منشأ اليابسة تحت البحار
منشأ اليابسة تحت البحار(*)
تغطي الحمم البركانية التي تنز من البراكين تحت البحرية وتتصلب،
أرضيات الأحواض العميقة تحت المحيطات. وقد تمكن العلماء من توضيح
دقيق للكيفية التي تصل فيها هذه الحمم إلى أرضيات البحار.
<B.P.كيليمن>
مفاهيم مفتاحية
تحدث 85% من الاندفاعات البركانية على الكرة الأرضية في أعماق المحيطات على طول ضهرات وسط هذه المحيطات. تشكل الحمم البركانية المقذوفة من سلاسل ضيقة من براكين ارضيات البحار الأساسات الأرضية الصخرية في المحيطات كافة. حتى عهد قريب، لم يعرف أحد الشيء الكثير عن كيفية صعود الحمم البركانية المنصهرة نحو الأعلى إلى ضهرات وسط المحيطات. يعتقد العلماء حاليا أنّهم اكتشفوا العملية، بدءا بتشكل قطيرات ميكروية من صخر منصهر في مناطق تصل إلى عمق 150كم. محررو ساينتفيك أمريكان
|
تنبثق باستمرار على الأرضية المظلمة لمحيطاتنا الباردة، عموما من دون أن تلاحظ، 85% من اندفاعات الكرة الأرضية البركانية. ومع أنها غير مرئية، فإن كمياتها كبيرة جدا. وتشكل هذه البراكين تحت البحرية الأساسات الصلبة لجميع الصفائح البحرية الضخمة في محيطات العالم التي يبلغ سمكها سبعة كيلومترات.
في باديء الأمر، باشر الجيوفيزيائيون بفهم المنشأ الحروري لليابسة تحت البحار المعروفة عادة بقشرة المحيطات. ففي مطلع الستينات، بينت مسوح السونار (الموجات الصوتية) أن البراكين تشكل ضهرات مستمرة تقريبا تتعرج حول الكرة الأرضية كما تتعرج الدروز على كرة البيسبول. وقد بذل هؤلاء العلماء جهدا كبيرا لتوضيح مصادر الطاقة التي تغذي البراكين التي تشكل هذه السلاسل الجبلية التي تدعى ضهرات (ضهور) وسط المحيطات(1). وتشير النظريات الأساسية إلى أن تباعد قشرة المحيطات في هذه الضهرات يدفع المادة الحارة إلى الارتفاع من الأعماق في باطن الأرض لملء الفراغ. ولكن التفصيلات عن المكان الذي تنشأ فيه هذه الحمم والكيفية التي تنتقل بوساطتها إلى السطح بقيت لغزا مدة طويلة.
وحديثا، قدمت النماذج الرياضياتية التي تمثل التفاعل بين الصهارة (الصخر المنصهر) melt والصلب بعض الأجوبة التي قدمتها أيضا الدراسات حول الصخور الصلبة لأرضيات البحار القديمة المتكشفة الآن على القارات. لقد أمكن بفضل هذه المعارف تطوير نظرية مفصلة توضح منشأ قشرة المحيطات، إذ تبين أن الآلية تختلف تماما عن الفكرة المألوفة لدى عامة الناس والقائلة بأن الصهارة الملتهبة تملأ حجرة ضخمة تحت البركان، ومن ثم تندفع نحو الأعلى من خلال شق مثلم. فما يحدث هو عملية تبدأ على أعماق تصل إلى عشرات الكيلومترات تحت أرضيات البحار، حيث ترشح قطيرات صغيرة من الصخر المنصهر عبر مسامات ميكروية بمعدل 10 سنتيمترات في السنة، أي بسرعة نمو أظافر الأصابع. وبالقرب من سطح الأرض تتسارع العملية لتبلغ أقصى سرعتها فتجرف دفقا هائلا من الصهارة ينصب على أرضيات البحار بسرعة تماثل سرعة شاحنة مسرعة. إن إماطة اللثام عن كيفية تحرك السوائل عبر الصخور الصلبة في الأعماق، تحت سطح الأرض، لا يفسر منشأ قشرة المحيطات فحسب، وإنما يوضح أيضا آلية انتقال السوائل الأخرى، بما في ذلك منظومات الأنهار التي تحفر مجاري تؤدي إلى تقسيم سطح كوكب الأرض.
