إن تشكّل محيط هو حدث نادر للغاية، ولميشهده في أيما وقت مضى سوى عدد
قليل من العلماء. غير أن هذا المَوْلد الجيوفيزيائي يتكشف اليوم في أحر بقاع الأرض
وأشدها قساوة للعيش فيها. ومن خلال هذه المقالة المدهشة،
استمتع بزيارة آمنة لهذه البقعة من الأرض.
عرض وتصوير<E.هادوك>
مفاهيم مفتاحية
تنقسم إفريقيا إلى قسمين على طول امتداد الدروز seams. فمن النهاية الجنوبية للبحر الأحمر، ثم جنوبا عبر إريتريا وأثيوبيا وكينيا وتنزانيا وموزامبيق، تبدو القارة في طريقها للانفصال إلى جزأين على طول منطقة تدعى منطقة انهدام شرقي إفريقيا EastAfrican Rift.
وكما يتمزُّق كم القميص عند انتفاخ عضلة العضد، تتمزّق قشرة الأرض إلى جزأين عندما تندفع الصخور المنصهرة من أعماق الأرض إلى الأعلى نحو قشرة الأرض الصلبة، فتؤدّي إلى مطّها (اتساعها)، ومن ثم إلى ترقّقها أو إنقاص ثخانتها ـ وأحيانا إلى تقطّعها. يتسع كل شق جديد حالما يمتلئ الفراغ الحاصل من اللابة الصاعدة من الأسفل.
إنّ هذا الحدث الجيولوجي المدهش، الذي مرّت عليه ملايين السنين، سيكتمل عندما تطغى مياه البحر الأحمر المالحة على الشق الكبير. وبعد عشرة ملايين من السنين من الآن يمكن أن تنغمر منطقة الانهدام بكاملها.
محررو ساينتفيك أمريكان
في شمالي شرق أثيوبيا، تفسح إحدى صحاري الأرض الأكثر جفافا المجال لتشكّل محيطًا جديدًا. وتتمزّق هذه المنطقة من القارة الإفريقية، المعروفة لدى الجيولوجيين بمنخفض «عفار»، إلى قسمين باتجاهين مختلفين ـ وهي عملية تؤدّي إلى ترقّق تدريجي لغلاف الأرض الصخري. فثخانة القشرة القارية تحت «عفار» لا تتجاوز 20 كيلومترا من قمتها إلى قاعدتها، وهي أقل من نصف ثخانتها الأصلية، ثم إن أجزاء من المنطقة تقع على أكثر من 100م تحت مستوى سطح البحر، وتقوم تلال صغيرة في الشرق بإيقاف طغيان مياه البحر الأحمر على المنطقة.
تشهد الرواسب الملحية التبخرية بالقرب من بركان أفديرا على حدوث طوفانات قديمة في منطقة عفار الأثيوبية. وقد طغت مياه البحر الأحمر ثلاث مرات تقريبا في ال200000 سنة الماضية على أراضي عفار المنخفضة؛ وقد تخلّف عن الفيضانات، بعد تبخّر المياه، طبقات ملحية. وفي يوم من الأيام سيصبح مشهد البحر على الأرجح مشهدا حقيقيا.
يقع منخفض «عفار Afar» عند النهاية الشمالية لانهدام شرقي إفريقيا، وهي منطقة اضطراب تكتوني يبلغ طولها 3500 كم، تمزّق القارة الإفريقية إلى قسمين. (انظر الأسهم على مجسّم الكرة الأرضية). يبيّن الشكل المفصَّل، في الأعلى، جزءا من منخفض عفار.
لقد أدّى قرب هذه المنطقة من باطن الأرض الملتهب إلى تحويلها إلى مشهد مفعم بالنشاط الزلزالي والبركاني والينابيع الحارة، جاعلا «عفار» جنة حقيقية للناس من أمثالي المتشوقين لفهم هذه العمليات. ومع ذلك، لم يطأ منطقة عفار إلاّ القليل من الغرباء، بمن فيهم العلماء. في هذه المنطقة ترتفع درجة حرارة النهار إلى 48 درجة سيلزية في فصل الصيف، وأمطارها نادرة جدا في معظم أيام السنة. ولكني علمت أنني أواجه أخطارا أشد من أخطار الجيولوجيا والمناخ. فالصراعات الجيوسياسية الخطيرة جدا ـ أعني الحرب بين إثيوبيا وجارتها إريتريا ـ مع ما تعانيه منطقة عفار من العوامل الطبيعية، تجعلها بلادا يصعب تماما العيش فيها.
يتنبأ الجيولوجيون بمليون سنة أخرى من توسع أراضي المنطقة وانخفاضها ويتزامن ذلك مع طوفان كبير جدا من البحر الأحمر، ويؤدي ذلك كله إلى وضع عفار في قاع محيط جديد. في الوقت الحاضر، إنّ هذا القاع الابتدائي هو أرض مقفرة، حيث تخنق اللابة(1) النباتات، وتنتج الحرارة الجهنمية غليانات حمضية، وتنفث التكوينات الصخرية الشيطانية أبخرة سامة، ويزوّد الملح الذي خلّفته فيضانات البحر الأحمر القديمة، قبائلَ عفار البدوية بسلعة ثمينة للتصدير.
