصوصية للإفادة منها في إعلاناتها، أو على كيفية بحث شركات التأمين في السجلات الطبية الشخصية كي تمتنع عن تقديم التأمين الصحي لشخص ما. ويخشى البعض من عالم تتفشى فيه النزعة التجارية، حيث تُستخدم البيانات لتصنيف كل فرد ضمن قطاع أو آخر من «قطاعات السوق» ـ أفضل قطاع يلبي رغبات الناس القوية، أو يستغل نزواتهم الطائشة. وينزعج آخرون من انتهاكات الدولة لخصوصياتهم، ومن القيود الاجتماعية.
تُطرح هذه المخاوف عادة بوصفها مقايضات: خصوصية أقل مقابل رعاية طبية أنجع، وخصوصية أقل مقابل معلومات إنترنت مجانية (لها طابع الدعايات)، وخصوصية أقل مقابل أمن أفضل. لكنْ بعد أن استُهلكت تلك السجالات بمجملها، تعود اليوم إلى الواجهة بطريقة لم تعهدها من قبل، عندما كان الاختصاصيون والمطلعون على بواطن الأمور والمستميتون في الدفاع عن الخصوصية هم وحدهم الذين يكترثون لمثل هذه الأمور.
فمن جهة أولى، أصبح تآكل الخصوصية أمرا بيِّنا. فقد غدت شبكة الإنترنت حاليا بمتناول معظم الأمريكيين، وأكثرنا على الأرجح طرح على نفسه، مرة أو أكثر، السؤال التالي: «كيف عرفوا ذلك؟» إن الإدارة الأمريكية لا تزال تنتهك خصوصية الناس يمينا ويسارا، في حين أنها تمارس المزيد من عملياتها خِفْية. وقد بات من الصعب علينا أن نتصرَّف سرا إذا بذلت جهة ما، وبخاصة الحكومة، بعض الجهد لمعرفة هويتنا.
ومن جهة أخرى، طرأت على الناس أسباب جديدة وقسرية حملتهم على البوح بمعلوماتهم الخاصة. فالطب المشخْصَن(1) أوشك أن يصبح حقيقة. والمعلومات الصحية والجينية المفصلة والدقيقة، المستمدة من السجلات الطبية الخاصة، بغرض معالجة الأفراد وتحليل الإحصاءات الوبائية بين الناس، تنطوي على إمكانات هائلة لتحسين الرفاه العام للمجتمع. والكثيرون يستمتعون بالتشارك مع غيرهم في المعلومات الشخصية في مواقع الشبكات الاجتماعية في الإنترنت. أما في الجانب المظلم، فقد دفع الخطر المتزايد للإرهاب الكثيرين إلى التخلي عن معلومات خاصة لقاء وعود وهمية بالسلامة والأمن.
إن القسط الأكبر من الخصوصية، التي اعتبرها الناس في السابق من المسلَّمات، كان ناتجا ثانويا للتنافس في إيجاد المعلومات وتجميعها. لكن ذلك التنافس قد زال بمعظمه. فكل فرد منا يعيش حياته معتبرا نفسه شخصية مرموقة، وأن تحركاته لافتة للنظر، وأن زيادة وزنه وأيامه التعيسة هي موضوعات للتعليق عليها. وأصبحت التساؤلات، التي لم تكن تُطرح من قبْل، قابلة للطرح علنا: هل كان ذلك الغداء الذي تناولناه معا «موعدا غراميا؟» مَنْ من أصدقائي يأتي في المرتبة الأولى؟
شروط حدية(**)
وفيما يلي سنستعرض التقانات التي تؤدي إلى تآكل الخصوصية، وتلك التي تحافظ عليها. ولوضع النقاش ضمن إطاره الصحيح، أود طرح ثلاث نقاط محورية.