استكشاف الأعماق(**)
بعيدا نحو الأعماق في باطن الأرض، وتحت براكين ضهرات وسط المحيطات والعدد الذي يتعذر حصره من حممها البركانية المكونة للقشرة الأرضية، نجد وشاح الأرض وهو طبقة من الصخور الحارة الملتهبة البالغ سمكها 3200كيلومتر وتشكل الجزء الأوسط من الكرة الأرضية الذي يحيط بلبها الفلزي. تكتسب صخور وشاح الأرض المندفعة نحو الأعلى إلى سطحها البارد لونا أخضر قاتما؛ بيد أن لونها، لو تيسرت مشاهدته في موقعها الأصلي، يكون أحمر متوهجا أو حتى أبيض حارا. وتبلغ حرارة قمة الوشاح نحو 1300 درجة سيلزية، وتزداد حرارتها مع العمق درجة واحدة كل كيلومتر. وينتج من وزن الصخور أيضا تزايد الضغط بدلالة العمق ـ نحو 1000 ضغط جوي كل ثلاثة كيلومترات.
يمثّل الشكل ضهرة وسط الأطلسي [الدرز (الخط المتعرج) باللون الأسود]، وهي سلسلة من البراكين المتعاقبة بطول000 10 كم في قاع المحيط الأطلسي وتعتبر أطول سلسلة جبلية في العالم. وتشير الألوان إلى أعمار القشرة الصخرية تحت مياه المحيط، حيث تكون القشرة الأحدث (باللون الأحمر) بالقرب من ضهرة وسط المحيط وتصير أقدم بالتدريج كلّما اقتربت من القارات. |
وبفضل المعرفة المكتسبة عن ضغط وشاح الأرض وحرارته الشديدين، تمكن الباحثون من وضع فرضية في أواخر الستينات، مفادها أن قشرة المحيطات تنشأ على شكل كميات صغيرة من الصهارة ـ كأنما ترشح (تتعرق) الصخورrock sweat الصلبة. وإن انخفاضا قليلا جدا للضغط (بسبب صعود المواد من موقعها الأصلي) يؤدي إلى تشكل الصهارة في مسامات مجهرية عميقة ضمن صخور وشاح الأرض.
إن تفسير كيفية صعود رشح (تعرق) الصخور إلى السطح كان أكثر صعوبة، لأن كثافة الصهارة هي أقل من كثافة صخور وشاح الأرض التي تتشكل فيها. ولذا فإن الصهارة «ستهاجر» باستمرار إلى الأعلى، نحو مناطق الضغط المنخفض. ولكن ما تبينه التجارب المختبرية حول التركيب الكيميائي للصهارة لا يبدو متماثلا مع تركيب العينات الصخرية التي تم جمعها من ضهرات وسط المحيطات حيث تتصلب الصهارة المندفعة.
وباستخدام تجهيزات خاصة لتسخين البلورات واستخلاصها من صخور وشاح الأرض في المختبر، تبين للباحثين أن التركيب الكيميائي للصهارة في وشاح الأرض يختلف باختلاف العمق الذي تتشكل فيه. ويتحكم في هذا التركيب تبادل الذرات بين الصهارة والمعادن التي تكون الجسم الصلب الذي تمر من خلاله. فقد كشفت التجارب أن الصهارة تحل أثناء صعودها نوعا واحدا من المعادن هو الأرثوپيروكسين orthopyroxene وترسب أو تخلف وراءها معدنا آخر هو الأوليکين olivine. وهكذا تمكن الباحثون من الاستنتاج أنه كلما ارتفع مستوى تشكل الصهارة في وشاح الأرض، انحل فيها الأرثوپيروكسين تاركة وراءها المزيد من الأوليکين. وبمقارنة هذه المكتشفات التجريبية بعينات من الحمم البركانية المأخوذة من ضهرات وسط المحيطات تبين أن جميعها تقريبا يحوز على تركيب الصهارة التي تشكلت في أعماق تزيد على 45 كم.