المرتفع الأعلى(**)
يشكّل بركان «إرتا عال»، الذي يعني في لغة السكان المحليين «جبل الدخان» النقطة الأعلى في منخفض عفار. فهو يقع في أقصى شمال سلسلة طويلة من البراكين تتبع انهدام شرقي إفريقيا. وهذا الانهدام هو المكافئ غير المغمور لظهور(2) وسط المحيط mid-ocean ridgesـ التي هي سلاسل من براكين تحت بحرية ينتج منها قيعان بحرية جديدة. وبالفعل، يقذف بركان «إرتا عال» النوع نفسه من اللابة البازلتية التي تندفع من ظهور وسط المحيط؛ فقد غطت اندفاعاته البركانية السابقة السهل المجاور بصخور بازلتية حديثة التشكّل منعت نمو النباتات(1).
بحيرة من اللابة(***)
يوجد في أعلى بركان «إرتا عال» واحدة من بحيرات اللابة شبه الدائمة القليلة الموجودة على الأرض. ونادرا ما يكون دفق الحرارة من باطن الأرض كافيا لتبقى الصخور منصهرة تحت التأثير المبرّد للجو. وحتى في «إرتا عال»، تنخفض الحرارة أحيانا بصورة كافية، مما يؤدّي إلى تجمّد أجزاء من سطح البحيرة إلى قشرة سوداء(2). ومع ذلك، تطفو كتل بازلتية بصورة نموذجية على الصخور المنصهرة الملتهبة التي تصل حرارتها إلى1200 درجة مئوية ، كما تطفو الجبال الجليدية(3). ولا يقترب معظم سكان عفار من البركان، لأنهم يظنون أنّه يؤوي الأرواح الشريرة. أمّا رؤية أحد المقاتلين على قمة البركان فهو شيء نادر؛ والرجل الذي يظهر في الصورة، كان دليلي(4). والشيء المدهش في الليل بصورة خاصة رؤية اللابة الملتهبة وهي تنبثق من شقوق في البحيرة (5)، ومشهدها يستدعي فكرة الأشباح الموجودة لدى السكان المحليين.
حرارة جهنمية(****)
تقع فوهة بركان «دلّول» على بعد 100 كم شمال بركان «إرتا عال» بالقرب من حدود إريتريا. وفي هذه المنطقة، تقوم الماگما المصهورة المضطربة تحت السطح، بتزويد شبكة ضخمة من الأنابيب بالمياه فوق الحارة. وكانت النتيجة حقلا، بعرض1.6 كم، من المنافذ والنوافير وينابيع المياه الحارة (6) هذا الوضع شبيه بالبيئة الأكثر سهولة، الموجودة في متنزه يلوستون الوطني في غرب الولايات المتحدة. يلوّن معدن الكبريت أرضية هذه «اللوحة الفنية (7)» (باللون الأصفر الليموني)؛ الذي يؤدّي عند اختلاطه بلون الحديد المؤكسد الأحمر، إلى تلوين البقع الكبريتية باللون البرتقالي (8). وعلى بعد خطوات من هذا المشهد المليء بالألوان يوجد ما يمثّل بيئة الينابيع الحارة المنكمشة الباهتة اللون (9). وعندما تسد زلزلة أو أية عملية طبيعية أخرى مجاري المنفذ الباطنية، فإن معادنهاminerals يمكن أن تفقد ألوانها المزخرفة خلال سنة.
أدخنة مميتة(*****)
ينشأ المنظر الطبيعي الغريب لفوهة بركان دلّول بسبب تخلُّل مياه الأمطار إلى عمق باطن الأرض، حيث تسخُن عند تماسها مع الماگما الساخنة وترتفع إلى السطح عبر طبقات ثخينة من الملح مؤدية، وهي تنتقل عبرها، إلى ذوبانها. وقد ينتج من إعادة تبلور الملح على سطح الأرض أشكال كبيرة (10) أو تشكيلات لها رقة قشرة البيض(11). غير أنّ جمال هذه المنحوتات قد يكون مضللا؛ ذلك أنّ الأبخرة السامة المنبعثة، ممّا يسمّى فوهات التهوية(3)، هي إسهام آخر في شهرة عفار الشيطانية ـ وغالبا ما يُطلب إلى الزائرين وضع كِمامات (أقنعة) للوقاية من الغازات السامة. وأكثر من مرة أجبرني انطلاق غاز منذرٍ بالشر على التوقف عن التصوير ووضع الكِمامة للسلامة.