أولا، عندما نعرِّف إفشاء بعض المعلومات بأنه انتهاك للخصوصية، فإنه من المفيد أن نميِّز بين الأذى الحقيقي الناجم عن الإفشاء، ومن أمثلته الغش والامتناع عن تقديم خدمة وإنكار الحرية، وبين الأذى النفسي الذي يُعتبر فيه مجرد معرفة الآخرين لمعلومات الشخص الخاصة ضررا. ففي كثير من الحالات، ما يسمى انتهاكا للخصوصية ليس في الواقع إلا انتهاكا للأمن أو أذى ماليا. إذا أُفشي رقمك الخاص بالضمان الاجتماعي وأسيء استعماله ـ أنا مثلا أعطي رقمي عدة مرات في الشهر ـ فإن ذلك ليس مسألة متعلقة بالخصوصية، بل مسألة متعلقة بالأمن. أما في انتهاكات الخصوصية، فإن «الأذى» الذي يشعر به الشخص هو أذى نفسي وشخصي. لذا، بدلا من محاولة وضع تعريف عام للخصوصية للجميع، على المجتمع أن يوفِّر لأفراده أدوات يتحكمون فيها في استعمال بياناتهم ونشرها. إن الموازنة بين كتمان المعلومات وإفشائها هي خيار يخص المرء وحده، أما الحاجة إلى الأدوات، وحتى إلى القوانين التي ترسي هذا الخيار، فهي مسألة تخص الجميع.
ثانيا، ومع إعادة رسم الحدود الفاصلة بين ما هو خصوصي وما هو علني، يجب أن يحتفظ الناس بحقهم في أن يكونوا رقباء. عندما تتعرض الخصوصية الشخصية لمزيد من القيود في عالم بيانات قابلة للتعقب عديم التنافس، يصبح حق الأفراد في تعقُّب أنشطة الهيئات النافذة، سواء أكانت حكومات أم شركات كبرى، والإبلاغ عنها، عاملا حاسما في صون الحرية وإحلال التوازن بين مصالح الأفراد والهيئات.
أما النقطة الثالثة فهي شرح مفصل للنقطة الأولى: عندما نقدِّر التغيرات في توقعات الناس بشأن الخصوصية، فإن من المهم أن نفهم الطابع الخشن للتحكم الشخصي في البيانات. إن الخصوصية ليست شيئا ذا مقاس وحيد يلائم الجميع، فالأشخاص المختلفون لهم تفضيلاتهم المختلفة في الأوقات المختلفة بشأن مصير معلوماتهم الشخصية، وبشأن المخوَّلين الاطلاع عليها. قد لا يملك الناس الحق في، أو المقدرة على، فرض تفضيلاتهم في العلاقات القسرية، كتلك التي تحصل حين تعاملهم مع كيان حكومي مثلا، أو مع هيئة من قبيل رب عمل أو شركة تأمين، يريدون الحصول منه على شيء. ومع ذلك، كثيرا ما يكون الوضع التفاوضي للناس أفضل مما يظنون، وقد بدؤوا الآن يكتسبون الأدوات والمعرفة الكفيلة باستغلال هذا الوضع.
إن الشفافية المتزايدة للحدود الشخصية التقليدية في مجتمعنا، التي أوجدتها الإنترنت، سوف تدفع الناس إلى التصدي لقضايا أخلاقية لم تكن لتنشأ عندما كانت المعلومات مقسَّمة إلى أجزاء مستقلة تماما. وتوضِّح أفكار الشخصيات الخيالية المختلقة الواردة في الصورة هذه النقطة. لو كانت تلك الأفكار تنطبق حقا على أولئك الأشخاص وعُرضت في الإنترنت، لنتجت منها بعض القضايا الأخلاقية الشائكة. |
أضرار حقيقية(***)
ليس الأمن القضية الوحيدة التي تُطرح بوصفها مرادفة للخصوصية. فمثلا، هناك عدد كبير من القضايا المتعلقة بالخصوصية الطبية والجينية، وهي في واقع الأمر قضايا مال وتأمين. هل على الناس المصابين بعلل صحية أن يدفعوا مبالغ أكبر للحصول على الرعاية الصحية؟ إذا كنت تعتقد عكس ذلك، فقد تشعر بأنك مرغم على استنتاج أنه يجب ضمنا السماح لهم بالكذب. وغالبا ما يُعتبر هذا الاستنتاج، على نحو مضلل، وكأنه حماية للخصوصية. إن المسألة الحقيقية ليست الخصوصية، بل النموذج التجاري الذي تعمل بموجبه صناعة التأمين في الولايات المتحدة. فالناس لن يبالوا كثيرا بالخصوصية الطبية إذا لم يؤدِّ الكشف عن حقيقة صحتهم إلى تحميلهم أعباء فواتير طبية وأقساط تأمين باهظة.