|
وولدت هذه النتيجة نقاشا مثيرا حول الكيفية التي تمكن الصهارة من الصعود عبر عشرات الكيلومترات من الصخور التي تعلوها، فيما تحافظ على التركيب الملائم لعمق أكبر. ففي حال صعود الصهارة ببطء من خلال مسامات صغيرة في الصخر، كما توقع الباحثون، فإنه من المنطق أن نفترض أن جميع الصخور المنصهرة ستعكس تركيب الجزء الأكثر ضحالة من الوشاح، على عمق10 كم أو أقل. ومع ذلك يشير تركيب معظم العينات المأخوذة من حمم ضهرات وسط المحيطات البركانية إلى أن الصهارة الأم source melt هاجرت عبر مسافة الخمسة والأربعين كيلومترا العليا من الوشاح من دون أن تحل الأرثوپيروكسين من الصخور المحيطة بها. ولكن كيف تم ذلك؟
تشقق بتأثير الضغط ؟(****)
قدم العلماء في بداية السبعينات جوابا لا يختلف عن رأي الشخص غير المتخصص: ينبغي أن تكون المرحلة الأخيرة من الرحلة الصاعدة للصهارة نحو الأعلى عبر شقوق ضخمة. فالشقوق المفتوحة ستتيح للصهارة الصعود بسرعة كبيرة إلى درجة لا توفر لها الزمن الكافي للتفاعل مع الصخور المجاورة ولا تسمح لها أن تكون في لب الشقوق بتماس مع جوانبها. وعلى الرغم من أن الشقوق المفتوحة ليست سمات طبيعية في وشاح الأرض الأعلى ـ حيث الضغط شديد للغاية ـ أشار بعض الباحثين إلى أن قوة الطفو buoyant force للصهارة المهاجرة تكون أحيانا كافية لكي تشقق الصخر الصلب في الأعلى، مثلما تقوم سفينة تكسير الجليد بشق طريقها من خلال كتل الجليد القطبية.
[الصورة الجديدة] «رشح» من أرضية البحر(*****) تتألّف الأساسات الصلبة لأحواض محيطات الكرة الأرضية من صفائح «بلاطات» ضخمة يبلغ سمكها سبعة كيلومترات مكونة من صخر بركاني. ينشأ هذا الصخر، الذي يعرف بقشرة المحيطات، ابتداء من قطيرات صغيرة، وكأنّها «رشاحات» sweats من الصخر تتشكّل عبر مناطق واسعة في الباطن الصلب للكرة الأرضية ـ أو وشاح الأرضmantle. وهكذا من خلال عملية تُعرف بالجريان المسامي المركزfocusedporous flow، فإنّ جميع القطيرات التي لا تحصى تنبثق على طول امتداد ضهرات وسط المحيطات. فأثناء صعود هذه المادة الجديدة نحو الأعلى تتحرّك القشرة الأقدم مبتعدة عن الضهرات (انظر الأسهم).
|
وقد اكتشف <A.نيكولا> مع زملائه [من جامعة مونبيلييه في فرنسا] دليلا مثيرا حول منشأ مثل هذه الشقوق فيما كان يتفحص تشكيلات صخرية نادرة تسمى صخور الأفيوليت ophiolites. عندما تتبرد قشرة المحيطات وتتقادم، فإنها تصير كثيفة إلى درجة تؤدي عادة إلى غوصها ثانية في وشاح الأرض على طول خنادق عميقة تدعى نطاقات الانغراز subduction zones، مثل تلك التي تحيط بالمحيط الهادئ. ومن جهة أخرى، فإن صخور الأفيوليت التي تشكل أقساما سميكة من أرضيات البحار القديمة ووشاح الأرض الذي تعلوه، اندفعت نحو الأعلى إلى سطح القارات عندما تصادمت صفيحتان من الصفائح التكتونية للكرة الأرضية. والمثال المشهور يتمثل بالتصادم الجاري حاليا، في سلطنة عمان، بين الصفيحة العربية والصفيحة الأوراسية. فقد وجد فريق <نيكولا> في هذه الصخور وصخور أفيوليتية أخرى عروقا فاتحة اللون غير اعتيادية، تسمى الجدران القاطعة dikes، عُدَّت شقوقا تبلورت فيها الصهارة قبل أن تصل إلى أرضيات البحار.