أهو سمّ أم إكسير الحياة؟(******)
بالقرب من برك محمرة اللون من المياه الفوارة الحارة الغنية بالحديد (12)، تمثل رائحة الهيدروكربون إشارة دالة على الخطر. تتوقّف الحيوانات أحيانا عندها لتشرب ـ من دون أن تعلم أنها ستكون شربتها الأخيرة. فقد رأيت عدة طيور سيئة القدر تدور حول نفسها في البرك المحرقة. ولكني كنت أعزي نفسي بالمفارقة أنّ سمّا لحيوان قد يكون علاجا لآخر. فالغازات المنبعثة نفسها التي يمكن أن تقتل الطيور والحشرات والثدييات، تغذّي أيضا مجتمعات معقدة من الميكروبات التي تعيش في الكثير من مياه «دلّول» الحامضية. فليس مدهشا أنْ تتشابه مجتمعات الينابيع الحارة القارية، بصورة لافتة للانتباه، مع أمثالها التي تعيش بجوار ظهور وسط المحيط المغمورة بالمياه.
فيضانات كارثية(*******)
إن المنحوتات الملحية المرئية في الصفحة المقابلة وغيرها التي تزخرف منخفض عفار، هي رسالة تذكير بأن ولادة محيط ليست حدثا واحدا منفصلا، بل هي قصة طويلة مملوءة بالأحداث المهمة. فخلال ال30 مليون سنة الماضية، تعرضت هذه المنطقة إلى توسع أدّى إلى ترققها، وقد تذبذب مستوى سطح البحر عالميا مالئا في أزمنة مختلفة منخفض عفار بمياه البحر. وقبل80000 سنة تقريبا، ارتفعت مياه البحر الأحمر بما يكفي لإحداث ثغرة في التلال المنخفضة شرقي منخفض عفار، أدّت إلى تكوين أودية عميقة (13) وغمر للمناطق المنخفضة. وعندما انخفض مستوى سطح البحر وانفصل منخفض عفار عن البحر ثانية، تبخّرت مياه الفيضانات. نحتت المياه والرياح الطبقات الملحية التي تدل على تلك الفيضانات القديمة في آلاف السنين المتتالية، وأحيانا كانت تنحت أشكالا غريبة عرفت باسم الفطر الملحي saltmushrooms (14). وفي مناطق أخرى، ترى طبقات ملحية تتناوب مع رواسب بحرية محمرة اللون في جدُر الأودية التي تعرّضت للحت (155).
ملح الأرض(********)
تُعطي الرواسب الملحية التي خلّفتها الفيضانات القديمة لمياه البحر سكان عفار الحاليين موارد متاحة متواضعة للاستفادة من أراضي وطنهم القاحلة والجافة. ويجمع هؤلاء الرعاة الرحّل الملح بأيديهم أو بقضبان خشبية لتكسير الطبقات الثخينة إلى كتل يسهل التعامل معها(16). وأقرب الأمكنة لبيع الملح أو مبادلته تقع في مرتفعات أثيوبيا إلى الغرب ـ على مسيرة نحو ستة أيام لقوافل الإبل المستخدمة في نقل هذه السلعة المصدرة إلى منطقة بعيدة (17).
أسراب أم هلوسة؟(*********)
إن القلق الأهم بالنسبة إلى سكان عفار، في معظم السنين، هو إيجاد الماء الكافي. كانت الأمطار غزيرة بصورة استثنائية في أواخر عام 2006، حيث بقي الكثير من حقول الملح مغمورة بالمياه طوال زيارتي إلى عفار في الشهر 1/ 2007. وقد قدمت هذه الظروف البيئية الاستثنائية أحد الانطباعات الدائمة عن زيارتي إلى عفار؛ ففي أثناء خوض قوافل الإبل عبر المياه الفائضة، ظهرت من بعد وكأنها لوحة فنية سُريالية(4)surrealعن حاضر قاع هذا المحيط قيد التشكّل ومستقبله (18).
لمزيد من المعلومات حول «ولادة محيط في عفار» انظر الموقع:www.SciAm.com/oct2008
المؤلف
Eitan Haddok
مصوّر ومراسل صحفي يقيم في باريس، متخصّص في علوم الأرض والبيئة، ويهتم بالنظم البيئية الجافة (القاحلة). حصل على الماجستير في علوم الجيوفيزياء من جامعة تل أبيب عام 1994. وعمل تسعة أعوام قبل ذلك مهندسا بيئيا إلى أن قرر توحيد هوايتيه ـ الأرض والتصوير ـ كأسلوب حياة. إنّ هواية <هادوك> بالأحداث الجيولوجية جذبته إلى إيسلندا، حيث كتب عن إمكان potential أن يغذي الاحترار العالمي البركنة volcanism هناك.
مراجع للاستزادة
Magma-Maintained Rift Segmentation at Continental Ruputre in the 2005 Afar dyking Episode.
Tim J. Wright et al. in Nature, Vol. 442, pages 291-294; July 20, 2006.
The Volcano-Seismic Crisis in Afar, Ethiopia, Strating September 2005. A. Ayele, e. Jacques, M .Kassim, T. Kidane,
A. Omar, S. Tait, A. Nercessian, J.-B. de Chabalier and G. King in earth and planetary science Letters, Vol. 255,
Nos. 1-2, pages 177-187; March 15, 2007.
For more scientific research in the Aftar region, visitt the Web site of the Afar rift Consortium at www.see.leeds.ac.uk/afar/websitepages/aboutconsortium.htm