ويبدو أن البيانات الجينية توفِّر مثالا مقلقا لإمكان التمييز بين الناس. فأحد المخاوف هو أن شركات التأمين سوف تعمد قريبا إلى طلب إجراء فحوصات جينية لطالبي خدمات التأمين، وإلى رفض تأمين أيِّ شخص معرض لمخاطر وراثية. إن الجينوم genome يحمل فعلا كمية وفيرة من المعلومات، فهو قادر على تحديد هوية أي شخص على نحو فريد، وذلك باستثناء التوأمين المتماثلين؛ كما يستطيع الجينوم إظهار العلاقات الأسرية التي قد تكون قد أُخفيت. ويمكن تشخيص بعض الأمراض النادرة بوجود أدلة جينية معينة.
إلا أن الجينات ليست إلا واحدة من العوامل في حياة الإنسان. فهي لا تبيِّن إلا القليل من حركية الأسرة، ولا تستطيع أن تعبِّر عمَّا آلت إليه قدرات الشخص الموروثة. لكنها تعبِّر عن نفسها عادة من خلال التفاعلات المعقدة مع التنشئة والسلوك والبيئة والمصادفة المجردة.
ويمكن أن يصبح التمييز الجيني مخالفا للقانون قريبا. ففي الشهر 5/2008، صادق رئيس الولايات المتحدة على قانون «عدم التمييز بالمعلومات الجينية»(GINA) (2)، وهو قانون يحرِّم التمييز بين الناس في مجالات التأمين والتوظيف بناء على فحوصات جينية.
ومع ذلك، فإن سيل المعلومات الجينية والطبية الآتي يمكن أن يغيِّر جوهر طبيعة التأمين الصحي. فمع تحسُّن تدفُّق المعلومات الصحية الخاصة بفئة كبيرة من الناس، وتحسُّن تعقُّب الأمراض ونتائج العلاجات، يصبح التنبؤ الدقيق المبني على الدراسات الإحصائية أكثر سهولة. فإذا أمكن تصنيف الناس ضمن ما يعرف باسم سلات التكلفة(3) بدقة معقولة، فإن تأمين الناس مع تكاليف طبية مرتفعة لن يبقى مسألة أن كل شخص يجب أن يدفع قسط التأمين نفسه، بمعنى مراكمة الأموال الجماعية لمواجهة مخاطر إفرادية غير معروفة، بل مسألة فرض إعانات يدفعها المجتمع لتوفير تأمينٍ تكاليفُه معقولة لأولئك الذين قد تجعل المخاطر الصحية الكبيرة أقساط تأمينهم أو علاجهم باهظة.
نتيجة لذلك، سوف يكون على المجتمع أن يحدِّد، بوضوح وعلى الملأ، أنواع التمييز المقبولة وغير المقبولة. إننا سوف نُرغَم جميعا على مواجهة الخيارات الأخلاقية بحزم، بدلا من الاختباء وراء الإرباك الناجم عن عدم شفافية المعلومات. إذا طُلب إلى شركات التأمين أن تتكفَّل بإدارة الإعانات، فإنها سوف تطالب بوضع قواعد واضحة بشأن النفقات الصحية الإفرادية ونِسَبها التي يرغب المجتمع في توفيرها وفي تسديد نفقاتها. (السبيل إلى ذلك، كالعادة، هو ضمان أن شركات التأمين وموفِّري الرعاية الصحية يمكنهم جعل التكاليف منخفضة من خلال توفير رعاية جيدة والاعتناء بصحة زبائنهم بدلا من تقييد هذه الرعاية. إن المعلومات المتزايدة بخصوص المخاطر الصحية ونتائج العلاج التي ذكرتها آنفا سوف تساعد على تحديد فعالية الرعاية وعلى خفض التكاليف).
[التسلسل الزمني لتطور الخصوصية](****)
|
حق الناس في أن يكونوا رقباء(*****)
إن الناس بحاجة فعلا إلى قوانين ترعى الخصوصية عندما يكون أحد الطرفين في وضع يخوِّله طلب بيانات إلى الطرف الآخر. وأهم مثال على ذلك هو السلطة التي تتمتع بها الحكومة لجمع واستعمال (أو إساءة استعمال) البيانات الشخصية، والتي لا بد من وضع حدٍّ لها.
ما هي أفضل وسيلة للحد من سلطة الحكومة؟ إنها ليست القوانين التي تحمي خصوصية الأفراد والتي قد تمتنع الحكومة من التقيد بها أو وضعها موضع التنفيذ، بل القوانين التي تحد من خصوصية الحكومة والموظفين الرسميين. لذلك لا بد من أن يحتفظ الناس بحقهم بالمعرفة وبأن يكونوا رقباء.