والمشكلة في هذا التفسير تكمن في أن ملء الجدران القاطعة بالصخر الذي تبلور من الصهارة التي تشكلت في الأجزاء العليا من وشاح الأرض، لم يتم تحت عمق 45 كم، حيث تنشأ معظم الحمم البركانية في ضهرات وسط المحيطات. إضافة إلى ذلك، ثمة احتمال بأن لا ينطبق سيناريو سفينة تكسير الجليد على منطقة الانصهار تحت ضهرات وسط المحيطات؛ إذ يميل وشاح الأرض الحار، تحت نحو 10 كم، إلى الجريان مثل «الكراميل» الذي يترك مدة طويلة تحت أشعة الشمس، عوضا أن يتشقق بسهولة.
نهر مسامي(******)
لتفسير اللغز القائم، بدأتُ العمل على فرضية بديلة حول جريان الحمم البركانية في منطقة الانصهار. ففي أطروحتي التي قدمتها في أواخر الثمانينات، طورت نظرية كيميائية أشرت فيها إلى أنه أثناء صعود الصهارة تحل بلورات الأورثوبيروكسين وترسب كمية صغيرة من الأوليکين، وبذلك يكون الناتج زيادة حجم الصهارة. وفي التسعينات وضعت نموذجا رياضياتيا لهذه النظرية مع زملائي: <J.واتهيد> و<M.سبيكلمان> و<E.هارونوف>، كشف عن الكيفية التي تقوم فيها عملية الانحلال بتوسيع الفراغات المفتوحة بالتدريج عند حافات البلورات الصلبة مكونة مسامات أكبر حجما ومحدثة ممرا يسمح بجريان الصهارة في يسر.
|
|
ومع نمو المسامات تتصل ببعضها لتشكل قنوات متطاولة. وفي المقابل، فإن تغذية راجعة مماثلة تحفز اندماج عدة روافد صغيرة لتشكل ممرات أكبر حجما. وفي الواقع، بينت نماذجنا العددية أن ما يزيد على 90% من الصهارة تحتل أقل من 10% من المساحة المتاحة، وهذا يشير إلى أن ملايين من القنوات الميكروية التي تجري فيها الصهارة يمكن أن تغذي في النهاية ما لا يزيد على عدة عشرات من الممرات التي يبلغ عرضها مئة متر أو أكثر.
وحتى في القنوات الأكثر عرضا يبقى الكثير من بلورات صخور وشاح الأرض الأصلية في حالة سليمة من دون أي تغيير، وتؤدي إلى انسداد القنوات وإعاقة حركة السائل. وهذا هو السبب الذي يكمن وراء الحركة البطيئة للصهارة، فلا تتجاوز سرعتها بضعة سنتيمترات في السنة. ومع ذلك، فإن كميات كبيرة من الصهارة تمر، على مر الزمن، عبر القنوات؛ وهذا يؤدي إلى ذوبان جميع بلورات الأرثوپيروكسين القابلة للانحلال تاركة وراءها بلورات الأوليکين وفلزات أخرى غير قابلة للانحلال في الصهارة. وينجم عن ذلك عدم قدرة تركيب الصهارة داخل هذه القنوات على التكيف مع الضغط المتناقص، وعوضا عن ذلك يسجل العمق الذي «شاهد» فيه آخر بلورات الأرثوپيروكسين.
ومن أهم ما يترتب على هذه العملية التي يطلق عليها الجريان المسامي المركز focused porous flow، هو أن الصهارة تحل عند أطراف القنوات فقط الأرثوپيروكسين من الصخور المجاورة، بيد أنه لا يطرأ أي تغيير على تركيب ما يجري في لب القنوات أثناء صعودها نحو الأعلى. فالنماذج العددية زودتنا بأدلة مفتاحية على أن الصهارة التي تتشكل في الأعماق داخل وشاح الأرض يمكن أن تشق طريقها نحو الأعلى ـ ليس من جراء إحداث تشققات في الصخر، وإنما نتيجة لحل جزء منه. وقد تم استكمال نتائج النمذجة هذه من خلال أعمالنا الحقلية التي وفرت أدلة مباشرة حول الجريان المسامي في الأفيوليت.