مأزق الهوية(******) يحتاج الناس إلى أن يكونوا قادرين على إثبات هويتهم للحصول على وظيفة، أو قيادة سيارة، أو فتح اعتماد أو ما شابه ذلك. ……………………………………………………….. لكن توفُّر المعلومات الشخصية بكثرة يسهِّل نسبيا انتحال هوية شخص حقيقي. ……………………………………………………….. في الوقت نفسه، ماذا يجب أن يفعل المجتمع للأشخاص الذين لا يستطيعون، أو لا يريدون، إثبات هويتهم، ومنهم المهاجرون اللاشرعيون، والأشخاص الذين يسعون إلى الحصول على شخصية جديدة، والأشخاص الذي يرغبون في البقاء منعزلين. |
لقد كان الإعلام تقليديا وسيلة أساسية لضمان ذلك الحق. لكن الإنترنت وفَّرت للناس الأدوات والمنبر للإمساك بزمام الأمور بأيديهم. فقد أصبح بإمكان كل كَمِرة(7) ومسجِّلة کيديو أن تكون شاهدة عمومية على أفعال الاضطهاد، على غرار ما ظهر مروِّعا في شريط کيديو رودني كينگ(8) في عام 1991، وما أظهرته صور سجن أبو غريب في عام 2004. إن الإنترنت هي المنبر الذي يوفر للجميع نفاذا فوريا إلى جمهور واسع في شتى أنحاء العالم. والتقارير التي تصدر عن منظمات أهلية (غير حكومية) وعن مواطنين عاديين من مختلف أرجاء العالم توزَّع في الإنترنت بواسطة مواقع الشبكات الاجتماعية ومواقع تشارك الملفات، وعلى شكل رسائل نصية عبر الهواتف الخلوية.
وخلافا للمتوقع، لعل أفضل نموذج معلومات ينبغي أن يطلبه المواطنون إلى الحكومة هو نموذج المعلومات الذي تطلبه الحكومة نفسها إلى قطاعات الأعمال. فالتشدُّد في القوانين المتعلقة بإعلان المعلومات التجارية يزداد باستمرار، ومن أمثلتها معلومات عن ممارسات العمل والنتائج المالية وجميع ما تفعله تلك القطاعات. إن للمستثمرين حقّا في معرفة معلومات عن الشركة التي يمتلكونها، وحقّا في معرفة معلومات عن مكونات المنتجات التي يشترونها وعن كيفية صنع تلك المنتجات.
تتجلى فوائد ومساوئ حفظ السجلات إلكترونيا بوضوح في معضلة توفير السجلات الطبية في الإنترنت. إن هذه السجلات يمكن أن تنقذ حياة ضحية فقدت الوعي في حادث (اليمين). لكن إذا كشفت هذه السجلات عن وجود مشكلات صحية يمكن أن تكون باهظة التكاليف، فقد تكون سببا لرفض دفع تعويضات التأمين (الأعلى). |
وللسبب نفسه، لنا الحق في معرفة معلومات عن السلوك المهني للأشخاص الذين ننتخبهم وندفع رواتبهم. إن لنا الحق في معرفة معلومات عن تضارب المصالح وعمَّا يفعله الموظفون الرسميون في أوقاتهم (التي هي أوقاتنا نحن). ويجب أن تكون لنا على الحكومة الحقوق نفسها التي للمساهمين والزبائن (وللجنة الأمريكية للسندات المالية والتبادلات، في هذا المقام) وعلى شركة استثمارات عامة. في الواقع، ووفقا لقناعتي، ثمة للمواطنين حقوق أكثر على الحكومة لسبب أساسي هو أننا مرغمون على إعطاء الحكومة ذلك القدر الكبير من البيانات. لذا يجب أن نكون قادرين على مراقبة ما تفعله الحكومة ببياناتنا الشخصية، وعلى تدقيق عمليات إدارتها وحفظها آمنة (من خلال ممثلين لنا). إن المؤسسة Sunlight (www.sunlightfoundation.com)، التي أنتمي إلى مجلس أمنائها، تشجع الناس على البحث عن معلومات تخص ممثليهم التشريعيين، وحتى جميع الموظفين الحكوميين، ووضعها على مرأى من الجميع.