جهد مُركز(********)
إن الطريقة الوحيدة لتقدير أهمية الصخور الأفيولوتية في سلطنة عُمان هي مشاهدتها من الجو. تكوّن هذه التشكيلة الضخمة شريطا مستمرا تقريبا من الصخور طوله 500 كم وعرضه يصل إلى 100 كم. وكما هو الحال بالنسبة إلى جميع صخور الأفيوليت، تعرض الجزء من وشاح الأرض mantle المؤلف من صخور عمان الأفيولوتية إلى التجوية، فتحول لون هذه الصخور إلى بني صدئي تزركشها بكل وضوح آلاف العروق الصخرية بلون أسمر ضارب إلى الصفرة. لقد تعرف الجيولوجيون طبيعة هذه العروق قبل مدة طويلة، وتبين حينها أنها تنتمي إلى صخور الدونيت، بيد أنهم لم يحددوا بدقة تركيب الفلزات داخل الدونيت أو ضمن الصخور المحيطة به.
[عمليات تشابه محيّرة] تجري المياه على الأرض اليابسة مثلما تجري الصهارة في وشاح الأرض(*********)
تنحت المياه الجارية فوق الشواطئ الرملية شبكة من القنوات، تشبه كثيرا القنوات التي يشكّلها الصخر المنصهر، أو الصهارة، أثناء صعوده عبر الباطن الصلب للأرض. ومع أن منظومات هذه القنوات تتشكل بطريقتين مختلفتين ـ فالمياه على الشواطئ الرملية ترفع الحبيبات الرملية وتنقلها، في حين ينحل في الصهارة جزء من الصخور المجاورة ـ فإن تشابههما يشير إلى أنّ قوانين فيزيائية متماثلة تتحكم في كل واحدة منهما. في كلتا الحالتين، تنشأ أنماط منتظمة من شروط انطلاق عشوائية. فعلى الشواطئ الرملية تجري المياه الجوفية التي تنبثق على السطح عند عملية الجزر، بسرعة نحو بقعة من البقع المنخفضة. وهذه المياه تحمل معها حبيبات الرمل، وأثناء جريانها تنحت بعمق القنوات التي بدورها تقوم بإعادة توجيه ما يرفدها من مياه إضافية إلى المسار (a). ونتيجة لهذه التغذية الراجعة تنشأ قنوات تفصلها مسافات متساوية وتندمج باتجاه الجريان (bb) ـ في حين تكون نقطة منشئها عشوائية. وكما هو الحال بالنسبة إلى الجداول والأنهار التي تغذّي نهرا كبيرا، ينشأ هذا النمط من التحات؛ لأنه يمثل أفضل طريقة من أجل أن يحافظ النظام على الطاقة؛ فكلّما كانت القناة أعرض وأعمق، كان ضياع الطاقة أقل بسبب الاحتكاك بين المياه الجارية والرمل الذي في أسفلها. والحفاظ على الطاقة عامل أساسي أيضا في التحكّم في التحات الكيميائي في وشاح الأرض. فبينما تنحل الصخور المجاورة في الصهارة، تتوسّع تدريجيا الفراغات الصغيرة المفتوحة أو المسامات التي تمر عبرها. وتكبر هذه الفراغات التي تدعى قنوات الانحلال dissolution channels، وتندمج مع بعضها كلما انتقلت الصهارة إلى الأعلى، بسبب تناقص الجريان اللزج البطيء، الذي يشبه الاحتكاك، كلّما صارت المسامات أكبر. [انظر المؤطّر في الصفحتين السابقتين]. وكما هو الحال على الشاطئ الرملي، فإنّ القنوات الفعّالة الصغيرة والكثيرة تغذي قنوات كبيرة وقليلة- وهو نمط يفسّر جزئيا سبب اقتصار الاندفاعات تحت البحرية بصورة عامة على ضهرات وسط المحيطات أكثر من تبعثرها بصورة عشوائية على أرضيات المحيطات. ويمكن لشروط متغيّرة أن تدفع القنوات المندمجة إلى التباعد. فعلى الشاطئ الرملي، تتخلّى المياه عن حمولتها من الرمل، عندما ينبسط انحدارها، مشكلة حواجز تحوّل المياه