تشريعات إتاحة معلومات
قطاع الأعمال للعموم(********)
أما الحقوق المتعلقة بخصوصية الشركات، فهي ليست (ويجب ألاَّ تكون) كثيرة. أجل، إن الشركات تمتلك حق تسجيل معاملاتها مع الزبائن، وإن المعاملات القائمة على التسليف تقتضي عادة أن يثبت الزبائن جدارتهم بالتسليف بتقديم معلومات خاصة عنهم. لكنْ، مثلما تستطيع الشركة أن ترفض البيع دينا، فإن الزبون يستطيع أيضا أن يرفض التعامل مع شركة تطلب مقدارا كبيرا من المعلومات. وباستثناء ذلك، كل شيء يجب أن يكون قابلا للتفاوض. إن الزبائن يستطيعون أن يسألوا الشركات عمَّا تفعله ببياناتهم، وإذا لم تقنعهم الإجابة، أمكنهم الانتقال إلى شركات أخرى. إن ما يجب أن يفرضه القانون هو إجبار الشركات على التقيد فعلا بالممارسات التي تفصح عنها.
طريق ذو اتجاهين(*******)
إن حقنا في أن نكون رقباء على أنشطة الحكومة وتعقُّبها وإعلانها، شأنه شأن حق الحكومة في جمع المعلومات عنا، هو مفتاح المحافظة على الحرية. تاريخيا، كان المواطنون الأمريكيون يراقبون عمل الحكومة من خلال: * وسائل الإعلام الإخبارية * سجل التشريعات * السجلات العامة الأخرى * قانون حرية المعلومات (FOIA)، وما شابهه. توفِّر الإنترنت أدوات جديدة لمراقبة وكشف: * أنشطة الموظفين الرسميين * تضارب المصالح * مصير البيانات الشخصية المصرح عنها للحكومة * كيفية الحفاظ على سرية البيانات |
وعلى غرار المعلومات التي تُبيحها الحكومة (وخصوصا التي يبيحها السياسيون حين يترشحون لمناصب معينة)، فإن إفشاء معلومات الشركات قد تخطى ما تستوجبه التشريعات. وفي كل مجال من الأنشطة، بدأ حتى أقل الناس أهمية بالتعبير عن آرائهم. وباتت جميع أنواع مواقع الويب مكرَّسة للتقييمات والنقاشات وغيرها من محتوى الويب الذي يولِّده المستخدمون عن الخدمات، كالفنادق وعيادات الأطباء وما شابهها، وعن المنتجات أيضا. إنه لمن الصحيح أن كثيرا من مراجعات أوضاع الفنادق ترسله الفنادق نفسها إلى الويب، أو الفنادق المنافسة لها. (للثني عن مثل هذه الأساليب، تطلب بعض المواقع سيرة المستخدمين الذاتية وتشجعهم على تقييم مصداقية المستخدمين والمراجعين الآخرين). وفي وسع المرضى أن يتحققوا من الأطباء والمستشفيات في مجموعة متنوعة من المواقع، بدءا من الموقع HealthGrades.com (وهو خدمة مدفوعة الأجر) وانتهاء بعدد من المواقع التي تُموَّل من الإعلانات.
وفيما يخص معلومات المستخدم عن المنتجات المادية، ثمة خدمة جديدة مقترحة تدعى Barcode Wikipedia (على الموقع www.sicamp.org/?page_id=21) سوف تمكِّن هذه الخدمة المستخدمين من إعلان كل ما يعرفونه أو يمكن أن يكتشفوه عن منتج معين: مكوناته أو محتوياته، ومكان تصنيعه أو تجميعه، ومنهجيات العمل لدى الصانع، وتأثيرها البيئي أو آثارها الجانبية، وغير ذلك. وللشركات الحرية في الإعلان في الموقع نفسه أيضا، مبيِّنة وجهات نظرها عن الموضوع. بلا ريب، بهذا النفاذ المفتوح إلى الموقع، سوف تتضمن الإرسالات إليه على الأرجح مبالغات وأباطيل إلى جانب المعلومات المفيدة. لكن مع مرور الوقت، كما برهنت ويكيپيديا(15) نفسها، سوف يراقب المستخدمون المستخدمين الآخرين وسوف تبرز الحقيقة إلى العلن بصورة أو بأخرى.