بعيدا عن القناة الرئيسية(c). وكما هو الحال في الدلتا، حيث يصب النهر في البحر، تتجمّع المياه خلف العوائق، ثم تفيض من فوقها من وقت إلى آخر، وتنحت مجاري جديدة تنسدّ بدورها وتهجر. ويحدث تباعد مماثل في الجزء الأعلى من وشاح الأرض الذي يكون أكثر برودة من الصخر الأعمق الكائن تحته، حيث لا يمكن أن تبقى الصهارة منصهرة بكاملها وإنّما تتبلور أقسام منها. ومع ذلك تندفع الصهارة من وقت إلى آخر عبر حواجز البلورات الصلبة ـ وأحيانا تشكّل قناة جديدة في أرضية البحر. .P.B.K |
وكما توقع العلماء، فبما أن هذه الصخور كانت فيما مضى جزءا من وشاح الأرض الأعلى، فإن الصخور المجاورة لها غنية بالأولوکين والأرثوپيروكسين على السواء. ومن ناحية أخرى، فإن ما يزيد على 95% من الدونيت يتكون من الأوليکين ـ وهو الفلز الذي يترك جانبا أثناء صعود الصهارة عبر وشاح الأرض. إضافة إلى ذلك، يخلو صخر الدونيت تماما من الأرثوپيروكسين، وهذا يتوافق مع النظرية الكيميائية التي تتوقع أن تنحل فلزات الأرثوپيروكسين بالكامل عندما تصل الصهارة إلى وشاح الأرض الأعلى. واستنادا إلى هذا الدليل وغيره من الأدلة، يبدو واضحا أن عروق الدونيت كانت تمثل القنوات التي من خلالها انتقلت الصخور المنصهرة العميقة نحو الأعلى عبر الجزء الضحل من وشاح الأرض، تحت ضهرات وسط المحيطات. وإن ما نراه هو قنوات انحلال مجمدة في الوقت المناسب.
على شبكة الإنترنت
شاهد ولادة محيط جديد في صور ورسوم على الموقع: Www.Sciam.Com/Ocean-Photos |
ومع أن هذه المكتشفات هي في ذاتها مكتشفات مثيرة، فإنها لم تفسر لغزا آخر أربك الجيوفيزيائيين مدة طويلة. فجريانات الحمم البركانية الهائلة تنبثق عند ضهرات وسط المحيطات من منطقة لا يتجاوز عرضها خمسة كيلومترات، علما أن المسوح السيسمية التي يمكن من خلالها التمييز بين الصخر الصلب والصخر المنصهر جزئيا، تكشف عن وجود الصهارة على عمق 100 كم على الأقل في منطقة تمتد عدة آلاف الكيلومترات. فكيف، إذن، يتم توجيه الحمم البركانية الصاعدة إلى مثل هذه المنطقة الضيقة من البركنة على أرضيات البحار؟
في عام 1991، قدم <D.سباركس> و <M.بارمونتييه> [وكلاهما من جامعة براون] إجابة تعتمد أساسا على درجات الحرارة المتغيرة في قشرة المحيطات والجزء الأعلى من وشاح الأرض. إن الحمم البركانية المندفعة حديثا تضيف باستمرار مواد بركانية، على جانبي ضهرات وسط المحيطات، إلى صفائح قشرة المحيطات. فعندما تبتعد الأجزاء الأكثر قدما من هذه الصفائح عن الضهرة، فإنها تتبرد تدريجيا، فتفسح المجال لصعود حمم بركانية حارة جديدة. وكلما ازدادت برودة القشرة، ازدادت كثافتها، ومن ثم تغوص لتصير أكثر بعدا في وشاح الأرض الحار. تشير هذه النزعة نحو التبرد إلى أن أرضية البحر وقاعدة قشرة المحيط تحتها، بعيدا عن قمة ضهرة وسط المحيط، هي أكثر عمقا بنحو كيلومترين من أرضية البحر وقاعدة القشرة الواقعة تحت الضهرة مباشرة. إضافة إلى ذلك، تبرّد القشرة الباردة قمة وشاح الأرض، وهذا يؤدي إلى زيادة سمك الجزء المبرد من الجزء الأعلى من وشاح الأرض، كما تصير قاعدته بعيدا عن الضهرة أكثر عمقا.
استنادا إلى هذه العلاقة، قام <سباركس> و<بارمونتييه> بإنشاء نموذج حاسوبي للجريان المسامي في وشاح الأرض. وفي عمليات المحاكاة التي أجروها تبين لهم أن جزءا من الصهارة الصاعدة يفقد حرارة كافية لكي يتبلور في الجزء الأعلى من وشاح الأرض ـ مشكلا حاجزا أو سقفا. وتتشكل هذه الحواجز في مواقع أكثر عمقا كلما ابتعدت عن ضهرات وسط المحيطات الحارة. وهكذا، تُجبر الصهارة المتبقية أن تسلك أثناء صعودها مسارا مائلا يتبع السقف المائل نحو الضهرات.
اندفاعات نهائية(**********)
وهكذا زودتنا المشاهدات الحقلية والنماذج النظرية بتفسيرات جيدة حول لغزين أساسيين. فعدم اكتساب الصهارة الصاعدة تركيبا كيميائيا في حالة التوازن مع ما يجاورها من صخور وشاح الأرض، يعود إلى كونها معزولة في وسط قنوات عريضة من الدونيت. وتتوجه هذه القنوات نحو ضهرات وسط المحيطات حالما يتبرد جزء من الصهارة، ويتبلور في الجزء الأعلى من الوشاح. بيد أنه يُطرح في الحال سؤال جديد: إذا كان صعود الصهارة يمثل عملية مستمرة وتدريجية كما نتوقع، فما الذي يطلق الانفجارات الدورية للصخر المنصهر الذي يكوّن الاندفاعات البركانية على أرضية البحر؟
مرة ثانية أرشدتنا الجيولوجيا الحقلية إلى وضع نظريتنا. فبالنسبة إلى الأفيوليت في عمان، بين <نيكولا>، في منتصف التسعينات من القرن الماضي، مع زميله <F.بودييه> [من جامعة مونبيلييه] أن الصهارة تتجمع في جيوب عدسية الشكل(2) ـ يبلغ ارتفاعها عشرات الأمتار وعرضها عشرات إلى مئات الأمتار ـ ضمن الجزء الأكثر ضحالة من وشاح الأرض، تحت قاعدة قشرة المحيط مباشرة. ولتفسير العمليات الفيزيائية الجارية، كان لابد من أن أدرك مع زملائي مقدار اختلاف سلوكية صخور الوشاح تحت قاعدة قشرة المحيط مباشرة عن سلوكيتها في المواقع الأكثر عمقا.
تفقد صخور الجزء الأعلى من وشاح الأرض (الجزء من الوشاح الذي يقع في حدود 2000 متر من قاعدة القشرة) حرارتها تحت الضهرات التي تشهد انتشارا نشيطا active spreading، مثل ضهرة شرقي المحيط الهادئ أو الضهرة التي شكلت الصخور الأفيوليتية في سلطنة عمان، لصالح أرضية البحر الواقعة فوقها؛ ومن ثم يتبرد جزء من الصهارة ويتبلور. ومع التدفق المتواصل للصهارة من الأسفل وإعاقة حركة صعودها نحو الأعلى، تبدأ الصهارة بالتجمع في جيوب عدسية الشكل تحت المادة المتبلورة. ومع دخول المزيد من الصهارة يزداد الضغط داخل تلك الجيوب العدسية. ومع ازدياد العمق، تصير الصخور ساخنة بما يكفي لتجري، ومن ثم تخفف هذا الضغط؛ بيد أن فقدان الحرارة هنا نحو أرضية البحر تجعل الصخور قاسية جدا. ومع زيادة الضغط، تتشقق الصخور فوق جيوب الصهارة بصورة دورية، مشكلة ممرات تقود إلى قشرة المحيط الحديثة العهد في الأعلى. ويتجمع جزء من الصهارة ويتجمد قرب قاعدة القشرة مشكلا صخورا جديدة من دون أن تندفع. ولكن الصهارة تندفع أحيانا نحو الأعلى وتخرج من عنق أحد البراكين مشكلة تدفقا لحمم بركانية يصل سمكها إلى عشرة أمتار وطولها إلى عشرة كيلومترات راصفة على التوالي أرضية البحر بصخور بركانية.