[التحكم في تقديم المعلومات الشخصية](**********) درجات إفشاء المعلومات قد يرغب شخص أصلع وبدين في التحكم في عملية نشر أجزاء مختلفة من سجلاته الطبية الإلكترونية ضمن دائرة ضيقة جدا من الأشخاص. إن صلعه وزيادة وزنه واضحان (إن لم يكونا مميَّزين)، لكنه لا يرى ضرورة لأنْ يعرف أحد، باستثناء طبيبه وزوجته وأصدقائه وزملائه في العمل، أنه مشترك في برنامج الحمية والتمارين الرياضية الذي يقوم به رب عمله. وهو يقبل أن يطَّلع طبيبه وزوجته وأصدقاؤه المقرَّبون على الأدوية التي يستعملها لمنع تساقط الشعر، لكنه لا يريد أن يعرف أحد، باستثناء زوجته وطبيبه، اختلال وظيفته الجنسية. |
الحياة العامة(*********)
حتى عهد قريب، كانت الخصوصية متاحة (لكنْ غير مضمونة) لمعظم الناس من خلال حركة المعلومات المحدودة: المعلومات عما فعلْتَه سرا لم تكن لتنتقل بعيدا إلا إذا كنت ذائع الصيت أو ذهبْت بعيدا في إعلان أنشطتك على الملأ. أما اليوم، فإن مفهوم الخصوصية بحد ذاته يخضع للتغيُّر. فالكثير من البالغين يستفظع ما يراه في الموقعين Facebook و MySpace. ويدرك بعض المراهقين مخاطر استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية في الويب، لكنهم لا يأخذونها على محمل الجد، وهذا موطن ضعف متأصل في المراهقة منذ القدم. إن من غير المستبعد أن يظهر تشريع يقضي بغض الطرف عن تصرفات المراهقين الطائشة، وسوف يخفِّض معظم أرباب العمل (الذين يستطيعون، كغيرهم، البحث في صفحات الويب الخاصة بالباحثين عن عمل) معاييرهم ببساطة ويمضون في استئجار العمال، مع أن بعضهم قد يبقى متشددا في شروطه. انظر إلى مسألة الوشم: قبل 20 سنة، كان الكبار يحذرون الصغار من مغبته. أما اليوم، فإن نصف عدد النسوة في حجرة تبديل الملابس بالنادي الصحي الذي أنتمي إليه، على أجسادهن وشم، وأعتقد أن النسبة نفسها، أو نسبة أكبر منها، موجودة لدى الرجال أيضا.
وما زال لدى الصغار حس بالخصوصية، ومازال من الممكن أن تجرحهم آراء الآخرين. فالأمر هو أن الكثيرين منهم قد اعتادوا على قضاء معظم حياتهم في مجتمع عمومي أكثر مما فعل أهاليهم. وأظن أن هذا يمثل تغيُّرا حقيقيا. لقد مثَّل القرن العشرون أيضا تغيُّرا بالنسبة إلى القرن التاسع عشر. ففي القرن التاسع عشر، كان الأشخاص الذين ينامون بمفردهم قلائل، وكان الأطفال ينامون معا في غرفة واحدة إنْ لم يكن مع أهلهم. لقد امتلك بعض الأثرياء غرفا خاصة بهم، لكنْ كان لديهم أيضا خدم لإفراغ مباولهم، ومساعدتهم على ارتداء ملابسهم، والاهتمام بمعظم حاجاتهم الخاصة. إن فهمنا للخصوصية المادية في القرن العشرين جديد كليا.
قبل ذلك بقرون، كان معظم الناس، في معظم القرى، يعرفون أشياء كثيرة عن بعضهم. ومع ذلك كان المُعلن منها قليلا. إن ما كان في الماضي مختلفا هو أن <جمال> لم يكن قادرا على الدخول إلى الويب لمعرفة ما كانت تقوله <ألطاف>. قد يكون <جمال> قد خمَّن ما كانت <ألطاف> تعرفه، لكنه لم يكن مضطرا إلى مواجهة حقيقة أنها تعرف ما تعرفه. وعلى نحو مماثل، كان <جمال> يستطيع الابتعاد عن <ألطاف> بسهولة. أما اليوم، في عالم الإنترنت المفتوح، إذا كان <جمال> الحبيبَ السابق لـ<ألطاف>، فقد تقتله الغيرة إذا ما رآها في الإنترنت تغازل غيره. هل ثمة من مفهوم من قبيل الخصوصية المخفية عن رغبات المرء نفسه؟
بياناتي، صورة ذاتي(***********)
ثمة تغيُّر كبير آخر في الخصوصية الفردية هو أن الناس أصبحوا يتعلمون كيف يمارسون بعض التحكم في ماهية البيانات التي يمكن للآخرين الاطلاع عليها. لقد وفَّر الموقع Facebook لملايين الأشخاص أدوات لذلك، ولعله من غير قصد، وفَّر إجراءات استخدامها أيضا. في السنة الماضية، مثَّل Facebook مصدر إزعاج لبعض مستخدميه بسبب البرنامج Beacon، وهو خدمة تتعقَّب مصادر مشترياتهم من خارج الموقع وتُخبر أصدقاءهم بها. وافتُضحت هذه الممارسة، لكنْ بصورة غير فعالة، ونتيجة لذلك، تمكن كثير من المستخدمين من كشف الإعدادات المتعلقة بالخصوصية التي كانوا يجهلونها. (فيما بعد، أعاد الموقعFacebook ترتيب الأمور ووضع منهجية أكثر قبولا، وهدأت حدة الاحتجاج). وحاليا، يغيِّر كثير من أعضاء الموقع إعدادات الخصوصية الخاصة بهم، لكلٍّ من الأخبار التي ترد إليهم من أصدقائهم (هل ترغب فعلا في معرفة كل مواعيد <ماهر> الغرامية؟) والأخبار الصادرة عنهم إلى أصدقائهم (هل ترغب فعلا في إطلاع الجميع على رحلتك التجارية إلى ردموند بولاية واشنطن؟). وبات في وسع المستخدمين أن يتبادلوا الصور ضمن مجموعات خاصة، أو أن يرسلوها إلى الجميع ليروها.
وثمة موقع آخر للتشارك في الصور على الإنترنت، اسمه Flickr، يمكِّن المستخدمين من تحديد المسموح لهم برؤية الصور، لكنْ بطريقة محدودة. (إباحة سر: لقد كنت (مؤلفة المقالة) مستثمرة في الموقع Flickr.) ومن المحتمل أن تصبح أدوات التحكم تلك أكثر دقة. يمكنك الآن، إذا أردت، أن تحدد مجموعة مغلقة للتشارك في الصور معها، ولكن ذلك ليس مماثلا تماما لإمكان إفشاء معلومات منتقاة إلى أصدقاء معينين. فقد ترغب مثلا في إنشاء مجموعتين متقاطعتين من أفراد الأسرة: الأولى تضم أشقاءك وشقيقاتك ووالدتك، وتضم الثانية جميع أشقائك وشقيقاتك إضافة إلى والدك وزوجة والدك، باستثناء والدتك. وقد يرغب أشخاص آخرون في إنشاء مجموعات جزئية أخرى من أفراد الأسرة، كالأب وأطفاله مثلا، دون زوجته الجديدة. إن مجرد وجود تلك المجموعات يمكن أن يستدعي وجود الخصوصية.
كانت خبيرة المدوَّنات ومواقعِ الشبكات الاجتماعية <دانة بويد> danah boyd(أجل، بالأحرف الصغيرة(16))، الباحثة غير المقيمة في مركز بركمان للإنترنت والمجتمع، التابع لجامعة هارکرد(17)، قد عبَّرت أخيرا تعبيرا جيدا عن رغبة المستخدمين في التحكم تماما في مَن يُسمح لهم بمشاهدة إرسالاتهم والإعلانات التي ترافق تلك الإرسالات. بعبارة أخرى، ليست الإعلانات التي أشاهدها هي المهمة، بل الإعلانات التي يراها أصدقائي في موقع الإنترنت «الخاص بي». فيما يخص <بويد> وكثيرين غيرها، ليست القضية قضية خصوصية بقدر ما هي طريقة لتقديم الذات (طريقة كتابة الاسم في حالة <بويد>). إن الناس يعرفون أنهم غير قادرين على التحكم في كل ما يقوله الآخرون عنهم، لكنهم يتجمهرون حول خدمات مجتمعية في الإنترنت تمكنهم من التحكم في طريقة تقديم أنفسهم إلى الآخرين فيها، إضافة إلى التحكم في تحديد المخوَّلين الاطلاع على ما يعرضونه، وفي ما يمكن أن يطلعوا عليه.
أعتقد أن ذلك النوع من التحكم سوف يتسع ليشمل مفهوم البائعين «الودودين». لقد سُرَّت <ليلى> لأن البائع الذي اشترت منه سترة حمراء مقاسها42 كان يعرف عاداتها في الشراء، ولكنها لا ترغب في أن يتمكن أصدقاؤها أو حبيبها الحالي أو البائعون الآخرون من الوصول إلى تلك المعلومات. بلا ريب، <ليلى> لا تستطيع التحكم في ما يقوله الآخرون أو يعرفونه عنها. وإذا استمر <قيس> بارتداء السترة الحمراء، حتى بعد فسخ العلاقة بينهما، فقد يلاحظ البعض ذلك، ويتمكن من ضم تلك المعلومة إلى غيرها بطرائق متعددة.