تشعُب(***********)
يتكشف على الأرض اليابسة في سلطنة عُمان قشرة محيط سابقة وجزء من وشاح الأرض الواقع تحته. وهذه التشكيلة من الصخر الصلب البني اللون الذي يسمى صخر الأوفيوليت ophiolite والذي يتعرّض حاليا للتجوية ويتكشّف على شكل تلال صخرية، كانت قد اندفعت إلى الأعلى فوق القارة خلال التصادم القائم
بين صفيحتين تكتونيتين. |
تكشف هذه الرؤى المفصلة أوجه الشبه المتعددة ما بين شبكات نقل الصهارة العميقة تحت أرضية البحر وما يعرفه العلماء عن شبكات الأنهار على سطح الأرض.
فكما تتوحد الجداول الصغيرة لتشكيل الأنهار يشكل التحات الكيميائي في وشاح الأرض العميق شبكة متلاحمة يلتقي فيها عدد كبير من الروافد الصغيرة الناشطة لتغذي قنوات أكبر حجما وأقل عددا. وتشكل الصهارة التي تتبلور في وشاح الأرض الأعلى حواجز تغير من وجهة الجريان، تماما مثلما يتشكل من نهر طيني حواجز طبيعية أثناء جريانه نحو البحر. وفي كلتا الحالتين تتصدع الحواجز بصورة دورية لتفسح المجال لمرور تدفقات كبيرة من خلال قناة واحدة. ويمكن أن تتوصل الأبحاث عن العمليات الفيزيائية الأساسية التي تتحكم في شبكتي انسياب الأنهار والصهارة، إلى نظرية أساسية واحدة تفسر سلوكية جريان كلتيهما.
المؤلف
Peter B. Keleman
هو أستاذ في مرصد لامونت دوهيرتي للأرض التابع لجامعة كولومبيا. باشر<كيليمن> عام 1980 بدراسة تتناول كيفية هجرة الصهارة في لب الأرض الصخري، عندما كان يقوم بإعداد خرائط للأفيوليت في الهيمالايا الهندية. ومنذ ذلك الحين قام بدراسة التفاعلات بين الصخور الصلبة والسائلة باستخدام متكامل للعمل الحقلي والنمذجة الرياضياتية الكيميائية وأبحاث ديناميك السوائل.
مراجع للاستزادة
Extraction of Mid – Ocean Ride Basalt from Upwelling Mantle by focused Flow of Melt in Dunite Channels . Peter B. Kelemen , Nobu – michi Shimnizu and Vincent J. M. Salters in Nature , Vol 375 pages 747-753 ; June 29-1995.
Causes and Consequences of Flow Organization During Melt Transport ; The Reaction infiltration Instability Marc W. Spidgelman , Peter B. Kelemen and Einat Aharonov in Journal of Geophys – ical Research Vol. 106. No B2, Pages 2061 -2077; 2001.
Dunite Distribution in the Oman Ophiolite ; Implications for melt Flux through porous Dunite Conduits . Micheal G. Braun and Peter B. Kelemen in Geochemidtry , Geophysics , Geosystems , Vol 3, No 11 ; Nocember 6-2002
See Movies Of Mathematical models of seafloor spreading atwww.ldeo.columbia.edu/msieg/ReactiveFlow
(*) THE ORIGIN OF THE LAND UNDER THE SEA
(**) Digging Deep
(***) GEOLOGIC GLOSSARY
(****) Cracking under Pressure?
(*****) SWEATING THE SEAFLOOR
(******) A Porous River
(*******) HOW MID-OCEAN RIDGES FORM
(********) Focused Effort
(*********) Water on Land Flows Like Melt in the Mantle
(**********) Ultimate Eruptions
(***********) Branching Out
(1) mid-ocean ridges؛ انظر: «سلسلة ضهور وسط المحيط»،مجلة العلوم، العددان 8/7(1993)، ص 40.
(2) lens-shaped