لكن جعل جميع المعلومات متاحة لا يجعل الأمور أبسط أيضا. فهذه الأدوات الاجتماعية الجديدة تجعل الخدمات والأشياء، والحياة والعلاقات، تبدو بالتعقيد التي هي عليه تماما، أو ربما بالتعقيد الذي يهتم أيُّ شخص بكشفه. والواقع هو أنه ليس هناك من حقيقة واحدة، أو قائمة بسيطة بأسماء الأشخاص المخولين معرفة أشياء محددة. فالغموض أمر ثابت في التاريخ والروايات، وفي الحملات السياسية ومفاوضات العقود، وفي ترويج المبيعات، وفي رسائل الشكر والامتنان، فضلا على حالات الطلاق والدعاوى واستقالات الموظفين ودعوات الغداء الفاترة. إن إضافة الإلكترونيات والبرمجيات إلى حياتنا لن تؤدي إلى زوال ذلك الغموض.
المؤلفة
هي أحد المستثمرين النشيطين في مجموعة متنوعة من المشاريع المُستحدَثة، ومنها 23andMe (شركة خاصة بتحليل معلومات الزبائن الجينية) وPatientsLikeMe (موقع في الإنترنت للتشارك في المعلومات الطبية) و Boxbe (خدمة في الإنترنت لمساعدة المستخدِمين على ترتيب بريدهم الإلكتروني). أما فيما يتعلق بمشروع الجينوم الشخصي Personal Genome Project، فسوف ترسل <دايسون>، مع تسعة أشخاص آخرين، سلاسلهم الجينية الكاملة، وما يُرافقها من معلومات صحية، لعرضها في الإنترنت. تقول <دايسون>: «كنت في الآونة الأخيرة في شركة للتأمين الصحي، واستفسرتُ من وكيل الشركة إنْ كان يريد نسخة من الجينوم الخاص بي، فقال بلطف: أنْ لا حاجة إليها». <دايسون> هي مؤلفة الكتاب Release 2.0 الذي عالجت فيه الخصوصية في الإنترنت عام 1997.
|
Esther Dyson |
مراجع للاستزادة
العنوان الأصلي: Reflections on Privacy 2.0. المقصود بالخصوصية 2.0 هو حقبة الخصوصية الجديدة في ظروف انتشار الإنترنت. (*)
(**) Boundary Conditions
(***) Objective Harms
(****) Timeline
(*****) The Right to Bear Witness
(******) Dilemmas of I.D
(*******) Two-Way Street
(********) Sunshine for Businesses
(*********) Public Lives
(**********) Controlling self-presentation
(***********) My Data, Myself
(1) personalized medicine، أي استخدام المعلومات الجينية الشخصية لتفصيل العناية الطبية للأشخاص اعتمادا على تكوينهم الجيني. (التحرير)
(2) Genetic Information Nondiscrimination Act
(3) cost bucket سلة التكلفة هي عنصر تكلفة، من قبيل تكلفة المواد، أو أجور العمال، أو غيرهما.
(4) First Amendment
(5) Puritan rules. قواعد تُنسب إلى پوريتان وهو عضو مجموعة بروتستانتية في إنكلترا ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر وكانت بالغة التشدد في مراعاة الآداب والإطاعة المطلقة لأوامر الدين.
(6) The Bill of Rights (التحرير)
(7) أو كاميرا: آلة تصوير.
(8) Rodney Glen King، شاب أمريكي أسود سقط ضحية بأيدي شرطة لوس أنجلس في عام 1991، وصوَّر الواقعة أحد الجيران بكمرة کيديو.
(9) public key encryption
(10) spyware
(11) Freedom of Information Act
(12) The Omnibus Crime Control and Safe Streets Act
(13) The USA PATRIOT Act
(14) The Executive Branch. هيئة أمريكية مسؤولة عن تنفيذ القوانين. (التحرير)
(15) Wikipedia
(16) خلافا للتقليد المتبع في اللغات اللاتينية التي تبتدئ الأسماء فيها بحروف كبيرة، تكتب <دانة بويد> اسمها بحروف صغيرة : danah boyd.
(17) Harvard University’s Berk-man Center for Internet & Society